تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة المسجدية



عبد الرحيم صادقي
26-08-2011, 04:12 AM
حدثنا عمران بن سرحان قال: أسبغتُ وضوئي، وأخذت زينتي، ولبست أفضل ما لدي من زِيّ، ثم توجهت تلقاء مسجد الحي، قاصدا صلاة العشاء، راجيا المثوبة والجزاء. ولما دخلت المسجد وجدته لا كما عهدته، غاصًّا بالتائبين والآئبين. فقلتُ تالله إن لرمضان لنفحات، وعَشْرُه الأواخر بركات. ثم صليت ركعتين ولزمت مكاني أنتظر الصلاة، حتى جاء شيخ مُعمَّم لا يَمِيزُ المسجد من الفلاة. وأشار إليَّ بيده أنْ تَنَحَّ، فنظرت إليه أتمَلَّى فأحَّ. فقلت: يا شيخ اجلسْ حيث انتهى بك المجلس! فقال: هذا مجلسي وقد جُرْتَ يا مُفلِس. ألا ترى سَجَّادتي هاهُنا لا أبا لَك؟ أم عَمِيتَ يا هذا لا رَدَّ الله بصرك! قلت: يا شيخ غفر الله لنا ولك، البيتُ بيت الله ما لَك؟ ثم ذكَرتُ أن الشهر شهر الرحمة والمغفرة، ومَن لم يتعظ فيه فأي ذكرى له وأي تذكرة؟! فتركتُ له سَجَّادته والمحل، وقلتُ لكَ الجمل بما حمل، فعساك تُحْسِنُ صُنعا وتُخلِص العمل.
وبينا الناس يَنْظُرون الأذان، إذ حضر واعظ في تؤدة واطمئنان. ثم استوى على الكرسي مُستقبِلَ الناس، وعدَّل طربوشه ذا الشَّرَّابَة المَيَّاس. ثم حمد الله وأثنى عليه، ووضع كتابا بين يديه. فوعظ ما شاء الله له أن يعظ، وأطال والناس بين ساهٍ ويقظ. وذَكَّرَنا بالموت والتوبة النصوح، والأوْبَة وهِمَّة المؤمن الطَّموح. وفجأة سُمِع صوتٌ يقولُ افتحوا الأبواب، أي بدعة هذه وأي مُصاب؟! فجاوَب غلام علا مُحَيَّاهُ الاستياء: بل أي بلاهة هذه وأي بلاء؟! أتُشرَعُ الأبواب ويُشغَّلُ مُكيِّفُ الهواء؟! إنها لعمري لعنة السماء! وارتفعت الأصوات وكَثُرَ اللغط، ودَبَّ الخلاف وحل الشطط. واشرأبَّتِ الأعناق إلى الواعظ، عساه يُلَطِّفُ حَرَّ يوم قائظ. لكن الشيخ آثر السلامة، وارتأى أن يحدثنا عن يوم القيامة.
وما إن استأنف الشيخ حديثه الرقيق، حتى سُمِع الصَّدْوُ والتصفيق. فلَم أدْرِ قصْدَ المُصفق على التحقيق، ولا تبيَّنْتُ كلامه بتدقيق. حتى انتهى إلى مسمعي قولُ من قال: إن التصفيق للنساء أيها الرجال. فعقَّب مُعقب: فمتى العِشاء ومتى القيام؟! أم سنبقى هنا إلى السحور ثم ننام؟ وقال آخر: أينَك يا إمام؟ وجاوبه مُجاوِب: تالله إن هذا حرام، أنقوم إلى الصلاة بلا دعاء ولا ختام؟ فقال الواعظ: اللهم اشْدُدْ على قلوب هؤلاء الأنام، واقطع الأرحام في هذه الأيام. وإن زُرْتُكم أخرى في هذا المقام، فادْهنُوا وجهيَ بالرُّغام، واطلبوا ليَ الجذام والموت الزؤام! يا دَمِيمي الطباع أيها اللئام، حاشا أبناء الكرام. وقام منتفضا وعمَّ الوَجَل، وخرج الإمام من مقصورته على عَجَل، ثم أقيمت الصلاة بلا مَهَل، واصطف الناس وقيل: سَوُّوا صفوفكم، إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج، فعلَّق أبو سليمان الأعرج: وأين هو الصف؟ إنما هي فُلولٌ كفلول يوم الطَّف. إنما هو شَتات وفُرَجٌ بل فِجاج، والمُصلون خارج الجامِع زَرافات ولِجاج.
قال عمران: ثم صلينا العشاء والتراويح، وأمَّنَا مُقرئٌ عذبُ الصوت فصيح. كأنما أوتي مزمارا من مزامير آلِ داود، تخشع لصوته القلوب وتقشعر الجلود. وعَنَتِ الوُجوه وبكت العيون، حتى خِلْتُهم قد ندموا على ما كان وما سيكون. ثم إني صليت بضع ركعات ثم انصرفت، وبحثت عن نَعْلي فما وجدتها، ووجدت شِبْهَها مكانها. لكنها أخَسَّ منها قيمة ومكانة، فوقع في خاطري أنْ ليس ذا زمن السطو ولا مكانه. ثم قلت: كُلُّكُم يبكي فمَن سرق النعل؟ فقال لي أحد المصلين، السُّمَحاء الطيبين: أَحْسِنِ الظن بالناس يا رجل! إن الناس لا يسرقون في رمضان، وما هو إلا خطأ أو سهو أو نسيان؟ فقلت: فهذا الساهي إما أنه أعمى أو معتوه، أو عديمُ الحس ما له بَوْه. كيف ولِي نُعَيْلة وهذه نعل، أتستوي قدَمِي وخُفُّ جَمَل؟! فلو أني أدخلتُ قَدَمَيَّ في الفَرْدَة معا، لَوَسِعَتْهُما وما بلغَت أصابعي شِسْعا.
قال عمران: ثم أسلمتُ أمري إلى الله الواهب الرزاق، وسِرْتُ إلى بيتي أتعثر في نعل العملاق، وقد عزَّت عليَّ نعلي وشقَّ الفراق.


:0014:

ريمة الخاني
27-08-2011, 09:30 PM
ماشاء الله
نص تفوح منه ريح الأصالة
اسمح لي بنقل نصك لموقعنا
وفقك الله

عبد الرحيم صادقي
28-08-2011, 12:10 AM
ماشاء الله
نص تفوح منه ريح الأصالة
اسمح لي بنقل نصك لموقعنا
وفقك الله


ولك التوفيق والسداد أختي
مسموح ومرحبا بك دائما
تحياتي واحترامي

نداء غريب صبري
28-08-2011, 04:07 AM
مقامة ساخرة ورائعة

شكرا لك اخي لهذا التألق بلغتك وفكرتك

بوركت

عبد الرحيم صادقي
28-08-2011, 03:21 PM
مقامة ساخرة ورائعة

شكرا لك اخي لهذا التألق بلغتك وفكرتك

بوركت


وفيك بارك الله أختي نداء
حللت أهلا
وافر التقدير

كاملة بدارنه
28-08-2011, 06:33 PM
هذا هو حال الأنام في هذه الأيّام ... حتّى العبادة لا تتقنها، بل أصبحت عادة نؤدّيها عشوائيّا
لقد كتبت عمّا يوجعني أخي ... الصّلاة التي كنّا نجد فيها السّكينة والهدوء، صار من لا يفهمونها، يغيظونا، وأحيانا يتسبّبون لنا بالإثم إذا لم نستطع ضبط أعصابنا، وتحمّل الأذى.
شكرا لك أستاذ عبد الرّحيم على مقاماتك ذات الشّأن الرّفيع والمقام
تقديري وتحيّتي

زهراء المقدسية
01-09-2011, 06:44 PM
وعن نفسي اختصرت الطريق
صليت ليلة واحدة في المسجد حضرت السيناريو ذاته في مقامتك
وما عدت هناك وكان مسجدي في بيتي

أستاذ عبد الرحيم
كم نحتاج من الزمن ليتغير هذا السيناريو؟؟؟

كل عام وأنت بخير
وتقبل الله طاعاتكم

عبد الرحيم صادقي
03-09-2011, 12:16 AM
هذا هو حال الأنام في هذه الأيّام ... حتّى العبادة لا تتقنها، بل أصبحت عادة نؤدّيها عشوائيّا
لقد كتبت عمّا يوجعني أخي ... الصّلاة التي كنّا نجد فيها السّكينة والهدوء، صار من لا يفهمونها، يغيظونا، وأحيانا يتسبّبون لنا بالإثم إذا لم نستطع ضبط أعصابنا، وتحمّل الأذى.
شكرا لك أستاذ عبد الرّحيم على مقاماتك ذات الشّأن الرّفيع والمقام
تقديري وتحيّتي


فعلا أختي، كان رسول الله يقول عن الصلاة "أرحنا بها يا بلال". فأصبحنا بأفهامنا وأفعالنا نقول "أرحنا منها يا إمام".
نسأل الله أن يبدل الحال.
تحياتي أختي وعيدك مبارك سعيد

عبد الرحيم صادقي
05-09-2011, 02:52 AM
وعن نفسي اختصرت الطريق
صليت ليلة واحدة في المسجد حضرت السيناريو ذاته في مقامتك
وما عدت هناك وكان مسجدي في بيتي

أستاذ عبد الرحيم
كم نحتاج من الزمن ليتغير هذا السيناريو؟؟؟

كل عام وأنت بخير
وتقبل الله طاعاتكم


وأنت بخير أختي زهراء
الناس هم الناس إذن، هنا وهناك، نسأل الله اللطف.
لكن أيكون الحل أن نصلي في بيوتنا يا زهراء؟
وافر التقدير والاحترام؟

د. سمير العمري
17-11-2011, 02:12 PM
من حيث المبنى فإني أشكر فيك إحياء هذا اللون الأدبي المميز فن المقامات وأراك تجيدها بحق ، واشكر لك هذه النص الذي طاب لي وراق بما وجدت فيه من براعة الطرح وخفة الظل وتطويع اللغة من معجم ثري خلا بعض مواضع رأيت فيها هنات تحتاج تنقيحا.

ومن حيث المعنى والرصد فقد وصفت حالا تكثر في زماننا هذا عافانا الله وإياكم من الزلل والخطل وفقدان الأمل.

دمت بكل خير وبركة!

وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

ياسر ميمو
17-11-2011, 09:24 PM
ما شاء الله وتبارك الرحمن


حماك الله أستاذي الفاضل


وزادك فكراً و أدباً وخلقاً


قرأت وتعلمت واستمتعت




شكراً جزيلاً لك

عبد الرحيم صادقي
17-11-2011, 09:29 PM
من حيث المبنى فإني أشكر فيك إحياء هذا اللون الأدبي المميز فن المقامات وأراك تجيدها بحق ، واشكر لك هذه النص الذي طاب لي وراق بما وجدت فيه من براعة الطرح وخفة الظل وتطويع اللغة من معجم ثري خلا بعض مواضع رأيت فيها هنات تحتاج تنقيحا.
ومن حيث المعنى والرصد فقد وصفت حالا تكثر في زماننا هذا عافانا الله وإياكم من الزلل والخطل وفقدان الأمل.
دمت بكل خير وبركة!
وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.
تحياتي



وأهلا بك سيدي ولك التحية الطيبة
مسرور أن يطيب لك النص
ويا ليت لو أنك حددت الهنات التي رأيتها أيها الكريم
شكر الله لك اهتمامك
وطابت أيامك

عبد الرحيم صادقي
17-11-2011, 11:25 PM
ما شاء الله وتبارك الرحمن
حماك الله أستاذي الفاضل
وزادك فكراً و أدباً وخلقاً
قرأت وتعلمت واستمتعت
شكراً جزيلاً لك


ولك الشكر الجزيل على اهتمامك أخي ياسر
طابت أيامك ودمت في رعاية الله

ربيحة الرفاعي
24-11-2013, 08:10 AM
لله أنت ما أروعك فكرا وتعبيرا وما ألصدقك قولك وانصفك وصفا
تشريح لورم موجع في جسد العبادة الخشع للقلوب بات يشغل المتعبدين عنها بتنغيصه سكينتها
ومقامة كتب بحرفية مدهشة في زمان تهافت الحرف على التغريب والتضييع

دمت مبدعا

تحاياي

عبد الرحيم صادقي
29-11-2013, 12:26 AM
تشريح لورم موجع في جسد العبادة الخشع للقلوب بات يشغل المتعبدين عنها بتنغيصه سكينتها


بوركت أيتها الربيحة
تُحْيين القديم دائما، وتبثين الروح فيما مضى.
شكر الله لك
وأدام نعمه عليك

خلود محمد جمعة
03-12-2013, 12:43 AM
طُرحت القضية بأسلوب مائز
حرف راق
راقتني لباقة وبراعة الكلمات
دمت بخير
مودتي وتقديري

عبد الرحيم صادقي
20-01-2014, 10:48 PM
بوركت يا خلود
وأسعد الله أيامك

ناديه محمد الجابي
07-12-2022, 11:34 AM
مقامة جميلة وممتعة، بوصف صادق وتعبيرات لاذعة
ونقد بلغة مكينة لافتة، وخفة ظل بارعة
وإبداع بتعبيرات ساخرة.
شكرا لجمال هذا النص الرائع وبلاغته.
تحياتي وودي.
:hat::0014::hat: