تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : البــــــاب الأزرق (حلم قصير)



حميد العمراوي
28-01-2012, 03:33 AM
البــــــاب الأزرق



يجلسون في زمر صغيرة، يسامرون ليلا صيفيا طويلا و القمر ينير سماء صافية، يتبادلون أحاديث عادية، يدندنون ألحانا و أغاني، و تعلو ضحكاتهم بين الفينة و الأخرى…
منهم من يعدون وجبات للأكل بسيطةً يتقاسمونها، و آخرون يطوفون عليهم بأكواب من (الشاي)، و منهم واقفون يدخنون تبغا رديئا، ومنهم من يستمتع فقط باستراحة هادئة لم يسبقها أبدا عمل مضنٍ…

رجال كلهم بملامح باهتة… في زنزانات مشرعة الأبــواب، غير موصدة، بلا أبراج للمراقبة أو أسلاك شائكة…
مساجين هؤلاء إذن! و سجانهم هناك قبالتهم، يجلس في العـراء، صامت يراقب ترقرقَ الماء تحته و يراقبهـم..
لا يتكلم و لا يسمح لنفسه أن يشاركهم شيئا... و خلفه جدار واطئ، له باب حديدي لا يعرف أحد جدواه… الباب أزرق غير محكم الإغلاق، و وجوده هناك يثير فضول الحارس، لكنه لم يحاول يوما فتحه.. رغم أن عيون الرجال لا تنفك تتأمله بشغف، و هم يشيرون إليه في أحاديثهم.

للحارس حكاية صمت طويل… يمضي جل وقته سارحا في خيالاته، قرب جدول ماء لا يُتعب تفكيره ليفهم من أين منبعه، و لا أين مصبه.. يكتفي بالجلوس على صخرة و رجلاه مغمورتين بالماء الذي يجري عذبا زلالا.. يراقبهم و يتتبع حركاتهم، و يتساءل في نفسه: من هؤلاء؟ و ماذا يفعلون هنا؟
و ما هذا المكان! جدران قصيرة و ماء في غير محله وغرباء.. و صمته لا يجدي في الإجابة عن أي سؤال: يحرسهم أم يحرسونه!.. و هل حقا يحتاج هؤلاء حارسا لهم؟.. فهم مستسلمون جدا لسجنهم! لا بل هم به سعداء، هادئون في غرفهم المفتوحة على السماء، يتجولون بحرية تامة في أرجاء المكان، و لا يعيرون وجوده اهتماما…

كان الوقت فجرا، حين تعالت أصوات المآذن في الجوار.. أصوات تكسر رتابة الليل وتسحب بعض الحالمين من أحلامهم.. و لا يبلغ صداها من أفرط في السهر منهم.. يكتفون بمداعبة نوم لذيذ تحت سماء حالمة...
هب معظم الرجالِ النائمين، يتبادلون تحيات صباحية و ضحكات شبه ناعسة، يكشفون عن سواعدهم و يتواردون زرافات على الجدول، لكل واحد منهم إناء يغرف به الماء للوضوء..
والحارسُ الساهرُ ليلُه.. المطبقُ عليه صمته، تعفيه السماء من الأحلام و تغرقه في خيالات ترتسم على وجه الماء - حين ينكسر على صفحته نورُ القمر- و قد اكتحل بالأزرق و تحمم بغبش من الفجر… استجمع شيئا من حضوره و كأنه يهم بالوضوء لكنه لم يجد له آنية، فتقدم إليه أحد الرجال و ناوله إناءه بعد أن فرغ منه… استلمه منه دون أن ينبسا بكلمة و شرع يتوضأ و الغريب يراقبه و يبتسم.

اصطف الرجال للصلاة كأنهم في مسجد أُسس بنيانه في العراء… إلا الحارسَ وقف إلى يمينهم و آثر أن يقيم صلاته وحده، و تفاجأ أنه اتخذ الباب الأزرق قبلة له، دون قصد منه، و حينها أدرك أن الأسئلة التي تحيره ستفسد عليه خشوعه، فصلاته - مهما حاول - لن تمنعه من التفكر مرة أخرى في جدوى الباب… لكن قد فات أوان تغيير القبلة…
أنهى الرجال السجناء صلاتهم و بسرعة انفضت الصفوف وراحوا يتبادلون أحاديث الصباح، و يتجولون في المكان فرادى و جماعات، كأنهم يستعدون لعمل ما..
و عاد الحارس لصخرته و خيالاتِه التي تسمرت تنتظره على وجه الماء..
و ما إن سرح قليلا حتى سمع صراخا و جلبة: " أوقفوه! أوقفوه! أغلقوا الباب الأزرق!".. ذعر الحارس و انتفض من مكانه يجري.. كان الباب مشرعا ورجل يقف على عتبته، هو نفسه الذي أعطاه آنية الوضوء.. ومرة أخرى كان يبتسم ملء وجهه و يرمقه بنظرة غريبة تشع فرحا و جلالا.. و ما إن وصل إليه حتى اختفى خلف المجهول...
تنازعت الحارس مشاعر الخوف و الدهشة و حيرةٌ طاغية، التفت إلى الرجال فاذا هم ينصرفون واحدا تلو الآخر.. منهم من يتأسف و منهم سعداء يتبادلون التهاني و يثنون على شجاعة صديقهم، و سمعهم يقولون: " لقد فعلها.. اجتاز باب الحرية الأزرق"
تعاظم فضوله و تناهشته حيرته و خيالاته و هو يحاول أن يفهم إلى أين يؤدي هذا الباب، فأطل برأسه من خلاله… و بسرعة تولى مدبرا بعد أن أحكم إغلاقه... و عاد لصخرته… و دهشة كبرى تعتريه.

هـــاوية سحيقة خلف الباب الأزرق، و ظلام و ظلال… جلس هذه المرة على صخرة أخرى ليتجرع حقيقة أغرب من كل خيالاته و ما عاد يحفل بالماء.. بعد أن اكتشف أخيرا أنه حارس لسجن في سطح بناية شاهقة...
لكن دهشته الكبرى كانت سؤالا كاد يكسر صمته الطويل بعويل و صراخ: لماذا كان صاحب الإناء يبتسم و لماذا يسمونه باب الحرية الأزرق؟!

كاملة بدارنه
28-01-2012, 05:22 AM
و تفاجأ أنه اتخذ الباب الأزرق قبلة له، دون قصد منه،
جملة رائعة ! زادت من تماسك النّصّ ، ووضّحت علاقة العنوان بالأحداث
قصّة تعكس معاناة السّجان أكثر من السّجين، وهذا لم نعهده كثيرا في الكتابات، فغالبا ما يبدو السّجان الشّخصيّة الباطشة القاسية، والعين المراقبة التي لا يجوز لها أن تغفل
قصّة جميلة أخ حميد بحبكة قويّة
تقديري وتحيّتي

صفاء الزرقان
31-01-2012, 12:08 AM
قصة رائعة غنية بالرموز و الدلالات التي تم توظيفها بذكاء لتخدم النص

بداية من العنوان "باب" و كأن الباب يمثل معبراً للانتقال لعالم الحرية المرجوة و هو لم يكن محكم الاغلاق فالحرية

قريبة منا لكننا لا ندرك كذلك كما هو حال الباب هنا .

و اللون "الازرق" لون السماء و الماء و هما من اكثر الاشياء ارتباطاً بالحرية " تحليق و إبحارٌ و ارتواء " .


ذكرتني قصتك بجملة لعدنان الصائغ


"أطرقُ باباً.. أفتحهُ.. لا أبصر إلا نفسي باباً.. أفتحهُ.. أدخلُ.. لا شيء سوى باب آخر.. يا ربي.. كم باباً يفصلني عني! "

http://https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?p=659973#post659973
نص فيه الكثير استاذ حميد ابدعت حقاً
قدرة سردية رائعة و اهتمام بالتفاصيل , ستبدع في كتابة الرواية اتمنى ان ارى لك رواية قريبا
تحيتي و تقديري

ربيع بن المدني السملالي
31-01-2012, 12:33 AM
الأديب الجميل ( حميد ) قصّة رائعة ، وفكرة متميّزة ، ولغة متماسكة ، أحيّيك أخي بارك الله فيك ..
دمت ودام إبداعك الهادف
تحيتي الخالصة

نادية بوغرارة
31-01-2012, 10:50 AM
قصة فيها من الرمزية الكثير ، و اشتملت على مجموعة من التناقضات الباعثة عل التأمل

و التفكّر، بل تكاد تبدو بعض الأفكار فيها غير منطقية و تحتاج لفك (شيفرتها) ،

و هذا يناسب ماجاء في العنوان (حلم قصير) و بالتالي يفسّر بعض الضبابية الكامنة في القصة .

لكن الكاتب لم يبخل علبنا بإزالة الغموض عبر إضافة عبارات كاشفة ،

فمثلا يقف القارئ عند الجملة التالية :

" رجال كلهم بملامح باهتة… في زنزانات مشرعة الأبــواب، غير موصدة، بلا أبراج للمراقبة أو أسلاك شائكة "

و يشعر بتناقض بين وجود الرجال في زنزانات ، و بالوقت نفسه لا مراقبة و لا أبراج ،

و أبواب الزنزانات مفتوحة ،

لكن حين يصل القارئ إلى :

"هـــاوية سحيقة خلف الباب الأزرق،...
و ظلام و ظلال اكتشف أخيرا أنه حارس لسجن في سطح بناية شاهقة..."

يخلُص إلى أنه لا جدوى من الحراسة الشديدة و غلق الأبواب ، مادام الفرار منها لا يعني سوى السقوط في الهاوية ؟؟

لم يكن السجّان يعرف هذه الحقيقة ، و لكنه حين تفقد الباب و هاله ما اكتشفه ، أغلق الباب الحديدي

الأزرق و أحكم إغلاقه ، و قد تكون في هذا إشارة إلى حرصه على الآخرين كي لا يسقطوا كما سقط صاحبهم .

لكن ؟؟ كيف يكون بابا للحرية و هو يؤدّي إلى الهاوية ؟؟

هنا خطر لي أن تكون نظرة أبطال القصة للباب نظرة متباينة ،تؤيد ذلك الفقرة التالية :

" منهم من يتأسف و منهم سعداء يتبادلون التهاني و يثنون على شجاعة صديقهم، و سمعهم يقولون:
" لقد فعلها.. اجتاز باب الحرية الأزرق"

فمن تأسف كان يعتبر الباب بابا للموت ، و فقد للأصحاب و قد حاولوا منع ذلك حين صرخوا :

" أوقفوه! أوقفوه! أغلقوا الباب الأزرق!".

و من غمرتهم السعادة و تبادلوا التهاني ، كانوا يعتبرونه بابا للإنعتاق و الخلاص ،

أو بابا للاستشهاد يفرحون لمن مرّ منه .

و من أثنوا على شجاعة صاحبهم ، كان الباب عندهم عنوان التحدّي لا يمر منه إلا الأقوياء الشجعان ،

يتحررون من خوفهم و سكونهم و رتابة أيامهم إلى زرقة الفسحة و فضاء الحرية.

أما الحارس المتأمل السارح بأفكاره الصامت أبدا ، فقد كان الباب يشغل تفكيره من دون أن يشعر

بذلك ، و يدل على هذا ما ذكره الكاتب :

" و تفاجأ أنه اتخذ الباب الأزرق قبلة له، دون قصد منه، و حينها أدرك أن الأسئلة التي تحيره ستفسد عليه خشوعه،
فصلاته - مهما حاول - لن تمنعه من التفكر مرة أخرى في جدوى الباب "

ما جدوى باب غير محكم الإغلاق لا يمر منه أحد ، رغم أن المساجين قادرون على ذلك ؟؟!!

القصة في مجملها تعجّ برمزية عالية ، و مفارقات كثيرة ، و متخمة بأبواب التأويل الواسعة ،

و تستحق التأمل فيها و تقليب النظر في سطورها ، و قد ركزتُ في ردي على عنصر الباب الأزرق

الذي ورد في العنوان و هو محور القصة / الحلم ، و ماتزال هناك العديد من الإشارات المستفزة

لتركيز النظر فيها مثل

جدول الماء / الوجوه الباهتة / صوت الأذان / القِبلة / ابتسامة صاحب الإناء / الصخرة ...

هي قصة ممتعة مشوّقة بدا فيها مجهود الكاتب واضحا لسبك عناصرها ، و جعلها

تشبه ما يراه النائم في منامه أحيانا .
========

القاص و الأديب حميد العمراوي ،

خـيـرا رأيــت ،

و شكرا لك إذ جعلتنا نشاطر معك تعبير هذا الحلم الذي فيه من العِلْم الكثير .

دمتَ .

ربيحة الرفاعي
31-01-2012, 11:18 PM
قصة جميلة أجاد كاتبنا ولوج مسرح أحداثها بذكاء فأمسك بالقاريء ابتداء من العنوان برمزيته المرتبطة في الأذهان بتاويل سريع يوجه الفكرة لمعاني السمو والانطلاق والحرية، ومرورا بتفاصيل وظفت الرموز فيها بتمكن وعولجت فكرتها بذكاء

حبكة جميلة وسبك متين ولغة طيبة ونص رائق فعلا

احسنت أديبنا

تحاياي

فايدة حسن
03-02-2012, 09:49 AM
جعلت صباحي أجمل بقراءة هذه القصة الرائعة والمميزة بأسلوبها وترابطها
أبدعت معنا ومبنا
سلم نبض حرفك

حميد العمراوي
06-02-2012, 04:22 PM
شكرا لكم أساتذتي
أخجل من كرمكم و شحي..
التمسوا لي عذرا
و أنتم أهل الكرم

حميد العمراوي
09-02-2012, 06:19 PM
كاملة بدارنه
صفاء الزرقان
ربيع بن المدني السملالي
نادية بوغرارة
ربيحة الرفاعي
راوية رشيدي

شكرا لكم مرة أخرى
لا أجد كلمات توفيكم حق التشجيع
و قد ارتأيت أن اشارككم ابداعاتم في ما يتاح لي من وقت
فتقبلوني
تحياتي لكم و احترامي و محبتي

آمال المصري
25-06-2013, 03:09 PM
ماتعة جميلتك بلغتها الأنيقة وفكرتها وترابط بنائها وماتحمل من رمزية
سعدت بمعانقتها أديبنا الرائع
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

نداء غريب صبري
08-08-2013, 01:20 PM
قصة جميلة فكرتها أعجبتني والرمز المستئع
امتعتني قراءتها

عيدك مبارك وطاعاتك مقبولة إن شاء الله
بوركتخدم فيها قوي وتعبيره را

ناديه محمد الجابي
20-08-2013, 08:27 PM
قصة جميلة صيغت برمزية عالية .. ممتعة مشوقة
أبداع وتألق في الصياغة والحبكة ولغة متينة قوية
بديعة بسردها الشائق وجمال تصوير مشهدها.
دمت مبدعا.

لانا عبد الستار
08-09-2013, 07:52 PM
قصة جميلة جدا
وأسلوب رمزي رائع أعجبت به
وسرد مشوق
أشكرك

د. سمير العمري
21-09-2013, 04:34 PM
نص قصصي جاء بلغة مميزة يعرف بها حميد وبأسلوب متماسك وبرمزية مغرقة لا تكشف إلا عن قليل دلالات.
لعلني رأيت في الحارس الخوف في النفوس وفي السجن ما ينتج عنه من خشية ورغبة في السجن داخل سراديب النفس من مواجهة الضوء بخروج لا يمنعه باب مغلق ولا برج مراقبة.

تقديري