محمد صلاح الدين
11-02-2012, 04:00 PM
قصة:زهرة النرجس!
آه لو رأيت وجه هذه الأم التى أبصرت عبر النافذة إلى الحديقة الملاصقة للدار ..ليست نظرة تطلع بل فزع ، لقد أخذت تنظر إلى الصبية صغار القامة والسن والخبرة ،يلعبون وكأن عفريتاً قد أحتل جسد كل منهم ، والكرة يطوحونها بأقدامهم يميناً ويساراً أوعالياً نحو السماء ، ترافقها صيحاتهم وهمهماتهم ..إن هذا شىء عجيب ، أو هكذا خُيل للأم إن هذا شىء عجيب !..أأمهات هؤلاء لديهن قلوب فيما بين ضلوعهن ، بل لقد تساءلت أكثر : أآبار الرحمة قد جفت عندهن ، أم أنهن لم يسمعن عن القلق مسمى من قبل؟!..فليس للمرأة ما تقدمه لأبنها فى هذا السن سوى أهتمام وقلق ورحمة ،وهل يتصور هؤلاء الأمهات القاسيات أنهن يحافظن على أولادهن بعد فعلتهن هذه؟!!..
إن هذا هو ما تخاطر فى قلب الأم من إطلالة هنيهة عبر النافذة ، لقد حكمت من نظرة واحدة بعينيها على أمهات لم ترهن مقلتاها من قبل ؛ فحكمت حكمها بأن هذه ليست أم مخلصة ، وهذه ليست أم رحيمة ، وهذه ليست أم قلقة ، وهذه ..وهذه ! ، أما أنا فأمُ حقيقية تعرف قواعد الأمومة وأصولها خير معرفة ، ويكفى نظرة واحدة منهن على ولدى الحبيب ، إنه يلعب هو الآخر كما يلعب من قد سواه عمراً وخبرة ، ثم أنه لا يلعب فحسب ، ولكنه يقرأ أيضاً ؛ ففى البداية كان إذا أمسك كتابأً مزقه ، أما الآن فإذا أمسك كتاباً حاول هجو ما فيه ، وإن لم يفلح قد يسألنى باكياً أو يمزق الكتاب كما مزق سابقيه ، ولكنه مع ذلك بلا شك يكون قد تعلم ، وما يزال يلعب ويقرأ ويأكل حتى ينام من غير جهد ولا نصب أكفله أنا لذلك ، فإذا أستيقظ وسمع أصوات الجيران ينادون بأن يلعب مع أبنائهم قلت له أن يرفض هذا ، فهل يقبل أن يترك أمه طيلة الساعات المنصرمة التى سيقضيها فى لعب مع من قد يفسدون خلقه وخلاقه؟! ؛ فلم أكن قد أنجبتك بعد حينما بدد أباك ثروته ثم مات محسوراً عليها ، والسبب؟..لا يحتاج لتفسير ..فما رأيت رجلاً متهوراً إلا كان بجانبه صديق سوء زين له تهوره ثم أجازه ، قلت لهم أنك خير من أباك ..كنت وتكون وستكون ،فلم يصدقوننى ، قل لهم إنك من تربيتى ، ومن سيستطيع تربيتك أفضل منى ؟! ..دعونى أنا وهو ، وليكن كل منكم فى شأنه ، فلتذهبوا جميعا ً إلى الجحيم !..
فما كان من الصبى إلا أن قال هذا فعلا ً ، كأن هذه الأفكار عدوى تنتشر من عقل لعقل ، ومن أقدر على نشر العدوى مثل أم مجاورة لأبنها لا تفارقه حتى فى لحظات النوم ؟! ، وبالتأكيد كان الحال لا يبقى هو الحال إذا ما فتحت المدارس أبوابها ، تجد الأم قد وصلت لمفترق طرق ، تهدم ما بنت أو تبقيه ، وكيف تبقيه وإذا للأصحاب أقتساماً لها فيه ؟..
"يا (سعيد) أسمع منى ما أقول علك تستفيد، وأنى أعلم أن استيعابه لن يصعب على قريحة مثل قريحتك ، وذكاء مثل ذكاءك ، هاقد تجاوزت السادسة ،كان جديراً بى أن ألحقك بالمدرسة منذ عاماً مضى ، ولكنى آثرت أن أنظرك قليلاً قبل إلحاقك إياها، أردت فى هذا العام أن تكون قد كبرت بما يكفى لتفهم أكثر..الناس موبؤيين وباءهم الخيانة والكذب و إفساد العقول ، ولا ناصح لك سواى وسوى ضميرك ،أنت أفضل منهم جميعاً ..خير الأطفال وزينة الشباب إن شاء الله..لا تسمع لصديق ؛ فكلهم اصدقاء سوء ، ولا تعر السمع فتتسخ أذناك ..إياك والأصدقاء ، وما أدراك ما الأصدقاء ، فعندما تسمع لهم لا ينفعك الندم ..قد نصحتك والنصيحة لمن عمل بها ، وستعمل بها..هه!"
وقد كانت المدرسة قريبة ، ذات أبواب حديدية وسور عملاق يهيب من شاهده ، وعلى بابها حارس طويل القامة ، مفتول العضلات ، قوي الصحة رغم كِبر سنه ،كان يدعى عم (صالح) ،وبحفنة من الجنيهات كانت قد أوصت عليه الحارس العجوز ..
-"(عم صالح)..هذا لكى تشرب شاى !"
أما عن الجو الدراسى ، فلقد كان الفصل ملىء بالمقاعد فكان (سعيد) يجلس فى آخرها ، وينظر لمن جلس جواره من الطلبة كأنهم كائنات قد أحتلت كوكبه فى عشية وضحاها ..منذ متى كان هناك على الكوكب شخص سواى أنا وأمى ؟!..هذه الوجوه الغريبة لم أعهدها من قبل ، هذا الفتى لا ينقطع عن الكلام فهو ماكينة لا تكف عن هذا ، ولو كان ماكينة لأمكننى أن أنزع موصل الكهرباء عنه ليصمت، كما أن هناك من لا يكف عن الكلام فهناك من لا يكف عن الضحك أو البكاء ، ذلك الصنف الأخير كان (سعيد ) ممن ذاقوا ويلاته ، ولعله كان حجة من حججه لكى يثير شفقة العمالقة الذىن يراقبونهم ويمنعونهم من الخروج ، إذ يروه يبكى فلن يترددوا فى إخراجه ، ولكن أحداً لم يعره أنتباهاً ، هذا بسبب أنهم لم يكادوا يروه أصلاً غنى عن إثارة شفقتهم،ولو علم أن أحداً منهم يراه لسارع فى التخفى عن الأنظار ، وربما قاده الأمر للإنحناء أسفل مقعده متخفياً، ولسان حاله يقول : أيها المعلمين ..أعطفوا على ، وإذا رغبت فى العودة إلى البيت ، فأعيدونى وأنصاعوا لأمرى ، ولكن لا..لا ترونى ولا تلمسونى ،أفعلوا هذا بدون أن ترونى أو أراكم !..وإذا جاء وقت الفسحة هبط هو وحيداً ملتصقاً بالجدار..هل تتصور كل هذه الأنفاس والضوضاء والزحام ماذا يفعلون فى نفس الفتى ؟..هل تتصور يا (سعيد) أن بداخلك كل هذا الفزع؟..ما أنت إلا فتى هش يا (سعيد)!..سعادتك يا فتى فى أن تجلس وحدك؟..الجميع يضحكون فلتضحك معهم ، وكدأبه دائماً فهو لا يطيع الصوت الخفى بأعماقه الذى ينادينه بهذا ، وإن أراد أن يتغلب عليه يقول له: لا تكون أنت سبب هلاكى ..أمى إذا عرفت بما تريد!..ثم..ثم إذا أستطعت أن أخادع أمى ، فكيف أخدع نفسى؟!..كيف أدارى شعورى بالفزع ،بل بالهلع كلما حاولت أن أقترب من شخص؟..لا تقلق سنضحك كثيراً وكثيراً مثلما يضحكون ، ولكن فلنضحك بداخلنا ..لا داعى أن نوارث الناس ضحكاتنا ، نحن متفوقون على الجميع بشىء واحد فقط ألا وهو الصمت !..الشىء الذى نحسنه جيداً..
و تتدافع خواطره فلا تعلم نفسه ما أنقضى من الوقت إلا بعد أن يسمع صوت الصفير الحاد إيذاناً لجمع الطلاب ، ومن قمة الإحباط والفزع تأتى الغبطة ، ويزف الأمل طريقه إلى قلب الفتى إذ ينتهى اليوم ، ويجد أمامه أمه متهادية واقفة أمام باب المدرسة العملاق ، فيخرج من وراء السور متجاوزه ، وينظر إليه غير مصدقاً أنه قد خرج !..أحقاً قد خرج!..سبحان الله يا (سعيد) ..إن الخجل يجلب فقدان الثقة ، وفقدان الثقة يقود إلى الشك ، فأما الشك فيجعله كلما خرج من وراء السور العملاق تعيد نفسه عليه سؤالها:ترى هل خرجت حقاً أم إنها أوهام؟..
وعن يومه الدراسى كانت تنحصر جميع اسئلة الأم:
-"من صافحت؟..على من تعرفت؟..هل آذاك أحد؟..أنطق يا ولد ، إذا آذاك أحد سآخذ ثأرك ، ولكنى سآخذ ثأرك منك!..لو لم تكن تختلط بأحد لما حدث لك ما حدث"
-"وماذا حدث؟!..لم يحدث شىء"
-"لم تصافح أحد؟"
-"لم أصافح أحد"
-"لم تتعرف على أحد؟!"
-"لم أتـ..أتعرف على أحد"
-"لم تـ..."
-"أمى لم يحدث أى شىء"
-"أحسنت!"
أحسنت؟!!..إنها حقاً لكلمة غريبة..عقدة نفسية لا شك فيها تتبلور داخل نفس الفتى ، تلك عقدة أنكرتها أمه وسينكرها هو فيما بعد، وقالوا قديماً أن التربية أساس لكل عقدة ، وأقول أنا وأى أساس.. وأذكر يا زمن إذا نسينا أى أثر هى تترك!..إن كلمة كمثل كلمة (أحسنت) قد نطقتها الأم ثم نستها ، فلما نستها تذكرها هو ، فلتعلم يا (سعيد) ولا تنكر إنها قد تأرجحت فيما بين مخيلتك ، ذاهبة ثم هاهى عائدة ، ولكنها ظلت باقية ..أبت أن تذهب ،وأبت إلا أن تنطبع فى كل تنافر بينه و بين من سواه ، تقول : يا (سعيد) أحسنت!..فما إذا حدث ما عكس هذا من أختلاط شابه بعض التودد ، تقول:يا (سعيد) اسأت!..وما تنفك مخيلته ترددها حتى تصبح هى مفتاح المشكلة وأساس عقدتها، ولقد ألف هذا ، وعرف ما تفعله به نفسه ، فما هى إلا القليل من السنين حتى أدرك (سعيد) أنه ليس فى علته ما يؤخر ، بل هناك فيها ما يقدم ، وجاءت كل لحظة من لحظات الوحدة ترافقها همسة من همسات التأمل ، أدخل يا (سعيد) مكتبتك ، فها هى اليوم عامرة بالكتب ..تسع سنوات زادهم الزمن على سنين عمرك الست ؛ فأصبحوا خمسة عشرة عاماً، وكم هو عدد ما تركته السنين فى قلبك يا فتى ، فلنحصيه سوياً..
هل تغير البيت؟ ، إنه لم يعد ضيقاً كئيباً ، بل إن جدرانه لتكاد تقول صارخة : أنا لم أرى هذا الفتى سوى من عام أو أكثر ..فأما البيت فهاهو واسع كبير ، فيه غرفة كبرى يقطنها خاله وزوجته ، وثلاث غرف صغرى ، الأولى بها ولداهما ، والثانية أبنتهما ، أما الثالثة فهى له ، وعن الأم فوجهها قد أنحصر فى الصورة المعلقة على الحائط تزين الغرفة ، وتواجه الفراش ، أما كيانها فقد أختلط بحبات الرمال ، فمن ملأ صوتها فراغ نفسه خلا العالم من وجودها إلا فى صورة بالية بفعل الزمن ، وحبات رمال خالطتها العقارب ، وروح فى برزخ غير معلوم الأحداث..
آه لو رأيت وجه هذه الأم التى أبصرت عبر النافذة إلى الحديقة الملاصقة للدار ..ليست نظرة تطلع بل فزع ، لقد أخذت تنظر إلى الصبية صغار القامة والسن والخبرة ،يلعبون وكأن عفريتاً قد أحتل جسد كل منهم ، والكرة يطوحونها بأقدامهم يميناً ويساراً أوعالياً نحو السماء ، ترافقها صيحاتهم وهمهماتهم ..إن هذا شىء عجيب ، أو هكذا خُيل للأم إن هذا شىء عجيب !..أأمهات هؤلاء لديهن قلوب فيما بين ضلوعهن ، بل لقد تساءلت أكثر : أآبار الرحمة قد جفت عندهن ، أم أنهن لم يسمعن عن القلق مسمى من قبل؟!..فليس للمرأة ما تقدمه لأبنها فى هذا السن سوى أهتمام وقلق ورحمة ،وهل يتصور هؤلاء الأمهات القاسيات أنهن يحافظن على أولادهن بعد فعلتهن هذه؟!!..
إن هذا هو ما تخاطر فى قلب الأم من إطلالة هنيهة عبر النافذة ، لقد حكمت من نظرة واحدة بعينيها على أمهات لم ترهن مقلتاها من قبل ؛ فحكمت حكمها بأن هذه ليست أم مخلصة ، وهذه ليست أم رحيمة ، وهذه ليست أم قلقة ، وهذه ..وهذه ! ، أما أنا فأمُ حقيقية تعرف قواعد الأمومة وأصولها خير معرفة ، ويكفى نظرة واحدة منهن على ولدى الحبيب ، إنه يلعب هو الآخر كما يلعب من قد سواه عمراً وخبرة ، ثم أنه لا يلعب فحسب ، ولكنه يقرأ أيضاً ؛ ففى البداية كان إذا أمسك كتابأً مزقه ، أما الآن فإذا أمسك كتاباً حاول هجو ما فيه ، وإن لم يفلح قد يسألنى باكياً أو يمزق الكتاب كما مزق سابقيه ، ولكنه مع ذلك بلا شك يكون قد تعلم ، وما يزال يلعب ويقرأ ويأكل حتى ينام من غير جهد ولا نصب أكفله أنا لذلك ، فإذا أستيقظ وسمع أصوات الجيران ينادون بأن يلعب مع أبنائهم قلت له أن يرفض هذا ، فهل يقبل أن يترك أمه طيلة الساعات المنصرمة التى سيقضيها فى لعب مع من قد يفسدون خلقه وخلاقه؟! ؛ فلم أكن قد أنجبتك بعد حينما بدد أباك ثروته ثم مات محسوراً عليها ، والسبب؟..لا يحتاج لتفسير ..فما رأيت رجلاً متهوراً إلا كان بجانبه صديق سوء زين له تهوره ثم أجازه ، قلت لهم أنك خير من أباك ..كنت وتكون وستكون ،فلم يصدقوننى ، قل لهم إنك من تربيتى ، ومن سيستطيع تربيتك أفضل منى ؟! ..دعونى أنا وهو ، وليكن كل منكم فى شأنه ، فلتذهبوا جميعا ً إلى الجحيم !..
فما كان من الصبى إلا أن قال هذا فعلا ً ، كأن هذه الأفكار عدوى تنتشر من عقل لعقل ، ومن أقدر على نشر العدوى مثل أم مجاورة لأبنها لا تفارقه حتى فى لحظات النوم ؟! ، وبالتأكيد كان الحال لا يبقى هو الحال إذا ما فتحت المدارس أبوابها ، تجد الأم قد وصلت لمفترق طرق ، تهدم ما بنت أو تبقيه ، وكيف تبقيه وإذا للأصحاب أقتساماً لها فيه ؟..
"يا (سعيد) أسمع منى ما أقول علك تستفيد، وأنى أعلم أن استيعابه لن يصعب على قريحة مثل قريحتك ، وذكاء مثل ذكاءك ، هاقد تجاوزت السادسة ،كان جديراً بى أن ألحقك بالمدرسة منذ عاماً مضى ، ولكنى آثرت أن أنظرك قليلاً قبل إلحاقك إياها، أردت فى هذا العام أن تكون قد كبرت بما يكفى لتفهم أكثر..الناس موبؤيين وباءهم الخيانة والكذب و إفساد العقول ، ولا ناصح لك سواى وسوى ضميرك ،أنت أفضل منهم جميعاً ..خير الأطفال وزينة الشباب إن شاء الله..لا تسمع لصديق ؛ فكلهم اصدقاء سوء ، ولا تعر السمع فتتسخ أذناك ..إياك والأصدقاء ، وما أدراك ما الأصدقاء ، فعندما تسمع لهم لا ينفعك الندم ..قد نصحتك والنصيحة لمن عمل بها ، وستعمل بها..هه!"
وقد كانت المدرسة قريبة ، ذات أبواب حديدية وسور عملاق يهيب من شاهده ، وعلى بابها حارس طويل القامة ، مفتول العضلات ، قوي الصحة رغم كِبر سنه ،كان يدعى عم (صالح) ،وبحفنة من الجنيهات كانت قد أوصت عليه الحارس العجوز ..
-"(عم صالح)..هذا لكى تشرب شاى !"
أما عن الجو الدراسى ، فلقد كان الفصل ملىء بالمقاعد فكان (سعيد) يجلس فى آخرها ، وينظر لمن جلس جواره من الطلبة كأنهم كائنات قد أحتلت كوكبه فى عشية وضحاها ..منذ متى كان هناك على الكوكب شخص سواى أنا وأمى ؟!..هذه الوجوه الغريبة لم أعهدها من قبل ، هذا الفتى لا ينقطع عن الكلام فهو ماكينة لا تكف عن هذا ، ولو كان ماكينة لأمكننى أن أنزع موصل الكهرباء عنه ليصمت، كما أن هناك من لا يكف عن الكلام فهناك من لا يكف عن الضحك أو البكاء ، ذلك الصنف الأخير كان (سعيد ) ممن ذاقوا ويلاته ، ولعله كان حجة من حججه لكى يثير شفقة العمالقة الذىن يراقبونهم ويمنعونهم من الخروج ، إذ يروه يبكى فلن يترددوا فى إخراجه ، ولكن أحداً لم يعره أنتباهاً ، هذا بسبب أنهم لم يكادوا يروه أصلاً غنى عن إثارة شفقتهم،ولو علم أن أحداً منهم يراه لسارع فى التخفى عن الأنظار ، وربما قاده الأمر للإنحناء أسفل مقعده متخفياً، ولسان حاله يقول : أيها المعلمين ..أعطفوا على ، وإذا رغبت فى العودة إلى البيت ، فأعيدونى وأنصاعوا لأمرى ، ولكن لا..لا ترونى ولا تلمسونى ،أفعلوا هذا بدون أن ترونى أو أراكم !..وإذا جاء وقت الفسحة هبط هو وحيداً ملتصقاً بالجدار..هل تتصور كل هذه الأنفاس والضوضاء والزحام ماذا يفعلون فى نفس الفتى ؟..هل تتصور يا (سعيد) أن بداخلك كل هذا الفزع؟..ما أنت إلا فتى هش يا (سعيد)!..سعادتك يا فتى فى أن تجلس وحدك؟..الجميع يضحكون فلتضحك معهم ، وكدأبه دائماً فهو لا يطيع الصوت الخفى بأعماقه الذى ينادينه بهذا ، وإن أراد أن يتغلب عليه يقول له: لا تكون أنت سبب هلاكى ..أمى إذا عرفت بما تريد!..ثم..ثم إذا أستطعت أن أخادع أمى ، فكيف أخدع نفسى؟!..كيف أدارى شعورى بالفزع ،بل بالهلع كلما حاولت أن أقترب من شخص؟..لا تقلق سنضحك كثيراً وكثيراً مثلما يضحكون ، ولكن فلنضحك بداخلنا ..لا داعى أن نوارث الناس ضحكاتنا ، نحن متفوقون على الجميع بشىء واحد فقط ألا وهو الصمت !..الشىء الذى نحسنه جيداً..
و تتدافع خواطره فلا تعلم نفسه ما أنقضى من الوقت إلا بعد أن يسمع صوت الصفير الحاد إيذاناً لجمع الطلاب ، ومن قمة الإحباط والفزع تأتى الغبطة ، ويزف الأمل طريقه إلى قلب الفتى إذ ينتهى اليوم ، ويجد أمامه أمه متهادية واقفة أمام باب المدرسة العملاق ، فيخرج من وراء السور متجاوزه ، وينظر إليه غير مصدقاً أنه قد خرج !..أحقاً قد خرج!..سبحان الله يا (سعيد) ..إن الخجل يجلب فقدان الثقة ، وفقدان الثقة يقود إلى الشك ، فأما الشك فيجعله كلما خرج من وراء السور العملاق تعيد نفسه عليه سؤالها:ترى هل خرجت حقاً أم إنها أوهام؟..
وعن يومه الدراسى كانت تنحصر جميع اسئلة الأم:
-"من صافحت؟..على من تعرفت؟..هل آذاك أحد؟..أنطق يا ولد ، إذا آذاك أحد سآخذ ثأرك ، ولكنى سآخذ ثأرك منك!..لو لم تكن تختلط بأحد لما حدث لك ما حدث"
-"وماذا حدث؟!..لم يحدث شىء"
-"لم تصافح أحد؟"
-"لم أصافح أحد"
-"لم تتعرف على أحد؟!"
-"لم أتـ..أتعرف على أحد"
-"لم تـ..."
-"أمى لم يحدث أى شىء"
-"أحسنت!"
أحسنت؟!!..إنها حقاً لكلمة غريبة..عقدة نفسية لا شك فيها تتبلور داخل نفس الفتى ، تلك عقدة أنكرتها أمه وسينكرها هو فيما بعد، وقالوا قديماً أن التربية أساس لكل عقدة ، وأقول أنا وأى أساس.. وأذكر يا زمن إذا نسينا أى أثر هى تترك!..إن كلمة كمثل كلمة (أحسنت) قد نطقتها الأم ثم نستها ، فلما نستها تذكرها هو ، فلتعلم يا (سعيد) ولا تنكر إنها قد تأرجحت فيما بين مخيلتك ، ذاهبة ثم هاهى عائدة ، ولكنها ظلت باقية ..أبت أن تذهب ،وأبت إلا أن تنطبع فى كل تنافر بينه و بين من سواه ، تقول : يا (سعيد) أحسنت!..فما إذا حدث ما عكس هذا من أختلاط شابه بعض التودد ، تقول:يا (سعيد) اسأت!..وما تنفك مخيلته ترددها حتى تصبح هى مفتاح المشكلة وأساس عقدتها، ولقد ألف هذا ، وعرف ما تفعله به نفسه ، فما هى إلا القليل من السنين حتى أدرك (سعيد) أنه ليس فى علته ما يؤخر ، بل هناك فيها ما يقدم ، وجاءت كل لحظة من لحظات الوحدة ترافقها همسة من همسات التأمل ، أدخل يا (سعيد) مكتبتك ، فها هى اليوم عامرة بالكتب ..تسع سنوات زادهم الزمن على سنين عمرك الست ؛ فأصبحوا خمسة عشرة عاماً، وكم هو عدد ما تركته السنين فى قلبك يا فتى ، فلنحصيه سوياً..
هل تغير البيت؟ ، إنه لم يعد ضيقاً كئيباً ، بل إن جدرانه لتكاد تقول صارخة : أنا لم أرى هذا الفتى سوى من عام أو أكثر ..فأما البيت فهاهو واسع كبير ، فيه غرفة كبرى يقطنها خاله وزوجته ، وثلاث غرف صغرى ، الأولى بها ولداهما ، والثانية أبنتهما ، أما الثالثة فهى له ، وعن الأم فوجهها قد أنحصر فى الصورة المعلقة على الحائط تزين الغرفة ، وتواجه الفراش ، أما كيانها فقد أختلط بحبات الرمال ، فمن ملأ صوتها فراغ نفسه خلا العالم من وجودها إلا فى صورة بالية بفعل الزمن ، وحبات رمال خالطتها العقارب ، وروح فى برزخ غير معلوم الأحداث..