خالد بناني
21-02-2012, 10:55 PM
أجمل الخوف.. حين نحاول أن نرسم للذين نهتم لأمرهم خرائط حتى لا يتوهوا دوننا ظنا منا بأننا نحميهم ونحيطهم بحرص، غير مدركين حجم حماقتنا وسذاجتنا.. إذ الغريب أن اهتمامنا محض متاهة لابد أن يضيعوا فيها حتى يتعثروا بنا ذات منعطف. هم الذين لم يتوقعونا أبدا في هذا الدور، الذين لا يلتقون بنا إلا صدفة، والذين اعتادوا أن يحكوا للغرباء كل شيء مكتفين بمبادلتنا الكثير من الصمت وبعض الابتسامات.. ونحن الذين تعودنا المشي في أثرهم خلسة مخافة أن يصيبهم شيء فلا يجدوا أحدا سوانا، الذين كنا نراقبهم سرا وندبر لنا موعدا معهم في غفلة منهم، والذين نغار عليهم من الغرباء مكتفين بمبادلتهم صمتهم وابتساماتهم... كيف لا ينتبهون لنا؟
أجمل الخوف.. عينان حائرتان لأم منخطفة القلب على طفلها المحموم، تبيت ليلتها تغير الكمادات من على جبهته مأخوذة بالفزع من حرارته التي لا تنخفض، يحرقها أنينه المتقطع واحتمال أن يأتي الصباح عليها وحيدة دون أن يتمكن من فتح عينيه، فيما أبوه الغائب يخلف وعده بالحضور في موعده تماما مثلما عودها في كل مرة.. تمسد شعر الصغير بكف قلقة، وتتأمل رموشه التي تبدو أطول أثناء نومه بعينين ضارعتين دمعا.. بقلب راجف، وتكره صوت المنبه الذي لا تدري إن كان ينبئ بالزيادة في عمره أم... تشيح بوجهها هروبا فترى أمامها صورتين واحدة لزواجها بهذا الرجل الذي.. وأخرى له يحمل الصغير بحنان آسر. يخيل إليها أنه يغادر إحدى الصورتين كي يمسح دمعها ويقبل جبهتها معتذرا، كي يرد الغطاء على الطفل ويتم سهرتها معه. لا يهم من أي الصورتين جاء حقا، الأهم أنه جاء أخيرا.. أخيرا جاء.
أجمل الخوف.. جندي مصاب وليس في سلاحه سوى رصاصة واحدة هي آخر الطلقات التي صادت من الأعداء أعدادا. طلقة واحدة فقط، فأي هؤلاء ستختاره، وأيهم قد يكون قاتله الأول؟ يتذكر قسمه بالولاء لهذا الوطن حد الموت.. حد الشهادة. يتذكر قسمه لأبيه على أن يعود منتصرا، أو يموت كما يموت الرجال واقفين. ينظر إلى رفيقه الممدد بثقب في الصدر محتضرا بعينين شبه ساكنتين، والكثيرين غيره من المتناثرين دون حياة. يتأكد من وجود الرصاصة ثم يغمض عينيه مستندا بظهره إلى أكياس الرمل التي تسلل الموت من بينها سهوا كي يُسقط الذين معه تباعا. يفكر في كل شيء لحظات ضمت على قصرها محطات عمره الأهم: أبوه صدق الرؤيا منذ الطفولة وأقنعه بأنه خُلِق للبطولة، وزملاؤه آمنوا به قائدا عسكريا بالفطرة، وأعداؤه مصرون على أنه جندي كغيره ممن سقط، وبأنه رغم كل الأساطير المحاكة حوله لابد أن يظفروا به، وهو.. هو الذي تعود ألا ينحني، يجهز سلاحه بصمت رغم هذي الأصوات المتداخلة التي تعصف به. عينان مغمضتان وشهقة، والطلقة الأخيرة يودِعها الصدر المثقوب فتسكن العينان ويخبو بريقهما.. أما هو فيقفز من على أكياس الرمل عاري الصدر مشهرا سلاحه الفارغ، ثم يركض نحوهم دون خوف كأن وراءه جيشا مسلحا والذين أمامه عُزل. خطوتان فقط أو ثلاث، قبل أن...
أجمل الخوف.. صياد عجوز يلقي شبكة بالية إلى بحر ما عاد يهديه شيئا. قارب لا يصلح لمزيد ترميم، مجدافان متعبان من موج يتكسر عليهما كل يوم، وسلة فارغة من السمك لأيام... هو صار يؤمن أن قوارب الصيد العصرية ما عادت تترك لأمثاله حظهم من الحياة، وأنه لابد الآن من شبكة ليزيد احتماله في الظفر بحمولة كبيرة.. بحمولة صغيرة.. بأي سمكة.. بأي شيء يصلح للبيع، إذ أن أسبوعا يكاد يمضي دون أن تهتز الشبكة، وزوجته وابنته العروس تحاولان ألا تـُظهرا له توترهما، فموعد العرس يقترب، وليس ثمة خيار للتأجيل. "هاهي الشبكة، فأين السمك؟" يجلس القرفصاء في قاربه يراقب الماء الهادئ، الماء الذي كأن لا حياة تنبض تحته، منتظرا أن تتمايل خيوط الشبكة ولو ميلا خفيفا دون أن يحدث هذا، فيشيح بوجهه إلى حيث القوارب العصرية والبواخر الكبيرة تلوح في الأفق كما لو أنها تصطاد في بحر آخر. "ماذا أبقيتم لنا؟" يعرف أنه لا ينتظر جوابا، وأن الشبكة غريبة عنه، عن قاربه، عن سلته، عن سمكاته وعن الماء.. "فحتى الماء على ما يبدو يفهم جيدا ما يحدث، لقد اكتسب مع الوقت كبرياء الفقراء". يقف مبتسما كمن وجد الحل أخيرا، يسحب الشبكة ويضعها في آخر القارب خاوية كما كانت حين اقتناها، ثم يأخذ قصبته العجوز بيد معتذرة عن استبدالها، يمرر كفه عليها كزوجة أحست بأن امرأة غيرها قد تتقاسمه معها، قد تسرقه للأبد، يصالحها، ثم يحرك ذراعه في الهواء عاليا قبل أن تدور الجرارة ويختفي الطعم هناك...
أجمل الخوف.. حلم آسر.. لكنه.. مجرد حلم...
أجمل الخوف.. عينان حائرتان لأم منخطفة القلب على طفلها المحموم، تبيت ليلتها تغير الكمادات من على جبهته مأخوذة بالفزع من حرارته التي لا تنخفض، يحرقها أنينه المتقطع واحتمال أن يأتي الصباح عليها وحيدة دون أن يتمكن من فتح عينيه، فيما أبوه الغائب يخلف وعده بالحضور في موعده تماما مثلما عودها في كل مرة.. تمسد شعر الصغير بكف قلقة، وتتأمل رموشه التي تبدو أطول أثناء نومه بعينين ضارعتين دمعا.. بقلب راجف، وتكره صوت المنبه الذي لا تدري إن كان ينبئ بالزيادة في عمره أم... تشيح بوجهها هروبا فترى أمامها صورتين واحدة لزواجها بهذا الرجل الذي.. وأخرى له يحمل الصغير بحنان آسر. يخيل إليها أنه يغادر إحدى الصورتين كي يمسح دمعها ويقبل جبهتها معتذرا، كي يرد الغطاء على الطفل ويتم سهرتها معه. لا يهم من أي الصورتين جاء حقا، الأهم أنه جاء أخيرا.. أخيرا جاء.
أجمل الخوف.. جندي مصاب وليس في سلاحه سوى رصاصة واحدة هي آخر الطلقات التي صادت من الأعداء أعدادا. طلقة واحدة فقط، فأي هؤلاء ستختاره، وأيهم قد يكون قاتله الأول؟ يتذكر قسمه بالولاء لهذا الوطن حد الموت.. حد الشهادة. يتذكر قسمه لأبيه على أن يعود منتصرا، أو يموت كما يموت الرجال واقفين. ينظر إلى رفيقه الممدد بثقب في الصدر محتضرا بعينين شبه ساكنتين، والكثيرين غيره من المتناثرين دون حياة. يتأكد من وجود الرصاصة ثم يغمض عينيه مستندا بظهره إلى أكياس الرمل التي تسلل الموت من بينها سهوا كي يُسقط الذين معه تباعا. يفكر في كل شيء لحظات ضمت على قصرها محطات عمره الأهم: أبوه صدق الرؤيا منذ الطفولة وأقنعه بأنه خُلِق للبطولة، وزملاؤه آمنوا به قائدا عسكريا بالفطرة، وأعداؤه مصرون على أنه جندي كغيره ممن سقط، وبأنه رغم كل الأساطير المحاكة حوله لابد أن يظفروا به، وهو.. هو الذي تعود ألا ينحني، يجهز سلاحه بصمت رغم هذي الأصوات المتداخلة التي تعصف به. عينان مغمضتان وشهقة، والطلقة الأخيرة يودِعها الصدر المثقوب فتسكن العينان ويخبو بريقهما.. أما هو فيقفز من على أكياس الرمل عاري الصدر مشهرا سلاحه الفارغ، ثم يركض نحوهم دون خوف كأن وراءه جيشا مسلحا والذين أمامه عُزل. خطوتان فقط أو ثلاث، قبل أن...
أجمل الخوف.. صياد عجوز يلقي شبكة بالية إلى بحر ما عاد يهديه شيئا. قارب لا يصلح لمزيد ترميم، مجدافان متعبان من موج يتكسر عليهما كل يوم، وسلة فارغة من السمك لأيام... هو صار يؤمن أن قوارب الصيد العصرية ما عادت تترك لأمثاله حظهم من الحياة، وأنه لابد الآن من شبكة ليزيد احتماله في الظفر بحمولة كبيرة.. بحمولة صغيرة.. بأي سمكة.. بأي شيء يصلح للبيع، إذ أن أسبوعا يكاد يمضي دون أن تهتز الشبكة، وزوجته وابنته العروس تحاولان ألا تـُظهرا له توترهما، فموعد العرس يقترب، وليس ثمة خيار للتأجيل. "هاهي الشبكة، فأين السمك؟" يجلس القرفصاء في قاربه يراقب الماء الهادئ، الماء الذي كأن لا حياة تنبض تحته، منتظرا أن تتمايل خيوط الشبكة ولو ميلا خفيفا دون أن يحدث هذا، فيشيح بوجهه إلى حيث القوارب العصرية والبواخر الكبيرة تلوح في الأفق كما لو أنها تصطاد في بحر آخر. "ماذا أبقيتم لنا؟" يعرف أنه لا ينتظر جوابا، وأن الشبكة غريبة عنه، عن قاربه، عن سلته، عن سمكاته وعن الماء.. "فحتى الماء على ما يبدو يفهم جيدا ما يحدث، لقد اكتسب مع الوقت كبرياء الفقراء". يقف مبتسما كمن وجد الحل أخيرا، يسحب الشبكة ويضعها في آخر القارب خاوية كما كانت حين اقتناها، ثم يأخذ قصبته العجوز بيد معتذرة عن استبدالها، يمرر كفه عليها كزوجة أحست بأن امرأة غيرها قد تتقاسمه معها، قد تسرقه للأبد، يصالحها، ثم يحرك ذراعه في الهواء عاليا قبل أن تدور الجرارة ويختفي الطعم هناك...
أجمل الخوف.. حلم آسر.. لكنه.. مجرد حلم...