المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحلة



مُنتظر السوادي
20-10-2011, 09:01 PM
رِحلة
بهدوء , تسمّره على أنامل قدميه النظرةُ إِليها , تفتحُ الصرة ، أعطته كل ما فيها سوى ورقة سقطت من يدها ، أخذ المجوهرات لكنّه ظلَّ شريد العين إلى الورقة الغريبة ، التي سمع عنها مرة همساً من أُمه وقتها كان شبه مستيقظ ، ".... ينبغي أن لا يراها !! "
دخل إلى غرفته تُجرجرُه أَجيالٌ من الأفكار ، النوم تلاشى من لياليه ، والسكينة قطرةٌ وألقاها مجنون في صحراء معتمة ، أنفاسه تُهمهمُ ، ما فيها يا ترى !
يستلقي على بساط الاحتمالات ، وتقلبه الظَّنون ، قصد العراء مهاجراً ، يبغي حُلمه ؛ هبة الرحمن جوهرة الزمان ، علّها تؤنسه وتطردُ غُربانَ غربته ، التي ترعى فلوات نفسه .
نظر إلى رُوحه الغارقة في الماء المتماوج ، بفعل زورقٍ يخطُّ على وجهِهَا رسومات حزينة متحركة ، كَأَنَّ الدمع يغمرها ، يتمزق صمتُ الليل بهدير الأَملِ الناعسِ مع التجديفات المتناوبة ، بدت له صفحة مكتوب فيها : " أَيُّهَا الحزينُ لا تبكِ " ، أخذ حفنةً من الأمل وراحَ يَغسلُ عينيه ، ويسقي أفكاره من قطرات التفاؤل الندية التي تتساقطُ بصمتٍ هادئ ، راح يخلع بعض ثيابه المتيبسة التي تغطي نظرته ، نزل من قارب الحزن لِيُبحرَ إِلى عين الحياة ، تجلبب بزي التفاؤل عَلَّ الفرحَ يَهلُّ على ثغره وعلى صفحاتِ وجهه البريئة يوماً .
تأمل صفحة الماء لم يرَ سوى حورية الياسمين ذاتَ جمالٍ خَلابٍ تَتلألأ ، أبهى من البدر فراح يستبشر الخير في الأفق ، حاورها ، غطت وجهها , حياءً برجفات المياه المتراقصة التي تلاعب جدائلَها ، وتبللَ خصلات شعرِها بالحياة ، وَكَأَنَّهَا من خيال الأحلام ، عادت أحلامه غضة كزهرةٍ في أول إطلالة لها على ضفاف النور ، فبدت له بسمة الحياة أَخيراً .
قبل أن يبحر بجسده إليها ، قرر أن يودع العجوز عسى أن يرى ما في اللون الوردي من أخبار ، والأشواق تعانق أفكاره ، هل سأجدها !!
يردد الصدى : أَينَ ..... ؟
يصل إلى ( صريفة ) العجوز
- أيتها الطيبة :-
- نعم من هذا ؟
- أنا من أعطيته الصرة ، عفوا ما في الصرة .
- يا " مراحب " بصوت متكسر ، ممتزج بحشرجة خفيفة
- " يا ولدي افتح له الباب، فهذا الفتى عزيز ، وأمانة لدينا " .
شاهد في يد الصغير شيئاً وردياً ، وهو يعكره ويضغطه ، ويجرب قوة أسنانه عَلَى أطرافه ... تَمَزقَ قلبَه .. صارَ إرباً ، أسرعَ نحوه ليوقفه ؛ " تــــــــــــــــــــــــ ــــوقف " ، فلت ضاحكاً إلى جدته وجلس بحضنها ، يصك أسنانه فتظهر تماويج على خديه وهو يدعك الورقة .
ببسمة هوائية نظر إلى العجوز ، قائلاً :
جئت أبلغك التحية ، موفياً كلمات أُمي ، فالسفر دقَّتْ نواقيسه ، لو أحببت أطلعتني على الورقة الوردية ، لأَذهبَ قرير العين .
تمتمت بهدوء كأَنَّ على شفتيها سلاسل جبلية : " اليوم أصابني غمٌّ وألمٌ ، اذهب رافقك حظ آبَائك الكرام " .
أخذت العجوز رجفة ، فأصابه قلق وغيض ، ... " لِمَ تؤجلُ ... !!! " .
ينظر بقلبه إلى يد الطفل ، وقدماه تتأرجحان في مكانهما ، العجوز وهي تسمع اختلاجاته ، " ستعود ... إن شاء الله وأخبرك بما تركوه لك من حروف "
لم يستطع التفوه ، لوح لها بيديه .... وعيناه تلوحان للورقة بــــمتى أراك ؟
خرجت رجلاه ونبضه باقٍ في الورقة لدى العجوز ، لم ينتبه إلى أعماله وتصرفاته .
استأجر دليلاً متضلعاً ومتبحراً في خفايا الدروب ، ملك آثار الفيافي ، يحفظ من الشعر لليالي السفر جمّاً غفيراً ، فاكهة للرحلة والمسير ، لِيوصله بلا مللٍ إلى قلادة الربيع ، المتشحة بأجملِ وأرقى فنون الإبداع ، ذات خمارٍ أبيض ، منسوج من غمام الصيف الرقراق ، سارا ليالٍ ، لم يرَ أي حلم في لياليه ، رغم سوء الغذاء ، وكثرة جياد الأحلام على مسارح الخيال في ساعات الأمنيات ، يدندنُ بما يخبئ له القدر من عجائب .
- من هذانِ !؟
- أين متجهان !؟
بصوت أجش ، صدى الصوت يملأُ الآفاق ، ويزلزلُ الأعماق .
أَنهكهمها تكراره ، بين الفينة والأخرى ، والأسوار ممتدة على طول الصحراء ، تعانق السماء ، تقف شاخصة بوجه رشقات الرمل المستمرة ، وعليها غلاظٌ من الحراسِ .
همس إلى رفيقه : " ما هذه العقبات ؟ "
- حراسة لأميرة الخيال ، فلا يصل إليها إلا يعسوبْ .
هكذا نفذ زادُ الصبر ، لم يبقَ سوى القليل في كأس الأمل ، كاد الدليل يتيه ، فبالرغم من كثرة أسفاره في بطون الصحراء ، والعيش في الفيافي الجوفاء ، أَلا أَنَّ هذه المرة مختلفة تماما ، فما يطلبانه بعيد المنال حتى عن عالم الخيال ، وصاحبه شريد ، مفتوح العينين ، تائه الأذنين ، يصغي بقلبه إلى صوتٍ مضت عليه أَزمانٌ ، لم يستسغ شعراً ، بل يجالس الحصى في العتمة ويحكي معها حكاية الصمت والتأمل و وفاء البدر للفلاح .
لولا أنه استنشق عطرها ، وسطع نور وجهها ، متلألئً من فوق الأهرامات , كأنَّه الشمس تغازل الفجرَ بضيائها ، و يغوصُ في قشرة الليل منها سَهمٌ نورانيّ هادئ ، وتزف الندى إلى ثغر الزهرة المتفرعة بالعبادة لربِّ الأَرضِ و السماء ، لتاه في دروب البيداء ، ثم غمزته بطرفٍ ساحرٍ ، وخبّأت وجهها بالغمام ، لم يتحملها الدليل خرَّ مغشيا عليه .
اتخذ من لَحنِها دليلاً ، انعكست خيوط البهاء المشعة من ثغرها على وردة تستحمُ بأريجها فراشة ، بهية الألوان تعانق اللون الوردي ، قطفها ، وضمها إليه ، خطرت له تلك الورقة ، التي بيد الطفل .
جاءه صوت رخيم يطرب الصخر لا العاشق المستهام ، فلم يستطع البقاء ، تراقصت فرائصه ، ارتعشت أقدامه ، أسرع إلى الأهرامات ليعتلي إلى كوكبة الحياة ، ليحصل على هبة الرحمن .
حار كيف يصل إلى قلادة في عنق الجمال ، والجمال ، فوق الشمس يرتقي ، يعلو تراثا ملأ القلوب سحره ، وأغدق الكون علمه .
دلف إلى الداخل ليجد كاهنا يرشده الوصول ، كاهن من بقايا عهد آمون ، ضخم ذو هيبة وقوة ، ما تريد ؟ بصوتٍ هزّ أحجار الأهرام .
- دمعت عيناه
- " ما لك تبكي ! "
- " .. .. .. " فعرف ما حكته عيناه
- ".... وهل عندك مهر يا ابن الفرات ؟ "
تكسرت عبرته في دمعته ، كادت تودعه روحه ، ثم أهوى يده إلى صدره ، وأومئ إلى الكاهن بأَنَّ المهر مدفوع .
هزَّ الكاهنُ رأسه بقبول المهر ، ثم حرك حجرة كتب عليها بحروف سحرية ، الحب والتضحية توأمان ، لا بد يوماً أن يلتقيان ، ثم أمسكَ قنينة فيها شراب قانٍ ، أخذ يردد كلمات لا تفهم ، قال له : هاك ، أغسل وجهك و...
شرب ( مجعة ) فلم يرَ الكاهن ، خرج وإذا بحمامة ذهبية ، مطوقة بالمرجان ، وخلفها غمامة ، لونها بين الثلج والورد ، امتطاها ، وقاد زمامها نحو أميرته المستوطنة في عرائش أفكاره ، هي نبض أحلامه ، ورعشة فؤاده .
غازلها، بخجل ابتسمت ، أنشد لها مجنونيات قيس ، وشيئا من روميات أبي فراس .
لَفَّت نفسها بالغمامة وقالت : كل هذا الجهد ، والمشقة من أجلي ، كم أنت بريء ، لا أنت طفل صغير ، ثم ضمته ، واختفيا في الغمام .
بعد مرور أيامٍ قصيرة كالثواني ، غُشيَ عليه ، نثرت على وجهه ، قطرات من الضياء ، استفاق ، عارياً كأنه يولد من جديد .
ألقته على شاطئ اليم , وحيداً لا شجرة ، ولا رفيق ...
عاد يجره البؤس ، واليأس ... وصل قريته ، بوجهه إلى العجوز .
يجدها تتناول أخر جرعة من الهواء ، رمقته ، هَمَّ بالسؤال .. قالت : اللون أنت فتى عطوف ، كالوردة ، لم يفهمك أحد ، تعيش غريباً .
- وما هذه السطور ؟
قرأت له رحلته إلى بلاد الكنانة ، وقبل أن تغص بالحبة الأخيرة ، ارتمى بين يديها جثة يابسة متكسرة كثيرة الأوجاع ، توقفت كلُّ أنفاسه ليسمعَ وصيتها الأَخيرة ، همست في أُذنه : " الحزن قلادتك ، والدمعة أنيستك في ظلمات الهجر ، صبراً أَيُّها المنتظر الأميرة لن تتركك ، واعلم أَنَّه لا بد للحبيبين يوما من عناق " .


منتظر السوَّادي 19/9/2011

كاملة بدارنه
20-10-2011, 09:36 PM
" الحزن قلادتك ، والدمعة أنيستك في ظلمات الهجر ، صبراً أَيُّها المنتظر الأميرة لن تتركك ، واعلم أَنَّه لا بد للحبيبين يوما من عناق " .
نهاية رائعة جاءت على لسان الحكمة... الأميرة الحقيقيّة لا بدّ أن تكون المنقذ، لكن، يجب خوض غمار البحث والتّجربة ثانية والصّبر والتّحمّل للحصول على (العناق) تحقيق الأمنيّات...

قصّة رائعة برمزيّتها ولغتها وحبكتها...!

بوركت أخ منتظر

تقديري وتحيّتي

(همسة: سار ليالي- نفدَ- متلألئا- أومأ- أن يلتقيا)

ربيحة الرفاعي
21-10-2011, 12:40 AM
قصتك رائعة أيها المنتظر
بلغة قوية ومعالجة موفقة للرمز نسجت لنا لوحة قصية بديعة متينة الحبكة وحلوة المحمول
وجاءت القفلة فيضا من الأمل يريح النفوس

جميل ما قرات هنا


تحيتي

مُنتظر السوادي
21-10-2011, 11:09 PM
نهاية رائعة جاءت على لسان الحكمة... الأميرة الحقيقيّة لا بدّ أن تكون المنقذ، لكن، يجب خوض غمار البحث والتّجربة ثانية والصّبر والتّحمّل للحصول على (العناق) تحقيق الأمنيّات...

قصّة رائعة برمزيّتها ولغتها وحبكتها...!

بوركت أخ منتظر

تقديري وتحيّتي

(همسة: سار ليالي- نفدَ- متلألئا- أومأ- أن يلتقيا)

كل الشكر لك استاذي الكريمة

بالطبع الحياة هي رحلة ، وهناك بالتاكيد من يوافقه الحظ ، وهناك من يرجع مكسور الخطا

لك كل التحية

واكثر الشكر على الهمسات الجميلة التي اسعدتني

لك همسة مني ( تلميذك يصغي اليك )

أحمد عيسى
22-10-2011, 09:47 PM
القاص القدير : منتظر السوادي

قصة بديعة وقدرة مدهشة على القص والسرد الجميل المتقن ، ربما بعض المقاطع كانت أطول مما ينبغي ، بعض الاستطراد الذي يلزمه تكثيف أكبر ، هذا احساسي فقط
لكن النص مدهش وجميل أحييك بشدة

لك الود كله وباقات الورد

دينا نبيل
22-10-2011, 10:54 PM
الاستاذ المبدع منتظر
لقد قرأت بهذا المتصفح قصة رقراقة سحرية واسلوبا ومضمونا

انها رحلة بحق استاذي .. العنوان في غاية الدقة .. فهي رحلة البطل الذي انتظر حبيبته كثيرا وأذن له بالرحيل إليها .. رحلة المخاطر والصعاب من أجل رؤية من يحب .. إنها رحلة أخذت فيها القارئ بمهارة من خلال اللغة المتقنة والاسلوب الرشيق والوصف الدقيق ليرتحل مع البطل ويكابد معه الصعاب من اجل لقاء هذه الحبيبة الساحرة..
ويالها من نهاية للقصة .. سيظل هذا البطل في رحلة من الألم والحزن حتى يلقى حبيبته ويعانقها

اختيار العنوان أراه موفقا في رأيي المتواضع

والقصة في غاية الإبداع

سلمت يمينك استاذنا

تقبل التحايا

مُنتظر السوادي
23-10-2011, 04:25 AM
قصتك رائعة أيها المنتظر
بلغة قوية ومعالجة موفقة للرمز نسجت لنا لوحة قصية بديعة متينة الحبكة وحلوة المحمول
وجاءت القفلة فيضا من الأمل يريح النفوس

جميل ما قرات هنا


تحيتي

استاذتي الكبيرة

الناقدة الجليلة

كم انا سعيد ان اجد تعليقك مع كلماتي الضعيفة ، وما يسعدني اكثر انت تقفي دوما مع حروفي

اقف محني الرأس اجلالا واكراما لكلمتك

لك التحية

مُنتظر السوادي
23-10-2011, 10:23 PM
القاص القدير : منتظر السوادي

قصة بديعة وقدرة مدهشة على القص والسرد الجميل المتقن ، ربما بعض المقاطع كانت أطول مما ينبغي ، بعض الاستطراد الذي يلزمه تكثيف أكبر ، هذا احساسي فقط
لكن النص مدهش وجميل أحييك بشدة

لك الود كله وباقات الورد

القاص كبير عليّ متى وصلت الى هذه المرحلة ؟؟

انها بعيدة عني بعد السماء عن الارض

لو اشرت ايها الحبيب الى المواضع التي علي ان اتخلص من الاستطراد لماذا لم تشر اليهن انتظرك واشارتك لهن

لك مودتي ومحبتي وانتظاري

تلميذكم

مُنتظر السوادي
24-10-2011, 11:03 PM
الاستاذ المبدع منتظر
لقد قرأت بهذا المتصفح قصة رقراقة سحرية واسلوبا ومضمونا

انها رحلة بحق استاذي .. العنوان في غاية الدقة .. فهي رحلة البطل الذي انتظر حبيبته كثيرا وأذن له بالرحيل إليها .. رحلة المخاطر والصعاب من أجل رؤية من يحب .. إنها رحلة أخذت فيها القارئ بمهارة من خلال اللغة المتقنة والاسلوب الرشيق والوصف الدقيق ليرتحل مع البطل ويكابد معه الصعاب من اجل لقاء هذه الحبيبة الساحرة..
ويالها من نهاية للقصة .. سيظل هذا البطل في رحلة من الألم والحزن حتى يلقى حبيبته ويعانقها

اختيار العنوان أراه موفقا في رأيي المتواضع

والقصة في غاية الإبداع

سلمت يمينك استاذنا

تقبل التحايا

لك كل الشكر على القراءة والتعليق

لك تحية

تلميذك

نداء غريب صبري
26-10-2011, 09:08 AM
قصة جميلة أخي منتظر السوادي
سردها محكم ونهايتها حكيمة

شكرا لك

بوركت

مُنتظر السوادي
26-10-2011, 10:45 PM
قصة جميلة أخي منتظر السوادي
سردها محكم ونهايتها حكيمة

شكرا لك

بوركت

جزيل الشكر لك استاذتي ايتها الطيبة