المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة المجاعية



عبد الرحيم صادقي
07-09-2011, 07:45 PM
حكى حنظلة الأحنف قال: أمْحَلَ الصومال، وعزَّ القَطْرُ والبِلال، ونزل بالقَرْنِ أبو عَمْرَة، فهُم في شِدَّة وغَمْرَة. فلما بلغني الخبر، وحلَّ القدَر، تركتُ مجلسَ فكاهة، خشيةَ الفَهاهة، وأحجمتُ عن الإحمْاض، إعراضا عن الأَحْراض. كيف وقد جاءت الأخبار تَتْرى، وأنا بها أحرى، الناس في مَتْربة، قد دهمَتْهُم مَسْغَبة، وبنو قومي في تَطْريب، قد طرَحوا التَّثريب. فاعتضدتُ بالله، وصرَمْتُ مَن تاه، عازما الرحيل، يقودني الدليل. ولما بلغتُ المحلّ، بعد لَأْيٍ وكَلّ، راعتْني فَلاةٌ خَيْفقٌ، قلَّ ماؤها وعَمْلَق، لا تُذكي نارا، ولا تسر جارا، ما بها غُرنوق ولا بَقْل، ولا وَشَل ولا دَقَل، وهل تُنْبتُ البَقْلَةَ إِلا الحَقْلة؟ سوى حَسَكٍ وسَعْدان، وشيحٍ وعَيْفقان، وعَرْفجٍ ورقروق، وطَلحٍ وذعلوق، قد غزاها الأيهُقان، وعَمَرَتْها الغِدْفان. وألفيتُ الناس في أُلْبَة، قد أصابتهم الكُلْبَة. ورأَيتُ القومَ صَقْعَى دَقْعَى، كأنهم أعجازُ نخل خاوية، على بطونٍ طاوية، عليهم أطْمَار وأحْلاس، لا تَقي حرَّ الأمْلاس، أهْدامٌ على عِظام. يسفُّون التراب، جارُهم الغُراب، ويلتهمون الدَّرِين، ويَعُبُّون ولَو الدَّعاميصُ في الغَرِين، ولوْ ورَّثَ عبُّهُم الكُبَاد، وجرَّ عضَّ القُراد.
وألفيتُ قوما كأنهم لحمٌ على وَضَم، وجلدٌ على عَظم، حتى فَضِلَتْ عنهمُ السرابيل، وأُسْبِلَت السراويل. قد غزاهم أبو يحيى، سواءٌ مماتُهم والمحْيى. ورأيتُ وِلداناً كالرذِيَّة، فيَا للمصاب والرَّزية! شَوَتهُم حَمَّارَةُ القيظ، كأنما تَميَّزُ من الغيظ. ورأيتُ مَن تغالى لحمُه، وبدا عظمُه. ولقد ألفيتُ النُّفَاض يُقطِّر الجَلَب، جفَّ الضَّرع وراح الحَلَب.
ثم أبصرتُ شيخا قد احْقَوقف، يَرشحُ منه الحميمُ ويُقفقِف. وآخَرُ أكْدَتْهُ السِّنون فاجْرَنثم، وربُّك بالبَليَّة أعلم. وجارٌ هاضَه الدهر، حتى انحنى الظهر، افترش القَتام، ينظُر الحِمام. ورأيتُ نسوةً لا كالنسوة، أين الحُلِيُّ والكِسوة؟! رقَّتْ عَجيزاتهن، وضَمُرَت بطونهن، واسترخى النَّوْدلان، وشسفَ الخدَّان، وما أبصرتُ امرأةً إلا ضَهْياء هيفاء، رَصْعاء خَثْواء، قد أشبهت الرجالَ النساء. طرَحْنَ الإثمدَ والدَّردبيس، كأنما مضَّ الكُحلُ أعينَهن، وشنَأ الدَّلَخُ أجسادَهن.
قال حنظلة: فذكرتُ لَهْوَ القوم، سائر اليوم، وأرائكَهم والملابِس، والسُّررَ والطَّنافِس، والنمارقَ والسُّجُوف، والرَّوضَ المسْلوف، والغيدَ الحِسان، والياقوتَ والمرجان، وحُلْوَ الطِّرْيَم، ومزْحَ النديم.
ثم ذكرتُ قول من قال:
رُبَّ دارٍ قضَتْ قتيلةَ جوعٍ ؞؞؞ والريالاتُ أبحرٌ والنقودُ
ثم دلفتُ نحو امرأة خَفَّاقَة الحَشا، وقلت: ما هذه التَّراتِر، يا بناتِ الحَرائر؟ قالت: انقطع الغيث، ونفَقَت الرَّغوث، ونفذ الزاد، وفرغَتِ المزاد، فأمْسينا صرعى جَدْب، وأمورٍ حُدْب، فهؤلاء أكبادُنا يتضاغَوْن من الجوع، وجوعُهم دَيْقُوع، نُطعمُهم الجُول، ونقصُّ قصَصَ الغول، علَّ الصبية ينسوْنَ الأُوَام، ويهجعون كما النُّوام، وقد ضُرِب على أصْمِخَتهم، حتى يقضيَ الله أمراً كان مفعولا. قلت: وكيف ليلُكم؟ قالت: رِيحٌ أَلُوبٌ، قلت: ونهاركم؟ قالت: صلاءٌ وكُروب. أمَا ترى كيف وَقَدَ الحصى، ولانَتِ العصا؟ قد ذاب لُعَابُ الشمس فوق الجماجم، حتى قُلِيَ في الأوْكارِ بَيْضُ الحمائم. قلت: وما ذُخْرُكم؟ قالت: وما نَدَّخِرُ وما لنا هارِبٌ ولا قاربٌ؟ قلت: وإلى أين المسير؟ وما المصير؟ قالت: هذه غبراء، ولقد اشتدَّت الضراء، وأرهقتنا المرْداء، فإنا نبغي أرضا شجراء. وما يُرتجى في أولاءِ الشقائق؟ أنَنْغَبُ اليَلامِع، ونطهو اليَرامِع؟ أما ترى قد ضاقت علينا البلد، ورحَل عنا الولد؟ فمَن يُعطي الصَّفَد، أو يُحسنُ الرِّفد؟
ثم دنوتُ من كهلٍ شاسِف، ذي وجهٍ كاسف، مُرمِلٍ أهْيَم، أين منه ابنُ أدْهَم! حافي القدمين كبِشْرِ الورَع، لكن زهَّدَته خلَّةٌ ودَقَع، ثم سألته: أمَا لديكم هَنَمٌ أو لُهَاس؟ قال: بل قُطْبٌ وهَرَاس، ما عرفنا طعمَ اللَّوَاس. قلت: أما عندكم لمَاقٌ أو صبابةُ مَصُوص؟ قال: ولا حتى خَلَبوص، ذي أرضٌ عافها القَمُوص. ما لنا راغية ولا ثاغية، سوى الجرجير كما ترى، وعجاجة وثرَى، وقسطل وحَرور، ولفح هَجير، وحوقلة وحسبلة. قلت: ونِعْم الحسيب، وجلَّ الرقيب.
ثم قلت: سأكَلِّمُ في أمركم إخوةَ الدين والرَّحم، قال: شرُّ الرأي الدَّبَرِي، أما ترى الموتَ الأحمر فشا؟ كما يفعل الهصورُ بالرَّشا. قلت: أمَا بأرضكم نِهاء أو رَيْع؟ أما تملكون صَفِيًّا ذاتَ وَبَر، أو لِقحةً غزيرةَ الدَّر؟ قال: قد كان لنا غِمار وجُمَّة، تأتيها البهائم، فتسقي الحوائم، حتى أضْرَبَتْها السَّمائم، ومُلْمِعٌ ذاتُ حالِق، وحِقَّة طالِق، ما شاء الله الخالق! فأصبحنا لا يصلنا غيرُ جِهام، وتمرُّ المزْنَة مرَّ الكرام، وجانَبَتْنا السَّارية، كأنما هي عارية، وليس غيرَ بناتِ مَخْر، وبكوءاً بعد دَرّ، ذهب ماؤنا في غَوْر، نعوذ بالله من حَوْر بعدَ كَوْر، قد جفَّ النُّؤْي، وأصابنا اللَّأي. ويا رُبَّ غُصْنٍ التبسَتْ شَناغيبُه، ومَرْج وتَرَارة، وخصبٍ ونضارَة. فسبحان مبدل الأحوال، ها قدْ وقعنا في أُمِّ جُنْدُب، نموت من سغب وقرَم، وغيرُنا في بَشَم. فأصبحْتَ لا ترى غير مُعفَّر، نرجو عُلالَة أو بُلالة، ولا نصيبُ هَلَّة ولا بَلَّة، ننظُرُ الصَّدقة، وما لنا مِذْقَة، ولا لنا حازِر أو مَخيض، عوْذا بالله من عيشة الحَضيض. فنحن كاللَّطيم، في أمرٍ عظيم. هذا ونحن لكم ذِمار، ومالُكُم يُفْنيه القِمار، والله أدرى بالحال، أصَنانيرَ نرجو؟ أم أنفسنا نهجُو؟ فلَأنتمُ الخناسير، إذ تمنعون الأَشارير. ولأنتم قرناءُ شَقْوَة، إذ تحظرون اللهْوَة، فإنْ أخطأَتْنا الحُظْوَة، أفتُخطِئُكم النَّخْوة؟
قال غرْثان عَدْيان بلغ به اللُّوَابُ مَبلَغه: هانَ على الأَمْلَسِ ما لاقى الدَّبِر، لا تحملون الكَلَّ وترْفِدون الأَشِر.
قال حنظلة فقلت: حلَّ بكم ما حلَّ بأرضِ العزيز، وإنها تالله مظلمةٌ ذات أزيز، ولكنْ لا يوسف لكم ولا بَواكي. قال: ثم قعدتُ أبكي كما تبكي النوائح.

:009:

أماني عواد
07-09-2011, 09:17 PM
الاستاذ الكبير عيد الرحيم الصادقي

الى جانب هذا اللون الرائع من الادب ( المقامة ) , والى جانب سمو الموضوع , يأتي لنا النص بثروة عريقة من مفردات لغتنا الزاخرة والتي بدأنا نؤرشفها باستخدام بديل مرادف


للتثبيت تقديرا

بورك النبض

نداء غريب صبري
08-09-2011, 11:33 AM
مقامة رائعة بموضوع يكاد يلهينا بقسوته عن ما نعاني في بلادننا من آلام القمع والقتل

شكرا لهذه الروعة أخي

بوركت

فاطمه عبد القادر
09-09-2011, 12:55 AM
السلام عليكم أخي عبد الرحيم
سيظل موضوع الفقر وصمة عار سوداء على وجه الإنسانية طول العمر
مع القليل من الإهتمام يخرج هؤلاء المساكين في الصومال من وضعهم المزري
ولكن الدول,, وحتى الناس ,,مشغولة بالأخذ والأخذ دون العطاء, أو التفكير به
المقامة المجاعية رائعة ,,أبدعت أخي
لكننا نحتاج للقاموس ليرشدنا للمعاني
شكرا لك
ماسة

عبد الرحيم صادقي
11-09-2011, 09:17 PM
الاستاذ الكبير عيد الرحيم الصادقي
الى جانب هذا اللون الرائع من الادب ( المقامة ) , والى جانب سمو الموضوع , يأتي لنا النص بثروة عريقة من مفردات لغتنا الزاخرة والتي بدأنا نؤرشفها باستخدام بديل مرادف
للتثبيت تقديرا
بورك النبض


أختي أماني،
تحية طيبة مباركة
وبورك نبضك، وسلمت ذائقتك
دامت لك السعادة والمسرات
تحياتي الخالصة

عبد الرحيم صادقي
11-09-2011, 09:23 PM
مقامة رائعة بموضوع يكاد يلهينا بقسوته عن ما نعاني في بلادننا من آلام القمع والقتل
شكرا لهذه الروعة أخي
بوركت


وفيك بارك الله يا أختي نداء
نعم أختي، ذلك واقعنا الأليم. تنضاف مصيبة الصومال إلى مصيبة الشام الحبيب، وتتابع البلايا واحدة تلو الأخرى.
فنسأل الله أن يعجل بالفرج
تحياتي أختي وطابت أيامك

ربيحة الرفاعي
12-09-2011, 01:17 AM
مقامة صادقية باهرة مما عودنا المبدع عبد الرحيم الصادقي
صادقة الوجع صدوقة الحرف
تنثال بتمكنِ واقتدار كاتبها فتسكن أعماق المتلقي بحمولتها وتصل بلا جهد غايتها

أبدعت أيها الكريم كدأبك

دمت بكل الألق

محمد ذيب سليمان
12-09-2011, 08:44 AM
رغم ما بها غريب المفردات التي مل عرفتها الا انني كنت افهمها من السياق

وقد جاءت مقامتك العالية السامية في موضوع لا ارى بني يعرب او بني الإسلام

له منتبهون وكأن أهلنا فيالصومال ليسو من أبناءهذه الأمة أو أنهم من كوكب آخر

فهم كما وصفته في اللهو غارقون وفي الملذات منغمسون

فأين ما أمر به الإسلام " لا يؤمن أحدكم نام شبعان وجاره جائع

واين المليارات التي يقوم الغرب بحجزها لديه ومنعها عن أصحابها ساعة يقرر

والله ان القليل منها يزيل الكرب عن هؤلاء

لا أقول شكرا بل جزاك الله خيرا .. لعلها تصل الى من بيده أمر

عبد الرحيم صادقي
13-09-2011, 01:15 AM
السلام عليكم أخي عبد الرحيم
سيظل موضوع الفقر وصمة عار سوداء على وجه الإنسانية طول العمر
مع القليل من الإهتمام يخرج هؤلاء المساكين في الصومال من وضعهم المزري
ولكن الدول,, وحتى الناس ,,مشغولة بالأخذ والأخذ دون العطاء, أو التفكير به
المقامة المجاعية رائعة ,,أبدعت أخي
لكننا نحتاج للقاموس ليرشدنا للمعاني
شكرا لك
ماسة

وعليكم السلام أختي فاطمة
صدقت أختاه، قليل من الاهتمام فقط. لكن من يسمع؟؟
وافر التقدير لك
دامت لك المسرات

عبد الرحيم صادقي
13-09-2011, 01:52 AM
مقامة صادقية باهرة مما عودنا المبدع عبد الرحيم الصادقي
صادقة الوجع صدوقة الحرف
تنثال بتمكنِ واقتدار كاتبها فتسكن أعماق المتلقي بحمولتها وتصل بلا جهد غايتها

أبدعت أيها الكريم كدأبك

دمت بكل الألق


ودام لك الألق أختنا الربيحة
شكر الله لك هذا الحضور البهي
طابت أيامك وغمرتك الأفراح
تحياتي

آمال المصري
13-09-2011, 10:26 AM
مقامة بديعة رصعت بمعجميات تجعلنا نعود للقواميس نبحث عن الأصالة
سعدت أديبنا المكرم بتواجدي في دوحتك هنا
وجزيل شكري للرائعة أماني للتثبيت
دمت بألق
ولك زهور الصباح

عبد الرحيم صادقي
13-09-2011, 01:02 PM
فأين ما أمر به الإسلام " لا يؤمن أحدكم نام شبعان وجاره جائع
واين المليارات التي يقوم الغرب بحجزها لديه ومنعها عن أصحابها ساعة يقرر
والله ان القليل منها يزيل الكرب عن هؤلاء
لا أقول شكرا بل جزاك الله خيرا .. لعلها تصل الى من بيده أمر


نعم يا أخي محمد،
أين المليارات؟ وأين البترول؟وأين وأين؟؟ لا أصدق أن المجاعة في العالم مشكل ليس له حل.
الحقيقة أنها نتيجة ظلم واقع.
وما كان ينبغي أن تكون أصلا.
شكرا لحضورك أخي محمد
تحياتي الخالصة

عبد الرحيم صادقي
14-09-2011, 11:14 PM
مقامة بديعة رصعت بمعجميات تجعلنا نعود للقواميس نبحث عن الأصالة
سعدت أديبنا المكرم بتواجدي في دوحتك هنا
وجزيل شكري للرائعة أماني للتثبيت
دمت بألق
ولك زهور الصباح


وأنا سعدت بإطلالتك البهية
وزهورك الجميلة
وافر الشكر لك والتقدير
وأضم شكري لشكرك وأضعه على جناح العرفان وباسم الله مجراه إلى حيث أختنا الكريمة أماني