تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في حضرة الموت



خالد بناني
11-12-2011, 05:57 PM
ثمة أشخاص لا تدرك قرابتك بهم إلا بعد أن يغيبهم الموت، هم من ظلوا طيلة حياتهم منسيين في هامش حياتك، الذين كثيرا ما مررت بهم دون أن تسلم عليهم، الذين قليلا ما انشغلوا عنك بتفاصيل معيشهم اليومي.. ها هم يرحلون فجأة لتنتبه – كما لأول مرة – إلى المساحات الخالية منهم، وها أنت يكبر فيك الخواء وأنت تدرك أنهم من كانوا يؤثثون قلبك ويملؤون عينيك...
لماذا لا نفتقد الآخرين إلا بعد أن نفقدهم؟ ومن ذا الذي قد يعيد هندسة الفضاء البصري الفارغ بلا هم؟ وكيف يصير الغرباء فجأة في غيابهم أهم ما فينا ومن فينا، أ لأنهم ظلوا الأهم دون أن ينتبه لهم أحد؟ أم لأن العين تخشى الحيز الفارغ الذي ظلوا يشغلونه؟ الغرباء العابرون قربك وأنت الثابت الوحيد.. صدق الآن: وحدهم كانوا سكان قلبك ودربك وذاكرتك، وأنت وحدك الغريب العابر.
ها هو اسم آخر يمضي محمولا نعشه على أكتاف الرجال المدججين بالصبر أمام الألم، تتبعه النسوة الغارقات في الدمع، يتبعهن صبية طامعون في شيء من المال إكراما لبراءتهم.
عند قبره يذهلك ما تراه ويباغتك السؤال: كيف ينجح الموت في لم الناس هكذا من على الأرصفة والمساجد وكراس المقاهي وإحضارهم قسرا كي يشهدوا مراسيمه؟ تنزوي وحدك حتى يفرغوا من كل شيء وأنت ترقبهم في لحظات صدقهم الأهم.. ففي الموت.. حتى الكذب لا يخلو من الصدق.
على بعد أمتار منك ومنهم يفترش الأرض جلوسا بسطاء مسنون أتوا خصيصا كي يهدوا لروحه ثواب قراءة سورة ياسين، بعضهم لا تكاد تخلو جنازة منه، وفيهم لابد أن تجد واحدا يخط بعود قصير على التراب ما لا يفهمه سواه. يلتف الجميع حول شيخ واعظ يذكرهم بالآخرة، تنصت إلى افتتاحيته، ثم سرعان ما تعود إلى تأمل القبر وحدك حتى تفرغ عينيك من صاحبه وتلقي عليه السلام الأخير.. فللعيون ذاكرة لا تتسع للموتى. تحاول أن تبرهن له على حزنك بالبكاء فلا تفعل.. لا تستطيع.. لم تكن يوما من البكائين في المآتم.. وربما جاء بكاؤك في أقل مواسمك حزنا، ولربما جاء في أكثرها فرحا. يبدو كل شيء معكوسا: تشيعهم من هنا وهم هناك يعبرون البوابة خروجا من المقبرة كأنما يعبرون من الحياة إلى الموت ووجوههم تخلع حزنها لتبدو من تحته ملامح منحوتة تقاسيمها من فرح الخائفين، فتعود ملتفتا جهة القبر تارة أخرى لتسأله: ما اسم رحيلك، موت.. أم حياة؟
في سرادق العزاء تنسى أن تجامل موته ولو بحروف، ذلك أن الحزن لا صوت له، تمد كفك لتصافح الواقفين صفا واحدا، واحدا واحدا، وفي كل مرة تسألك عينان طاعنتان في الأسى: هل بكيته؟ هل أحزنك رحيله؟ كيف أنت في حضرة الموت؟ فيجيب صمتك نيابة عن شرودك: أنا... أنا... تبدو أمامهم بارد العينين، جامد القلب، عاديا يتساوى لديك حضوره وغيابه، فتود لو أنك تعتذر أمامهم عن حزنك الذي يأبى أن يطفو أمامهم، عن نبرات صوتك الخالية من بحة الفقدان، عن دمعك الذي غاب في محجريك، وتود لو أن الحزن يتجلى في أشياء أخرى قد يصدقوك بها. تأخذ مكانك بين الجالسين متفاديا أن تبادلهم الحديث نفسه عن الموت، إذ أن لك حديثك الخاص منفردا عن كل الحاضرين. يُطاف عليكم بفناجين القهوة والحلوى، فيراودك سؤال آخر: من ذا الذي جعل من هذه العادات طقوسا للحزن؟ تأخذ فنجانك، وقطعة بها حبة قرنفل، ثم سرعان ما يتناوب أفراد من عائلة الفقيد ومعارفه في تجديد الترحيب بمن حضر والدعاء بثبوت الأجر. تنسرق منهم في شبه غفوة وقد أغمضت عينيك مسندا رأسك إلى الجدار، ثم تبدأ في الدعاء له سرا قبل أن يتحول سرك إلى همهمات.. أنت الآن مثله.. هو وحده، وأنت وحدك.. ولا فرق بينكما إلا أنك حي، وهو ميت. أخيرا يأتيك حزنك دفقة واحدة كأنك ادخرته لوحدتك لا أكثر، كأنك لم ترد أن تضيع دموعك في بكائهم، ونشيجك في صراخهم، كأنك... ما تزال عيناك مغمضتين والخيط المالح ينبجس منهما ثم يتهاوى كي يمر لصيقا بشفتين يابستين كلما بللتهما بطرف لسانك تسرق من الخيط ملحه.. شفتان راعشتان تتمتمان بما تحفظه من آيات، بالدعاء الطويل الوحيد الذي تتقنه، وبالشهقات... كأنك تقول له ولمن سبقوه، باسمك وبأسماء الغافلين عن غيرهم: هذا مجرد إشعار بالوفاء لذكرى الذين مضوا في غفلة من حبنا لهم، كأننا نقول لهم: ليتنا أحببناكم.. فوق ما أحببناكم... وأكثر.

آمال المصري
11-12-2011, 07:11 PM
وهل لابد من حضرة الموت لينتابنا هذا الكم الهائل من صفع الأسئلة على وجوه ذهولنا ؟
أم هي الدنيا تلهينا وتعمي أبصارنا حتى همشنا كل شيء ولم نرَ إلا أمام أنوفنا ؟




عند قبره يذهلك ما تراه ويباغتك السؤال: كيف ينجح الموت في لم الناس هكذا من على الأرصفة والمساجد وكراس المقاهي وإحضارهم قسرا كي يشهدوا مراسيمه؟
نعم ينجح الموت في جمع هذا الحشد البشري ليحضر مراسم التأبين ... ولكن كم منهم يتعظ بمن جعله الله خير واعظ ؟



أنت الآن مثله.. هو وحده، وأنت وحدك.. ولا فرق بينكما إلا أنك حي، وهو ميت.
نعم يشعرها الكثير أنه لافرق بينهما إلا وجود الروح في صدر ميت ... أو ربما لايشعرها كلا منهما .. لأن كليهما ميت !
نص ذكرني بمواقف عديدة تحجرت فيها الدموع رغما رغم حجم الفقد ...
أبدعت أديبنا المكرم رغم رهبة النص
تقديري الكبير

أماني عواد
11-12-2011, 07:21 PM
الاستاذ الكبير خالد بناتي


كيف ينجح الموت في لم الناس هكذا من على الأرصفة والمساجد وكراس المقاهي وإحضارهم قسرا كي يشهدوا مراسيمه؟ تنزوي وحدك حتى يفرغوا من كل شيء وأنت ترقبهم في لحظات صدقهم الأهم.. ففي الموت.. حتى الكذب لا يخلو من الصدق.

ربما لان الموت دعوة عامة للمارسة الحزن الدفين في عمقنا دون تبرير


فتود لو أنك تعتذر أمامهم عن حزنك الذي يأبى أن يطفو أمامهم، عن نبرات صوتك الخالية من بحة الفقدان، عن دمعك الذي غاب في محجريك

صدقت سيدي فالمراسيم تشغلنا عن الحزن ذات فاجعة مفاجئة حتى يتبدى فيما بعد كانما كائنا نما وترعرع فينا , وللحزن العميق كبرياءا يجعله يؤجل الدمع لاوقات خلوة


هذا مجرد إشعار بالوفاء لذكرى الذين مضوا في غفلة من حبنا لهم، كأننا نقول لهم: ليتنا أحببناكم.. فوق ما أحببناكم... وأكثر.

تعبير مؤثر يجعلنا نمعن النظر وننثر الحب في وجوه المارة لنستبق الندم

نص رائع
سلم مدادك

كاملة بدارنه
11-12-2011, 07:43 PM
بعثرت ريح الحزن كلماتي

شكرا لك على هذه المقدرة في الوصف الدّقيق لأصعب لحظات نعيشها عند الفقد

تقديري وتحيّتي

عبد الرحيم صادقي
11-12-2011, 09:41 PM
الموت..الحقيقة التي تكاد تكون كالخيال
ولكنه يبقى أهون مما بعده وأشد مما قبله، كما قال أبو بكر الصديق (ض).
نسأل الله حسن الخاتمة
لله درك أخي، أبدعت في تصوير لحظات لا يدركها غير فيلسوف.
تحياتي والمودة

ربيع بن المدني السملالي
11-12-2011, 10:45 PM
هو الموتُ ما منه ملاذّ ومهربُ ... متى حُطّ ذا عن نعشه ذاك يركبُ
أخي الكريم ( خالد ) أحسنتَ الإحسان كُلّه بهذه الياقوتة التي قرأتُ لك ، وراقت لي كثيرا بارك الله فيك وزادك من فضله ...

دمتَ ودام الهطول المنتظر
تحيتي وتقديري الكبيرين

ربيحة الرفاعي
12-12-2011, 12:20 AM
هم لم يكونوا غرباء يوما، وما كان هذا الخواء الذي يخلفه رحيلهم في النفوس ليكون لو لم يكن لحضورهم الهادىء والمحايد في حياتنا دور نشط عميق الأثر في أرواحنا نحبه ونحتاجه

قرأت هنا تحليلا فلسفيا راقيا لطقوس الجنائز ومراسم التشييع وحديث النفس مع كل خطوة منها ومع كل ما تحمل النظرات والملامح من معان وانفعالات انسانية تحكي ألم الفقد
وما أكثر الذين يمضون في غفلة من حبنا لهم وغفلة منا عن حبنا لهم

أبدعت أيها الكريم

تحيتي

ياسر ميمو
12-12-2011, 10:21 PM
ثمة أشخاص لا تدرك قرابتك بهم إلا بعد أن يغيبهم الموت، هم من ظلوا طيلة حياتهم منسيين في هامش حياتك، الذين كثيرا ما مررت بهم دون أن تسلم عليهم، الذين قليلا ما انشغلوا عنك بتفاصيل معيشهم اليومي.. ها هم يرحلون فجأة لتنتبه – كما لأول مرة – إلى المساحات الخالية منهم، وها أنت يكبر فيك الخواء وأنت تدرك أنهم من كانوا يؤثثون قلبك ويملؤون عينيك...




يا الله يالله يا الله

سامحك الله أستاذي الفاضل

قد فتحت جرحي من جديد

وهو لم يشفى بعد ولا أعتقده سيشفى


إلا بماء الإيمان بالصبر والتسليم بالقضاء وقدره


رحمك الله يا خالتي الحبيبة


أديبتنا الراقي نص يُكتب بماء الذهب


حماك الباري أيها الأصيل الرقيق

صفاء الزرقان
21-12-2011, 11:11 PM
هناك من هم في الغياب اقرب يسكنون حنايا الروح و الذاكرة .
ما اروع ان نكون غائبين حاضرين على ان نكون حاضرين غائبين
ان من يغيبون عنا بموتهم يعرون احدى جهاتنا على ريحٍ قوية
تعصف بعالمنا , لانهم كانوا بمثابة درعٍ يحمينا من كل ما نخاف .
يقـول واسيني الاعرج :
الناس الكبار دائما هكذا
لانعرف قيمتهم إلا عندما ينطفئون مخلفين وراءهم ظلمة كبيرة وحيرة وخسارة
لاتعوض وأسئلة تجرح الحلق والذاكرة !


عندما يموت شخص يشيخ كلُ من يحبّونه

لــٍ مريد البرغوثي
نصٌ رائعٌ بألمه
تحيتي و تقديري

خالد بناني
01-01-2012, 02:05 AM
المبدعة الفاضلة رنيم مصطفى
كل الود والتقدير على جميل مرورك البهي
دام لك الألق
..

محمد ذيب سليمان
01-01-2012, 03:18 PM
شكرا ايها الحبيب على هذا الشرح والتحليل

الدقيق لحلات النفس ساعة وداع وماهية احاسيسها

كنت تحلق دواخلنا وتقول ما نحس وما يعترينا والجميع

شكرا لك

وليد عارف الرشيد
01-01-2012, 07:11 PM
بارك الله بك على النص الذي أعتبره وجبةً لا بد منها كل حينٍ رغم مرارتها ... فقد ذكَّرت نفسي بما لا ينبغي ان تنساه ... فكنت بارعاً سيدي بالوصف والوقوف عند كل موقف بلغةٍ محترفةٍ وإحساسٍ راقٍ
بقي أن أقول : لك أسلوبٌ جذابٌ يشد القارئ حتى آخر حرفَّ
بوركت ودمت مبدعاً ومودتي

عايد راشد احمد
02-01-2012, 09:45 AM
السلام عليكم ورحمة الله

شاعرنا الفاضل

وانا أقرأ النص شعرت انه فليم تصويري لا كلمات مسطرة

بلاغة واقتدار في وصف اصعب حالات ممكن ان تمر بانسان

نص هو السهل الممتنع

راقني جدا مع ان المناسبة هي الموت

تقبل مروري وتحيتي

خالد بناني
11-01-2012, 02:47 PM
الفاضلة أماني عواد
سلمك الله من كل سوء
وأبقاك ذخرا وملاذا لكل أمة
كوني بخير دوما

د. سمير العمري
07-03-2012, 12:50 PM
نصك الإنساني عالي الحس هذا أثار مكامن الوجد في النفس وذكرني بما قلت يوما في نص لي أرصد هذه الثقافة العربية العجيبة التي لا تفتقد حتى تفقد ، ولا تجد للحي حق إلا بعد الموت. قلت حينها في سياق ما:

لِمَاذَا جَحَدْتِ حُضُورَكِ فِيَّا؟؟
لِمَاذَا تُصِرُّ العُرُوبَةُ فِيكِ
بِأَنَّ البُّطُوَلَةَ حَقٌّ لِمَيتِ
وَأَنَّ الثَّنَاءَ سِقَاءُ القُبُورِ
حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ بِبَيتِ
وَإِنِّي عَلَى الأَرضِ مَا زِلْتُ أَمْشِي
وَإِنْ كَانَ فِي صَدِّ قَلْبِكِ نَعْشِي
فَكَيفَ يَصِيرُ القَرِيبُ قَصِيَّا؟
وَكَيفَ يَصِيرُ الرَّشِيدُ غَوِيَّا؟
وَكَيفَ جَفَوتِ الحَبِيبَ الوَفِيَّا؟
دَعِينِي أَمُوتُ عَلَى رَاحَتَيكِ
يَدِي فِي يَدَيكِ
وَقَلْبِي مِنَ العِشْقِ يَهْوِي إِلَيكِ
وَيَومَ أَمُوتُ سَأُبْعَثُ حَيَّا


أشكر لك ما قرأت!

ودمت بخير وعافية!

وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

نداء غريب صبري
15-02-2014, 12:12 AM
لا نعثر عليهم فينا إلا عندما نفقدهم

نثر جميل وأسلوب ممتع

شكرا لك أخي

بوركت

ناديه محمد الجابي
09-04-2023, 02:31 PM
يقال إننا لا نشعر بقيمة الأشياء حقاً إلا بعد خسارتها، وهو ما لا يمكننا نكرانه،
أو نكران الشعور بألم الفقد والحنين أحياناً، وشيء من الفراغ الذي يتركه ذلك الشخص،
مهما كان حجمه أو قيمته.
نص بديع سامق القول بلغته وفلسفته ومحمول حرفه
بأسلوب متين وحرف معبر.
بوركت ـ ومتعك الله بأحبائك.
:009::008::009: