تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : حلقةٌ مُفرغَةٌ / دينا نبيل



دينا نبيل
06-04-2012, 10:46 PM
حَلقةٌ مُفْرَغةٌ




"حينما تَضغطُ الغَالقَ .. فإنَّ العالمَ ينفتحُ أمَامَك !"

- شارون واكس-




من خلفِ السّتارِ لاحتْ على زُجاجِ النافذةِ تلك الصُّورةُ التي تغبّرتْ .. لا من التُّرابِ العَالقِ على الشِّيش كالعادةِ ، ربّما بسببِ ذلك الإطارِ الذي حاولتُ على مرّ الأسابيع الماضية أن أستعيدَهُ .. أجترّه ، فيأبى إلا أن يتقزّمَ ليتوارى في زاويةٍ حادةٍ من ذاكِرتي .. أخشى انطبَاقَ فكّيها فتقصِمني .. وتُلقي بي في زوبعَةٍ تشُدّني إلى قَاعِها .. بحلقةٍ مُفرغةٍ ..

حلقة .. تصنعُ الإطارَ ..
...

مُفرغة كالعدسةِ التي أمسكتُ بها منذُ أسابيع .. في وسطها تقوقعَ ذلك الصّغيرُ كحلزُونٍ تحت سريرٍ قديمٍ .. زائِغَ العينين .. حابِسَ الأنفَاس كما طلبتُ منه ، والسريرُ كالجاثِمِ على ظهرهِ يزنُقُه في أسفلِ الحلقة .. تَسيلُ على رأسِه قطراتٌ حمراءُ متقّدةٌ .. وكفاه كالكعكةِ الصغيرةِ يرتجفان .. يكادان يتفتّتان بينما يتشبثانِ بالأرض ! ..
...


" واحد .. اثنان .. ثلاثة !
انتهينا ..
هاكَ الشطيرةَ ! .. كما اتفقنا !"


وضعَها بجانبِه ! .. خلتُه سيلتهمُها التهاماً ، نعم لم تكن طازجةً ، لكن ظني أنهُ لم يأكُلْ منذ أيّام ..
أنّى له ذلك ، وأعلى السريرِ يرقدُ والداهُ جنباً إلى جنبٍ وقد قُطٍّعتْ أطرافُهُما واختلطتْ معاً في بركةِ دماء تجمّعَ حولها الذُّبابُ ؟! ..
الصّورةُ حارةٌ حرارة تلك الدماءِ المتقطّرةِ ..
طازجةٌ طزاجة إحساسِ الخوفِ .. الترقّبِ .. وعينين انطفأ منهما النورُ .. لم يبقَ بهما سوى ظلامٌ آتٍ مجهولُ المدى !

تسمّرتُ أمامَه وأنا أشعرُ نحوه بالدَّينِ الكبيرِ .. لم تكُنْ تلك الصورةُ التي أهداني حيويةَ نبضِها مجرد صورةٍ إشهاريةٍ في جريدةٍ من جرائدِ المُعارضةِ ، وإنما صُورةٌ ستعبرُ إطارَها لتجُوبَ كُبرى المعارضِ ، ربّما طمعتُ أن تستفزّ مشاعرَ العالمِ كصُورةِ الفيتناميةِ *كيم فوك لتُنهي حرباً رعناءَ .

ربَّتُّ على كَتفه .. " لا تقلقْ .. قريباً سينتهي كلُ هذا ! "
قطعتُ له لقمةً من الشّطيرةِ ، ووضعتُها في فمه .. لم يُحركْ ساكناً
هو لا ينطقُ .. رأسُه منكّسٌ ، لا يلتفتُ حتى !
...

غطّيتُه ببطّانيةٍ .. وخرجَ أمامي من البيتِ .. خُطواتُه مُبعثرةٌ ككرارِيسِه هُنا وهُناك .. تائِهةٌ كلوحاتِ بُيوتٍ لم تكتملْ بعد وأطفالٍ بلا ملامحَ ونبتاتٍ دُهسَتْ بالأقدامِ .. رسمَتْها يدٌ لا تُحسنُ خطَّ القلمِ .
وعندَ الصَّليبِ الأحمرِ .. في سجلٍّ كبيرٍ تمّ إدراجُ اسمِه ، وزَميلي بجانبي يُقيّدُه في دفتَرِه رقَماً .. واختفى بينَ رُؤوسٍ وأجسادٍ متشابهةٍ في الحجمِ واللونِ .. لتنقلهُم عرباتٌ رماديةٌ كبيرةٌ ..

هذا هُو سلاحي الوحيدُ إذن ! ..
هنا داخلَ تلك الآلةِ المُزعجةِ .. التي تقتحِمُ العامَ والخاصَ !
أحتضِنُها .. أخبئُها داخل سُترتي بعدَ أن حبسْتُ في بؤبؤها لحظةً وإلى الأبد .. كمْ أصيرُ صيداً ثميناً وأنا أحملُها ، وأعدوا مع زُملائي في شوارِع ما يُمكنُ القولُ عنها أنها لا أكثرَ من حطامٍ لمدينةٍ .. ساعتُها لا نعبأُ إن كان شريطُ ألوانٍ معتمٍ في صُندوقٍ أسودَ صغيرٍ أكثرَ أهميّةً من ألوانِ طيفٍ تعجّ بها السّماءُ!
السّماءُ سقطَ عنها شمسُها وقمرُها .. ترتفعُ عن الأرضِ .. تعلُو .. ترتجّ من أزيزِ طائراتٍ تتعقبّ اللاشيء .. والأرضُ جُنّ جنونُها .. تتقاذفُنا من على ظهرِها المُخرّقِ بالرّصاصِ الطّائشِ! ..

فقط هي بضعةُ أمتارٍ ! ..
بضعةُ أمتارٍ ونصلُ إلى مقرّنا لنُخرجَ تلك المُنمنماتِ التي في حوزتنا ..
لم يكن سوى ذلك الحَاجز القاسِي كالصُّلبِ الذي ظهرَ فجأةً أمامَنا .. حائلٌ ضبابيٌّ حارقٌ اصطدمنا به كفَراشٍ هائجٍ .. وارتددنا ..
اصطدمنا وتساقطنا ..
وتوقّفَ كلُّ شيءٍ ..

وتوقّفَ الزمنُ عدا عَجلة ذاكرتي المُفكّكة ..
تتحركُ ببُطئٍ شديدٍ وسطَ غماماتٍ .. تستجمعُ تروساً مُكدسّةً مشحُوذةَ الأسنانِ .. صُندوقاً أسودَ به شريط ملفوف .. سريراً يقطرُ .. حلزُوناً صغيراً!

بارْتجافٍ .. العجلةُ
تدورُ .. !
وتعودُ تدورُ ..
وتدورُ حولي أرجاءُ غرفةٌ لا أعرفها ..
أفيقُ على ...
" تلك هي صورةُ السّاعة ! ..
واحد .. اثنان .. ثلاثة ..!"
ووميضٍ ..
وأقمطةٍ .. تلفُّني من رأسِي حتى أُخمصِ قدمي كالمُومياءِ ومَشدّاتٌ تُصلبّني كدُميةٍ بلاستيكيةٍ .. أردتُ أن أفتحَ فمي .. أسألُ عن ( كاميرَتي ) ..!
أنفاسي مُتوهجةٌ تخرجُ بضيقِ ثقبِ آلتي المفقودةِ !
الأصواتُ حولي تغمغمُ .. تتعَالى .. وعيناي حُبيسِتا المحجَرين ، أصحابُ المعاطفِ البيضاءِ يهرعُون بسرعةٍ بين الأسِرّةِ ..
هممتُ أن أزعقَ .. باسمي .. بصُورتي الضائعةِ !
انحشرَ صوتي بين حلقي وخُرطومٍ دقيقٍ خارجٍ منهُ ..
..
بينما الطّبيبُ يقيّدُني في سجلِ المفقُودين رقماً !


----------
*كيم فوك :صاحبة الصورة التي هزت العالم عام 1972 ، في حرب فيتنام ، وفي الصورة الشهيرة كانت الطفلة – كيم فوك - تركض عارية فزعة تحت قنابل النابالم الحارقة المحرّمة دولياً.

محمد عبد القادر
07-04-2012, 02:34 PM
مشاهد تحتاج قراءات متأنية
أعود هنا حتمًا إن شاء الله
أسجل إعجابى بالأسلوب و اللغة
تحياتى
و
إلى لقاء

ربيحة الرفاعي
07-04-2012, 04:45 PM
ربما لا تكون الحلقة مفرغة تماما
فهي في كل مرة توصل عبر عذابات البشر لانتصار آخر لقوى الشر برغم كل شيء

نص باهر بصورة المسكونة بالمشاعر، وذكاء التفاف النص حول صورة متكررة بمهارة اضفت عليها جدّة وتاثيرا مدهشين

قاصة ماهرة وانسانة راقية قرأت هنا بديع حرفها فسكنني ما أرادت من أثر

الرائعة دينا نبيل

أهلا بك في واحة الخير

تحيتي

دينا نبيل
08-04-2012, 06:25 PM
مشاهد تحتاج قراءات متأنية
أعود هنا حتمًا إن شاء الله
أسجل إعجابى بالأسلوب و اللغة
تحياتى
و
إلى لقاء


أ / محمد عبد القادر ..

تحياتي لقراءة حضرتك المتأنية وتفاعلك الطيب .. وتعليقك الراقي ..

سأنتظر عودتك .. وقراءتك النيّرة

تقديري واحترامي

وليد عارف الرشيد
08-04-2012, 07:16 PM
رائعةٌ قصتك لا تخفي أثرها في النفس حزنًا أوتعاطفًا أو متعةً لقارئ
أحييك مبدعتنا القديرة الأستاذة دينا
مودتي وتقديري كما يليق بهذا الألق
همسة : أعدو ليست بحاجة لألف بعد الواو لعلها زيادة طباعية

أحمد عيسى
08-04-2012, 09:34 PM
نصٌ باهر

للحظة خلت نفسي تائه في حلقات قصتك هذه
حتى أتت النهاية لتعيدني الى الواقع ، وتفسر لي سر توهاني ، فتكون القصة فعلاً حلقة مفرغة ، تبدأ من حيث تنتهي

نصٌ أنيق ميزته لغة قوية وأسلوب قوي متداخل بطريقة عبقرية
القصة تحتاج الى دراسة وتحليل ، ربما تأخرت بالمرور عليها بسبب انشغالاتي
لكني أثبتها اليوم لكي نقرأها جميعاً ونبدي الرأي ونستفيد من قلمك الجميل أستاذة دينا

للتثبيت تقديراً

دينا نبيل
10-04-2012, 11:49 AM
ربما لا تكون الحلقة مفرغة تماما
فهي في كل مرة توصل عبر عذابات البشر لانتصار آخر لقوى الشر برغم كل شيء

نص باهر بصورة المسكونة بالمشاعر، وذكاء التفاف النص حول صورة متكررة بمهارة اضفت عليها جدّة وتاثيرا مدهشين

قاصة ماهرة وانسانة راقية قرأت هنا بديع حرفها فسكنني ما أرادت من أثر

الرائعة دينا نبيل

أهلا بك في واحة الخير

تحيتي


أ / ربيحة الرفاعي ..

استاذتي الجليلة .. كل التقدير لمرورك وكلماتك الجميلة في حقي .. وكم أتمنى أن أكون بحقها ..

تقديري الكبير لتفاعلك مع ما جسّدت من صور مؤلمة هنا .. ويكفيأنها حقيقية نراها في إخواننا يوميا ..

حفظنا الله جميعا بحفظه ..

تحياتي

نادية بوغرارة
11-04-2012, 03:59 PM
كأنه دوران يفرض طقوسه على ضحاياه ، فيكون آخرهم كأولهم ،

لا انفلات لهم من قبضة حلقاته .

مدهشة قصتك .

الأديبة دينا نبيل ،

دمت متألقة .

دينا نبيل
13-04-2012, 06:58 AM
رائعةٌ قصتك لا تخفي أثرها في النفس حزنًا أوتعاطفًا أو متعةً لقارئ
أحييك مبدعتنا القديرة الأستاذة دينا
مودتي وتقديري كما يليق بهذا الألق
همسة : أعدو ليست بحاجة لألف بعد الواو لعلها زيادة طباعية


أ / وليد الرشيد ..

كل التحايا لمرورك الجميل .. ونصيحتك الطيبة ، وبالفعل لقد قمت بالتصويب في نسختي ، لكن مع الأسف لم أتمكن من تعديلها هنا ..

كل الشكر والتقدير على التفاعل الراقي ..

تحياتي

آمال المصري
13-04-2012, 07:31 PM
رغم الألم الذي غلف النص إلا أنه كان ماتعا سردا وفكرة وحبكة قصصية
حيث نجحت في لملمة خيوط القصة بالنهاية المدهشة
نص يستحق التثبيت جدارة
دمت بألق وبهاء
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

دينا نبيل
20-04-2012, 05:49 PM
نصٌ باهر

للحظة خلت نفسي تائه في حلقات قصتك هذه
حتى أتت النهاية لتعيدني الى الواقع ، وتفسر لي سر توهاني ، فتكون القصة فعلاً حلقة مفرغة ، تبدأ من حيث تنتهي

نصٌ أنيق ميزته لغة قوية وأسلوب قوي متداخل بطريقة عبقرية
القصة تحتاج الى دراسة وتحليل ، ربما تأخرت بالمرور عليها بسبب انشغالاتي
لكني أثبتها اليوم لكي نقرأها جميعاً ونبدي الرأي ونستفيد من قلمك الجميل أستاذة دينا

للتثبيت تقديراً


أ / أحمد عيسى القدير .. أيها القاص المبدع

أنتظر مرورك القيّم على ما أكتب .. وانتظر رأيك الذي أثمنه بالكثير
وقد سعدت أن النص قد راقكم رغم حلقاته المتداخلة
ولكن هو الواقع .. بتداخلاته وحلقاته التي تجذبنا داخلها حتى نفقد الوعي في دوامته

أشكرك على كلماتك التي ذكرتها في حقي ..

أشكرك على التثبيت وعلى كل شيء ..

تحياتي

محمد عبد القادر
12-05-2012, 03:38 AM
يتعثر حظى دومًا عند قراءة هذه القصة
و أكون فاقدًا للتركيز
بشكل يحدنى من الثرثرة :)
لكن يدفعنى إندماجى مع القصة
إلى الإشادة بها فى كل مرة أخطو فيها هنا
و لازالت العودة مستمرة ^_^

دينا نبيل
14-05-2012, 09:35 PM
كأنه دوران يفرض طقوسه على ضحاياه ، فيكون آخرهم كأولهم ،

لا انفلات لهم من قبضة حلقاته .

مدهشة قصتك .

الأديبة دينا نبيل ،

دمت متألقة .


الغالية أ / نادية ..

لك تقديري على قراءتك المتأنية .. ومرورك الجميل الذي تزدان به صفحتي

تحياتي

دينا نبيل
21-06-2012, 09:22 AM
رغم الألم الذي غلف النص إلا أنه كان ماتعا سردا وفكرة وحبكة قصصية
حيث نجحت في لملمة خيوط القصة بالنهاية المدهشة
نص يستحق التثبيت جدارة
دمت بألق وبهاء
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي


استاذتي القديرة آمال المصري

كل التحية لتعليقك وكلماتك الجميلة في حق ما كتبت
لا حرمت طلتك الندية سيدتي

وأشكرك على دفء ترحابك .. لك تقديري

تحياتي

نداء غريب صبري
12-05-2013, 01:28 AM
الصور أكثر من جميلة
إنها مدهشة
والسرد مشوق واللغة قوية
شكرا لك أختي القاصة دينا نبيل

بوركت

ناديه محمد الجابي
04-08-2014, 06:40 PM
وأعلى السريرِ يرقدُ والداهُ جنباً إلى جنبٍ وقد قُطٍّعتْ أطرافُهُما واختلطتْ معاً في بركةِ دماء تجمّعَ حولها الذُّبابُ ؟! ..
الصّورةُ حارةٌ حرارة تلك الدماءِ المتقطّرةِ ..
طازجةٌ طزاجة إحساسِ الخوفِ .. الترقّبِ .. وعينين انطفأ منهما النورُ .. لم يبقَ بهما سوى ظلامٌ آتٍ مجهولُ المدى !

سبك جميل حمل فكرة موجعة حد القهر بسرد شائق
بين روعة لغتك، وعمق طرحك ، وجميل أسلوبك قضيت حصة في
حلقات متداخلة كالدوامة أحسست أني أغرق داخلها
قصة بديعة فنيا وإنسانيا عبر أسلوب راق في السرد
دمت من قاصة مبدعة.

خلود محمد جمعة
25-06-2015, 09:53 AM
حلقات تدور بسرعة وعنف حتى تلقي ما بجوفها على ارض الحقيقة العارية والقاحلة والخالية من ضميرها لتعود الصور قافزة هربا الى الدوران الذي قد يقذفها لعمقه لتبقى الدوائر خاليه من ضمير إنسانيتها
مؤلمة وعميقة بإتقان وجمال في الصور والمعنى
بوركت وكل التقدير

د. سمير العمري
02-03-2016, 05:43 PM
هي حلقة مفرغة لا تتوقف في ظل موت الضمير في نفوس أكثر أهل هذا الزمان المر.

قصة جميلة وطرح مميز أثني عليه.

تقديري