عبدالصمد حسن زيبار
12-12-2010, 12:48 PM
التحدي بالكفاءة و الإبداع ... سمير العمري نموذجا
تعد الاتهامات من القضايا الشائكة في عالم المعرفة و الأدب و الفكر,في حين تلعب العصبيات بمختلف تجلياتها ـ فكرية ,علمية,أدبية,سياسية,عرقية إقليمية و غيرها ـ دور الباعث الأكبر لها,و الموقد الأشد لنيرانها, و هي لحقت الكثير من المبدعين و المشاهير على مر العصور و بمختلف الأمصار,و في حضارتنا العربية و الإسلامية حسب المرء أن يعاين كتابا من كتب الرجال و التراجم أو مصنفا من مصنفات الملل و النحل أو مؤلفا من مؤلفات التاريخ و الأدب ليقف بجلاء على الكم الهائل من التهم التي طالت معظم المبدعين و الرموز.
من أخطر هذه التهم قضية السرقات و التي تعد من أعقد قضايا النقد الأدبي القديم,إذ حظيت بعناية فائقة و أفردت لها أبوابا في المؤلفات و الدراسات بل حازت أحيانا مؤلفات خاصة بها,و لاحقت معظم الشعراء المشاهير من طرف النقاد,وهي في النثر معدودة لكن استفاضتها امتدت حول الشعر,و امتدت لهذا العصر كذلك.
في حين واجه الأدباء و الشعراء هذه التهم بأساليب و طرق مختلفة نقف هنا على إحداها و هي المواجهة عبر التحدي بالكفاءة و الإبداع و نستعرض الشاعر سمير العمري نموذجا لهذا المنحى من المجابهة و الاستعلاء عبر الإنتاج و الإبداع.
و المغزى أن السرقة إنما تتأتى من ضعف الصنعة و نقص الملكة العلمية و عجز المقدرة الأدبية,في حين أن سمير العمري شاعر مقتدر لا تنقصه المقدرة على الإبداع حتى يلتجئ إلى السرقة و الانتحال,ووفرة إنتاجه و تفرده تقف حاجزا منيعا ضد أي اتهام لشاعريته.
من هنا نستيبن أن مسيرة الشاعر خير دليل على صدقيته و إبداعيته من غير حاجة إلى الرد المباشر و التتبع لكل طاعن و هادم,بل إن الإنتاج و الإبداع يحلي صاحبه المكانة المستحقة.
و كان أكبر تحد منه لخصومه قصائده بعد التهمة,و هي ثلاثة قصائد أفحمهم فيها و تحداهم فيها و هي :
برزخ الحفظ
و عفا الله عنك
ثم كف و إزميل.
فيما يلي نستعرض بعضا من أبيات هذه القصائد القلائد و التي تعد أكبر دليل على شاعرية العمري و أنه من المميزين في هذا الفن:
في قصيدة برزخ الحفظ يتحدث الشاعر عن مقدرته الشعرية و ملكته الإبداعية و آرائه الفكرية متحديا إدعاءات خصومه و اتاهماتهم بأبيات تغني عن كل حجاج و جدال :
مُحِيطٌ أَنَا لِلشِّعْرِ قَاعِي مُمَرَّدٌ=وَمَائِيَ مِنْ عِطْرِ الزَنابِقِ أَو أَصْفَى
وَصَيدُ مَجَالِي جَاوَزَ المَدَّ وَالمَدَى=وَبِنْتُ خَيَالِي لا يُحَاطُ بِهَا وَصْفَا
وَمَا كُنْتُ أَرْضَى الحَرْفَ إِلا نَسِيجُهُ=حَرِيرٌ بِأَحْدَاقِ الجَوَاهِرِ قَدْ حُفَّا
أُغَنِّي ؛ وَمَا فِي النَّايِ إِلا حُشَاشَتِي =تَرَانِيمَ قَلْبٍ لا أَكِلُّ بِهِ عَزْفَا
بِشِعْرٍ سَرَى فِي الصَّدْرِ كَالبَدْرِ فِي الدُّجَى=يُلامِسُ فِي الوجْدَانِ بِالنُّورِ مَا اسْتَخْفَى
وَفِكْرٍ جَرَى فِي الدَّهْرِ كَالنَّهْرِ فِي الحِجَا = يُطِيبُ لأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْ نَبْعِهِ الغَرْفَا
ثم يتساءل مستغربا أن يقرب المشين من الأوصاف من مثله في حكمته و شاعريته و عطائه الإبداعي المتفرد :
فَكَيفَ يُنِيبُ العَبْدَ مَنْ كَانَ سَيِّدًا =وَكَيفَ يَسُومُ النِّصْفَ مَنْ يَمْلكُ الضِّعْفَا
وَلَو كُنْتُ مَخْبُولا لَمَا كُنْتُ جِئْتُهَا= فَكَيفَ وَقَدْ كُنْتُ الحَكِيمَ الذِي يُقْفَى
و يعلل بما سماه برزخ الحفظ و يدلل باللآلئ و اجتماعها في عقد متناسق رغم تباين ألوانها و اختلاف أصولها ,لكن هذا لا ينقص من شاعريته و إبداعيته,فهذه الأبيات و التي مردها برزخ الحفظ ليست من أجود ما نظمه و لا أحسن ما قاله :
وَلَكِنْ دَهَانِي بَرْزَخُ الحِفْظِ للِأُلَى =وَإِبْدَاعِ نَظْمِي بِامْتِزَاجٍ وَقَدْ أَغْفَى
أَمَا اخْتَلَطَتْ بِيضُ اللآلِي وَسُودُهَا؟ =فَكَيفَ جَرَتْ فِي السِّلْكِ وَانْتَظَمَتْ صَفًّا؟
و في قصيدة عفا الله عنك يتابع العمري نفس النهج باستماتة مبدع و إبداع شاعر متفرد يأتي بإدعاء الخصوم :
يَقُولُونَ: نَهْرُ القَصِيدَةِ زَيْفٌ =فَلا تَشْرَبُوا حَرْفَهُ الكَوْثَرِيّْ
لَقَدْ صَبَّ فِي فَيضِهِ بَعْضُ وَشْلٍ = فَمَا هُوَ إِلا سَرَابٌ وَعِيّْ
و يفنده بنسج هو من روائع و درر الشعر وهو رد للتهمة بنقيضها و اقتلاع لها من أساسها و إثبات لنفيها و تحقيق لمقابلها وهو الشاعرية الفذة و الإبداع المبهر.
فَلَوْلا تَفَكَّرْتَ فِي الأَمْرِ مَحْضًا=لَكُنْتَ رَأَيتَ الصَّوَابَ الجَلِيّْ
فَكَيفَ يَصِيدُ الحَشَائِشَ لَيثٌ؟ = وَكَيفَ يُرِيدُ الخَشَاشَ الغَنِيّْ؟
وَقَالُوا: اسْتَبَاحَ بُيُوتَ قُرَاهُمْ =فَأَينَ القُرَى كُلُّهَا مِنْ دُبَيّْ؟
أَنَا عَبْقَرِيُّ البَيَانِ المُعَلَّى =بِرَغْمِ الحَقُودِ وَرَغَمِ الغَوِيّْ
أُدَاعِبُ حَرْفِي عَلَى وَقْعِ عَزْفِي =وَأُشْهِرُ سَيفِي بِنَقْعِ الرَّوِيّْ
جَثَا الشِّعْرُ وَالنَّثْرُ عَبْدَيْنِ عِنْدِي=وَمَا كُنْتُ أَحْفلُ يَومًا بِأَيّْ
أما قصيدته كف و إزميل فهي إبداع يعيدنا إلى زمن الشعر الحقيقي,و عصر النوابغ اللوامع,الذين عز أن تجد لهم بقية في زمن كثر فيه المدعين.
فهي تشمل صفاء الفكرة, و جودة البنية ,و سعة اللغة و تصاريف الكلام ,و جولان ممتع في الاشتقاق ,و المآخذ البديعية في الاستعارة و التشبيه ,و غرائب التصرف في الاختصار و لطف الكناية في مقابلة التصريح و فن السمو في أكناف المقاصد و المطالب.
ليس لي الإحاطة بهذه الدرة اليتيمة و المعلقة الرصينة,لكني سأحاول أن أقطف من بين ثمارها بعضا مما يناسبني هنا, وهو ما يرتبط بالتحدي عبر الإبداع و الإمتاع وصولا إلى الإقناع.
مطلع القصيدة :
أَبْكِـي اشْتِيَاقًـا إِليهَـا وَهْــيَ تَبْـكِـي لِــي = وَأَشْتَكِـي مِـنْ أَذَى الدُّنْيَـا وَتَشْـكُـو لِــي
أُفَـتِّـشُ الـشُّـهْـبَ عَـنْـهَـا وَهْـــيَ غَـائِـبَـةٌ= وَأَفْـرشُ القَلْـبَ مِنْـهَـا وَهْــيَ تَــأوِي لِــي
مَــا كُـنْـتُ أَطْـمَـعُ مِــن نَـجْـوَى مَـوَدَّتِـهَـا = إِلا بِـقَــلْــبٍ بِــمَـــاءِ الـطُّــهْــرِ مَـغْــسُــولِ
يتحدث عن غربته الشعورية و التي ترافق غربته المكانية فهو مهاجر عن وطنه فلسطين و عن جفاء الذين أكرمهم و حلاهم من شاعريته و مما لاقاه من رد الكرم بالسخط و الأذى :
أَنَـــا الـغَـرِيـبُ طُـيُــورُ الأَرْضِ تُنْـكِـرُنِـي = لا الرِّيشُ رِيشِي وَلا الأَلْوَانُ تَحلُو لِـي
إِذْ تَأْكُـلُ الخُـبْـزَ مِــنْ شِـعْـرِي وَتَنْقُـرُنِـي = وَتَلْبـسُ الخَـزَّ مِــنْ قَــدْرِي وَتَجـفُـو لِــي
هَــا قَـــدْ بَـلَـغْـتُ عِـتِـيًّـا وَانْـحَـنَـى أَمَـلِــي = أُقَـلِّـبُ الـدَّهْـرَ لَــمْ أَعْـثُــرْ عَـلَــى جِـيـلِـي
وَهَــبْــتُ كُــــلَّ حَـيَـاتِــي كَــــفَّ مُـجْـتَـهِــدٍ = وَعِشْـتُ أَكْـثَـرَ عُـمْـرِي عَـيْـشَ مَـخْـذُولِ
أَطُــاعِــنُ الــدَّهْــرَ عَـنْـهُــمْ كُــــلَّ نَـابِـيَــةٍ = فَيَطْعَـن الـقَـومُ فِــي فِعْـلِـي وَفِــي قِيـلِـي
وَأَسْــتَــحِــثُّ إِلَــــــى الـعَـلْــيَــاءِ هِـمَّـتَــهُــمْ = فَـيَـنْــهَــضُــونَ لِـتَـشْــكِــيــكٍ وَتَــشْــكِــيـــلِ
و بعدها يبين الأقدار و الفوارق بينه و بين الأغيار و الطاعنين :
يَعِـيـبُ فِــيَّ الحَـسُـودُ الـقَـدْرَ مُمْتَـعِـضًـا = كَــمَــا يَـعِـيــبُ قَـصِـيــرٌ فَــــارِعَ الــطُّـــولِ
وَيَــعْـــذِلُـــونَ سَــمَـــاوَاتِـــي وَأَجْــنِــحَــتِــي = وَمَـــا عَـلِـمْــتُ حَـلِـيـمًـا غَــيــرَ مَــعْــذُولِ
و يستعير دررا من القرآن ليرسم لوحة بديعية مبهرة تؤكد تفوقه و سمو شعره و علو بيانه دوما عبر الإبداع و الشاعرية:
شِعْرِي مِنَ المَنِّ وَالسَّلْـوَى لِـذِي سَغَـبٍ = وَشِـعْــرُ غَـيــرِي مِـــنَ الـقِـثَّــاءِ وَالــفُــولِ
وَلَـــيــــسَ يَــجْــحَـــدُهُ إِلا ذَوُو غَـــــــرَضٍ = أَوْ مُــرُّ نَـفْـسٍ حَـسُـودٌ غَـيــرُ مَـحْـمُـولِ
ثم يصدح بعدها مغنيا للجمال و الخيال و النضال ثم البلاد فالرشاد و الوداد :
لِمَـنْ أُغَنِّـي؟ فَرَاشَـاتُ المُـنَـى احْتَـرَقَـتْ = وَحَـــطَّـــمَ الــلَــيــلُ أَنْــــــوَارِي وَقِـنْــدِيــلِــي
لِمَـنْ أُغَنِّـي وَفِـي عَيـنِ الـمَـدَى غَـلَـسٌ = وَفِـــي الـمَـرَايَـا عَـرَايَــا فِـــي الـسَّـرَاوِيـلِ؟
لِمَـنْ أُغَنِّـي وَنَـايُ الشِّعْـرِ فِــي شَفَـتِـي = يَـكَــادُ يَـجْـهَـشُ مِـــنْ رَجْــــعِ الـمَـوَاوِيــلِ
أَلِـلـجَـمَـالِ؟ أَمَــــا ذَابَ الـجَـمَــالُ عَــلَــى = لِـسَـانِ حَـرْفِــي بِـشَـهْـدٍ مِـنْــهُ مَـبْــذُولِ؟
أَلِلخَـيـالِ؟ وَهَـــلْ كَـــانَ الـخَـيَـالُ سِـــوَى = إِبْــدَاعِ مَــا هَمَـسَـتْ رُوحِـــي لجِبْـرِيـلِـي
أَلِلنِّـضَـالِ؟ حُـرُوفِــي ثُـــرْنَ فِـــي شَـمَــمٍ = حَــتَّــى انْـتَـظَـمْــنَ جُــنُـــودًا بِـالـسَّـرَابِـيـلِ
أَلِــلــبــلادِ؟ لَـــقَــــدْ سَـطَّــرْتُــهَــا بِـــدَمِــــي = فِـي صَفْحَـةِ القَلْـبِ فِــي خَــدِّ المَنَـادِيـلِ
أَلِـلـرَّشَــادِ؟ فَـشِـعْــرِي حِـكْــمَــةٌ هَـطَــلَــتْ = زُلالَ فِـــكْـــرِيَ مِــنْ بِـــيـضٍ يَـعَــالِــيــلِ
أَلِـــلـــوِدادِ؟ جَــعَــلْــتُ الـــحُـــبَّ أُغْــنِــيَـــة = بَـيــنَ الـقُـلُــوبِ تُـنَـاجِــي كُــــلَّ مَـتْـبُــولِ
و يعود بعدها إلى إعادة تصوير مشهد الجفاء و الجناية على الإبداع:
مَـاذَا جَنَيـتُ مِــن التَّحْلِـيـقِ فِــي لُغَـتِـي = غَـيـرَ الجِنَـايَـةِ مِــنْ هِـطْــلٍ وَمَـطْـلُـولِ؟
يَنْسَـاقُ بِالحَـمْـدِ عُجْـبًـا كُــلُّ ذِي بَـطَـرٍ = وَيَشْـتَـرِي الـمَـدْحُ بَخْـسًـا كُــلَّ مَـخْـتُـولِ
حَـــذَّرْتُ نَـفْـسِـي فَـعَـافَـتْ كُـــلَّ مُشْـتَـبَـهٍ = مِـــنَ الـلِـسَــانِ وَمَــلَّــتْ كُــــلَّ مَـعْـسُــولِ
ثم يبدأ في رسم بعض محددات الشعر القويم و هي الفكر و الأخلاق و التأثيل :
وَمَــا أَرَى الشِّـعْـرَ فَـخْـرًا عِـنْـدَ صَـاحِـبِـهِ = إِلا بِـــفِــــكْــــرٍ وَأَخْــــــلاقٍ وَتَــــأْثِــــيــــلِ
إِنَّـــــا لَــمِـــنْ أُمَّــــــةٍ أَقْـــصَـــى مَــآرِبِــهَــا = حَــظُّ الـنُّــفُــوسِ وَتَــرْوِيـــجُ الأَقَـــاوِيـــلِ
في موضع آخر من القصيدة يخاطب صاحبه مذكرا بالأشواق مستحضرا للوفاء :
يَـــا صَـاحِـبًـا أَنْـزَلَـتْــهُ الـنَّـفْــسُ مَـنْـزِلَــةً = فَـــــوقَ الـمَــقَــامِ بِـتَـبْـجِـيــلٍ وَتَـفْـضِــيــلِ
مَا زِلْتُ أَمْحَـضُ مِـنْ وُدِّي عَلَـى طَبَـقٍ = حَــتَّــى مَـلَــلْــتَ وَوُدِّي غَــيـــرُ مَـمْــلُــولِ
شَـــيَّـــدْتُ فِـــيــكَ مَــــنَــــارَاتٍ مُــمَـرَّدَةً= مِــــــنَ الـــوَفَـــاءِ مَـهِـيــبَــاتِ الأَكَــالِــيـــلِ
وَخُـضْــتُ فِـيــكَ بِـحَــارَ العَـاذِلِـيـنَ فَـلَــمْ = أَغْـــرَقْ بِـنَــوءٍ وَلَـــمْ أَشْـــرَقْ بِـتَـسْـوِيـلِ
وَكُـــنْـــتُ فِـــيـــكَ بِــــــلا عَـــيــــنٍ وَلا أُذُنٍ = عِــنْــدَ الــوُشَــاةِ وَلَــكِــنْ عِــنْــدَ تَـعْــوِيــلِ
وُكُنْـتُ مَـا خَطَـرَتْ فِـي النَّفْـسِ خَـاطِـرَةٌ = إِلا رَسَـمْـتُــكَ فِــــي أَبْــهَـــى الـتَـفَـاصِـيـلِ
ثم يعاتبه بلين و لطف لإنصرافه نحو الخصوم و المتهمين:
فَـفِــيــمَ لَــمَّـــا رَأَيـــــتَ الـكَــيــدَ غَـافَـلَـنِــي = نَـهَــضْــتَ تَـتْــبَــعُ ذَا زَيْـــــفٍ وَتَــهْــوِيــلِ
قَـــدْ كُـنْــتَ أَوَّلَ مَـــنْ أَحْـتَــاجُ نُـصْـرَتَــهُ = فَـكُـنْــتَ أَوَّلَ مَــــنْ يَـسْـعَــى لِتَخْـطِـيِـلِـي
مَـنْ يَنْشُـدُ الظَفْـرَ فِـي عَـرْجَـاءَ مُقْعِـيَـةٍ = وَيُنْشِبُ الظُفَـرَ فِـي النُّجْـبِ المَرَاسِيـلِ؟
و يوضح له سبيل الرشد و الحكمة و الحقوق:
يَـحْـتَــجُّ أَهْــــلُ الـنُّـهَــى حُـكْـمًــا بِـبَـيِّـنَــةٍ = وَلا يَـــــكُـــــونُ بِـــــظَـــــنٍّ أَو بِـــتَــــأوِيــــلِ
وَأَيـمُــنُ اللهِ مَـــا خُــنْــتُ الــهُــدَى غَرَضًا = وَلا عَــــدَدْتُـــــكَ إِلا فِـــــــــي الــبَّــهَــالِــيــلِ
وَقُلْتَ: أَطْعَنُ كَي تُحْمَـى الحُقُـوقُ بِنَـا = وَهَـــلْ سَـتُـحْـمَـى حُــقُــوقٌ بِـالأَبَـاطِـيـلِ؟
ثم يدعوه إلى مراجعة حكمه بالتعقل و الهدى:
يَا صَاحِبَ الرَّأْيِ مَا فِي العَدْلِ مَنْقَصَةٌ = مَــتَـــى تَـبَــيَّــنَ هَـــــدْيٌ بَــعْـــدَ تَـضْـلِـيــلِ
إِنْ خَـاتَـلَـتْـكَ الــهُــدَى عَــيــنٌ مُـكَـحَـلَّــةٌ = فَكَيفَ تَرْجُـو الهُـدَى بِالأَعْيُـنِ الحُـولِ؟
هَــوَى الـنُّـفُـوسِ هَـــوَانٌ وَالأَذَى صَـلَــفٌ = وَحِـكْـمَــةُ الــمَــرْءِ فِــــي عَــقْــلٍ وَتَـعْـلِـيـلِ
لا تَـحَـسَـبَـنَّ عِــتَـــابَ الـقَــلْــبِ مَـثْـلَـبَــةً = إِنَّ الـعِــتَــابَ وَفَـــــاءٌ فِــــــي الـمَـكَـايِـيــلِ
فَــإِنْ أَتَـيـتَ تَـجْــدْ صَـفْـحًـا بِـــلا عَـتَــبٍ = وَإِنْ أَبَـــيـــتَ فَـــرَتِّــــلْ سُـــــــورَةَ الــفِــيـــلِ
و يتذرع إلى الله و رحمته أن يفرج و يرحم حتى يستبين الحق:
يَــا رَحْـمَـةَ اللهِ هَــلْ لِـلـحَـالِ مِـــنْ فَـــرَجٍ = فَــــلا نَــضِــلُّ بِـنَــجْــوَى كُـــــلِّ مَـخْــبُــولِ
إِنْ عَـــــمَّ كَـــــرْبٌ فَـــمَـــا إِلاكَ يَـرْحَـمُــنَــا = فَــجُــدْ عَـلَـيـنَـا بِــأَمْـــرٍ مِــنْـــكَ مَـفْــعُــولِ
وَاهْــدِ القُـلُـوبَ إِلـــى تَـــرْكِ الـذُّنُــوبَ وَلا = تَفْـتِـنْ نُـفُـوسَ الــوَرَى بِـالـقَـالِ وَالـقِـيـلِ
في ختام القصيدة يكشف العمري عن حلمه وهو أن يتفشى الخير على الكل وهو نهجه حتى و إن عز المعين و المساعد فيا كف و إزميل:
لا زَلْــتُ أَحْـلـمُ لَــنْ أَرْتَــدَّ عَـــنْ حُـلُـمِـي = حَـتَّـى أَرَى الخَـيـرَ يَشْـفِـي كُــلَّ مَعْـلُـولِ
وَسَـــوفَ أُحْـسِــنُ ظَـنِّــي بِـالـكِـرَامِ فَـــإِنْ = عَــــزَّ الـمُـعِـيـنُ فَــيَـــا كَــفِّـــي وَإِزْمِـيــلِــي
بقي أن أذكر أن هذا النهج ليس بدعا فقد واجه الجاحظ قبل زمن تهمة السرقة بعد أن قذف بالسطو و انتحال كلام غيره بقوة الإبداع و تعدد التصانيف,يقول في مقطع من رسالة موجهة إلى مجهول كتبها في أواخر عمره أي بعد اشتهاره و تحقق زعامته الفكرية و الأدبية :
( زعمت أني أسرق الألفاظ,وأنتحل الكلام, كيف و أنا ابن البلاغة,و أنا ترب الكتابة,و أنا جهبذ الكلام,و نقاد المعاني)
وراح الجاحظ يبطل هذه التهمة من أساسها,متحدثا عن مؤهلاته العلمية و كفاءاته العملية التي لا يستقيم معها أن يكون سارقا. راجع الجاحظ: فصول مختارة .
في الختام أشير إلى أن سمير العمري من ألمع شعراء العربية في شعر الحكمة,تكاد لا تجد قصيدة له إلا و تخللها هذا الصنف من الأبيات,و قد وصف عدد من النقاد و الأدباء العمري بشاعر الحكمة, و تكاد تكون كل أبيات قصيدة كف و إزميل تجسيدا لهذا اللون من الغرض و المضمون الشعري.
و هذه دعوة لكل ناقد رصين و باحث مجتهد أن يعكف على شعر العمري الذي لم يلق ما يستحقه من الدراسة و البحث و الكشف.
عبدالصمد زيبار ـ البيضاء
في : 3 ـ 12 ـ 2010
تعد الاتهامات من القضايا الشائكة في عالم المعرفة و الأدب و الفكر,في حين تلعب العصبيات بمختلف تجلياتها ـ فكرية ,علمية,أدبية,سياسية,عرقية إقليمية و غيرها ـ دور الباعث الأكبر لها,و الموقد الأشد لنيرانها, و هي لحقت الكثير من المبدعين و المشاهير على مر العصور و بمختلف الأمصار,و في حضارتنا العربية و الإسلامية حسب المرء أن يعاين كتابا من كتب الرجال و التراجم أو مصنفا من مصنفات الملل و النحل أو مؤلفا من مؤلفات التاريخ و الأدب ليقف بجلاء على الكم الهائل من التهم التي طالت معظم المبدعين و الرموز.
من أخطر هذه التهم قضية السرقات و التي تعد من أعقد قضايا النقد الأدبي القديم,إذ حظيت بعناية فائقة و أفردت لها أبوابا في المؤلفات و الدراسات بل حازت أحيانا مؤلفات خاصة بها,و لاحقت معظم الشعراء المشاهير من طرف النقاد,وهي في النثر معدودة لكن استفاضتها امتدت حول الشعر,و امتدت لهذا العصر كذلك.
في حين واجه الأدباء و الشعراء هذه التهم بأساليب و طرق مختلفة نقف هنا على إحداها و هي المواجهة عبر التحدي بالكفاءة و الإبداع و نستعرض الشاعر سمير العمري نموذجا لهذا المنحى من المجابهة و الاستعلاء عبر الإنتاج و الإبداع.
و المغزى أن السرقة إنما تتأتى من ضعف الصنعة و نقص الملكة العلمية و عجز المقدرة الأدبية,في حين أن سمير العمري شاعر مقتدر لا تنقصه المقدرة على الإبداع حتى يلتجئ إلى السرقة و الانتحال,ووفرة إنتاجه و تفرده تقف حاجزا منيعا ضد أي اتهام لشاعريته.
من هنا نستيبن أن مسيرة الشاعر خير دليل على صدقيته و إبداعيته من غير حاجة إلى الرد المباشر و التتبع لكل طاعن و هادم,بل إن الإنتاج و الإبداع يحلي صاحبه المكانة المستحقة.
و كان أكبر تحد منه لخصومه قصائده بعد التهمة,و هي ثلاثة قصائد أفحمهم فيها و تحداهم فيها و هي :
برزخ الحفظ
و عفا الله عنك
ثم كف و إزميل.
فيما يلي نستعرض بعضا من أبيات هذه القصائد القلائد و التي تعد أكبر دليل على شاعرية العمري و أنه من المميزين في هذا الفن:
في قصيدة برزخ الحفظ يتحدث الشاعر عن مقدرته الشعرية و ملكته الإبداعية و آرائه الفكرية متحديا إدعاءات خصومه و اتاهماتهم بأبيات تغني عن كل حجاج و جدال :
مُحِيطٌ أَنَا لِلشِّعْرِ قَاعِي مُمَرَّدٌ=وَمَائِيَ مِنْ عِطْرِ الزَنابِقِ أَو أَصْفَى
وَصَيدُ مَجَالِي جَاوَزَ المَدَّ وَالمَدَى=وَبِنْتُ خَيَالِي لا يُحَاطُ بِهَا وَصْفَا
وَمَا كُنْتُ أَرْضَى الحَرْفَ إِلا نَسِيجُهُ=حَرِيرٌ بِأَحْدَاقِ الجَوَاهِرِ قَدْ حُفَّا
أُغَنِّي ؛ وَمَا فِي النَّايِ إِلا حُشَاشَتِي =تَرَانِيمَ قَلْبٍ لا أَكِلُّ بِهِ عَزْفَا
بِشِعْرٍ سَرَى فِي الصَّدْرِ كَالبَدْرِ فِي الدُّجَى=يُلامِسُ فِي الوجْدَانِ بِالنُّورِ مَا اسْتَخْفَى
وَفِكْرٍ جَرَى فِي الدَّهْرِ كَالنَّهْرِ فِي الحِجَا = يُطِيبُ لأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْ نَبْعِهِ الغَرْفَا
ثم يتساءل مستغربا أن يقرب المشين من الأوصاف من مثله في حكمته و شاعريته و عطائه الإبداعي المتفرد :
فَكَيفَ يُنِيبُ العَبْدَ مَنْ كَانَ سَيِّدًا =وَكَيفَ يَسُومُ النِّصْفَ مَنْ يَمْلكُ الضِّعْفَا
وَلَو كُنْتُ مَخْبُولا لَمَا كُنْتُ جِئْتُهَا= فَكَيفَ وَقَدْ كُنْتُ الحَكِيمَ الذِي يُقْفَى
و يعلل بما سماه برزخ الحفظ و يدلل باللآلئ و اجتماعها في عقد متناسق رغم تباين ألوانها و اختلاف أصولها ,لكن هذا لا ينقص من شاعريته و إبداعيته,فهذه الأبيات و التي مردها برزخ الحفظ ليست من أجود ما نظمه و لا أحسن ما قاله :
وَلَكِنْ دَهَانِي بَرْزَخُ الحِفْظِ للِأُلَى =وَإِبْدَاعِ نَظْمِي بِامْتِزَاجٍ وَقَدْ أَغْفَى
أَمَا اخْتَلَطَتْ بِيضُ اللآلِي وَسُودُهَا؟ =فَكَيفَ جَرَتْ فِي السِّلْكِ وَانْتَظَمَتْ صَفًّا؟
و في قصيدة عفا الله عنك يتابع العمري نفس النهج باستماتة مبدع و إبداع شاعر متفرد يأتي بإدعاء الخصوم :
يَقُولُونَ: نَهْرُ القَصِيدَةِ زَيْفٌ =فَلا تَشْرَبُوا حَرْفَهُ الكَوْثَرِيّْ
لَقَدْ صَبَّ فِي فَيضِهِ بَعْضُ وَشْلٍ = فَمَا هُوَ إِلا سَرَابٌ وَعِيّْ
و يفنده بنسج هو من روائع و درر الشعر وهو رد للتهمة بنقيضها و اقتلاع لها من أساسها و إثبات لنفيها و تحقيق لمقابلها وهو الشاعرية الفذة و الإبداع المبهر.
فَلَوْلا تَفَكَّرْتَ فِي الأَمْرِ مَحْضًا=لَكُنْتَ رَأَيتَ الصَّوَابَ الجَلِيّْ
فَكَيفَ يَصِيدُ الحَشَائِشَ لَيثٌ؟ = وَكَيفَ يُرِيدُ الخَشَاشَ الغَنِيّْ؟
وَقَالُوا: اسْتَبَاحَ بُيُوتَ قُرَاهُمْ =فَأَينَ القُرَى كُلُّهَا مِنْ دُبَيّْ؟
أَنَا عَبْقَرِيُّ البَيَانِ المُعَلَّى =بِرَغْمِ الحَقُودِ وَرَغَمِ الغَوِيّْ
أُدَاعِبُ حَرْفِي عَلَى وَقْعِ عَزْفِي =وَأُشْهِرُ سَيفِي بِنَقْعِ الرَّوِيّْ
جَثَا الشِّعْرُ وَالنَّثْرُ عَبْدَيْنِ عِنْدِي=وَمَا كُنْتُ أَحْفلُ يَومًا بِأَيّْ
أما قصيدته كف و إزميل فهي إبداع يعيدنا إلى زمن الشعر الحقيقي,و عصر النوابغ اللوامع,الذين عز أن تجد لهم بقية في زمن كثر فيه المدعين.
فهي تشمل صفاء الفكرة, و جودة البنية ,و سعة اللغة و تصاريف الكلام ,و جولان ممتع في الاشتقاق ,و المآخذ البديعية في الاستعارة و التشبيه ,و غرائب التصرف في الاختصار و لطف الكناية في مقابلة التصريح و فن السمو في أكناف المقاصد و المطالب.
ليس لي الإحاطة بهذه الدرة اليتيمة و المعلقة الرصينة,لكني سأحاول أن أقطف من بين ثمارها بعضا مما يناسبني هنا, وهو ما يرتبط بالتحدي عبر الإبداع و الإمتاع وصولا إلى الإقناع.
مطلع القصيدة :
أَبْكِـي اشْتِيَاقًـا إِليهَـا وَهْــيَ تَبْـكِـي لِــي = وَأَشْتَكِـي مِـنْ أَذَى الدُّنْيَـا وَتَشْـكُـو لِــي
أُفَـتِّـشُ الـشُّـهْـبَ عَـنْـهَـا وَهْـــيَ غَـائِـبَـةٌ= وَأَفْـرشُ القَلْـبَ مِنْـهَـا وَهْــيَ تَــأوِي لِــي
مَــا كُـنْـتُ أَطْـمَـعُ مِــن نَـجْـوَى مَـوَدَّتِـهَـا = إِلا بِـقَــلْــبٍ بِــمَـــاءِ الـطُّــهْــرِ مَـغْــسُــولِ
يتحدث عن غربته الشعورية و التي ترافق غربته المكانية فهو مهاجر عن وطنه فلسطين و عن جفاء الذين أكرمهم و حلاهم من شاعريته و مما لاقاه من رد الكرم بالسخط و الأذى :
أَنَـــا الـغَـرِيـبُ طُـيُــورُ الأَرْضِ تُنْـكِـرُنِـي = لا الرِّيشُ رِيشِي وَلا الأَلْوَانُ تَحلُو لِـي
إِذْ تَأْكُـلُ الخُـبْـزَ مِــنْ شِـعْـرِي وَتَنْقُـرُنِـي = وَتَلْبـسُ الخَـزَّ مِــنْ قَــدْرِي وَتَجـفُـو لِــي
هَــا قَـــدْ بَـلَـغْـتُ عِـتِـيًّـا وَانْـحَـنَـى أَمَـلِــي = أُقَـلِّـبُ الـدَّهْـرَ لَــمْ أَعْـثُــرْ عَـلَــى جِـيـلِـي
وَهَــبْــتُ كُــــلَّ حَـيَـاتِــي كَــــفَّ مُـجْـتَـهِــدٍ = وَعِشْـتُ أَكْـثَـرَ عُـمْـرِي عَـيْـشَ مَـخْـذُولِ
أَطُــاعِــنُ الــدَّهْــرَ عَـنْـهُــمْ كُــــلَّ نَـابِـيَــةٍ = فَيَطْعَـن الـقَـومُ فِــي فِعْـلِـي وَفِــي قِيـلِـي
وَأَسْــتَــحِــثُّ إِلَــــــى الـعَـلْــيَــاءِ هِـمَّـتَــهُــمْ = فَـيَـنْــهَــضُــونَ لِـتَـشْــكِــيــكٍ وَتَــشْــكِــيـــلِ
و بعدها يبين الأقدار و الفوارق بينه و بين الأغيار و الطاعنين :
يَعِـيـبُ فِــيَّ الحَـسُـودُ الـقَـدْرَ مُمْتَـعِـضًـا = كَــمَــا يَـعِـيــبُ قَـصِـيــرٌ فَــــارِعَ الــطُّـــولِ
وَيَــعْـــذِلُـــونَ سَــمَـــاوَاتِـــي وَأَجْــنِــحَــتِــي = وَمَـــا عَـلِـمْــتُ حَـلِـيـمًـا غَــيــرَ مَــعْــذُولِ
و يستعير دررا من القرآن ليرسم لوحة بديعية مبهرة تؤكد تفوقه و سمو شعره و علو بيانه دوما عبر الإبداع و الشاعرية:
شِعْرِي مِنَ المَنِّ وَالسَّلْـوَى لِـذِي سَغَـبٍ = وَشِـعْــرُ غَـيــرِي مِـــنَ الـقِـثَّــاءِ وَالــفُــولِ
وَلَـــيــــسَ يَــجْــحَـــدُهُ إِلا ذَوُو غَـــــــرَضٍ = أَوْ مُــرُّ نَـفْـسٍ حَـسُـودٌ غَـيــرُ مَـحْـمُـولِ
ثم يصدح بعدها مغنيا للجمال و الخيال و النضال ثم البلاد فالرشاد و الوداد :
لِمَـنْ أُغَنِّـي؟ فَرَاشَـاتُ المُـنَـى احْتَـرَقَـتْ = وَحَـــطَّـــمَ الــلَــيــلُ أَنْــــــوَارِي وَقِـنْــدِيــلِــي
لِمَـنْ أُغَنِّـي وَفِـي عَيـنِ الـمَـدَى غَـلَـسٌ = وَفِـــي الـمَـرَايَـا عَـرَايَــا فِـــي الـسَّـرَاوِيـلِ؟
لِمَـنْ أُغَنِّـي وَنَـايُ الشِّعْـرِ فِــي شَفَـتِـي = يَـكَــادُ يَـجْـهَـشُ مِـــنْ رَجْــــعِ الـمَـوَاوِيــلِ
أَلِـلـجَـمَـالِ؟ أَمَــــا ذَابَ الـجَـمَــالُ عَــلَــى = لِـسَـانِ حَـرْفِــي بِـشَـهْـدٍ مِـنْــهُ مَـبْــذُولِ؟
أَلِلخَـيـالِ؟ وَهَـــلْ كَـــانَ الـخَـيَـالُ سِـــوَى = إِبْــدَاعِ مَــا هَمَـسَـتْ رُوحِـــي لجِبْـرِيـلِـي
أَلِلنِّـضَـالِ؟ حُـرُوفِــي ثُـــرْنَ فِـــي شَـمَــمٍ = حَــتَّــى انْـتَـظَـمْــنَ جُــنُـــودًا بِـالـسَّـرَابِـيـلِ
أَلِــلــبــلادِ؟ لَـــقَــــدْ سَـطَّــرْتُــهَــا بِـــدَمِــــي = فِـي صَفْحَـةِ القَلْـبِ فِــي خَــدِّ المَنَـادِيـلِ
أَلِـلـرَّشَــادِ؟ فَـشِـعْــرِي حِـكْــمَــةٌ هَـطَــلَــتْ = زُلالَ فِـــكْـــرِيَ مِــنْ بِـــيـضٍ يَـعَــالِــيــلِ
أَلِـــلـــوِدادِ؟ جَــعَــلْــتُ الـــحُـــبَّ أُغْــنِــيَـــة = بَـيــنَ الـقُـلُــوبِ تُـنَـاجِــي كُــــلَّ مَـتْـبُــولِ
و يعود بعدها إلى إعادة تصوير مشهد الجفاء و الجناية على الإبداع:
مَـاذَا جَنَيـتُ مِــن التَّحْلِـيـقِ فِــي لُغَـتِـي = غَـيـرَ الجِنَـايَـةِ مِــنْ هِـطْــلٍ وَمَـطْـلُـولِ؟
يَنْسَـاقُ بِالحَـمْـدِ عُجْـبًـا كُــلُّ ذِي بَـطَـرٍ = وَيَشْـتَـرِي الـمَـدْحُ بَخْـسًـا كُــلَّ مَـخْـتُـولِ
حَـــذَّرْتُ نَـفْـسِـي فَـعَـافَـتْ كُـــلَّ مُشْـتَـبَـهٍ = مِـــنَ الـلِـسَــانِ وَمَــلَّــتْ كُــــلَّ مَـعْـسُــولِ
ثم يبدأ في رسم بعض محددات الشعر القويم و هي الفكر و الأخلاق و التأثيل :
وَمَــا أَرَى الشِّـعْـرَ فَـخْـرًا عِـنْـدَ صَـاحِـبِـهِ = إِلا بِـــفِــــكْــــرٍ وَأَخْــــــلاقٍ وَتَــــأْثِــــيــــلِ
إِنَّـــــا لَــمِـــنْ أُمَّــــــةٍ أَقْـــصَـــى مَــآرِبِــهَــا = حَــظُّ الـنُّــفُــوسِ وَتَــرْوِيـــجُ الأَقَـــاوِيـــلِ
في موضع آخر من القصيدة يخاطب صاحبه مذكرا بالأشواق مستحضرا للوفاء :
يَـــا صَـاحِـبًـا أَنْـزَلَـتْــهُ الـنَّـفْــسُ مَـنْـزِلَــةً = فَـــــوقَ الـمَــقَــامِ بِـتَـبْـجِـيــلٍ وَتَـفْـضِــيــلِ
مَا زِلْتُ أَمْحَـضُ مِـنْ وُدِّي عَلَـى طَبَـقٍ = حَــتَّــى مَـلَــلْــتَ وَوُدِّي غَــيـــرُ مَـمْــلُــولِ
شَـــيَّـــدْتُ فِـــيــكَ مَــــنَــــارَاتٍ مُــمَـرَّدَةً= مِــــــنَ الـــوَفَـــاءِ مَـهِـيــبَــاتِ الأَكَــالِــيـــلِ
وَخُـضْــتُ فِـيــكَ بِـحَــارَ العَـاذِلِـيـنَ فَـلَــمْ = أَغْـــرَقْ بِـنَــوءٍ وَلَـــمْ أَشْـــرَقْ بِـتَـسْـوِيـلِ
وَكُـــنْـــتُ فِـــيـــكَ بِــــــلا عَـــيــــنٍ وَلا أُذُنٍ = عِــنْــدَ الــوُشَــاةِ وَلَــكِــنْ عِــنْــدَ تَـعْــوِيــلِ
وُكُنْـتُ مَـا خَطَـرَتْ فِـي النَّفْـسِ خَـاطِـرَةٌ = إِلا رَسَـمْـتُــكَ فِــــي أَبْــهَـــى الـتَـفَـاصِـيـلِ
ثم يعاتبه بلين و لطف لإنصرافه نحو الخصوم و المتهمين:
فَـفِــيــمَ لَــمَّـــا رَأَيـــــتَ الـكَــيــدَ غَـافَـلَـنِــي = نَـهَــضْــتَ تَـتْــبَــعُ ذَا زَيْـــــفٍ وَتَــهْــوِيــلِ
قَـــدْ كُـنْــتَ أَوَّلَ مَـــنْ أَحْـتَــاجُ نُـصْـرَتَــهُ = فَـكُـنْــتَ أَوَّلَ مَــــنْ يَـسْـعَــى لِتَخْـطِـيِـلِـي
مَـنْ يَنْشُـدُ الظَفْـرَ فِـي عَـرْجَـاءَ مُقْعِـيَـةٍ = وَيُنْشِبُ الظُفَـرَ فِـي النُّجْـبِ المَرَاسِيـلِ؟
و يوضح له سبيل الرشد و الحكمة و الحقوق:
يَـحْـتَــجُّ أَهْــــلُ الـنُّـهَــى حُـكْـمًــا بِـبَـيِّـنَــةٍ = وَلا يَـــــكُـــــونُ بِـــــظَـــــنٍّ أَو بِـــتَــــأوِيــــلِ
وَأَيـمُــنُ اللهِ مَـــا خُــنْــتُ الــهُــدَى غَرَضًا = وَلا عَــــدَدْتُـــــكَ إِلا فِـــــــــي الــبَّــهَــالِــيــلِ
وَقُلْتَ: أَطْعَنُ كَي تُحْمَـى الحُقُـوقُ بِنَـا = وَهَـــلْ سَـتُـحْـمَـى حُــقُــوقٌ بِـالأَبَـاطِـيـلِ؟
ثم يدعوه إلى مراجعة حكمه بالتعقل و الهدى:
يَا صَاحِبَ الرَّأْيِ مَا فِي العَدْلِ مَنْقَصَةٌ = مَــتَـــى تَـبَــيَّــنَ هَـــــدْيٌ بَــعْـــدَ تَـضْـلِـيــلِ
إِنْ خَـاتَـلَـتْـكَ الــهُــدَى عَــيــنٌ مُـكَـحَـلَّــةٌ = فَكَيفَ تَرْجُـو الهُـدَى بِالأَعْيُـنِ الحُـولِ؟
هَــوَى الـنُّـفُـوسِ هَـــوَانٌ وَالأَذَى صَـلَــفٌ = وَحِـكْـمَــةُ الــمَــرْءِ فِــــي عَــقْــلٍ وَتَـعْـلِـيـلِ
لا تَـحَـسَـبَـنَّ عِــتَـــابَ الـقَــلْــبِ مَـثْـلَـبَــةً = إِنَّ الـعِــتَــابَ وَفَـــــاءٌ فِــــــي الـمَـكَـايِـيــلِ
فَــإِنْ أَتَـيـتَ تَـجْــدْ صَـفْـحًـا بِـــلا عَـتَــبٍ = وَإِنْ أَبَـــيـــتَ فَـــرَتِّــــلْ سُـــــــورَةَ الــفِــيـــلِ
و يتذرع إلى الله و رحمته أن يفرج و يرحم حتى يستبين الحق:
يَــا رَحْـمَـةَ اللهِ هَــلْ لِـلـحَـالِ مِـــنْ فَـــرَجٍ = فَــــلا نَــضِــلُّ بِـنَــجْــوَى كُـــــلِّ مَـخْــبُــولِ
إِنْ عَـــــمَّ كَـــــرْبٌ فَـــمَـــا إِلاكَ يَـرْحَـمُــنَــا = فَــجُــدْ عَـلَـيـنَـا بِــأَمْـــرٍ مِــنْـــكَ مَـفْــعُــولِ
وَاهْــدِ القُـلُـوبَ إِلـــى تَـــرْكِ الـذُّنُــوبَ وَلا = تَفْـتِـنْ نُـفُـوسَ الــوَرَى بِـالـقَـالِ وَالـقِـيـلِ
في ختام القصيدة يكشف العمري عن حلمه وهو أن يتفشى الخير على الكل وهو نهجه حتى و إن عز المعين و المساعد فيا كف و إزميل:
لا زَلْــتُ أَحْـلـمُ لَــنْ أَرْتَــدَّ عَـــنْ حُـلُـمِـي = حَـتَّـى أَرَى الخَـيـرَ يَشْـفِـي كُــلَّ مَعْـلُـولِ
وَسَـــوفَ أُحْـسِــنُ ظَـنِّــي بِـالـكِـرَامِ فَـــإِنْ = عَــــزَّ الـمُـعِـيـنُ فَــيَـــا كَــفِّـــي وَإِزْمِـيــلِــي
بقي أن أذكر أن هذا النهج ليس بدعا فقد واجه الجاحظ قبل زمن تهمة السرقة بعد أن قذف بالسطو و انتحال كلام غيره بقوة الإبداع و تعدد التصانيف,يقول في مقطع من رسالة موجهة إلى مجهول كتبها في أواخر عمره أي بعد اشتهاره و تحقق زعامته الفكرية و الأدبية :
( زعمت أني أسرق الألفاظ,وأنتحل الكلام, كيف و أنا ابن البلاغة,و أنا ترب الكتابة,و أنا جهبذ الكلام,و نقاد المعاني)
وراح الجاحظ يبطل هذه التهمة من أساسها,متحدثا عن مؤهلاته العلمية و كفاءاته العملية التي لا يستقيم معها أن يكون سارقا. راجع الجاحظ: فصول مختارة .
في الختام أشير إلى أن سمير العمري من ألمع شعراء العربية في شعر الحكمة,تكاد لا تجد قصيدة له إلا و تخللها هذا الصنف من الأبيات,و قد وصف عدد من النقاد و الأدباء العمري بشاعر الحكمة, و تكاد تكون كل أبيات قصيدة كف و إزميل تجسيدا لهذا اللون من الغرض و المضمون الشعري.
و هذه دعوة لكل ناقد رصين و باحث مجتهد أن يعكف على شعر العمري الذي لم يلق ما يستحقه من الدراسة و البحث و الكشف.
عبدالصمد زيبار ـ البيضاء
في : 3 ـ 12 ـ 2010