حميد العمراوي
29-03-2012, 08:26 PM
ﻫﺎ قد جاؤوا ﻳﺤﻔـﺮﻭﻥ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ، كل يوم يحفرون... و يحفرون، حتى اكتظت المدينة بالغرباء، فما عدت أستطيع عــدَّ الوافديـــن.. وفي ﻛﻞ مرة يأتـون للحفــر.. ﻳﺮﺻﺼﻮﻥ الحواجـــز، فتبتعد عني الساقية القديمة أكثـــر، و يُحرم المساء من صوت الأطفال، حولها يمرحون، وينـأى عن سمعي أنيـــن الخشب المهترئ.
هــذا المساءُ سيكون بطعم جديد… يبـدو أنني سأحظى بجار آخـــر عن يميني.. ترى من يكــون؟ و لماذا لا يحق لنا أن نختار الجيران؟.
ليتـه يكون شاعــرا، أو موسيقيا، فقــد مللت أحاديث جاري اليسـار، كلها حكايــا سوق و ضنك عيش.. كل مساء يعيد على مسامعي نفس الحكاية؛ حتــى حفظتها، ولو كنت أملك من أمــري جهدا، لغيرت هذا البيت، فقط كي لا أسمعه... ثم إن صوته مزعــج، يحرمني النوم حين يهذي في الليل.. وما أطول الليل في هذه المدينــــة!.
لعل جاري الجديد يسمعني من الكلام ما أحـــن إلـيه وأشتاق، لعلـه يحفظ الأغاني من الزمن الجميل.. لعله ينظم الأشعــار.. لعله يعرف أخبار العالم الذي لــم أزره.. و أسرار الشمس و الكواكب البعيدة و النجوم، أو لربما يكون عالما بتفسير الأحلام.. فيشفــي غليلي من هذا الحلم الذي لا أصحو منه...
هــا هو يهذي من جديد؛ جاري الممـل... يظن نفسه في حلــم - كما كنت أظــن - مع كل هذا الصمت الذي يلفــه، لا زال يؤمن بالصباح.. ترهقني مقالبه مع الباعــة في السوق، و كلامه مع زوجته و أولاده عن جدوى الصمت، و عن الفائض من الكلام… فلماذا لا يصمت الآن؟! ومتى يعرف الحقيقة؟ متى يكتشف أن الأحلام لا تحلق فوق مدينتنا، و أن الصبح ما عاد لناظره قريبا..
على أي حال ها قد جاؤوا بجاري الموعود، ليس معه من المتاع الكثير، ولن يحتاج مساعدتي على أغلب الظن.. سأصبر قليلا، ولــن أبادره بالكلام حتى يستقر به الحــال.. فأنا أذكر جيدا ليلتي الأولى، حين نقلوني غصبا إلى هذه المدينة.. لــم أكن لأطيق الكلام مع أحدهم، كانت ذاكرتي تضج بالصور عن مدينتي السابقة، عن قريتي الصغيـــرة و عن فناء الــدار.. وحقل الزيتون... لم أكن لأستوعب سببا لتدفــق الذكريات، حتى تلك البعيدة منها.. أذكر أنني أغمضت عينــيَّ حين تذكرت دهشتــي الأولى بالشمــــس.. غريبة هي الشمس، ذاك القرص المشتعل المنيـــر، لا نعرف حقــا جماله إلا حيــن نفقــده، هو هنالك في مكانه… لكــن؛ قد حجبوه عني من كثرة ما يحفرون.. و يحجبني عنه هذا الإسمنت و هذا التــراب...
لماذا التــراب؟! و لماذا البياض في القيــود.؟! أيخافون علينا الهروب؟! و لماذا هذه البيوت تنمو على أسطحها الورود؟!… ما جدوى الورود؟ لم أعهــد من قبل سجنـــا تنمو حولــه و على سقفـــه أزهار!!
عبثا يحاول جاري إصلاح الإنارة في مسكنه الجديد، عبثا يحـاول توضيب بيتــه، لعله يتأقلم مع ضيق المساحة و القيود…
أسمعــه الآن يهمهم بضع كلمــات:
" أرقـــــد أرقــــــد
لا أمشــــي..
ما من زيتونٍ في كفــي
شمســي..
كلما طلعـــت
ستزاور ظلي عـــن كهفـــي "
صدق حدسي إذاً! هو شاعــر أو هكذا يظن.. يتلو قصائده و ينتظر أن يصحو من حلمه، كما جاري بائع الخردة.. حين يوصي زوجته أن توقظه قبل الفجر، ليكون من المبكرين للســوق..
لكن الشعراء هنا سريعــا ما يستوعبون، أن زمـــن الأوراق و الأقلام قد ولَّـى.. وأن عليهم الآن أن يكتبوا بالصمت القصائد…
لكن في هذه القبــــور، يتساوى الجميع في الصمـت، و يتساوون في تقديرهم أخيــــرا لجمــــال الشمــــس..
و يتساءلون جميعا بنفس العمــق، عن جدوى التراب، و عن جدوى الورود، و لماذا البياض في القيود؟! ولماذا القيود؟!
- مساؤك طويـــل… سيدي
- مساؤك أطـــول... سيدي
- عـذرا... أليس الوزن مكســـورا!!
-….
هــذا المساءُ سيكون بطعم جديد… يبـدو أنني سأحظى بجار آخـــر عن يميني.. ترى من يكــون؟ و لماذا لا يحق لنا أن نختار الجيران؟.
ليتـه يكون شاعــرا، أو موسيقيا، فقــد مللت أحاديث جاري اليسـار، كلها حكايــا سوق و ضنك عيش.. كل مساء يعيد على مسامعي نفس الحكاية؛ حتــى حفظتها، ولو كنت أملك من أمــري جهدا، لغيرت هذا البيت، فقط كي لا أسمعه... ثم إن صوته مزعــج، يحرمني النوم حين يهذي في الليل.. وما أطول الليل في هذه المدينــــة!.
لعل جاري الجديد يسمعني من الكلام ما أحـــن إلـيه وأشتاق، لعلـه يحفظ الأغاني من الزمن الجميل.. لعله ينظم الأشعــار.. لعله يعرف أخبار العالم الذي لــم أزره.. و أسرار الشمس و الكواكب البعيدة و النجوم، أو لربما يكون عالما بتفسير الأحلام.. فيشفــي غليلي من هذا الحلم الذي لا أصحو منه...
هــا هو يهذي من جديد؛ جاري الممـل... يظن نفسه في حلــم - كما كنت أظــن - مع كل هذا الصمت الذي يلفــه، لا زال يؤمن بالصباح.. ترهقني مقالبه مع الباعــة في السوق، و كلامه مع زوجته و أولاده عن جدوى الصمت، و عن الفائض من الكلام… فلماذا لا يصمت الآن؟! ومتى يعرف الحقيقة؟ متى يكتشف أن الأحلام لا تحلق فوق مدينتنا، و أن الصبح ما عاد لناظره قريبا..
على أي حال ها قد جاؤوا بجاري الموعود، ليس معه من المتاع الكثير، ولن يحتاج مساعدتي على أغلب الظن.. سأصبر قليلا، ولــن أبادره بالكلام حتى يستقر به الحــال.. فأنا أذكر جيدا ليلتي الأولى، حين نقلوني غصبا إلى هذه المدينة.. لــم أكن لأطيق الكلام مع أحدهم، كانت ذاكرتي تضج بالصور عن مدينتي السابقة، عن قريتي الصغيـــرة و عن فناء الــدار.. وحقل الزيتون... لم أكن لأستوعب سببا لتدفــق الذكريات، حتى تلك البعيدة منها.. أذكر أنني أغمضت عينــيَّ حين تذكرت دهشتــي الأولى بالشمــــس.. غريبة هي الشمس، ذاك القرص المشتعل المنيـــر، لا نعرف حقــا جماله إلا حيــن نفقــده، هو هنالك في مكانه… لكــن؛ قد حجبوه عني من كثرة ما يحفرون.. و يحجبني عنه هذا الإسمنت و هذا التــراب...
لماذا التــراب؟! و لماذا البياض في القيــود.؟! أيخافون علينا الهروب؟! و لماذا هذه البيوت تنمو على أسطحها الورود؟!… ما جدوى الورود؟ لم أعهــد من قبل سجنـــا تنمو حولــه و على سقفـــه أزهار!!
عبثا يحاول جاري إصلاح الإنارة في مسكنه الجديد، عبثا يحـاول توضيب بيتــه، لعله يتأقلم مع ضيق المساحة و القيود…
أسمعــه الآن يهمهم بضع كلمــات:
" أرقـــــد أرقــــــد
لا أمشــــي..
ما من زيتونٍ في كفــي
شمســي..
كلما طلعـــت
ستزاور ظلي عـــن كهفـــي "
صدق حدسي إذاً! هو شاعــر أو هكذا يظن.. يتلو قصائده و ينتظر أن يصحو من حلمه، كما جاري بائع الخردة.. حين يوصي زوجته أن توقظه قبل الفجر، ليكون من المبكرين للســوق..
لكن الشعراء هنا سريعــا ما يستوعبون، أن زمـــن الأوراق و الأقلام قد ولَّـى.. وأن عليهم الآن أن يكتبوا بالصمت القصائد…
لكن في هذه القبــــور، يتساوى الجميع في الصمـت، و يتساوون في تقديرهم أخيــــرا لجمــــال الشمــــس..
و يتساءلون جميعا بنفس العمــق، عن جدوى التراب، و عن جدوى الورود، و لماذا البياض في القيود؟! ولماذا القيود؟!
- مساؤك طويـــل… سيدي
- مساؤك أطـــول... سيدي
- عـذرا... أليس الوزن مكســـورا!!
-….