المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة الهلالية



عبد الرحيم صادقي
03-08-2011, 03:40 AM
حدثنا يحيى بن جعفر قال: استجممتُ بعض أيام بأرض العَجم، فتعرفتُ أقواما وطرحت كثيرا من السأم. وشهدت ضروبا من النظام، وعملا زيَّنهُ الإحكام، وفنونا من الحذق والمهارة، قد أحسنوا المعاشَ والعِمارة، وأصنافا من تدبير الخلاف، وتكريمِ ابنِ آدم وجميلِ الأعراف. وفي أواخر شهر شعبان، بدا لي أن أعود إلى أرض العُربان. وقُلتُ هذا رمضان على الأبواب، شهرٌ يروق باجتماع الأحباب. ولمَّا عدتُ سالما غانما، ألفيتُ جوًّا مُكْفهِرًّا غائما، وخلافا كما عَهدتُه دائما. قومٌ سلكوا النِّجاد، وقوم قصدوا الوِهاد، وطائفة من الناس شرَّقت، وأخرى غرَّبت، فإذا الناسُ في شتاتٍ وشعَث. وإذا هم كقطيع الشَّاء في الليلة الماطرة، قد غاب راعيهم وطوَّقتهُم السباع الماكرة. وكلُّ الخلاف حول رؤية الهلال، والصيام الحرام والصيام الحلال. ومتى مَبدَأُ رمضان، أهو شهر أم شهران؟
قال يحيى بن جعفر: فقصدتُ مفتي الديار، صاحبَ الرأي والقرار، ثم سألته: إلامَ الخُلفُ بيننا يا شيخ حول شهر الصيام؟ ومتى يُلَمُّ شعثُ قومِنا والأنام، فنمضي إلى العمل ويَقِل الكلام؟
قال الشيخ: أصلُ الخلاف قولٌ في المَطالِع، ولئن كان في الأقوال مغمور وذائع، فليس لنا أن نَحكُمَ بحسب الشائع. فرأيٌ يقول باختلافها، فيكون لكل بلاد رمضانُها، بحسب الرؤية وانعدامها. ورأيٌ يقول بوحدة المطالع، فتَلْزَمُ العالَمين رؤيةٌ وقولٌ جامع. ثم أضاف الشيخ: ِزدْ عندك اختلافَ القوم حول الحساب، أيُعتدُّ به أم تركُه الصواب؟ أم يُقرَن بالرؤية فيكون أجدى، أم يكون وحدَهُ أنفعَ وأهدى؟ ثم استرسل الشيخ في حديثه عن الاقتران والرؤية الممكنة، وما استحال منها وما تعسَّر واختلاف الأمكنة.
قال يحيى فقلت لمفتي الديار: فإنَّا نصوم بحسب مطالعَ مُقرَّرة، أم بحسب حدودٍ بين الأقطار مُسطَّرَة؟ وما القولُ إذا كان القُطر متراميَ الأطراف كثيرَ الثغور؟ أيكون لكل ثَغْرٍ مطلعُه المقدور؟ فيجوز حينئذ أن يكون بحسب المشهور، صومُ ثغرٍ لثغرٍ بعيدٍ يومَ فطور؟!
قال الشيخ: تلك فتنة إذن، لعن الله من أيقظها. قلت: فوحدةُ المطالع تخمدُها، لا مَقاسِمُ البلدان وحدودُها. ثم قلت: لكن يا شيخ يا مفتيَ الديار، لِمَ تَخصَّصَ الجدلُ بالصوم والإفطار؟ أليست لنا شعائرُ أُخَر، متعلقة كُلُّها بأحوال القمر؟
قال الشيخ: أفصحْ يا مَن أُشرِبْتَ الجدل، وخُضتَ في الدين بلا عِلَل. قلت: يا شيخ أَلَيلةُ القدر ليلةٌ أم ليال؟ زيَّنَ الله مقالَك والحال. قال: بل هي ليلة واحدة، أخفاها الله لفائدة. قلت: فمَن أدركَ الليلةَ على الحقيقة؟ الأوَّلون أم مَن بعدهم؟ قال الشيخ: كلٌّ على صواب إن شاء الله، والله يجزي العبدَ بحسب ما أبلاه. قلت: كيف ووِتْرُ الأولين شفعُ الآخِرين، ووترُ الآخِرين شفعُ الأولين؟ أوليست الليلةُ وتراً يا شيخنا؟ أم تُرانا نهذي دُلَّنا!
قال الشيخ: أنِلتَ بُغيتَك، ورَوَيتَ غُلَّتك؟ قلت: والله يا شيخ إن كنتُ أحتار، فليس كحَيرتي يومَ حجِّ الأبرار. لا ريب أنك عرفتَهُ يا شيخ وحاجِبُك عرَفه، ذلكم يومُنا المُعظَّمُ يومُ عَرَفة. قال الشيخ: ومِمَّ حيرتُك يا قليل الفقه كثير الوَهم، ومتى كان العقل دليلَ الفهم؟
قلت: رفقاً بي وحِلما، وأفدني مِمَّا أعطاك الله علما! ألسنا نصوم ثامنَ ذي الحِجَّة، حين يكون تاسعَها عند الحُجَّاج وهو الحُجَّة؟ فهل صومُنا صحيحٌ بحسابهم، وما القولُ قي تاسعِنا وهو الأضحى عندهم؟ فهذا التاسعُ أَوْهَى مِنَ الهَيام، فلا هو عيدٌ ولا هو صِيام.
قال الشيخ: لَمْ تَستثْنِ غيرَ أيامِ البِيض وعاشوراء. قلت: الحق فيها بائنٌ بلا مِراء. فما قيل عن غيرها من الأيام، يجري على البِيضِ وعاشوراء بالتمام.
قال يحيى بن جعفر ثم قلت: يا شيخ كلُّ المُحال يأتيك من اختلاف المَطالع، ولو توحَّدَت لارتفع النزاع وغاب المُنازع. ولئن كان للسلف ما يبررُ الخلاف، فما قولُ الخلَف في عصرِ الاكتشاف، وبلوغِ الخبرِ من بقاع الدنيا والأطراف، في لَمْح البصر وكما تزول الأطياف؟!
فأطْرَقَ الشيخُ لحظة ثم قال في غَمْغَمَة: مَن قال إنَّ كلَّ خلافٍ رحمة، والله إنَّ مِنهُ لَنِقمة. وأيْمُ الله لن يتوحَّدَ الصيام، حتى يصيرَ الأنام غير الأنام، وتجْلُوَ المآربُ والأضغان، وتَخْلُصَ النياتُ ويَصفُوَ الجَنَان.

:0014::0014:

أماني عواد
04-08-2011, 01:48 AM
الاستاذ الكبير عبد الرحيم الصادقي

والله قد اثرت قضية هامة سببت لنا الالم والوجع اذ شتتنا شظايا الهوى فما عاد يتوحد فينا حتى الزمن


مقامة تستحق التثبيت
تقديري الكبير

كاملة بدارنه
04-08-2011, 03:28 PM
مَن قال إنَّ كلَّ خلافٍ رحمة، والله إنَّ مِنهُ لَنِقمة. وأيْمُ الله لن يتوحَّدَ الصيام، حتى يصيرَ الأنام غير الأنام، وتجْلُوَ المآربُ والأضغان، وتَخْلُصَ النياتُ ويَصفُوَ الجَنَان.
آمل أن يتحقّق ذلك؛ ليعيش الإنسان حياة الصّدق، وليعبد الله بنيّة سليمة، وقلب مخلص ومتيقّن.
شكرا لك أستاذنا على روعة ما تكتب فكرا ولغة وأسلوبا!
تقديري وتحيّتي
وكلّ عام وأنتم بخير

نداء غريب صبري
04-08-2011, 05:48 PM
أنت كاتب كبير ورائع
وتختار من المواضيع اصعبها
وهذا موضوع يوجعنا صدقني، فهم سنتوحد فيه ذات يوم

شكرا لروعتك أخي

بوركت

زهراء المقدسية
05-08-2011, 12:56 AM
وأيْمُ الله لن يتوحَّدَ الصيام، حتى يصيرَ الأنام غير الأنام، وتجْلُوَ المآربُ والأضغان، وتَخْلُصَ النياتُ ويَصفُوَ الجَنَان.لفترة كنت أظن أنه الحلم المحال
تأتيني لحظات تنفي المحال وتقول بقرب تحقق المنشود
فربما تحدث المعجزة ونتوحد يوما ما ويتوحد الصيام

كل عام وأنت بخير أستاذنا عبد الرحيم
وصوما مقبولا بإذن الله

خليل حلاوجي
05-08-2011, 01:34 AM
لن نتوحد كامة قبل ان نتوحد كذات انسانية


احدنا يستيقظ صباحه مؤمنا ويمسي مساءه كافرا فهم غير متصالح مع ذاته

فكيف نطلب من مليار ونصف ان يتصالحوا

المهم
اننا اليوم في لحظة حرجة في فهم فقه الخلاف لكي لايتجزا المجزأ ولا يتشظى المتشظي


وهنا ياتي دور رجال الفكر امثالك ياصديقي
لذا
اشكرك بعمق النقاء المبثوث في سطورك

ربيحة الرفاعي
05-08-2011, 02:14 AM
ألفيتُ جوًّا مُكْفهِرًّا غائما، وخلافا كما عَهدتُه دائما. قومٌ سلكوا النِّجاد، وقوم قصدوا الوِهاد، وطائفة من الناس شرَّقت، وأخرى غرَّبت، فإذا الناسُ في شتاتٍ وشعَث. وإذا هم كقطيع الشَّاء في الليلة الماطرة، قد غاب راعيهم وطوَّقتهُم السباع الماكرة. وكلُّ الخلاف حول رؤية الهلال،
...
قال يحيى بن جعفر: فقصدتُ مفتي الديار، صاحبَ الرأي والقرار، ثم سألته: إلامَ الخُلفُ بيننا يا شيخ حول شهر الصيام؟ ومتى يُلَمُّ شعثُ قومِنا والأنام، فنمضي إلى العمل ويَقِل الكلام؟
قال يحيى فقلت لمفتي الديار: فإنَّا نصوم بحسب مطالعَ مُقرَّرة، أم بحسب حدودٍ بين الأقطار مُسطَّرَة؟ وما القولُ إذا كان القُطر متراميَ الأطراف كثيرَ الثغور؟ أيكون لكل ثَغْرٍ مطلعُه المقدور؟
....
قال الشيخ: تلك فتنة إذن، لعن الله من أيقظها. قلت: فوحدةُ المطالع تخمدُها، لا مَقاسِمُ البلدان وحدودُها

أحس أمام مقاماتك الجميلة ان تعليقي سيكون جائرا مهما أطرى
ورأيي لن ينصف وإن نطق بانبهاري

تذهلني موضوعات مقاماتك كما تذهلني نصوصها
وتعجبني كيفية تسليطك الضوء على زوايانا المعتمة

تحيتي لنصك وفكرك والق حضورك

دمت بألق

عبد الرحيم صادقي
05-08-2011, 01:33 PM
الاستاذ الكبير عبد الرحيم الصادقي

والله قد اثرت قضية هامة سببت لنا الالم والوجع اذ شتتنا شظايا الهوى فما عاد يتوحد فينا حتى الزمن


مقامة تستحق التثبيت
تقديري الكبير

أختي أماني، حياك الله
رمضان مبارك وكل عام وأنت بخير
فرقفنا المكان في معاهدات مُذلة، ويفرقنا الزمن أيضا. وقبلهما فرقتنا الأهواء والمصالح وأنظمة الاستبداد.
نسأل الله أن يبدل أمرنا إلى خير
تحياتي إليك أماني وكل العرفان لتقديرك.

عبد الرحيم صادقي
05-08-2011, 01:41 PM
آمل أن يتحقّق ذلك؛ ليعيش الإنسان حياة الصّدق، وليعبد الله بنيّة سليمة، وقلب مخلص ومتيقّن.
شكرا لك أستاذنا على روعة ما تكتب فكرا ولغة وأسلوبا!
تقديري وتحيّتي
وكلّ عام وأنتم بخير


رمضان مبارك أختي كاملة.
شكر الله لك اهتمامك وتقديرك.
تحياتي لك وكل عام وأنت بخير.

عبد الرحيم صادقي
05-08-2011, 01:47 PM
وهذا موضوع يوجعنا صدقني، فهم سنتوحد فيه ذات يوم

شكرا لروعتك أخي

بوركت

وفيك بارك الله أختاه.
ليس لنا إلا أن نرفع أكف الضراعة أن تتجاوز الأمة حال التشرذم التي تعيشها.
شكر الله لك حضورك البهي

عبد الرحيم صادقي
07-08-2011, 04:37 AM
لفترة كنت أظن أنه الحلم المحال
تأتيني لحظات تنفي المحال وتقول بقرب تحقق المنشود
فربما تحدث المعجزة ونتوحد يوما ما ويتوحد الصيام

كل عام وأنت بخير أستاذنا عبد الرحيم
وصوما مقبولا بإذن الله

اللهم آمين، وصومك مقبول إن شاء الله يا أخت زهراء
أبشري بقرب تحقق الحلم.
وكل عام وأنت بخير.

عبد الرحيم صادقي
07-08-2011, 04:42 AM
ولك الشكر يا أستاذ خليل
حين يجتمع أهل الحصافة ورائدهم الإخلاص
نتجاوز لا جرم حال التشظي
تحياتي لك والمودة

عبد الرحيم صادقي
07-08-2011, 04:47 AM
أحس أمام مقاماتك الجميلة ان تعليقي سيكون جائرا مهما أطرى
ورأيي لن ينصف وإن نطق بانبهاري

تذهلني موضوعات مقاماتك كما تذهلني نصوصها
وتعجبني كيفية تسليطك الضوء على زوايانا المعتمة

تحيتي لنصك وفكرك والق حضورك

دمت بألق


بل علقي ولا تخشي شيئا أيتها الشاعرة
ودام لك الألق
كل التحية ورمضان مبارك