تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التكاملية في كتابة التاريخ ..



بهجت عبدالغني
02-05-2011, 04:43 PM
التكاملية في كتابة التاريخ ..


بهجت عبدالغني الرشيد

في كتابة التاريخ عودنا المؤرخون أن ينفرد كل واحد منهم بنفسه لكتابة التاريخ ، وتكاد تكون هذه هي الطريقة الكلاسيكية في مجال الكتابة ، والحقيقة أنها طريقة قد ألفناها فترة طويلة من الزمن .. ولكن من يضمن لنا أن تكفل هذه الطريقة تغطية أبعاد التاريخ من جهاته الأربع ، ومن ثم تعطينا صورة واضحة متكاملة ـ إلى حد ما ـ لما حدث هناك في أعماق التاريخ .
فالمؤرخ إنسان .. يتأثر بثقافته وتربيته وبيئته أثناء الكتابة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فالمؤرخ وإن كان عالماً في التاريخ فهو ليس كذلك في مجالات أخرى كعلم النفس أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة .. الخ ، وبالتالي فإن المؤرخ الفرد لن يستطيع أن يغطي المساحة الكلية ، نعم .. إنه سينجح في نقل الأحداث والمواقف والشخصيات ، لكنه لن يتمكن وحده من الإلمام بالأبعاد السياسية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية لتلك الأحداث والمواقف ، وكل هذه الأبعاد مما لا شك فيه جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسان .
ويبقى السؤال المطروح : كيف نكتب التاريخ مع ضمان أكبر قدر من التكاملية في أبعاده المختلفة ؟
أعتقد أن كتابة التاريخ لا تحتاج إلى مؤرخ واحد أو اثنين أو ثلاثة ، بل تحتاج إلى مؤسسة متكاملة ، تضم أصحاب الاختصاصات المختلفة ، علماء في الفقه والحديث والسيرة والتاريخ والأدب والاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد .. إلخ .. وهذا أمر منطقي إذا عرفنا أن التاريخ هو هذا الكم الهائل المتراكم مما سبق من العلوم .
إن المؤسساتية في كتابة التاريخ ستكشف لنا كل الأبعاد للحدث والظاهرة التاريخية ، وتبصرنا بكل الزوايا لها .
فلا يمكن ـ مثلاً ـ ونحن نكتب التاريخ أن نفصل بين نفسية الشخصية والبيئة التي نشأت فيها وطبائع قومها وعاداتها عن المواقف التي تتولد عنها ، فسلوك الإنسان يتأثر ـ كما أثبت علم النفس ـ بالوراثة والبيئة ، وحتى لا يقع هذا الفصل نحتاج إلى علماء النفس إلى جانب المؤرخ .
ونحتاج إلى علماء السياسة في المؤسسة لدراسة الحالات السياسية ، ومتابعة مؤشر الصعود والهبوط في الواقع السياسي ، ومدى الانعطافات والإحباطات ومدى حدّتها التي مُنيَ بها التاريخ .
ونحتاج إلى علماء الاجتماع في دراسة الحالات الاجتماعية بين الناس في الفترات التاريخية والتغييرات التي حصلت في العلاقات بين الأفراد والجماعات ، وإلا ما الذي يجعل الإمام علي ( رضي الله عنه ) يقول للذي سأله عن الحياة الآمنة في زمن أبي بكر وعمر ، وحالة الفوضى والفتن في زمن الكلام ، فيجيبه : لأن أصحاب أبي بكر وعمر كانوا أمثالي ، ولأن أصحابي أنت وأمثالك . مما يدل على حدة التغير الذي حصل في أخلاق الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض .
ونحتاج إلى الفقيه الذي يقوم بميزان الأعمال والأقوال في ضوء الكتاب والسنة والمعطيات والإجتهادات الفقهية .
ونحتاج إلى علماء الحديث ، وخاصة إلى علم ( مصطلح الحديث ) و ( الجرح والتعديل ) لفرز الروايات الصحيحة عن الكاذبة وذلك بالنظر إلى سلسلة الرواة الذين نقلوا إلينا الأحداث التاريخية ، وهذا الأمر في غاية من الأهمية لا بد للمؤرخ ، بل لا بد لدارس التاريخ أن لا يتجاوزه إلا بمحصلة كافية تعينه على توخي الروايات الصحيحة وتبنيها وتفادي الروايات الموضوعة والمدسوسة ودحضها .
أما العزف على وتر السياسة في عرض التاريخ ، والتركيز على ما حدث من خلافات سياسية ، وكذلك التركيز على الحروب والمعارك ، وخاصة تلك التي حدثت بين المسلمين ، حتى ليكاد يكون التاريخ من خلال هذا العرض كومة من هذه المواقف السياسية والحربية فقط ، دون الإلتفات إلى ما عداهما من أعمدة التاريخ التي يقوم عليها ، هذا العزف خطير جداً ، يخدر العقول والضمائر ، ويميت القلوب والأرواح ، وينتج أجيالاً تخجل من النظر في تاريخها وحضارتها .
إذن نحتاج إلى كافة التخصصات في كتابة التاريخ لتغطية المساحة كلها ، والوقوف على أبعاد الحدث والظاهرة والشخصية التاريخية ، ومن ثم فان الطريقة التقليدية التي تعودنا عليها ليست ـ كما أظن ـ الطريقة المثلى في كتابة التاريخ ، بل لا بد من جهد مؤسسي يتبنى هذا الأمر الذي يضعنا أمام الصورة الصحيحة لما جرى في الماضي ، وبالتالي سيمكننا أن نستمد من حضارتنا في عملية البناء المنشودة كل ما ينفعنا ، دون الضياع في زخم الروايات الضعيفة والموضوعة ، ودون الانتصار الأعمى للرأي والمذهب ..
وهذا القول لا ينفي الجهود الفردية التي تبذل من قبل طلاب الماجستير والدكتوراه والمؤرخين ، ولكن هؤلاء أيضاً يجب أن يرجعوا إلى أهل الاختصاصات الأخرى للاستفادة من معلوماتهم وخبراتهم ، لإيجاد التكاملية ـ إلى حد ما ـ في كتابة التاريخ ومن ثم تقديمه للأجيال صافياً نقياً .


ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ

* نشرت هذه المقالة في جريدة ( ومضات جامعية ) وهي جريدة أسبوعية ثقافية تصدر عن جامعة الموصل ، العدد 79 الخميس 24 شعبان 1431 هـ / 5 آب 2010 م ، الصفحة 9 .

نعيمة محمد التاجر
26-04-2012, 12:35 AM
عندما كنت بالمرحلة الثانوية وخلال حصص التاريخ لطالما كرهت تلك الدروس وما تضمنته من مواقف وتلك الشخصيات المنبعثة من لحد الثرى حينها لم يكن اهتمامي بدراسة التاريخ الا مرحلة لتخطي الامتحان والنجاح
لكن مع مرور الوقت ادركت فداحة تصوري فالتاريخ ليس مجرد احداث شب عليها الظهر وشخصيات بالية لا فائدة منها بل هو مدرسة نتعلم من خلالها الدروس والعبر ونغوص باعماقه لنسبر اغوار عظمائه وكيف تمكنوا من تحقيق نجاحهم وشهرتهم
وهذا ما اكدته انت من خلال مقالك الفريد فالتاريخ ليس مجرد رزمانة احداث سياسية بل اطنان من الاسباب والظواهر والحيثيات الاقتصادية والسوسيوثقافية والدينية التي ادت الى النتائج التي نعيشها اليوم
ممتنة لك كثيرا على ما نثرته هنا من فكر راق
تقبل مروري المتواضع بصفحتك

بهجت عبدالغني
30-04-2012, 12:10 PM
وعندما كنت أدرس مادة التربية الاسلامية في مرحلة التطبيق

كنت انتفل من معركة الى معركة

وكأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام

كلها

معارك وحروب

ويتساءل المرء : أين اختفت الجوانب الاخرى من السيرة ؟

من اخفاها ؟

ولحساب من ؟


وأورد هنام معلومة خطيرة جداً

وهي ان المستشرقين كان لهم أثر بالغ في كتابة تاريخنا

وبقيت آثارهم الى اليوم نعاني منها

وان كان هناك من اخذ على نفسه تصفية التاريخ وغربلته ، ليقدم لنا تاريخنا بصورته الحقيقية ..

لكنها جهود فردية ..

ونكرر نحتاج الى مؤسسات ..



الاخت الكريمة نعيمة محمد التاجر

شكراً على مرورك العطر





وتقبلي خالص تحياتي ..

عبد الرحيم بيوم
30-04-2012, 12:29 PM
كأنك تتحدث اخي بهجت عن قراءة التاريخ والتي تخضع لمنهجية القارئ
فالتاريخ من حيث سلسلة الحدث واحد لكن القراءات مختلفة بل ومتباينة احيانا وللحدث الواحد
لذا كانت قراءة الاستشراق سيئة لتاريخنا
والاحداث ايا كانت لا بد عند قراءتها من وضعها في الصورة كاملة اذ الحدث جزء من الصورة وليس هو كل الصورة
موضوعك اخي بهجت راقني جدا
بوركت اخي وتقبل كريم تحياتي لك

نادية بوغرارة
01-05-2012, 01:16 PM
التكاملية في كتابة التاريخ ،

ربما هذا هو الحل لكثير من المغالطات في كتابة التاريخ و قراءته و فهمه .

هل التاريخ يكذب ؟؟

هل التاريخ يزوّر ؟؟

هل التاريخ يلفُّق ؟؟

هل التاريخ يكون موجّها من قبل جهات ما مؤسسات حكومات تيارات ،

تُحول بوصلة التاريخ من أجل تسليط الضوء على حدث ، ما لغرض ما ؟؟

التكاملية أظنها تقلص من عدد الإجابات بنعم على الأسئلة التي طرحت .

أذكر هنا و لا أدري هل تصلح المقارنة بجمع الحديث الشريف ،

لو ترك بيد واحدة أو مصدر واحد لربما اختلط ، و لكننا نرى كيف

سُخّرت له كثير من الأبواب الفقهية و العلمية و أنفق في سبيل

جمعه و فرزه و تصنيفه ... الكثير من الجهد .

و ربما يصدق على فكرة تكاملية التاريخ القول

بعدم اجتماع الكثرة على باطل ،لأنهم بكثرتهم يقومون بتغطية

أغلب الزوايا فتنعدم أحادية الرؤية ، مما يعطي مصداقية أكثر ،

و اقترابا أكبر من العدل .

=====

استفدت من قراءة موضوعك يا أخي بهجت الرشيد ،

أحييك و دمت بفكر .

بهجت عبدالغني
03-05-2012, 10:03 AM
كأنك تتحدث اخي بهجت عن قراءة التاريخ والتي تخضع لمنهجية القارئ
فالتاريخ من حيث سلسلة الحدث واحد لكن القراءات مختلفة بل ومتباينة احيانا وللحدث الواحد
لذا كانت قراءة الاستشراق سيئة لتاريخنا
والاحداث ايا كانت لا بد عند قراءتها من وضعها في الصورة كاملة اذ الحدث جزء من الصورة وليس هو كل الصورة
موضوعك اخي بهجت راقني جدا
بوركت اخي وتقبل كريم تحياتي لك


عملية كتابة التاريخ تبدأ من تصفية الروايات الصحيحة عن الضعيفة والموضوعة

فليست القراءات وحدها تختلف ، بل حتى الروايات تجدها مختلفة ، احداها تؤكد والثانية تنفي ..

ثم بعد فرز الروايات تأتي مرحلة البناء عليها ..

نعم قد تختلف القراءات ، ولكننا نضمن حينها اننا نضع اقدامنا على ارضية صلبة ..

أقول دائماً :

اعطني رواية صحيحة ، اعطيك تاريخاً صحيحاً



الاخ الكريم عبد الرحيم صابر

شكراً على اطلالتك الجميلة ..




تحياتي ..

بهجت عبدالغني
03-05-2012, 10:13 AM
الكريمة السامقة نادية

اسئلة جد مشرعة ..

وتناول التاريخ بجملته وبتكامليته سيكشف لنا الاجوبة عن تلك الاسئلة

ولاهمية الحديث الشريف ، كونه اقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وافعاله وتقريراته ، حظي باهتمام العلماء

بخلاف التاريخ ..

وقد استثمر الاستاذ الدكتور محمد بن طاهر البرزنجي علم الجرح والتعديل في تحقيق تاريخ الطبري ، فجاء كتابه ( صحيح وضعيف تاريخ الطبري ) نموذجاً رائعاً في تنقية التاريخ وتصفيته ..






تقلبي تحياتي الخالصة ..