المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طفولتي 6



عبد الله راتب نفاخ
14-06-2011, 01:16 PM
طفولتي ( 6 )




في ليلة شتائية باردة غريبة ، كانت ليلة خميس يليها يوم جمعة ، غمرني لوالدي شوق عجيب لم أعهده ، و رغبة بالتعلق به و قد أخلد للنوم و بإسناد رأسي إلى ظهره و الالتصاق به كأنما أستجدي الغياب في جسده و التوحد به .


لا أدري أي مشاعر غريبة انتابتني ساعتها ، لكنني أحسست أن الاقتراب منه قدر ما أستطيع و عدم مغادرته و لو لحظة واجب و فرض تمليه علي قوة ما لست أعلمها .


ما زلت أذكر تلك اللحظات كأنني أعيشها الآن ، و قد أطفئت الأنوار ، و التصقت أنا بظهره أتحسسه و أتلمسه و أسند رأسي إليه شاعراً بالأمان و الراحة ، كأنني بذلك أمنع غيابه عني دون أن يبدي هو أي حركة ، و كم أسرني حينها دفء القرب منه كأنها المرة الأولى ، بقيت سادراً في ذلك دقائق كانت كالعمر كله ، قبل أن تطلب منيأمي الابتعاد عنه خشية أن أضايقه .


رفضت و تعلقت به ، لكنها بإصرار كسرت حاجز العناد لدي ، و أخذتني للنوم في غرفة أخرى ، و قلبي ما يزال مشدوداً إلى والدي في نومته تلك .


و كأن الإحساس بضرورة البقاء إلى جانبه كان مغروساً في قلبي بإرادة غيبية ، أوعزت إلى جسدي بفعل ما يجبر أمي على إعادتي إلى حيث كنت ، فقد استيقظت بعيد منتصف الليل لأجدني بللت فراشي كاملاً ، و ذلك فعل ما كان ليصدر عني يوماً قبل ذلك ، فحسبت أمي عندئذ أن ما حصل سببه البرد الذي كان أشد في الغرفة التي أنامتني بها ، فأعادتني إلى جانب والدي لأكمل الليلة بقربه .


لكنها تساءلت بعجب عما جعلني أفعل مثل ذلك ، و كيف لم أحس بنفسي حين ارتكبت ما لا يليق ، ثم أدركت بعد لأي أن كل ذلك كان لا بد بتدبير من فوق البشر أراد لي أن أبقى بجانب والدي أطول من أي فترة سبقت ، لأن هذا القرب سيغدو من بعد عزيزاً مفتقداً .


لما استيقظت بعيد الفجر وجدت الحياة على طبيعتها كما كل يوم ، والدي يحتضن مصحفه و يرتل منه سورتي البقرة و آل عمران كعادته إثر كل صلاة فجر ، و فنجان القهوة إلى جانبه يرتشف منه رشفات ، فيما السماء في الخارج تلقي عباءتها الرمادية على الجو كله .


نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فأبصرتها تشير إلى السادسة ، بقيت على فراشي و تدثرت بالغطاء و أنا أفكر بشيء واحد : أن هذا اليوم يوم جمعة ، و كفى به جمالاً أنه يوم عطلة ، لا مدرسة فيه و لا تعب .


أخذت أتأمل والدي مطولاً بمحبة ، أحدق في وجهه الذي وخط الشيب فوديه ، و في شفتيه اللتين تتحركان بكلمات الذكر الحكيم ، و في الهالة الجمالية التي رأيتها تحيط به .


كان الحب وحده ما يحرك قلبي نحوه ساعتها ، و الجمال يتلألأ على محياه فيبديه ملكاً متوجاً على عرش الحسن و البهاء ، كأن ملائكة السماء تحيطه و تنشر ألقها من حوله .


بدا جميلاً كما لم أره يوماً ، هادئاً كما لم أره يوماً ، وديعاً كما لم أره يوماً ، شاباً كما لم أره يوماً ، فلبثت أتأمله مستمتعاً بألقه ذاك غير شاعر بالوقت ، و ابتسامة ترتسم على شفتيَّ لم أعتدها حين النظر إليه ، ابتسامة صنعها إحساسي أن كل حواجز الرهبة و الغضب و العنف قد زالت عنه ، و بات محلها حنان و حب و عطف لا تنتهي .


و فجأة .. و دونما إنذار ، وجدته يبعد المصحف عن نفسه بكل هدوء


، و يأخذ في الاستلقاء مسنداً رأسه إلى الأريكة ، ثم يضع يده على موضع قلبه و يلفظ الكلمتين اللتين أسمع صوته يتردد بهما حتى اللحظة في أذنيَّ : يا بنيَّ .. إنني أموت .


لكم سمعتها منه قبل ذلك ، و لكم رددها بسبب و من دون سبب ، لكنْ هذه المرة رأيت في عينيه ما لم أعهده ، كأن صورة ملك الموت الذي حضر في الغرفة ساعتها قد تجلت فيهما .


و للحديث بقية .............

فاطمه عبد القادر
14-06-2011, 03:44 PM
كان الحب وحده ما يحرك قلبي نحوه ساعتها ، و الجمال يتلألأ على محياه فيبديه ملكاً متوجاً على عرش الحسن و البهاء ، كأن ملائكة السماء تحيطه و تنشر ألقها من حوله .



السلام عليكم أخي
يبدو أن والدك من أهل الجنة إن شاء الله
إذن كيف حصل على جمال كهذا ؟؟يومها
لقد رأيت هذا بعينك وأنت بعد طفل ,,كثير هذا على الأطفال ,,فهي ساعة رهيبة
طفل يفقد والده ويرى ذلك بعينه ,,رأيت ذلك بمنامي وأنا ما زلت طفلة وهالني الأمر لدرجة الرعب والخوف الذي كان يسيطر علي زمنا غير قصير
أود بها أن لا أفارق أبي ولا للحظة واحدة
شكرا على مشاعرك الجياشة أخي
أتمنى لك طول العمر
ماسة

محمد ذيب سليمان
14-06-2011, 08:07 PM
رحم الله والدك وأسكنه فسيح الجنان

هي ذكريات لا يمكن ان تغادر الذاكرة

مها طال العمر لأنها تضم أغلى الناس الى القلب

أخي في كل ما تكتب تعيدنا الى أيام مرت وبها شيء مما تذكر

لك الود

عبد الله راتب نفاخ
16-06-2011, 10:13 AM
كان الحب وحده ما يحرك قلبي نحوه ساعتها ، و الجمال يتلألأ على محياه فيبديه ملكاً متوجاً على عرش الحسن و البهاء ، كأن ملائكة السماء تحيطه و تنشر ألقها من حوله .



السلام عليكم أخي
يبدو أن والدك من أهل الجنة إن شاء الله
إذن كيف حصل على جمال كهذا ؟؟يومها
لقد رأيت هذا بعينك وأنت بعد طفل ,,كثير هذا على الأطفال ,,فهي ساعة رهيبة
طفل يفقد والده ويرى ذلك بعينه ,,رأيت ذلك بمنامي وأنا ما زلت طفلة وهالني الأمر لدرجة الرعب والخوف الذي كان يسيطر علي زمنا غير قصير
أود بها أن لا أفارق أبي ولا للحظة واحدة
شكرا على مشاعرك الجياشة أخي
أتمنى لك طول العمر
ماسة

أحسبه كما حسبته .. من أهل الجنة ..
كانت ساعة رهيبة .. لا أخالني أنساها يوماً ...
كم كان مرورك راقياً ..
بارك الله بك أختي

صفاء الزرقان
16-06-2011, 12:48 PM
رحمه الله
كلماتك جعلتني ارى صورة والدٍ عظيمٍ تقي
قابلت روحه بارئها على اجمل واروع الصور
اراه رزق حسن الخاتمة والثبات عند قبض الروح
وهو ما يتمناه كل مسلم فهنيئاً له .
قابل ربه في اعظم الايام و ابرك الاوقات ممسكاً كتاب الله .
بديع الشعور الذي شعرت به ليلتها عندما شعرت برغبة شديدة بالالتصاق بوالدك.
نحن نتماهى مع احبتنا
فندرك كل ما يحيط بهم و نشعر به حتى لو لم ندرك حينها
سر ذلك الشعور فاللحظات التالية توضح كنه ما شعرنا به.
اخاف من ذلك الشعور حين يجتاحني .
جعله الله من اهل الفردوس الاعلى و رزقنا واياك حسن الخاتمة
و ثبتنا عند السؤال
احترامي و تقديري

عبد الله راتب نفاخ
17-06-2011, 06:19 AM
رحم الله والدك وأسكنه فسيح الجنان

هي ذكريات لا يمكن ان تغادر الذاكرة

مها طال العمر لأنها تضم أغلى الناس الى القلب

أخي في كل ما تكتب تعيدنا الى أيام مرت وبها شيء مما تذكر

لك الود

حقاً يا أستاذي حقاً ..
سلمكم رب العالمين و بارك بكم
ً

عبد الله راتب نفاخ
19-06-2011, 08:06 AM
رحمه الله
كلماتك جعلتني ارى صورة والدٍ عظيمٍ تقي
قابلت روحه بارئها على اجمل واروع الصور
اراه رزق حسن الخاتمة والثبات عند قبض الروح
وهو ما يتمناه كل مسلم فهنيئاً له .
قابل ربه في اعظم الايام و ابرك الاوقات ممسكاً كتاب الله .
بديع الشعور الذي شعرت به ليلتها عندما شعرت برغبة شديدة بالالتصاق بوالدك.
نحن نتماهى مع احبتنا
فندرك كل ما يحيط بهم و نشعر به حتى لو لم ندرك حينها
سر ذلك الشعور فاللحظات التالية توضح كنه ما شعرنا به.
اخاف من ذلك الشعور حين يجتاحني .
جعله الله من اهل الفردوس الاعلى و رزقنا واياك حسن الخاتمة
و ثبتنا عند السؤال
احترامي و تقديري

الكريمة الفاضلة صفاء ..
تعليقك يكشف ذوقك و صفاء سريرتك ..
لك كل شكر و تقدير أيتها الكريمة ...
مرور راقٍ كعادتك ..
لك كل التحايا ..
دمت بخير

عبد الله راتب نفاخ
23-06-2011, 07:52 AM
في ليلة شتائية باردة غريبة ، كانت ليلة خميس يليها يوم جمعة ، غمرني لوالدي شوق عجيب لم أعهده ، و رغبة بالتعلق به و قد أخلد للنوم و بإسناد رأسي إلى ظهره و الالتصاق به كأنما أستجدي الغياب في جسده و التوحد به .


لا أدري أي مشاعر غريبة انتابتني ساعتها ، لكنني أحسست أن الاقتراب منه قدر ما أستطيع و عدم مغادرته و لو لحظة واجب و فرض تمليه علي قوة ما لست أعلمها .


ما زلت أذكر تلك اللحظات كأنني أعيشها الآن ، و قد أطفئت الأنوار ، و التصقت أنا بظهره أتحسسه و أتلمسه و أسند رأسي إليه شاعراً بالأمان و الراحة ، كأنني بذلك أمنع غيابه عني دون أن يبدي هو أي حركة ، و كم أسرني حينها دفء القرب منه كأنها المرة الأولى ، بقيت سادراً في ذلك دقائق كانت كالعمر كله ، قبل أن تطلب منيأمي الابتعاد عنه خشية أن أضايقه .


رفضت و تعلقت به ، لكنها بإصرار كسرت حاجز العناد لدي ، و أخذتني للنوم في غرفة أخرى ، و قلبي ما يزال مشدوداً إلى والدي في نومته تلك .


و كأن الإحساس بضرورة البقاء إلى جانبه كان مغروساً في قلبي بإرادة غيبية ، أوعزت إلى جسدي بفعل ما يجبر أمي على إعادتي إلى حيث كنت ، فقد استيقظت بعيد منتصف الليل لأجدني بللت فراشي كاملاً ، و ذلك فعل ما كان ليصدر عني يوماً قبل ذلك ، فحسبت أمي عندئذ أن ما حصل سببه البرد الذي كان أشد في الغرفة التي أنامتني بها ، فأعادتني إلى جانب والدي لأكمل الليلة بقربه .


لكنها تساءلت بعجب عما جعلني أفعل مثل ذلك ، و كيف لم أحس بنفسي حين ارتكبت ما لا يليق ، ثم أدركت بعد لأي أن كل ذلك كان لا بد بتدبير من فوق البشر أراد لي أن أبقى بجانب والدي أطول من أي فترة سبقت ، لأن هذا القرب سيغدو من بعد عزيزاً مفتقداً .


لما استيقظت بعيد الفجر وجدت الحياة على طبيعتها كما كل يوم ، والدي يحتضن مصحفه و يرتل منه سورتي البقرة و آل عمران كعادته إثر كل صلاة فجر ، و فنجان القهوة إلى جانبه يرتشف منه رشفات ، فيما السماء في الخارج تلقي عباءتها الرمادية على الجو كله .


نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فأبصرتها تشير إلى السادسة ، بقيت على فراشي و تدثرت بالغطاء و أنا أفكر بشيء واحد : أن هذا اليوم يوم جمعة ، و كفى به جمالاً أنه يوم عطلة ، لا مدرسة فيه و لا تعب .


أخذت أتأمل والدي مطولاً بمحبة ، أحدق في وجهه الذي وخط الشيب فوديه ، و في شفتيه اللتين تتحركان بكلمات الذكر الحكيم ، و في الهالة الجمالية التي رأيتها تحيط به .


كان الحب وحده ما يحرك قلبي نحوه ساعتها ، و الجمال يتلألأ على محياه فيبديه ملكاً متوجاً على عرش الحسن و البهاء ، كأن ملائكة السماء تحيطه و تنشر ألقها من حوله .


بدا جميلاً كما لم أره يوماً ، هادئاً كما لم أره يوماً ، وديعاً كما لم أره يوماً ، شاباً كما لم أره يوماً ، فلبثت أتأمله مستمتعاً بألقه ذاك غير شاعر بالوقت ، و ابتسامة ترتسم على شفتيَّ لم أعتدها حين النظر إليه ، ابتسامة صنعها إحساسي أن كل حواجز الرهبة و الغضب و العنف قد زالت عنه ، و بات محلها حنان و حب و عطف لا تنتهي .


و فجأة .. و دونما إنذار ، وجدته يبعد المصحف عن نفسه بكل هدوء


، و يأخذ في الاستلقاء مسنداً رأسه إلى الأريكة ، ثم يضع يده على موضع قلبه و يلفظ الكلمتين اللتين أسمع صوته يتردد بهما حتى اللحظة في أذنيَّ : يا بنيَّ .. إنني أموت .


لكم سمعتها منه قبل ذلك ، و لكم رددها بسبب و من دون سبب ، لكنْ هذه المرة رأيت في عينيه ما لم أعهده ، كأن صورة ملك الموت الذي حضر في الغرفة ساعتها قد تجلت فيهما .


و للحديث بقية .............

لانا عبد الستار
12-05-2013, 09:47 PM
والدٍ عظيمٍ جليل وهبه الله الحياة الطيبة والخلف الصالح بك وحسن الخاتمة بما صورت لنا

نسأل الله أن يجعله من أهل الجنة
وجعلك له ولدا صالحا يدوم له صلاحه
أشكرك

ربيحة الرفاعي
13-01-2014, 12:38 AM
صوّرته بمهارة أديب وعمق شعور ابن بار بما جعله يجد له من القلوب موقعا مجيدا
رحمه الله وأدام بالخير ذكره وأعانك على برّه

دمت بخير

تحاياي

خلود محمد جمعة
14-01-2014, 10:05 PM
ذكريات الطفولة تحفر في ذاكرتنا بحلوها ومرها
رأيت في نثرك قصة رائعة، خطت بمهارة وبإحساس مرهف ،وصلت الى أعماقي
في انتظار البقية
دمت بخير
مودتي وتقديري

نداء غريب صبري
02-04-2014, 02:24 AM
رحمه الله وغفر لنا وله وأسكنه الجنة بغير حساب ولا عذاب

شيخ جليل نحبه كلنا ونجله
تتلمذنا على ايدي تلاميذه ومريديه

شكرا لك اخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
02-09-2017, 11:48 AM
رغم أن الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة
إلا أن مشاعر الحزن والفقد قد تكون أقوى من أن ننساها
فتحفر ذكريات تلك اللحظات في الذاكرة صورة لتلك الدقائق بكل حذافيرها
والأرواح النقية تستشعر أحيانا قرب رحيل الأحباب قبل حدوثه كما حدث لك
وانت بعد صغير.
رحم الله والدك وأسكنه الفردوس الأعلى بالجنان
أبكيتني وملأت قلبي بمزيج من الإعجاب والمرارة في آن
ولك كل تحياتي وتقديري.
:009::009::001: