المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خُذْني في حضنك



خديجة منصور
03-03-2012, 01:04 AM
دخل يتسلل على أطراف أصابعه، اقترب من سريرها، تأملها على ضوء البهو الخفيف، هاله نحافة جسمها الحبيب، جلس على حافة السرير، و اقترب من وجهها... نفس الملامح الوديعة الأخاذة التي كانت تتأرجح بين البراءة الطفولية و الأنوثة الصارخة....كم أحب هاته الأسارير...
تمنى أن تفتح عينيها ليتأمل لمعانها العسلي المخضب بلون الزمرد...كان يعشق اكتشاف كل العوالم في تقلبات مزاجها عبر سحر مقلتيها.....كم أحَبًّ ابتسامتها وهي ترسم غمزات وجنتيها فتتدثر بندى الصباح و نسيم الليل و عبق الربيع... كم أحَبَّها و هي تسكن كيانه و تملأ حياته....


خفتت الأصوات في الغرفة المجاورة و ارتفعت غمغمات الزائرات:
" أتى أخيرا" ...
"الحمد لله...ربما تستفيق قليلا"....
"أكيد ستستفيق...لا يستطيع ايقاظها أحد غيره"....


اقترب أكثر من وجهها، لمس أنفاسها الهادئة....تذكر صوتها الناعم و هي تغني له بفرنسيتها الجميلة أغنية "جاك بغيل" لا تتركيني :

< " سأهديك لآلئ الأمطار
من بلدان لا يهطل فيها المطر
سأحفر الأرض حتى بعد موتي
لأغطي جسمك بالذهب و النور
سأبني مملكة
يكون الحب ملكها
يكون الحب قانونها
لا تتركيني
لا تتركيني..."

و تذكر كيف كانت تضحك حين تكمل ترنيمتها، و كيف كان يدرك انها تخفي دمعتها بضحكتها تلك و عبارتها الدائمة:
ـ أعرف أنها كلمات غير معقولة...لكنها تعجبني... >

طبع قبلة على جبينها، و كما هي أميرة قلبه... فتحت عينيها.... نظر إليها في حنو و هو يرى تقلبات سحر مقلتيها، تمر من عدم استيعاب حضوره إلى جانبها أوّلَ الأمر... ثم ظهور أول خيوط أشعة النور و كأنها تحاول أن تتذكره....و أخيرا انبلاج نور نهر عينيها العسلي و تلألأ زمرده...حينها انفرجت أساريرها عن ابتسامة خفيفة، باهتة، إلا أنها لم تمنع الغمزات من رسم طريقهما وسط أخاديد وجنتيها النحيفتين....

ـ تأخرت عني كثيرا...أين كنت؟؟ لماذا تغيب عني هكذا؟؟....ستبقى قربي؟؟

انكمش قلبه بشدة و قبل أن يجيب انفرجت أساريرها أكثر و زاد لمعان عينيها، و تحاملت على نفسها و هي تهم بالجلوس فأسرع ليساعدها برفق فائق كي لا يؤلم جسمها الهزيل....نظرت إليه :
ـ ما زلت تحب عينيَّ....
ـ جدا جدا ..... تعرفين أنني اخترت "سما" لأن عينيها مثل عينيك....

و قبل أن يكمل حديثه، رفعت يديها ببطء شديد و أخذت وجهه بين راحتيها الصغيرتين و قالت في عذوبة:
ـ جئت حبيبي...كيف كان يومك في المدرسة...أكملت غداءك كله؟؟؟....
ثم تأملته أكثر و استدارت تبحث عن شيء جانب وسادتها..أخذت علبة المناديل الورقية....و بيد ترتعش اقتربت بمنديل من شفتيه:
ـ كم مرة قلت لك لا تأكل الشوكولاته كثيرا، أنظر إلى وجهك و فمك....
رقّ قلبه لارتعاشة يديها و هي تمسح ما تراه آثار الشكولاته على وجهه...أمسكها و قبلَّها :
ـ حاضر ماما...لن آكل الشكولاته بعد الآن
ـ الله عليك حبيبي حين تنصت لكلام ماما...
ثم فجأة قضبت حاجبيها و هي تحملق في شعر رأسه:
ـ ما هذا الذي في شعرك...انتظر سأمسحه
لم يكن يدري ماذا تراءى لها أهي شعيرات الشيب الذي بدأ تبزغ... أم هو شيء آخر تتخيله.

توقفت و كأنها تعبت و أسقطت يدها ببطء و هي تحملق فيه ثانية...ثم خفت نظرتها... خطر له أنه يرى سحابة حزن تغطيها، قالت بنبرة أحسها حزنا دفينا :
ـ ستذهب ثانية؟؟ ستتركني...خذني في حضنك...ضمني إليك...

كاد أن يبكي، ابتلع ريقه و ضمها الى صدره، كان يتمنى لو استطاع أن يعصرها و يدخلها بين ضلوعها كما كان يفعل في السابق...
ـ تعرف إنك حبيبي و نوري....
ـ ماما....
و منعته الغصة في حلقه من الكلام، فرفعت رأسها من على صدره ...و قالت في تعب شديد:
ـ سأنام شوية حبيبي...
كانت خصلات شعرها الفضي قد انسابت على وجهها فرفعها ليتأملها:
ـ كما ترين ماما...ارتاحي...سأبقى إلى جانبك
ـ أعرف حبيبي...فأنا أشم رائحة عطرك كلما دخلت و هي تبقى حتى حين تغادر...أحس بوجودك....
و خفت الصوت و نامت كما وجدها حين دخل أول مرة....


************************************************** ****
كان يجلس على ركبتيه قرب السريرالفارغ ، يحدِّق في المكان الذي كان يشغله جسمها الهزيل...وصدى كلمات الطبيب ما زال يصرخ في أذنيه:"لقد وصلت الى المرحلة الأخيرة في مرض الزهايمر..."
رقت نظراته الجافة و هو يسمعها تقول:
ـ إبك حبيبي... إبك فالرجال يبكون و أنت رجلي الهُمام...إبك حبيبي


خديجة منصور
مارس 2012

ربيحة الرفاعي
03-03-2012, 01:25 AM
خديجة منصور
أيتها الفنانة المبدعة
ترسمين بالحرف فتنحفر الملامح وخطوط المشهد لوحة تسحبنا لنصبح جزءا منها
نتقمص شخوصها ونعيش أحداثها وصراعات أبطالها النفسية

لله أنت وهذا النص المدهش

أبدعت غاليتي

تحاياي

ربيع بن المدني السملالي
03-03-2012, 01:38 AM
قرأتُ لك في قسم النثر أختي خديجة منصور ، وراقت لي كلماتك هناك ، وها أنا اليوم أقرأ لك قصّة تحمل بين طيّاتها الكثير من العبر والمعاني ، وبلغة جميلة ، وأسلوب سلس ، وسرد موفق ، شكراً لك أيتها الكريمة ...
دمتِ وفيةً للقرطاس والقلم
تحياتي والمودة

آمال المصري
03-03-2012, 01:40 AM
انغمست في تلك اللوحة الإنسانية البديعة والتي طرزت بأروع خطوط رسمت معالمها بما تحمل لتجعلنا داخل إطار الصورة
راق لي النص بفكرته ولغته الجميلة وروعة الحكي
أديبتنا الفاضلة خديجة ..
دمت ببهاء وألق
تحاياي

وليد عارف الرشيد
03-03-2012, 04:15 AM
ومن قال أني لم أكن أبكي معهما ومعك ... رائعةٌ هذه الأقصوصة لغةً وأسلوبًا وصورًا ومشاعرًا وسردًا وخاتمة
الأخت المبدعة خديجة راقني هذا الألق ... كنت أتمنى ألا تشوبها كلمة (شوية) ضمن هذا الرصف اللغوي المبدع ، ولو كانت الجملة كلها عامية لكانت أقل نفورا.. ومثلك من لايحتاجها
مودتي وتقديري كما يليق وتقديري

ياسر ميمو
03-03-2012, 09:21 AM
دخل يتسلل على أطراف أصابعه، اقترب من سريرها، تأملها على ضوء البهو الخفيف، هاله نحافة جسمها الحبيب، جلس على حافة السرير، و اقترب من وجهها... نفس الملامح الوديعة الأخاذة التي كانت تتأرجح بين البراءة الطفولية و الأنوثة الصارخة....كم أحب هاته الأسارير...
تمنى أن تفتح عينيها ليتأمل لمعانها العسلي المخضب بلون الزمرد...كان يعشق اكتشاف كل العوالم في تقلبات مزاجها عبر سحر مقلتيها.....كم أحَبًّ ابتسامتها وهي ترسم غمزات وجنتيها فتتدثر بندى الصباح و نسيم الليل و عبق الربيع... كم أحَبَّها و هي تسكن كيانه و تملأ حياته....




مارس 2012





السلام عليكم


بسم الله وتبارك الرحمن


بلاغة المعنى وجمال الكلمة ورشاقة الأسلوب


أحببت أن أسجل إعجابي بتلك التحفة


دُمت...... مبدعة

محمد ذيب سليمان
03-03-2012, 04:45 PM
تزرعين الدهشة في ثنايا النفس
وتخطين المفاجأة بسهولة ويسر
وتخرجين الدموع من آماقها دون استئذان

مبدعة راقية

شكرا لك

عايد راشد احمد
04-03-2012, 12:27 PM
السلام هليكم ورحمة الله

استاذتنا واديبتنا

استطعتي ان تسرقي فكرنا واحساسنا من خلال سرد رائع ومعني قوي واسلوب سلس

اجدتي استخدام ادواتك وكان لك منا التقدير

تقبلي تحيتي ومروري

خديجة منصور
20-03-2013, 10:09 AM
خديجة منصور
أيتها الفنانة المبدعة
ترسمين بالحرف فتنحفر الملامح وخطوط المشهد لوحة تسحبنا لنصبح جزءا منها
نتقمص شخوصها ونعيش أحداثها وصراعات أبطالها النفسية
لله أنت وهذا النص المدهش
أبدعت غاليتي
تحاياي



لك كل الحب ربيحة
تنعشينني

خديجة منصور
20-03-2013, 10:12 AM
قرأتُ لك في قسم النثر أختي خديجة منصور ، وراقت لي كلماتك هناك ، وها أنا اليوم أقرأ لك قصّة تحمل بين طيّاتها الكثير من العبر والمعاني ، وبلغة جميلة ، وأسلوب سلس ، وسرد موفق ، شكراً لك أيتها الكريمة ...
دمتِ وفيةً للقرطاس والقلم
تحياتي والمودة



حروفي ممتنة لك
ربيع الواحة

خديجة منصور
20-03-2013, 10:20 AM
انغمست في تلك اللوحة الإنسانية البديعة والتي طرزت بأروع خطوط رسمت معالمها بما تحمل لتجعلنا داخل إطار الصورة
راق لي النص بفكرته ولغته الجميلة وروعة الحكي
أديبتنا الفاضلة خديجة ..
دمت ببهاء وألق
تحاياي



آمال
تدركين أنك رائعة؟
كل الود و المحبة

خديجة منصور
20-03-2013, 10:23 AM
ومن قال أني لم أكن أبكي معهما ومعك ... رائعةٌ هذه الأقصوصة لغةً وأسلوبًا وصورًا ومشاعرًا وسردًا وخاتمة
الأخت المبدعة خديجة راقني هذا الألق ... كنت أتمنى ألا تشوبها كلمة (شوية) ضمن هذا الرصف اللغوي المبدع ، ولو كانت الجملة كلها عامية لكانت أقل نفورا.. ومثلك من لايحتاجها
مودتي وتقديري كما يليق وتقديري



لك كل التقدير و الود
الأستاذ وليد

خديجة منصور
20-03-2013, 10:28 AM
السلام عليكم
بسم الله وتبارك الرحمن
بلاغة المعنى وجمال الكلمة ورشاقة الأسلوب
أحببت أن أسجل إعجابي بتلك التحفة
دُمت...... مبدعة



و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
و دمتم زخرا لواحة الخير بتقييمكم و روحكم

خديجة منصور
20-03-2013, 10:30 AM
تزرعين الدهشة في ثنايا النفس
وتخطين المفاجأة بسهولة ويسر
وتخرجين الدموع من آماقها دون استئذان
مبدعة راقية
شكرا لك



شهادة أعتز بها
شاعرنا الفذ

خديجة منصور
20-03-2013, 10:32 AM
السلام هليكم ورحمة الله
استاذتنا واديبتنا
استطعتي ان تسرقي فكرنا واحساسنا من خلال سرد رائع ومعني قوي واسلوب سلس
اجدتي استخدام ادواتك وكان لك منا التقدير
تقبلي تحيتي ومروري



و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
ممتنة لتذوقك حرفي
كل الود أديبنا

ناديه محمد الجابي
20-03-2013, 11:49 AM
لوحة رائعة هذه القصة..رسمت بحس إنساني وبمهارة
ومشهد إنساني عميق بفكرته ومضمونه
بناء درامي موفق جدا, ولغة قوية جذلة
شكرا لعبق حرف بهذا الجمال.

خديجة منصور
21-03-2013, 01:11 PM
لوحة رائعة هذه القصة..رسمت بحس إنساني وبمهارة
ومشهد إنساني عميق بفكرته ومضمونه
بناء درامي موفق جدا, ولغة قوية جذلة
شكرا لعبق حرف بهذا الجمال.



تشرفينني أ نادية بحضورك البهي
و بتعليقك المثلج للصدر
باقة ورد

نداء غريب صبري
19-04-2013, 12:56 AM
قصص مرضى الزهايمر تؤثر بي أكثر من كل القصص
لأن فيها كبارا عاقلين يتحولون لأطفال
وقصتك وصورت الموصوع بمهارة رائعة ا يتها الفنانة

أشكرك أختي

بوركت

كاملة بدارنه
25-04-2013, 06:02 PM
نجحت في تصوير الحالة المرضيّة التي كشفتها النّهاية بأسلوب رائع
قد يصل الأمر ببعض المرضى إلى نسيان كلّ شيء حتّى أولادهم
بوركت
تقديري وتحيّتي