المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة المهرجانية



عبد الرحيم صادقي
01-05-2011, 11:45 AM
حدثنا فهيمُ بن اليقظان قال: جمعتني بأبي المهارج رفقةُ طريق، كنت قاصدا معهد المدينة العتيق، وكان يروم سفارة بلد شقيق. سألته عما جاء به إلى السفارة، فقال مزمار وقيثارة، وعدوٌّ لدود أرجو اندحاره. قلت: ومن عدوك يا أبا الشطارة؟ قال: إنه الفقر قبح الله نهارَه، وقطع رَحِمَه وأصهاره، وأشياعه وجاره. قلت: أمَّا عدوُّك فعرفناه، فما بال القيثارة والمزمار، أأصابك ما أصاب الصَّرَّار؟ لا ريب أنه فساد الرأي والقرار، ومن سلك الجَدَد أَمِنَ العِثار.
قال أبو المهارج: لقد أيقنتُ منذ زمن ليس باليسير، أننا معشر العرب، قومُ لهوٍ وطرب، نمقت الغمَّ والكرب، ونعشق الغواني ونستمرئ الرُّطَب، ولا نهوى الشقاء والنَّصَب. ولذلكم اهتديتُ إلى سبيل السعادة، فارتأيت أن أجعل أيام الناس طيِّبة الوِفادَة، نغمٌ ورقص سائرَ العام، حتى صار لهم عبادة. وإني كلما استشعرت سأم الناس، ولمست منهم شدة الباس، وحَدَسْتُ مَلَلهُم وشاع اليأس، وكَثُرت شكاواهُم وفاض الكأس، هَرعْتُ إلى ما يجعل الأبدان تهتزُّ والرأس.
قال فهيم بن اليقظان: وما شأن السفارة بالطرب، ولهو الناس والعَتَب؟ قال: أهَلَّ قومُ فنٍّ وظرافة، ونحن أهْلُ لباقة وضيافة، وعادةُ السفراء الكرم، وإكرامُ الضيف من الشيَم، فإن بخلوا ذَلُّوا بين الأمم، أو جادوا فمُروءةٌ وعُلُوُّ هِمَم. فإنَّا نستعين على قضاء الوَطَر، بنقرٍ على الدَّف وعزف على الوتر، فمنهمُ الكرَم والجود، ومنا الرَّباب والعود. فوقع الحافر على الحافر، فذاك البادي والظاهر، وربُّك يتولى السرائر.
قال فهيم فقلت لأبي المهارج: فإني مُذْ عرفتك والمال لك مِلَّة، ولا يَترُكُ الظبي ظِلَّه، فأنت قائمٌ على المحافل، تدعو أرباب الصنعة والفطاحل، وأغماراً مُدَّعِي فَنٍّ وشِلال، لهم في ذلك مذاهب ونِحل، وأنت على سيرتك وذات الحال، تشكو الفاقة وقلة ذات اليد، كُسُوب يومِك تبذيرُ الغد. فإذا أنت كالرَّاقِم على الماء، وكالنافخ في الهواء.
قال: أوَّلُ الغزو أخرق، والناس بين طامع وحسود، فكيف أرقى أو أَسود؟ ثم إن مالاً بين أيدي السفهاء، لا زكاءَ فيه ولا نماء، ولا انتفع به النبهاء. قال فَهيم فقلت لأبي المهارج: لكن قل لي بربك يا راعيَ المِهرجان، ويا صاحب الصَّولجان، لقد اغتنى صاحبُك وأثرى، ولأولي الأمر مآربُ أخرى، فقلْ لي ما ترى، فليس الأمر سرًّا يُذاع في الورى. قال: ألم تسمع قول القائل: اليوم خمر وغدا أمر، أم يُترَكُ الناس على الجمر، قد أطالوا السَّهَر، واستلذوا السَّمَر، يرْوُونَ قَصَصَ ظلمٍ وجَوْر، وسِنين عِجافٍ وقَهر؟ إنَّ الفراغ يا فهيم أُسُّ البلاء، والبطالة يا ابن يقظان رأسُ الشقاء.
قال فهيم: فهَلاَّ شغلتم الناس بعلم نافع، أو عمل صالح شافع، أو فن ناظِرٍ رائق ماتِع؟ لا مُهَلْهَل ولا مائع، ولا مُنحط ولا ناقع، وكلامٍ نابٍ ثقيل على المسامع، ورقص فاضح موجع فاجع. وأعظمُ البهتان يا أبا المهارج وقد قلَّبْتَ المواجع، قولُ القائلين مِمَّن انتكست فطرتُهم والطبائع، وأشباه نُقَّادٍ لهم في النقد منافع: حلَّ بين ظَهْرانَيْكُم فنَّانٌ من جيل الطلائع، ذو مقام عَلِيٍّ وصيت ذائع، أتى بالعجب وأبدَعِ البدائع! وتحت الرغوة الصريح، فَمَن لك بالكلام المليح؟
وفي اليوم الموالي، حضر أصحاب المعالي، وانطلق المهرجانُ وقت الهاجرة، وإذا بأصوات كأصوات طيور كاسرة، تُدَوي ووجوه حائرة، وشخوص وموسيقى نافرة. وكلام مسترسل مُبهَم غير موزون، ولحن سمج ناشز غير مرقون، لا هو بالأندلسي ولا الجبلي ولا الملحون، وليس غير نطٍّ وحركات وجنون. ثم علا صخب الناس وماج الجميع، فكأنهم في سكرة أو رُقاد، واختلط الخاثِرُ بالزُّباد. وهيهات هيهات أن تسمع مقامات، فأوان ذلك قد فات، وحلَّ الخراب والموات.
قال فهيم: فرأيت صاحبَنا يعتلي المِنصَّة، وكان لرؤيته في الحلق غُصَّة، مُعْلِنا ختم مهرجان ما بعد الغذاء، داعيا الناس لمهرجان المساء، فقلت: بشرى لكم أهل البطالة، صيفُكم سُقْيا حتى الثمالة. ولك الله يا غزة الإباء، حياكم الله أيها الشرفاء!


:0014:

سامح محرم السعيد
01-05-2011, 12:28 PM
هنا أمام هذا الإبداع غير المسبوق- من وجهة نظري المتواضعة- في عصرنا الحديث ..

أقف حائراً .. أهذا نصُ من كتب " الجاحظ" ..

أمام هذا السجع والإطناب والجناس والجمل المحبوكة ليس فقط بلغة محترفة ؛ بل أيضاً باحساس راقِ وزائقة راقية جداً..

أستاذي الفاضل / عبد الرحيم الصافي
حين قرأتُ جٌمَلك.. تذكرتُ رسائل "ابن طفيل عن حي بن يقظان" وتذكرتُ كذلك خٌطَب " قس بن ساعده" ..

أول نص أُعانقه لحضرتك فاقبلني تلميذاً هنا .. وضيفاً خفيفاً في صفحتك..

طوق ياسمين ودمتَ بخير..

جهاد ابو رضا
01-05-2011, 12:55 PM
رائع ولكن لي عودة اخرى اتفحص من خلالها النص

عبد الرحيم صادقي
02-05-2011, 09:52 PM
هنا أمام هذا الإبداع الغير مسبوق- من وجهة نظري المتواضعة- في عصرنا الحديث ..

أقف حائراً .. أهذا نصُ من كتب " الجاحظ" ..

أمام هذا السجع والإطناب والجناس والجمل المحبوكة ليس فقط بلغة محترفة ؛ بل أيضاً باحساس راقِ وزائقة راقية جداً..

أستاذي الفاضل / عبد الرحيم الصافي
حين قرأتُ جٌمَلك.. تذكرتُ رسائل "ابن طفيل عن حي بن يقظان" وتذكرتُ كذلك خٌطَب " قس بن ساعده" ..

أول نص أُعانقه لحضرتك فاقبلني تلميذاً هنا .. وضيفاً خفيفاً في صفحتك..

طوق ياسمين ودمتَ بخير..

مرحبا بك الأخ سامح وحياك الله. كلنا في الواحة تلاميذ وطلاب علم. أشكر لك حسن خلقك وطيب مشاعرك. أدام الله لك السرور.

أماني عواد
02-05-2011, 10:43 PM
الاستاذ الكبير عبد الرحمن الصادقي

في كل مقام لك مقال في مقامة رائعة
اسعدتني قراءتك فالنص زاخر بالرمزية الساحرة باسلوب نقدي رائع


واستحق بذلك التثبيت

دمت مبدعا

عبد الرحيم صادقي
02-05-2011, 10:53 PM
ورائع أنت أيضا يا جهاد، مرحبا بك.

ربيحة الرفاعي
03-05-2011, 05:55 AM
أديبنا عبد الرحيم صادقي

أترقب مقاماتك البهية بشوق الظامىء لاستماع الحرف الأصيل، في زمان شاهت فيه النصوص واختلت المعاني، وصار لاستخدام الكلمة في غير موقعها ومعناها أسماء مزعومة، يجتهدون في تعلّمها، أو يتعاطون مسكرا لتنهال عليهم من فيض ذهاب العقل، فتقرأ من القول ما لا تفهم وتعصف بفكرك من العبارات ما لا يستقيم لها معنى ولا تجد لها طعم.

رائق هذا النص ببديع معانية وحلو إسقاطاته وتمكن كاتبه

دمت بألق

كاملة بدارنه
03-05-2011, 08:12 PM
قال فهيم: فهَلاَّ شغلتم الناس بعلم نافع، أو عمل صالح شافع، أو فن ناظِرٍ رائق ماتِع؟ لا مُهَلْهَل ولا مائع، ولا مُنحط ولا ناقع، وكلامٍ نابٍ ثقيل على المسامع، ورقص فاضح موجع فاجع. وأعظمُ البهتان يا أبا المهارج وقد قلَّبْتَ المواجع، قولُ القائلين مِمَّن انتكست فطرتُهم والطبائع، وأشباه نُقَّادٍ لهم في النقد منافع: حلَّ بين ظَهْرانَيْكُم فنَّانٌ من جيل الطلائع، ذو مقام عَلِيٍّ وصيت ذائع، أتى بالعجب وأبدَعِ البدائع! وتحت الرغوة الصريح، فَمَن لك بالكلام المليح؟

صدق فهيم فيما طلب وهو الفهيم
وأبدعت وأنت الأستاذ عبد الرّحيم
شكرا لك على ما تعيده لنا من حلّي الأدب العربيّ الأصيل مرصّعا بجواهر التّجديد والتّحديث
تقديري وتحيّتي

صفاء الزرقان
03-05-2011, 09:39 PM
إنَّ الفراغ يا فهيم أُسُّ البلاء، والبطالة يا ابن يقظان رأسُ الشقاء.
قال فهيم: فهَلاَّ شغلتم الناس بعلم نافع، أو عمل صالح شافع، أو فن ناظِرٍ رائق ماتِع؟ لا مُهَلْهَل ولا مائع، ولا مُنحط ولا ناقع، وكلامٍ نابٍ ثقيل على المسامع، ورقص فاضح موجع فاجع. وأعظمُ البهتان يا أبا المهارج وقد قلَّبْتَ المواجع، قولُ القائلين مِمَّن انتكست فطرتُهم والطبائع، وأشباه نُقَّادٍ لهم في النقد منافع: حلَّ بين ظَهْرانَيْكُم فنَّانٌ من جيل الطلائع، ذو مقام عَلِيٍّ وصيت ذائع، أتى بالعجب وأبدَعِ البدائع! وتحت الرغوة الصريح، فَمَن لك بالكلام المليح؟


:0014:

نص رائع بمفردات جميلة وصفت الحال بصدق فما احوجنا لعلم نافع لا مجرد شهاداتٍ و أوراق وانما علم مُعاش يظهر على الجوارح ويستقر في القلوب . نحتاج لفنٍ ينهض بالعقول
والنفوس يعيد لها رقياً سُلب .لفنٍ يستفز العقول لنقده بحياد والتفكر فيه

دام ابداعك

عبد الرحيم صادقي
04-05-2011, 06:48 PM
الأخت المبدعة أماني عواد، حياك الله. مرحبا بك وبإطلالتك. أشكر لك تقديرك للنص. أسعدني المرور، أدام الله لك السرور.

عبد الرحيم صادقي
04-05-2011, 06:59 PM
الأديبة الشاعرة ربيحة، حياك الله. هي نصوص من نفث الصدر، تخرج تارة بطعم المرارة، وتنقدح طورا كأنها الشرارة. تسخر حينا وتلفها الكآبة حينا. لكني أرجو أن يرافقها الصدق في كل حين.
لك مني التحية والتقدير

عبد الرحيم صادقي
04-05-2011, 07:05 PM
ولك التحية والتقدير الأستاذة كاملة. منا السعي ومن الله العون والتوفيق. أسعدني المرور، أدام الله لك السرور.

عبد الرحيم صادقي
04-05-2011, 07:12 PM
ودام إبداعك يا صفاء. أشكر لك اهتمامك وجميل الثناء. لك مني التحية والتقدير.

خلود محمد جمعة
25-11-2014, 06:47 AM
أقاموا الليل بالطبل والمزمار وغطوا عيون النهار وأسدلوا على عقلهم ستار حين أمتلأ الكأس وفرغ الرأس
انشغلوا بالطالح فضيعوا الصالح وبالقبيح فتاه المليح
واختلط الحابل بالنابل فأصبحت دنياهم بلا معالم
فلا تتوقع الحكمة من جاهل
ومقامة نثرت الملح في الجرح ولك العزة يا غزة
فكل مقامة تحلو الاقامة
كل التقدير
دمت رائعا

ناديه محمد الجابي
15-02-2022, 08:35 PM
تعزف وبمهارة على أوتار الحروف في مقاماتك الرائعة والقوية
فتنتشي القلوب وتطرب العقول بما تجود به علينا من نقد وفكر جميل ولغة أصيلة ممتعة
فتخط لنا من نبضاتك ما يبهر العقول.
دمت ودام إبداعك.
:0014::0014: