تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة الاكتئابية



عبد الرحيم صادقي
15-05-2011, 04:18 PM
حدثنا كئيب بن سواد قال: دخلت بيت حامد بن شاكر، الفاضل الطاهر. فإذا هو بين عياله منشرح الصدر، عالِيَ القدْر،هانئ البال، مستور الحال. معافى البدن، لا يشكو الحَزَن. فقلت: لِيَهْنِئْكَ العيشُ الكريم يا حامد! فهلا أبنت لي كيف أدركت بُغيتَك، وحصَّلت مُرادَك، مع سَتْرِ الحال، ويُسْرِ المال؟ فإني لا أرى عندك سُرُراً مرفوعة، ولا زرابي مبثوثة.
قال حامد: أعطاني ربي فحمدتُ ومنعني فشكرت. فقلت: فما الذي أعطاك، وما الذي منعك؟ قال: أعطاني الرضى ومنعني الجزع، فأنا بين حمد وشكر، قد صَرَفْت الهلع. فلست هلوعا ولا جزوعا. قال كئيب بن سواد فقلت: فإنه لَتَمُرُّ بي سُوَيعات النهار، أشقَّ من الظِّهار، وأمرَّ من المُرار، وأشأم من حفار، وأهونَ من الكُسَار، وأضرَّ من الضرار، وأبخسَ من دينار، وأنكرَ من صوت الحمار، وأجْدَبُ من القار، لا أمان فيها من العِثار. وأخسَّ من الشِّسْع، وأحقر من الرَّقْع، وأرخصَ من النَّقْع. وأحرَّ من نار الغَضَى، وأَلْظَى من اللَّظى. وأثقلَ من طَوْد، وأذلَّ من وَتَد، ومن بيضة البلَد. فما ترى يا حامد؟
قال: أفَمِن عُدْمٍ ما بك؟ أم من قلة الولد؟ أم من سَقَم؟ قال: كلا، فلستُ سقيماً ولا عديماً ولا قليلَ ولد. قال: وما سببُ كَأْبائِك إذن؟ قال: فعَن ذلك أسأل، ولو كنت أعلمُ ما بي، لأدركت طبابي. ولقد ضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت، وأفْنَت عمري وما فنِيَت، ورمتني بالبلايا فَوَنَيْتُ وما وَنَت. ولقد وجدت الدنيا كخضراء الدِّمَن، تسُرُّ الناظرين وفي بَواطِنها الإِحَن. إذا لانت يوما قَسَت طول الزمن، وإذا جادت سويعة شحَّت بالمِنَن. وإذا منحت أسرعت بالمِحَن. وكم رجوتُ لو لُفِفْتُ في كفن، ثم أُسْرِعَ بي إلى حيث أدفن. ويا رُبَّ ليلةٍ قضيتُها بلا سِنَة، ورُبَّ يومٍ كأنه سَنَة.
قال حامد: فإن كنتَ ليس لقلة ذات اليد تهتم، ولا لِفوات النعم تغتم، فليس غير الناس سبب شقائك والنقم، وما يعتريك من مَلَل وسأم. قال كئيب: مُصابي كله في الناس، وبَلِيَّتي منهم والبأس. فالناس والشر صنوان، وما أقل الإخوان! إن أكرموا فَعَن مَأْرُبَة لا حَفاوة، وإن أنفقوا فرِياء وعِلاوة.
قال حامد: لا تَنْفُرْ من الناس كما يُنْفَرُ من الجمل الأجرب، ولا تأنسْ بصُحبَتهم كما يُؤْنَس بالأم الرَّؤوم. ولكن أحبَّ حبيبك هَوْناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغضْ بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما. واذكر قول القائل:
ولستَ بمُسْتبقٍ أخا لا تلمه ؞؞؞ على شعث، أي الرجال المهذب؟
وصاحِبِ الناس بالمعروف، ولا تَرْجُهم رجاء الملهوف. فإني أراك تشكو إلى غير مُصْمِت، وويلٌ للشَّجيِّ من الخَلِيّ. وارْضَ من الوفاء باللَّفاء، تجد العوض والشفاء.
ولا تُرِيَنَّ الناس إلا تجمُّلا ؞؞؞ ولو كنت صفر اليدين خاويا
وإياك أن تُكاشفَ الناس عيوبَك، وصدرُك أوسع لسرِّك. واصغ لقول القائل:
أسيرُك سرُّك إن صُنتَه ؞؞؞ وأنت أسيرٌ له إن ظهر
واذكُرْ أنك فارٌّ من أمِّك وأبيك يوم العَرْض، يخِفّ أساكَ على مَن في الأرض.
قال كئيب فقلت لحامد: أفلا تتحسَّرُ يا حامد على مالٍ فاتَك، وتتوق إلى ما لَمْ يَأَتِك؟
قال: وكيف أتحسر على ما لو ملكتُ منه مثاقيل الجبال، لصار كله إلى الزوال. وما لو حزتُ منه ما ينوء بالعصبة أولي القوة، لما أخَّرَ أجَلي ولا نِلْتُ منه حُذْوَة، ولا أعلى مقامي ولا أكسبني حُظوة، إلا حظوة وَهْمٍ وحقيقتُها شَقْوَة. ولا رافقني إلى رمسي، ولست أجد في المال أُنْسي، متى أُصْبِحُ أو أُمْسِي. كيف ولكل شمسٍ مغرب، والمالُ مُوَدِّعٌ ومفارق، ولو كنزتَه في نمارق. ومالُكَ سِيَّان كَثُرَ أو قَلَّ، وشَرْعُك ما بلَّغَك المَحَلَّ. وكيف أتوقُ وقد وجدتُ الدنيا عارية، وعلى سُنَّتِها جارية. يوماً تشرقُ ويوما تغيب، ودَيْدَنُها التقَلُّبُ يا كئيب.
قال كئيب: فإني أستنصِحُك يا حامد، فدُلَّني وأنت الراشد! قال حامد: عليك بالبلاء الحسن، ودَعِ التأسف والشجن. واعلم أن الدنيا ساعة، فاجعلها لله طاعة. ثم أنشأ يقول:
يا شاكياً أمْضى زمَنْ ؞؞؞ قُمْ وانتفضْ يكفي الوَهَنْ
إنْ عشْتَ فالعيشَ الكريـ ؞؞؞ ـمَ الحُرَّ لا عيشَ الوَسَنْ
أوْ متَّ فالكلُّ انعدَمْ ؞؞؞ هل دام إلا ذو مِنَنْ
والموتُ حقٌّ قد لزِمْ ؞؞؞ لا يخشَى الموت مَن ذَهَنْ
اللهُ يقضي بيننا ؞؞؞ يوماً فيَجْلو ما بَطَنْ

أحمد عيسى
15-05-2011, 10:09 PM
لله درك يا اديبنا المتالق

والله كاني اقرا احدى مقامات الهمذاني

اجدت الوصف والسرد والموسيقى واحتويت الحكمة والبيان وبديع الالفاظ
سردت لنا حكمة مجسمة برقيق القول وقصير السجع

ابدعت واجدت ايها الاديب


احييك

محمد ذيب سليمان
15-05-2011, 10:21 PM
الله .. الله
عليك وعلى هذا الجمال الممزوج بخالص الحكم

والله يا سيديكنت سلأبتعد تاركا لها ولكن
شيئا ما قال ليبجرب اول اربعة أسطر

وما ان بدات حتي اكملت وات تركت

لك الحي والشكر

آمال المصري
15-05-2011, 11:28 PM
بديعة البيان .رائعة بكل ماتحمل من حكمة وعبرة
بل يعجز القلم عن الرد ويتوارى خجلا
أديبنا المكرم ...
كنت هنا لأتعلم من سموكم ورحلت غارقة في الدهشة
وسأكرر الزيارة حتماً مرات أخر
تحيتي ... وباقات الياسمين

عبد الرحيم صادقي
16-05-2011, 08:43 PM
ولك التحية الخالصة يا أحمد عيسى. أشكر لك اهتمامك وتقديرك، إنما هو توفيق من الله. أدام الله لك السرور.

عبد الرحيم صادقي
16-05-2011, 09:00 PM
ولك التحية الأستاذ الأديب محمد ذيب سليمان. وما الذي زهدك فيها بادئ ذي بدء أيها الشاعر؟ أخشْيَة أن يصيبك الاكتئاب؟ هههه. الحمد لله أنك غيرت رأيك فيها. تحيتي والمودة.

عبد الرحيم صادقي
16-05-2011, 09:10 PM
الأخت رنيم، كلنا هنا لنتعلم، ومن الله وحده التوفيق. أشكر لك اهتمامك وتقديرك، إنما هو من حُسن خلقك. حياك الله، وباقات مثلها وأفضل منها.

كاملة بدارنه
16-05-2011, 10:44 PM
رائعة فكرا ولغة وأسلوبا!
لله درّك ودرّ هذا الأدب الراقي الذي يعبق بشذا الحكم والوعظ والإرشاد، ويذكرّنا بأدبنا العربيّ العريق، ويعيد أمجاد فن المقامات
بارك الله فيك أستاذ عبد الرّحيم
تقديري وتحيّتي

عبد الرحيم صادقي
17-05-2011, 12:10 AM
وفيك بارك الله الأخت كاملة. ولك التحية أحسنها. أدام الله لك السرور.

ربيحة الرفاعي
04-04-2012, 12:34 PM
أعترف اني تغيب عني روائع هنا ألوم نفسي حين أكتشف وجودها
يا لي كم أحرم نفسي من متعة بتركها تتراجع في الصفحات قبل أن اراها

مدهشة هذه المقامة بلغتها وما حملت من فكر ومعان راقية وحكمة مجلجلة في أسماع من يعقلون

أشكر لك هذا التمكن والعطاء الأدبي المميز

وأهلا بك في واحة الخير

تحاياي

عبد الرحيم صادقي
04-04-2012, 07:19 PM
بارك الله فيك أيتها الربيحة
أخرجت المقامة من رماد ونفخت فيها من روحك الشاعرة، فلله درك.
تحياتي الخالصة وعرفاني

ياسر ميمو
05-04-2012, 10:23 PM
السلام عليكم

ما شاء الله وتبارك الرحمن

أهنئك أستاذي الفاضل

على هذه التحف التي تُبهر العين

هنا أُسجل إعجابي بقلم ينبض بالإبداع

حماك.... الباري

محمد عبد القادر
05-04-2012, 10:48 PM
لغةٌ طُوِّعَت بين بنانك
فخرجت المقامة فى حلتها القشيبة
دون صنعة أو تكلف
أحببتها
تحياتى
و
إلى لقاء

عبد الرحيم صادقي
07-04-2012, 06:32 PM
السلام عليكم
ما شاء الله وتبارك الرحمن
أهنئك أستاذي الفاضل
على هذه التحف التي تُبهر العين
هنا أُسجل إعجابي بقلم ينبض بالإبداع
حماك.... الباري

بارك الله فيك يا ياسر
يسَّر الله لك كل عسير
وأدام لك المسرات
تحياتي

عبد الرحيم صادقي
07-04-2012, 06:36 PM
لغةٌ طُوِّعَت بين بنانك
فخرجت المقامة فى حلتها القشيبة
دون صنعة أو تكلف
أحببتها
تحياتى
و
إلى لقاء

لقاؤك بِشر ومسرات يا محمد
شكر الله لك مرورك الطيب
تحياتي

نداء غريب صبري
08-04-2012, 04:54 PM
رائع رائع رائع

أشكرك لما قرات هنا من الجمال لغة وسردا

بوركت أخي

وليد عارف الرشيد
08-04-2012, 07:24 PM
رائعٌ أنت أصيلٌ مفوَّهٌ أديبٌ أريب .. ما شاء الله لاقوة إلا بالله
أحييك مبدعنا الكبير أطربتني وعلمتني وأسعدتني بهذه البديعة السامقة
مودتي وتقديري كما يليق بهذا الجمال

عبد الرحيم صادقي
10-04-2012, 01:39 AM
رائع رائع رائع
أشكرك لما قرات هنا من الجمال لغة وسردا
بوركت أخي

وفيك بارك الله أختي
مرورك أروع

عبد الرحيم صادقي
24-04-2012, 11:29 AM
رائعٌ أنت أصيلٌ مفوَّهٌ أديبٌ أريب .. ما شاء الله لاقوة إلا بالله
أحييك مبدعنا الكبير أطربتني وعلمتني وأسعدتني بهذه البديعة السامقة
مودتي وتقديري كما يليق بهذا الجمال

من تواضعك ونبل شيمك ما قلت أيها الشاعر الفحل
لا حُرمنا دفعك
بارك الله فيك
تحياتي الخالصة

لانا عبد الستار
20-02-2013, 01:41 AM
رائع
تمكن من الفكرة ومهارة في طرحها بقالب مقامي قل من يجيده
بديع كل ما فيها
أشكرك

ناديه محمد الجابي
20-02-2013, 02:42 AM
أدهشنى نصك بفكره وثقافته وعمقه وبموسيقاه العذبة ومفرداته الغنية
لابد أن يبهر القارئ بهذا المستوى اللغوى المتين
تجعلنى التراكيب اللغوية بحسن سبكها وصورها
البيانية أغوص بين ثنايا حروفها
هذا هو الأدب الذى يسرق كل حواس المتلقى
مبهرة قصتك , بديعة لغتك , كريمة مقاصدك
أشكرك على هذا العمل الرائع الذى أمتعنى .

براءة الجودي
20-02-2013, 04:38 AM
وقعتُ على هذه المقامة صدفة و ربما اكتئابي دفعني لقراءتها فقد اصابني الفضول من العنوان , فكان مارجوتُ عسى ان يزول اكتئابنا
جزيت خيرا

عبد الرحيم صادقي
21-03-2013, 01:23 AM
وشكر الله لك اهتمامك لانا. بوركت.
تحياتي نادية. الحمد لله أن وجدت في المقامة متعة وإفادة. مسرور لذلك.
أبْعد الله عنك الاكتئاب براءة، وجعل أيامك كلها سعيدة.