فائز حسن العوض
19-01-2012, 05:57 PM
http://a7.sphotos.ak.fbcdn.net/hphotos-ak-ash4/403138_364474486902432_100000196527644_1654804_175 6337279_n.jpg
الإبر المسمومة :
قصة قصيرة:
بعد خمسة عشر عاما أو يزيد من وفاة أبي سمحت لي أمي دخول غرفته لأول مرة... بعد رحيله المبكر ، وطوال سنوات غيابه كانت تغلق غرفته بالمفتاح دون أن تسمح لمخلوق ولا حتي أنا إبنه بدخولها، كانت تظن أن الوقت لم يحن بعد لذلك وكانت تتحجج بذهاب رائحته وعطره إذا دخلها الهواء مرة وإلى الأبد ، كان كتاب الشعر لفؤاد مطر مكفأ علي الطاولة وقد كان لا يفارق أبي أبداً والوحيد بين كتبه الذي سمح له بالنوم علي صدره !، وكان بيده حين وفاته ونزعوه منه لحظة الغسل فأخذته أمي ووضعته علي الطاولة عند الصفحة التى كان يقرأها،...
مثلما لشفة الإبريق المنسي طعم الأرض يعلو مع الماء...، أسمع صوت أبي حين يقرأ لينساب شعر نيرودا ، ....وكانت رائحة أبي تضمخ المكان وعلي الطاولة غليونه ولفافة تبغ الأمفورا رطبة كأنما جيء بها للتو من دكان التبغ ، وعلي طاولة المكتب وخلفها مكتبة الأبنوس وعليها منحوتة طائر صغير يفتح فمه لأمه وهي تقسم له ما في جوفها ، ...صرت أسمع صوتهما !! الي اليوم وأتذكر أبي ، وفي الركن البعيد للطاولة لوح شمع طويل بلون البحر الصافي أو لون السماء الصافية الشفافة وحساسيته وحرصه الاّ يزعج أحداً... ، كان يحرص علي وضع خيط اللهب فوق لوح الشمع بهدوء كما كان يتحرك على أمشاط أصابعه إذا جنّ الليل ، .. كنت معجباً بحزمة الشيب بمقدم رأسه كخيط دخان أبيض لسيجارة يرفض أن يغادر شعره في هدوء ، كانت أمي تقدّسه عشقاً وتقول أنّه نبي جاء يعلّم الناس رسالة !! ، أذكر أنهم حين حملوا النعش وهمّوا باخراجه من الباب كادت روح أمي تخرج مع الجثه !!، ظننت أن كل نسائنا يفعلن الشئ ذاته وأذكر إن الباب كان صغيراً لخروج النعش وسريره الخشبي ولأنني كنت أمسك بالعنقريب ولم أك أوده أن يرحل عنّا !!. فما كان من حملة النّعش الاّ أن لفّوه ببرش السعف الأبيض وحملوه خارجاً ثم أخرجوا سرير الخشب - العنقريب- ووضعوه علي الارض ثم وضعوا الجثمان عليه بعد أن قرأوا الفاتحة جميعاً قبل أن يدور حول ناصية الدار وللمرة الأخيرة ، نظرت لأمي وهي ترتجف مثل إنسان شقّوا صدره ونزعوا قلبه دون مخدّر!! ، لا شك إن فقده وقع عليها كالمصيبه التى تحل بالجسد كلّه ، .. أذكر أن ربطة العنق التى كانت تربطها له أمي وتجيد ربطها بعد أن علّمها كيفية ربطها علي الطريقة الأمريكية والإنجليزية والمصرية ولم أر أجمل منها علي عنق رجل خاصة تلك الحمراء علي قميصه الأبيض. أو تلك البنّية اللّون حيث يرتدي قميصه (البيج) ، كانت أمي تبدو سعيدة وهي تقوم بربطها وهو مستسلم كطفل صغير، كما كانت تحرص علي إختيار قمصانه كل يوم ساعة خروجه وتلمّع له أحذيته قبل خروجه بسعادة وكان يحب منها تلك الأشياء ، وكنت أعتقدها وهي تربط له ربطة العنق تلك كأنما تربطه إليها !! كانت تفكّها عدة مرات ثم تعيد ربطها دونما سبب ظاهر!! ، ... مرّة طلبت منه أن يربطها لي بعد أن ينزعها عن عنقه فلم يحلّها وإنما سحب عقدتها للخلف ونقلها لي لبضع ثوان ثم أعادها لصدره وهو يقول لي :- أمك تزعل !!!.
ذات مرّة وأنا صغير أذكر أني كنت أميل للصخب وكثرة الضحك وهو عكسي ... جاد ويبدو حزيناً في دواخله العبيدة ورغم سعادته بضحكي كان يقول لي في بعض الأحيان :-
خذ كل نضيبك من الدنيا في الضحك فغداً تغمر قلبك الأحزان !! وقد صدق فكان أول حزن غمر قلبي هو رحيله المبكر . رغم أن أمي كانت تقول دائماً انه موجود بيننا بروجه وأنه يزرونا كل أسبوع وانها تعرف ذلك بطريقة ما!! ، وانّ صورته المعلّقة تذكرني به لأنا لم ولن ننسه أبداً... كان رجلاً طقوسياً بكل معنى الكلمة ، للقراءة عنده طقوسها !... كان لا يشرب أية شيء وهو يقرأ ، ولا يقرأ وهو مستلقٍ علي سريره، يقول:- للقراءة قدسيّة ... كالصلاة تماماً ، ولذا فهو يقرأ بكامل ملابسه وهو جالس إلى الطاولة في أبهي أناقته كأنّه مدعو لحفل عرس وكنّا طوال الخمسة عشرة عاماً والتى تلت رحيله نقوم بنفس الأشياء كما تقوم بتنظيف مكتبه ثم تربط ربطة العنق علي مشبك الملابس كما كانت تفعلها له سابقاً وأحياناً كانت تقول للمشبكل لاتفكها والاّ قطعت عنقك!! ، أراها تفعل ذلك وأنا اتلصص عليها من خصاص الباب وظللت أنا أحادث صورته المعلّقة علي جدران الصالة وأطلب منها كل ما يخطر علي بالي فأجدها آخر اليوم!! ، ... عرفت أن أمي كانت تلبّي كل طلباتي مثل بابا نويل يأتي بالهدايا للفقراء ليلة عيد الميلاد، ظللت أشكر صورته أمامها ، كنّا سعداء بذلك الي اليوم ، عرفت ذلك بعد أن كبرت لأني طلبت من صورته بعض الأشياء ولم أجدها آخر النهار!! ، عرفت ذلك بعد رحيل أمي.
ساعة وضعوه علي السرير الخشبي للغسل أراد جارنا عثمان قطع ربطة العنق بمقص طويل حاد من الأستيل، لكن بكائي وتوسّلاتي التي تذيب الصخر عطفاً جعلته يغير رأية فنحّى المقص جانباً وحلّ ربطتها وسحبها بهدوء من العنق ، كان جسده رخواً ليناً ساعتها وكأنّه نائم، ثم فك أزرار القميص وسحبه بعد أن أخرج اليدين ثم سحبه من تحت الجسد ووضع القميص علي ذراعي الممدودة ووضع فوقه ربطة العنق الحمراء تحمل ذكري أبي وعمي عثمان بصنعته تلك التى أحفظها له كجميل لن أنساه له ماحييت.
حين مرضت أمي وشعرت بدنو أجلها ، قالت لي أبوك ترك لك خطاباً علي الطاولة ، إقرأه بنفسك ووحدك ثم دسّت مفتاح غرفته في يدي ونظرت لصورة أبي بابتسامة نحيلة. ثم علت ثغرها تلك الإبتسامة الشاحبة وقالت :- الحمد لله أكملت رسالتيورسالة أبوك !! ، وبرحيلها أصبحت يتيماً ووحيداً ، كنت أعمل لأعول نفسي وأصرف عليها وواصلت دراستي في الجامعة حتى التخرّج ، لم أجرؤ يوماً علي فتح غرفة أبي وقراءة خطابه الاّ بعد تخرجي ، دخلت غرفته وأنا أشعر بأني لن أغادرها كما دخلتها!! ، وأنّ معجزة بانتظاري ؟ ، ظللت أتجنبها سنوات طوال وأخيراً جرؤت.
علي طاولة المكتب كانت الورقة مطبّقة بشكل جيد، حقيقة تمنيت الاّ أفتحها لولا أنها ستظل تنتظرني ما حييت بعدما لم يعد بالبيت غيري ، اللهم إجعله خيراً ، وكأني أنزع سدادة جرة ظلت في أعماق البحر وغمرتها الطحالب، ليخرج الجن الحبيس فقد ولى زمان المعجزات وإن كان جنّاً محبوساً فسيترجاني أن أعيده للجرة بعد أن يكتشف تفاهة معجزات الجن مقارنة بمعجزات البشر الآن !!
فتحت الورقة بأصابع مرتجفة ومرتعشة من الخوف ، .. الخط الأنيق نفسه.. خطّه ... والعبارات الأنيقة والتهذيب له ، ..أتذكر حين كنت أقول لك غداً تغمر قلبك الأحزان؟! ، كنت أقولها في صدق وإشفاق مما سيصيبك!! ،.. سقطت الورقة عن يدي إلاّ أن قوة أكبر مني أمرتني بمتابعه القراءة فما قد كان حدث ولن تغيرّ فيه قراءتك للورقة أو عدمها فالله وحده يحفظك وإعلم إن الإنس والجن لو إجتمعوا علي أن يضروك بشي لن يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك . رفعت الأقلام وجفّت الصحف.والخير فيما يختاره الله إمض ... إمضٍ،... كنت وبكل صدق أتمنى أن تكون إبني من صلبي ... ولكن ...
إبن من أنا إذاً ؟ََ!!
- ولولا معرفتي بأن أبي لا يكذب لما صدقّته مهما حلف - ، بامكاني ان أذهب بسري وسرك للقبر وأتحمّل وحدي عذاب الضمير وحتي عذاب الآخرة رغم علمي بأن الله غفور رحيم . لكن شيئاً في داخلي قال لي عشت حياتك بالصدق فاختمها بالصدق مهما كانت النتيجة. لقد شاورت أمك فوافقت علي الأمر . كن رجلاً وواجه مصيبتك بشجاعة وابحث عن والدك الحقيقي فأنا أعرفه حتي لا تحقد عليه فكلنا بشر وكلنّا خطَّاء ، إفعل الخير للناس فهم سذّج بسطاء يعصون الله خالقهم . اللهم هل بلغت فاشهد. لقد صدق حدثي حين قال لي غداً تغمر قلبك الأحزان لأنها غمرته كمطر منتصف الخريف ويسمّها أهلنا- الطرفة الباكية- لأنها ما تنفك أو تتوقف عن البكاء ... مطراً كالاسلاك والخيوط الحريرية الناعمة كالإبر وهي تنقر الجسد برؤوسها الحادة كما تنقر الفراخ أواني الأكل المسماة بالأكّالات ، لكنها بعد أن تنغرس في الجسد تغوص فيه حتي إذا ما دخلته لا تكتفي بذلك بل تبدأ رحله السباحة حتى تصل القلب ذات يوم.
بقلم:- فائز حسن العوض
الإبر المسمومة :
قصة قصيرة:
بعد خمسة عشر عاما أو يزيد من وفاة أبي سمحت لي أمي دخول غرفته لأول مرة... بعد رحيله المبكر ، وطوال سنوات غيابه كانت تغلق غرفته بالمفتاح دون أن تسمح لمخلوق ولا حتي أنا إبنه بدخولها، كانت تظن أن الوقت لم يحن بعد لذلك وكانت تتحجج بذهاب رائحته وعطره إذا دخلها الهواء مرة وإلى الأبد ، كان كتاب الشعر لفؤاد مطر مكفأ علي الطاولة وقد كان لا يفارق أبي أبداً والوحيد بين كتبه الذي سمح له بالنوم علي صدره !، وكان بيده حين وفاته ونزعوه منه لحظة الغسل فأخذته أمي ووضعته علي الطاولة عند الصفحة التى كان يقرأها،...
مثلما لشفة الإبريق المنسي طعم الأرض يعلو مع الماء...، أسمع صوت أبي حين يقرأ لينساب شعر نيرودا ، ....وكانت رائحة أبي تضمخ المكان وعلي الطاولة غليونه ولفافة تبغ الأمفورا رطبة كأنما جيء بها للتو من دكان التبغ ، وعلي طاولة المكتب وخلفها مكتبة الأبنوس وعليها منحوتة طائر صغير يفتح فمه لأمه وهي تقسم له ما في جوفها ، ...صرت أسمع صوتهما !! الي اليوم وأتذكر أبي ، وفي الركن البعيد للطاولة لوح شمع طويل بلون البحر الصافي أو لون السماء الصافية الشفافة وحساسيته وحرصه الاّ يزعج أحداً... ، كان يحرص علي وضع خيط اللهب فوق لوح الشمع بهدوء كما كان يتحرك على أمشاط أصابعه إذا جنّ الليل ، .. كنت معجباً بحزمة الشيب بمقدم رأسه كخيط دخان أبيض لسيجارة يرفض أن يغادر شعره في هدوء ، كانت أمي تقدّسه عشقاً وتقول أنّه نبي جاء يعلّم الناس رسالة !! ، أذكر أنهم حين حملوا النعش وهمّوا باخراجه من الباب كادت روح أمي تخرج مع الجثه !!، ظننت أن كل نسائنا يفعلن الشئ ذاته وأذكر إن الباب كان صغيراً لخروج النعش وسريره الخشبي ولأنني كنت أمسك بالعنقريب ولم أك أوده أن يرحل عنّا !!. فما كان من حملة النّعش الاّ أن لفّوه ببرش السعف الأبيض وحملوه خارجاً ثم أخرجوا سرير الخشب - العنقريب- ووضعوه علي الارض ثم وضعوا الجثمان عليه بعد أن قرأوا الفاتحة جميعاً قبل أن يدور حول ناصية الدار وللمرة الأخيرة ، نظرت لأمي وهي ترتجف مثل إنسان شقّوا صدره ونزعوا قلبه دون مخدّر!! ، لا شك إن فقده وقع عليها كالمصيبه التى تحل بالجسد كلّه ، .. أذكر أن ربطة العنق التى كانت تربطها له أمي وتجيد ربطها بعد أن علّمها كيفية ربطها علي الطريقة الأمريكية والإنجليزية والمصرية ولم أر أجمل منها علي عنق رجل خاصة تلك الحمراء علي قميصه الأبيض. أو تلك البنّية اللّون حيث يرتدي قميصه (البيج) ، كانت أمي تبدو سعيدة وهي تقوم بربطها وهو مستسلم كطفل صغير، كما كانت تحرص علي إختيار قمصانه كل يوم ساعة خروجه وتلمّع له أحذيته قبل خروجه بسعادة وكان يحب منها تلك الأشياء ، وكنت أعتقدها وهي تربط له ربطة العنق تلك كأنما تربطه إليها !! كانت تفكّها عدة مرات ثم تعيد ربطها دونما سبب ظاهر!! ، ... مرّة طلبت منه أن يربطها لي بعد أن ينزعها عن عنقه فلم يحلّها وإنما سحب عقدتها للخلف ونقلها لي لبضع ثوان ثم أعادها لصدره وهو يقول لي :- أمك تزعل !!!.
ذات مرّة وأنا صغير أذكر أني كنت أميل للصخب وكثرة الضحك وهو عكسي ... جاد ويبدو حزيناً في دواخله العبيدة ورغم سعادته بضحكي كان يقول لي في بعض الأحيان :-
خذ كل نضيبك من الدنيا في الضحك فغداً تغمر قلبك الأحزان !! وقد صدق فكان أول حزن غمر قلبي هو رحيله المبكر . رغم أن أمي كانت تقول دائماً انه موجود بيننا بروجه وأنه يزرونا كل أسبوع وانها تعرف ذلك بطريقة ما!! ، وانّ صورته المعلّقة تذكرني به لأنا لم ولن ننسه أبداً... كان رجلاً طقوسياً بكل معنى الكلمة ، للقراءة عنده طقوسها !... كان لا يشرب أية شيء وهو يقرأ ، ولا يقرأ وهو مستلقٍ علي سريره، يقول:- للقراءة قدسيّة ... كالصلاة تماماً ، ولذا فهو يقرأ بكامل ملابسه وهو جالس إلى الطاولة في أبهي أناقته كأنّه مدعو لحفل عرس وكنّا طوال الخمسة عشرة عاماً والتى تلت رحيله نقوم بنفس الأشياء كما تقوم بتنظيف مكتبه ثم تربط ربطة العنق علي مشبك الملابس كما كانت تفعلها له سابقاً وأحياناً كانت تقول للمشبكل لاتفكها والاّ قطعت عنقك!! ، أراها تفعل ذلك وأنا اتلصص عليها من خصاص الباب وظللت أنا أحادث صورته المعلّقة علي جدران الصالة وأطلب منها كل ما يخطر علي بالي فأجدها آخر اليوم!! ، ... عرفت أن أمي كانت تلبّي كل طلباتي مثل بابا نويل يأتي بالهدايا للفقراء ليلة عيد الميلاد، ظللت أشكر صورته أمامها ، كنّا سعداء بذلك الي اليوم ، عرفت ذلك بعد أن كبرت لأني طلبت من صورته بعض الأشياء ولم أجدها آخر النهار!! ، عرفت ذلك بعد رحيل أمي.
ساعة وضعوه علي السرير الخشبي للغسل أراد جارنا عثمان قطع ربطة العنق بمقص طويل حاد من الأستيل، لكن بكائي وتوسّلاتي التي تذيب الصخر عطفاً جعلته يغير رأية فنحّى المقص جانباً وحلّ ربطتها وسحبها بهدوء من العنق ، كان جسده رخواً ليناً ساعتها وكأنّه نائم، ثم فك أزرار القميص وسحبه بعد أن أخرج اليدين ثم سحبه من تحت الجسد ووضع القميص علي ذراعي الممدودة ووضع فوقه ربطة العنق الحمراء تحمل ذكري أبي وعمي عثمان بصنعته تلك التى أحفظها له كجميل لن أنساه له ماحييت.
حين مرضت أمي وشعرت بدنو أجلها ، قالت لي أبوك ترك لك خطاباً علي الطاولة ، إقرأه بنفسك ووحدك ثم دسّت مفتاح غرفته في يدي ونظرت لصورة أبي بابتسامة نحيلة. ثم علت ثغرها تلك الإبتسامة الشاحبة وقالت :- الحمد لله أكملت رسالتيورسالة أبوك !! ، وبرحيلها أصبحت يتيماً ووحيداً ، كنت أعمل لأعول نفسي وأصرف عليها وواصلت دراستي في الجامعة حتى التخرّج ، لم أجرؤ يوماً علي فتح غرفة أبي وقراءة خطابه الاّ بعد تخرجي ، دخلت غرفته وأنا أشعر بأني لن أغادرها كما دخلتها!! ، وأنّ معجزة بانتظاري ؟ ، ظللت أتجنبها سنوات طوال وأخيراً جرؤت.
علي طاولة المكتب كانت الورقة مطبّقة بشكل جيد، حقيقة تمنيت الاّ أفتحها لولا أنها ستظل تنتظرني ما حييت بعدما لم يعد بالبيت غيري ، اللهم إجعله خيراً ، وكأني أنزع سدادة جرة ظلت في أعماق البحر وغمرتها الطحالب، ليخرج الجن الحبيس فقد ولى زمان المعجزات وإن كان جنّاً محبوساً فسيترجاني أن أعيده للجرة بعد أن يكتشف تفاهة معجزات الجن مقارنة بمعجزات البشر الآن !!
فتحت الورقة بأصابع مرتجفة ومرتعشة من الخوف ، .. الخط الأنيق نفسه.. خطّه ... والعبارات الأنيقة والتهذيب له ، ..أتذكر حين كنت أقول لك غداً تغمر قلبك الأحزان؟! ، كنت أقولها في صدق وإشفاق مما سيصيبك!! ،.. سقطت الورقة عن يدي إلاّ أن قوة أكبر مني أمرتني بمتابعه القراءة فما قد كان حدث ولن تغيرّ فيه قراءتك للورقة أو عدمها فالله وحده يحفظك وإعلم إن الإنس والجن لو إجتمعوا علي أن يضروك بشي لن يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك . رفعت الأقلام وجفّت الصحف.والخير فيما يختاره الله إمض ... إمضٍ،... كنت وبكل صدق أتمنى أن تكون إبني من صلبي ... ولكن ...
إبن من أنا إذاً ؟ََ!!
- ولولا معرفتي بأن أبي لا يكذب لما صدقّته مهما حلف - ، بامكاني ان أذهب بسري وسرك للقبر وأتحمّل وحدي عذاب الضمير وحتي عذاب الآخرة رغم علمي بأن الله غفور رحيم . لكن شيئاً في داخلي قال لي عشت حياتك بالصدق فاختمها بالصدق مهما كانت النتيجة. لقد شاورت أمك فوافقت علي الأمر . كن رجلاً وواجه مصيبتك بشجاعة وابحث عن والدك الحقيقي فأنا أعرفه حتي لا تحقد عليه فكلنا بشر وكلنّا خطَّاء ، إفعل الخير للناس فهم سذّج بسطاء يعصون الله خالقهم . اللهم هل بلغت فاشهد. لقد صدق حدثي حين قال لي غداً تغمر قلبك الأحزان لأنها غمرته كمطر منتصف الخريف ويسمّها أهلنا- الطرفة الباكية- لأنها ما تنفك أو تتوقف عن البكاء ... مطراً كالاسلاك والخيوط الحريرية الناعمة كالإبر وهي تنقر الجسد برؤوسها الحادة كما تنقر الفراخ أواني الأكل المسماة بالأكّالات ، لكنها بعد أن تنغرس في الجسد تغوص فيه حتي إذا ما دخلته لا تكتفي بذلك بل تبدأ رحله السباحة حتى تصل القلب ذات يوم.
بقلم:- فائز حسن العوض