تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ساعة فرح



عبد الرحيم صادقي
28-03-2011, 04:08 PM
حدثني عدي بن خلف قال: تفكَّرْتُ في أحوالي وأحوال مَن حولي، بمناسبة ما يعتزم الآخرون القيام به في عُرسي. والحق أنها خواطر كثيرا ما جالت في نفسي. لماذا يُصِرُّ بعضنا على الفرح بدل بعض؟ ولماذا يحزن بعضنا بدل بعض؟ ولماذا نفرح فرحا أشبه بالحزن، ونحزن حزنا هو كالفرح؟
ولقد علمت منذ زمن ليس باليسير أن الفرح والحزن كلاهما من صُنع البشر، وأن محلَّهُما القلب. ولَمَّا كان القلب بين أصبعي الرحمن يُقلِّبُه كيف يشاء، فلسنا ندري على وجه اليقين ما الذي يصنع الفرح وما الذي ينشئ الحزن؟ بَلْهَ أن نعرف كم سيدوم فرحنا أو حزننا.
وأعلم أيضا أن طائفة من الناس يتحيَّنون ساعة فرح الفارح ليزُفُّوا إليه بشرى، فيلقوا منه فضلا وكرما جزاء ما زفوا، أو ليقدموا بين يديه طلبا عسى أن ينالوا بُغيتَهم. وقد علموا أن مَن يمنع ساعة الفرح مُحال أن يعطي ساعة الحزن.
لكن، لِمَ لا يكون الإنسان صاحب قلب كبير على مَرِّ الأيام ورغم تصاريف الدهر؟ لِمَ ينسى الفارح ظلم الظالم وإساءة المسيء حين فرحه؟ ثم أليست هذه الطائفة من الناس ذوي المآرب ساعة الفرح طائفة سوء؟ أليس هؤلاء الأقوام مُتناهِزو الفرصِ قومَ ظنون ومُيون؟ وكيف نطلب من الفَرِحِ أن يعفوَ عن المسيء، وأن ينفق عن طيب خاطر، ويُقبِل على الجميع بنفس راضية مرضية خلال ساعة فرحه؟ أتكون هذه الساعة خارج الزمان والمكان؟ وهَبْ أن الفرِحَ سامح في هذه الساعة وعفا وأعطى وجاد، أيكون عفوُه عفوا حقا، وجودُه جودا؟ أوَلا يجري على جوده وعفوه ما يجري من نهي الناهين عن قضاء القاضي وهو غضبان؟ أوليست شدة الفرح تميل بالطبع السَّوي؟
فعلام أتَزيَّا بزِيِّ الورع وأدعو زوجَ عمي -رحمه الله- إلى عرسي، وأنا أعلم أنها ستحضر وبناتِها الأبكار مُكرَهات؟ بل إني لأعلم علم اليقين أني أُحرِجُها إذ أدعوها، وأنها ستقفل راجعة إلى بيتها حال انتهاء العرس، ومع أولى ساعات الصباح، وربما قبل أن تصيح الدِّيَكة.
قد تغريني شدة فرحي بالمزيد، حتى إني لأنتظر من العانس أن تقول لابن عمها: "بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينك وبين زوجك في خير"، إلا عانسا تقية. كثيراتٌ هُن الحمقاوات اللواتي لا يجدن حرجا من الحديث لساعات طوال عن أطفالهن الصغار لجاراتهن العوانس. ورُبَّ ولود فظة عديمة الحِس لا تسأم من قَصِّ القصص عن أبنائها لصاحبتها العقيم. حقا إنَّ مِن الفرح ما قتل!
وأعلمُ أن ابنة عمي الأخرى ستَحضُرُ عرسي لتبارك لي وهي متلهفة لرؤية العروس، أتُراها أجمل من ابنتها؟ وأخريات كثيرات سيحضرن مباركات مهنئات، متطلعات إلى ما حضر مع العروس من أثاث. أما المدعوُّون من الرجال فلن ينصرفوا بعد عَشاء وتفَكُّه إلا بعد شرب الشاي، إذْ لا تصِحُّ منادمة إلا به. ثم إنهم سيتورعون عن مد أيديهم إلى أطباق الحلوى التي سيُطاف بها عليهم، فأزواجُهم سينتقِينَ من كل طبق أفضل ما فيه. وعند عودتهم إلى البيت، وبينما يلتَذُّ مَن لم يحضر العرس ما في الطبق، تكون الأزواجُ منشغلات بتشريح الحلوى.
ولقد جرى في عُرف الناس أن الحساب يرتفع في الأعراس. فتجدُ صاحب الزفاف يبسط يده حتى يقعد ملوما محسورا. فإذا هو بعد عرسه من الغرماء مُستحِقِّي الزكوات. وهو السعيد إذا أدى مؤخر صداقه قبل أن يستوفيَ عشر حجج.
كل ذلك لأن الساعة ساعة فرح، ولأن الأبناء الذين هجروا أباهم أيامه الأخيرة ينبغي أن يفرحوا لفرح أخيهم، ولأن شتات العائلة اللَّهْفى على أحجار بواد غير ذي زرع ينبغي أن يُلَمَّ ساعة الفرح. وما الضير في أن يلتئم شمل الأسرة، ويصطلح الخصوم، وتُوصَلَ الأرحام، ولو وَصْلَ ساعة؟!
ولأن الساعة ساعة فرح، فلا بأس أن تكون ليلةُ العرس ليلة صَخَب ورقصٍ على نَغَم. وجيراننا الأعزاء لِشِيَمِهم الرفيعة سيشاركوننا فرحتَنا غير ضجرين ولا مُتبرِّمين. وحتى مَرضاهُم والعواجزُ منهم، ومَن يَشْكون القلق والأرق.
ولأني وعائلتي لا يُطرِبُنا مزمار الشيطان، سيقترح علَيَّ الأصدقاء استدعاء فرقة إنشادية مِن تلكمُ الفرق التي تُحيي الأعراس على السنة ولوجه الله. ولأن المنشدين حريصون على ألاَّ تفوتَهُم صلاة الصبح، فسيُطربون الحاضرين لمدة ساعتين من الزمن، ثم ينصرفون بعد تقديم التهاني وتقاضي الأجر!
ولكي تحُلَّ البركة وتتنزَّلَ الرحمات، فعليَّ أن أدعو "الطَّلَبة" لتلاوة آيٍ من الذكر الحكيم، مع عَشاء فاخر يغري بالتخمة. وبعد أن يغمس السادةُ أيديهم في المرَق، ويعْلُوَ الإدام إلى المرافق، وتنتفخ بطون وتتألم أخرى، سيقرأ السادات القرآن بلا خشوع، وسيتفننون في التلاوة بلا وقف، ولن ينتصب للقيادة على طريقة "الشَّرْكي" إلا ذو الباع والخبرة. وبعد ختم مطول بالدعاء، للموتى والأحياء، سيتفرق الجمع، وسيتقاسم "الطلبة" أجرتَهم على بُعد بضعة أمتار من البيت.
أعلم أن صديقي الذي يبحث عن عمل منذ حصوله على إجازة أكلتها الأرَضَة، سيستدين ليأتيني بهدية عرسي، سأقبل هديته وأشكره شكرا جزيلا. أمَّا جارة الحيِّ القديم التي يمنعها حياؤها أن تدخل بيتنا خاوية الوفاض، فستطلب من صاحب الإيجار أن يُمهِلَها بضعة أيام كي توفر له أجرة الكراء.
توقف عدي بن خلف عن الكلام قَدْرَ أخذ نَفَس، ثم استأنف قائلا: نعم، إنها ساعة فرح، فما أشبهَ هذه الأفراح بالأقراح!
:vio:

نادية بوغرارة
28-03-2011, 04:21 PM
ما أشبه هذه الأفراح بالأقراح !!!

فلسفة واقعية ، قريبة جدا منا ، لكننا لا نراها ،

فرح كان أو قرح ، أجمل ما فيهما هو المشاركة التي تعرفها المجتمعات العربية ،

و التي يفتقدها غيرنا ، مشاركة لها ثمن ، لكننا ندفعه و البسمة على وجهنا،

و طبعا ، إن الأجمل هو التوسط و البساطة .

تقبل مروري .

كاملة بدارنه
28-03-2011, 06:53 PM
وأنا حدّثني نصّك أستاذي بأسلوب ماتع لغة وأسلوبا عن بعض مظاهر النّفاق الاجتماعي التي نعاني من تبعاتها وزيفها !
شكرا لك ولما تتحفني به من جميل فكر ولغة
تقديري وتحيّتي

( كلاهما أليست كليهما ؟ أنّ الفرح والحزن كليهما )

آمال المصري
12-04-2011, 10:29 PM
نص باذخ بكل محتواه من عمق فكرة ..
ومتعة في السرد ..
وفلسفة وحرف رصين وتماسك البنيان
ونص أقرب لواقعنا
أديبنا المكرم ...
استمتعت بقراءته كثيرا ..
تقديري لفكرك الراقي .

عبد الرحيم صادقي
13-04-2011, 01:14 AM
مشاركة لها ثمن ، لكننا ندفعه و البسمة على وجهنا، و طبعا ، إن الأجمل هو التوسط و البساطة .

وهذه أيضا فلسفة واقعية. الأخت نادية، تحية طيبة. أدام الله لك السرور. شكرا لمرورك.

عبد الرحيم صادقي
13-04-2011, 01:23 AM
والشكر لك الأخت كاملة. وملاحظتك في محلها: أن الفرح والحزن كليهما. فجزاك الله خيرا.

عبد الرحيم صادقي
13-04-2011, 01:30 AM
ولك مني التقدير والاحترام الأخت رنيم. سعدت بمرورك. أدام الله لك السرور.

عبد الرحيم صادقي
18-04-2011, 02:48 AM
الأخت كاملة، ملاحظتك قادتني إلى لغة بني الحارث بن كعب الذين يلزمون المثنى الألف في كل حال. و"كلا" ملحق بالمثنى، وعليه يكون القول: "أن الفرح والحزن كلاهما" جائزا. قال آخرون إنها لغة طيء وأزد كذلك. وبعضهم قال إنها لغة بني كنانة، وكلها قبائل عربية. وهي لغة قليلة الاستعمال.
فما قول أهل اللغة والنحو؟ مرحبا بمن صوّب وأفاد

مازن لبابيدي
20-04-2011, 07:34 AM
بأسلوب مبدع ماتع متمكن ولغة رائعة المفردات والتراكيب ، استطعت أخي أن ترسم لنا واقعا مركبا من مفارقات وتناقضات في قالب مزج بين الحكمة والنقد والسخرية والدراية أو قل الخبرة الاجتماعية بدقائق أمورها ، وكل هذا لا يتأتى إلا لكاتب أديب نال من التجربة ونالت منه الكثير .
غلبت الخاطرة على الجزء الأول لكن ببراعة حملتها لرواية الراوي .
تفتقر هذه الأقصوصة إلى الحبكة بمعناها المتعارف عليه ، وإن كانت الحبكة التقليدية للحدث الاجتماعي متضمنة فيها .
التصوير كان رائعا في عدة مواضع ...."وسيتقاسم الطلبة أجرتهم على بعد أمتار من البيت.." .
الخاتمة كان فيها مباشرة من الكاتب كذلك ولكن أيضا تم تحميلها للراوي .

لك التقدير الكبير أخي وتقبل مروري مع التحية

عبد الرحيم صادقي
20-04-2011, 07:19 PM
أخي مازن مرحبا بك وبنقدك الجميل. أتصدق أنني بعد أن كتبت "ساعة فرح" ونشرتها، قررت أن أحكم عليها فأجعلها خاطرة؟ إذ بدت لي أقرب إلى الخاطرة منها إلى القصة. شكرا لك أخي، ومرحبا بك دائما.

ربيحة الرفاعي
22-04-2011, 03:37 AM
مبدع دائما أيها الكريم

في نصوصك ألق لا يفوّته متذوق جمال
وفي حرفك عمق في المعاني وروعة في السرد تستحق التتبع

جزالة في المفردة وبهاء في رسم العبارة ومتانة في السبك

أبدعت وأمتعت

دمت بألق

عبد الرحيم صادقي
22-04-2011, 04:46 PM
ودام لك الألق والإبداع أيتها الكريمة الربيحة . تحياتي مع الشكر الجزيل.

ياسر ميمو
11-12-2011, 07:59 AM
صح لسانك أيها الطيب


وزادك فرحاً وبهجةً وسروراً


في الدنيا قبل الآخرة


حقيقة استمتعت بالتواجد هنا



شكراً جزيلاً لك

أحمد عيسى
11-12-2011, 04:10 PM
الأستاذ القدير : عبد الرحيم صادقي

نص مثقل باللغة الجميلة والكلام العذب والفكر العميق

تعرف رأيي في قلمك المبدع

تقبل التحايا كلها ومرحبا بك

هاشم الناشري
11-12-2011, 04:30 PM
ولقد علمت منذ زمن ليس باليسير أن الفرح والحزن كلاهما من صُنع البشر، وأن محلَّهُما القلب. ولَمَّا كان القلب بين أصبعي الرحمن يُقلِّبُه كيف يشاء، فلسنا ندري على وجه اليقين ما الذي يصنع الفرح وما الذي ينشئ الحزن؟ بَلْهَ أن نعرف كم سيدوم فرحنا أو حزننا.

سآخذ هذه الزهرة وأمشي وأنا ممتن لعدي بن خلف..

ما أروعك أخي الأديب / عبدالرحيم صادقي,

تحية وإكبار ومودة.

عبد الرحيم صادقي
13-12-2011, 01:38 AM
صح لسانك أيها الطيب
وزادك فرحاً وبهجةً وسروراً
في الدنيا قبل الآخرة
حقيقة استمتعت بالتواجد هنا
شكراً جزيلاً لك


والشكر لك أخي ياسر
دمت بعافية
وطابت أيامك

عبد الرحيم صادقي
13-12-2011, 01:41 AM
الأستاذ القدير : عبد الرحيم صادقي
نص مثقل باللغة الجميلة والكلام العذب والفكر العميق
تعرف رأيي في قلمك المبدع
تقبل التحايا كلها ومرحبا بك


ولك أجمل التحية أخي أحمد
شكر الله لك اهتمامك
وحياك الله

عبد الرحيم صادقي
13-12-2011, 01:46 AM
ولقد علمت منذ زمن ليس باليسير أن الفرح والحزن كلاهما من صُنع البشر، وأن محلَّهُما القلب. ولَمَّا كان القلب بين أصبعي الرحمن يُقلِّبُه كيف يشاء، فلسنا ندري على وجه اليقين ما الذي يصنع الفرح وما الذي ينشئ الحزن؟ بَلْهَ أن نعرف كم سيدوم فرحنا أو حزننا.
سآخذ هذه الزهرة وأمشي وأنا ممتن لعدي بن خلف..
ما أروعك أخي الأديب / عبدالرحيم صادقي,
تحية وإكبار ومودة.


حياك الله أخي الشاعر هاشم
نورت المكان
لك الزهرات كلها
وأهلا وسهلا بك

د. سمير العمري
31-07-2014, 03:53 PM
بعيدا عن جودة البناء التي تتميز بها نصوصك فإني أحب أن أشيد بهذا الطرح لقصية مؤثرة لكثرة وجودها في مجتمعاتنا ليس في حالة الأفراح بل وحتى في حالة الأتراح ، ومثل هذه التصرفات تضع عبئا ومشكلات على صاحب الفرح أو الترح وكذا على أحبابه وأقربائه الذين يتأففون من مثل هذه المناسبات بسبب تكلفة ذلك ماديا عليهم بحيث باتت المشاطرة في المشاعر مؤذية ومنفرة عند العدد الكبير من الناس.

أشكر لك لغتك وأشكر لك طرحك هذا الموضوع الحساس بهذا الأسلوب المميز.

دمت بخير وعافية!


تقديري

خلود محمد جمعة
02-12-2014, 10:55 AM
طرح طيب لقضايا هامة باسلوبك المائز ولغتك الوارفة الجمال
الطبقة الاجتماعية الواحدة تمر بنفس المناسبات والظرووف والجميع يعلم حالة كل فرد المادية فلماذا نصر على التجمل الكاذب
فالجميع يعلمون ويتظاهرون بأنهم لا يعلمون ويعلمون انهم يتظاهرون
لا حرمنا البهاء
بوركت وكل التقدير

نداء غريب صبري
30-12-2014, 11:32 PM
النفاق الاجتماعي في قصة جميلة بسرد ممتع ومميز
أعجبتني جدا واستمتعت بقراءتها

شكرا لك

بوركت

د.حسين جاسم
27-01-2015, 01:19 PM
لغتك راقية وأسلوبك جميل وفكرتك نبتت في تربة واقع يحتاج للدراسة والتغيير

خاطرة ناجحة وذات تأثير

أحييك

ناديه محمد الجابي
31-10-2019, 08:14 PM
بدأت بخاطرة أدبية عميقة وسرد بديع ولغة قوية متينة
مدهشة بما حملت من فكر وما حملت حروفك من جمال وحس
بأسلوب تصويري تعبيري في نص جميل التصوير
ثم تحولت إلى قصة لتحكي تبعات تلك الأفراح وما تحمل من نفاق إجتماعي
لتحمل أصحابها فوق طاقتهم ـ فما أشبه هذه الأفراح بالأقراح
تقديري لك ولقلمك ـ وتحية بحجم الإبداع.
:002:D::009::002: