تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قمر قصة قصيرة حمادي بلخشين



حمادي بلخشين
08-02-2012, 02:13 PM
قمر


لم تكن صدمتي شديدة حين أبلغني صديقي مروان شكري بهجران زوجته ليليان له، قبل مضيّ شهر واحد من إفلاس شركته ..

كان مروان و ليليان بالنسبة الى كثير من الناس مثال الزوجين السعيدين. كما كانا ايضا مصدر إزعاج بالنسبة لي لإتخاذ زوجتي منهما معيارا لما يجب أن يكون سلوك الزوج تجاه زوجته. لأجل ذلك، لم تكن زوجتي تدع فرصة واحدة لتعييري بالهدايا التي كان صديقي مروان شكري يمنحها زوجته ليليان بمناسبة و بغير مناسبة، للإستدلال على حبه و هيامه بها،من ذلك أنه كان يحتفل سنويا بذكرى أوّل لقاء لهما،و ذكرى خطبتهما وذكرى زواجهما، و ذكرى عيد ميلادها، و ذكرى...

ذات مرّة، حدث بيننا شجار كاد يأتي على حياتنا الزوجية من القواعد، حين فاجأتني زوجتي و هي تطالبني (و قد مرّ أسبوع واحد على تلقّيها هدية ثمينة) بهدية أخرى بمناسبة عيد الحب العالمي (فالنتين!) و ذلك أسوة بما تلقته ليليان بالمناسبة.

كلما شكى لي صديقي مروان شكري ما كانت تكلّفه تلك الهدايا الزوجيّة المتتابعة من أموال باهضة، كان يقفز الى ذهني مثل عربي يقول "لا خير في ودّ يكون بشافع" خصوصا، و قد كنت على علم بعلاقات زوجته المتعدّدة، حتى انني هممت لأكثر من مناسبة بتنبيهه الى ذلك، غير انني كنت أجبن في كل مرّة رحمة لأطفال صغار سيتضرّرون حتما في صورة إنهيار أسرة صديقي مروان شكري و تفرّق ربّانيها.

ليست الخيانة هي ما أثأر دهشتي في قضية الحال، فلصديقي أيضا خطاياه التي طالما عزّزت إيماني بقول الحقّ تعالى( الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات)... الذي أدهشني في الأمر، هو قلة صبر زوجته ليليان و مسارعتها الى فصم عرى الزوجيّة فور افلاس الرجل، دون مراعاة للحالة المأساوية التي يمرّ بها زوج طالما
أحسن إليها.

ما حدث اليوم لصديقي مروان شكري من جحود و خيانة من قبل عشيرته المدلّلة ليليان، ذكّرني بقصّة حقيقيةّ سمعت بداياتها من والديّ، و شهدت خاتمتها و غريب أطوارها بنفسي . و هاكم موجزها.

ـــ 2 ـــ

لأكثر من ستين عاما، ظلّ حسن و قمر زوجين سعيدين متلازمين "حتى قيل لن يتفرّقا"..
تحمّل حسن تضييقات عائلته، و أبى تطليق قمر بسبب عقمها، كما رفض الزواج بأخرى في وجودها.
كان ردّه الدائم :" لا يهمّني لو متّ دون أن أخلّف عقبا يحمل اسمي" ..ثم يعقّب ضاحكا:" ليبق منصب ولاية العهد شاغرا!".
كان حسن يذكّر كل من نصحه بترك قمر، بأن الأخيرة قد فضّلته على أغنى شباب البلدة، و قبلت أن تعيش معه على الكفاف، و هي التي تعوّدت على العيش الرغيد :" لم تكن و هي تقبل بي قرينا، تعلم بأنها ستحرم من نعمة الأمومة"
حين يشدّد عليه الحصار، كان حسن يردّ بإصرار شديد:" لن أكون شرّ الشريكين... هي تنازلت عن المال في سبيل حبّنا.. وها أنذا أتنازل عن البنين في سبيل حبّنا أيضا ".

ضربت قمر بدورها مثلا أعلى للوفاء، حين رفضت الزواج ثانية بأغنى و أوسم وجهاء البلدة، بعد مضيّ سبع سنوات كاملة يئس خلالها الجميع من عودة زوجها حسن من تجنيد إجباري بفرنسا طوال الحرب العالمية الثانية.. كانت دائما تصرّ على القول، بأن زوجها لا يزال على قيد الحياة، رغم إصرار رفيق سلاحه و صديق طفولته بأنه قد عاين أسم حسن ضمن قائمة المفقودين، و المفقود في الحرب و كما هو معلوم، يعدّ في أغلب الحالات من بين القتلى.. كانت قمر تردّ عن المشككين في موت حسن بثقة كبيرة جلبت لها خشية البعض من جنون شامل سيعتريها قريبا:" لا يمكن أن يموت حسن، ثم تبقى قمر على قيد الحياة كل هاته المدّة الطويلة..هذا لا يمكن أبدا "!

هكذا ظلت قمر تصر على اصرارها العجيب، الى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، و عاد الغائب الى أهله!

إكتملت سعادة حسن و قمر، حين حدث أيضا ما لم يكن في الحسبان، أي حين رزقا بأسماء: بنت جميلة جاءت بعد عشرين عاما من زواج سعيد.

حين بدأت أعقل، وجدت أسماء تكبرني بخمس سنين .. رغم فارق السن فقد دخلنا المدرسة معا... حين بدأت أهتم بها كأنثى، وجدتها تتزوّج ثم تغادر حيّنا.

ظللت مجاورا لخالتي قمر وعم حسن لعقود طويلة شببت خلالها ثم اكملت دراستي و تزوجت ثم أكتهلت..

كثرة الأمراض التي كان تعتاد خالتي قمر، جعلت الجميع يرجّح رحيلها قبل شريك حياتها، لكننا فوجئنا ذات صباح برحيل عم حسن إثر سكتة قلبيّة نقلته الى المعسكر الآخر... كنت كجار ثم كطبيب للأسرة ،أول الداخلين على خالتي قمر للتأكّد من وفاة الرجل الطيّب.

كان الذهول يغلف السيدة العجوز من رأسها الى أخمص قدميها.

خلال عملية تجهيز الميت، و رغم حضورها الذهنيّ، كانت خالتى قمر في شغل تامّ للردّ على ما يحثها على الصبر الجميل..

لما كنت أقرب الجيران إلى رفيقة طفولتي أسماء، فقد قدّرت أن من غير اللائق اخبارها هاتفيا بما حدث، لأجل ذلك كلّفت نفسي عبء التنقل الى أقصى المدينة للقيام بتلك المهمّة البغيضة !

ــــ3 ـــ

بعد نصف ساعة من مغادرتي، دنت خالتي قمر من زوجتي ـ و كانت من أقرب الناس إليها ـ ثم استاذنتها بصوت هامس: " أريد أن أرتاح الى جانب عمك حسن"قالت ذلك ثم دبّت متبوعة بزوجتي نحو غرفة النوم حيث اضطجعت الى جانب جثمان فقيدها، راجية تركها بعض الوقت.

لم تمض أكثر من مصف ساعة على دخول خالتي قمر على زوجها، حتى جاء من يطالب زوجتي( باعتبارها ممثلة جارتنا العجوز) بالدفتر العائلي الذي سيمكّن من استخراج رخصة دفن عم حسن.. حين دخلت زوجتي على خالتي قمر ثم حركتها لتدلّها على موضع الوثيقة المذكورة، وجدتها قد فارقت الحياة بينما كانت يمناها قابضة على يمنى زوجها!

ـــ 4ــ

كنت قد فرغت من نقل الخبر إلى رفيقة طفولتي أسماء، حين رنّ هاتفي الجوّال..كانت زوجتي، تصيح بي:" آلو سامي..." صحت متألما" ماذا قلت؟... إنا لله و إنا إليه راجعون... هاك بلّغيها بنفسك.."
أضفت و أنا أسلّم أسماء هاتفي الجوّال:" آسف أسماء... وهذا نصف الخبر الآخر !"

حدث ذلك قبل عشر سنين.

رحم الله خالتي قمر، لقد عاشت و ماتت دون أن تدري هل أن فالنتين إسم إنسان أو ماركة معجون أسنان!

أوسلو 24 ماي 2010

د. مختار محرم
08-02-2012, 02:47 PM
أستاذ حمادي ..
لحظات رائعة قضيتُها هنا بين حروف قصة حب ووفاء نادرة
قمر وحسن ..
لعلك أتيت بقصة ليليان ومروان قبلها لندرك ما أروع قصة الخالة قمر وزوجها..
رغم أن الموضوع يبدو كقصتين منفصلتين إلا أن تواليهما كان موفقا
تقبل تحيتي أيها الجميل

آمال المصري
08-02-2012, 05:38 PM
انتقلت بنا بين قصتين بتسلل خفيف لتظهر لنا الفارق الكبير بين الوفاء بالعهد ونقيضه
وأن المحبة لاتُشترى وصدق المثل القائل : "لا خير في ودّ يكون بشافع"
أديبنا الكبير حمادي ...
كان سردك وحبكتك القصصية وتنقلك بنا رائعا
دمت بألق وبهاء
تحاياي

كاملة بدارنه
08-02-2012, 07:05 PM
قصّة رائعة بحبكة قويّة ونهاية مميّزة...
هناك نماذج من النّاس المقلّدة كالببغاوات، يغريها ما يفعل غيرها، ولا تدرك ما تطلبه ذاتها
وهناك آخرون يعيشون صدق المشاعر، ونبل العواطف دون التفاتة إلى أهواء وصفات الآخرين
بوركت أستاذ حمادي
تقديري وتحيّتي

ربيحة الرفاعي
09-02-2012, 01:21 AM
نص قصصي جميل فكرته رائقة وحرفه مشوق وطرحة موفق
بحبكة متينة وقفلة ذكية

أحسنت أيها الكريم

تحيتي

حمادي بلخشين
20-02-2012, 08:14 AM
اخي الكريم مختار أسعدني مرورك و توقيعك
لك خالص المودة و لشعرك الجميل الأخاذ كل التقدير
تحياتي

حمادي بلخشين
20-02-2012, 08:25 AM
الأخت الكريمة آمال المصري اسعدني مرورك و ثناؤك لك كل المودة و خالص التقدير و لمصر الحبيبة اكاليل النصر و تيجان الفخار تحياتي

حمادي بلخشين
20-02-2012, 08:37 AM
الأخت الكريمة كاملة بدرانه تقبلي تحياتي و خالص تقديري لمرورك و توقيعك

حمادي بلخشين
20-02-2012, 08:41 AM
الأخت الكريمة ربيحة اسعدني مرورك و احتفاؤك بما كتبت
تقبلي خالص شكري و تقديري

ياسر ميمو
20-02-2012, 08:03 PM
تحية لك أستاذي الفاضل حمادي

لم تكن حبائل المودة والرحمة متصلة بين صديقك و زوجته ليليان

وكان على زوجة بطل القصة الغيورة أن تفهم أن الحب الحقيقي

لا يتمثل في الهدايا والعطايا فحسب

قصة جميلة بكل معنى الكلمة

دمت .........مبدعاً

حمادي بلخشين
22-02-2012, 08:52 AM
:noc:اخي الكريم ياسر
اسعدني مرورك
متعك الله بالعافية و السعادة و زادك تالقا
تقبل خالص تحياتي و تقديري

نداء غريب صبري
22-02-2012, 11:25 PM
قصة جميلة تجسد المعاني الطيبة والقيم العالية
وجميل هذا الانتقال بين القصتين

شكرا لك أخي

بوركت

جلول بن يعيش
23-02-2012, 11:37 AM
قصة جميلة ومؤثرة ...حب قمر وحسن أروع مثال على الوفاء ...اتحاد حتى لحظة الموت ...تحية وتقدير

وليد عارف الرشيد
23-02-2012, 04:12 PM
جميلٌ ومبهرٌ ما قرأته يا سيدي بوركت على هذه القصة الجميلة البارعة
ولي ملاحظة بسيطة أرى من غير المناسب أن يكون مروان بما ذكرته عنه وزوجته صديقًا ألا توافقني الرأي
أحييك على إبداعك وقدرتك على استلابنا من أول حرفٍ وحتى النهاية البديعة
مودتي وتقديري كما يليق
همسة : هناك بعض الهنات الطباعية ليتك راجعت النص قبل النشر لتلافيها

عايد راشد احمد
23-02-2012, 08:35 PM
السلام عليكم ورحمة الله

استاذنا الكريم

عندنا مثل مصري يقول الطمع يضيع كل ما جمع

وهذا في كان في الجزء الاول من القصة

اما الجزء الثاني فلا يسعني الا ان اجل هذا الشعور الانساني الوفي والعطاء دون انتظار المقابل

سرقتنا القصة من هالم الواقع الذي كنت قبل بداية القراءة

تقبل مروري وتحيتي

حمادي بلخشين
24-02-2012, 10:11 AM
الأخت الكريمة نداء غريب صبري
أسعدني مرورك البهي
لك خالص المودة و كل التقدير
تحياتي

حمادي بلخشين
24-02-2012, 10:14 AM
أخي الكريم جلول شرفني مرورك و اسعدني توقيعك تقبل خالص المودة و التقدير تحياتي

حمادي بلخشين
24-02-2012, 10:30 AM
اخي الكريم وليد عارف الرشيد
تحية طيبة و بعد
هناك احصائية مروعة و لكنها صادقة تؤكد بان من يصلى من المسلمين هم عشرة بالمائة من جملتهم.. فالفسق و الخيانة و التمرد على القيم السامية قد اصبح ظاهرة عامة فهجرة فاسق كصديقي مروان لن يتركه غريبا منبوذا ــ كما هي الغاية المرتقبة للهجر في مجتمع مؤمن ــ مما يضطره الي ترك ما كان عليه من فسوق حين تضيق عليه نفسه و تضيق عليه الأرض بما رحبت بل ان هجرتي له ستفتح له احضانا كثيرة تزيد علته علّة و طينته بلة... اما من ناحية الأخطاء فاني احاول تلافيها قدر المستطاع و لكن النتيجة تبقى دائما دون المنتظر ما دامت مجهوداتي فرديّة.
تحياتي اخي على هذا المرور الكريم و خالص مودتي

حمادي بلخشين
24-02-2012, 10:41 AM
أخي الكريم عايد راشد أحمد
حياك الله على هذا المرور البهي
لك كل الشكر و لمصر الحرّة كل المجد و تيجان الفخار
تحياتي

د. سمير العمري
04-11-2015, 01:41 AM
قصة رائعة مؤثرة قد أبكتني سامحك الله ولا تسألني لم وأين.

وإنك من الأدباء المميزين بأسلوب الحكي الشائق والذي يشد المرء من البداية ويظل مشدودا مهما طال.

وقصتك هنا واقعية ومقارنة منطقية ذكرتني بقصة لي بعنوان بمعروف تناولت فيها شيئا من جوانب العلاقات الزوجية والإنسانية.

تقديري

ناديه محمد الجابي
04-11-2015, 08:37 PM
لا يعرف الشئ إلا بضده .. لا يعرف الوفاء إلا بالخيانة
ولا يعرف الحب الحقيقي إلا عندما نرى حب المنفعة وحب المال
الحب كالزهرة الجميلة والوفاء قطرات الندى عليها
والخيانة هى الحذاء البغيض الذي يدوس الوردة
أدهشتني بهذه التناقضات والمشهدين المختلفين
والبناء الدرامي الموفق جدا
شكرا لعبق حرف ألفناه بهذا الجمال. :001:

خلود محمد جمعة
08-11-2015, 10:28 AM
سلاسة في السرد وقوة في الحبكة بنهاية موفقة
اسجل اعجابي
قصة جميلة
بوركت وكل التقدير