تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الْغَــــــــــــــدُ



ربيع بن المدني السملالي
09-04-2012, 06:52 PM
الْغَــــــــــــــدُ

بقلم / الأديب الْمُفوّه مصطفى لطفي المنفلوطي ( رحمه الله )

عرفت أني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم ، وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي ، وأن بين يدي صحيفة بيضاء تَسْوَدُ قليلاً كلما أجريت القلم فيها ، ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو دون غايته ؟ وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه ، أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها ؟ لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئا ، ولأن المستقبل بيد الله . عرفت أني لبست أثوابي في الصباح ، وأني لا أزال ألبسها حتى الآن ، ولكني لا أعلم ، هل أخلعها بيدي ، أو تخلغها يدُ الغاسل ؟
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد ، فربما كان ملكا رجيما ، وربما كان شيطانا جيماً ، بل ربما كان سحابه سوداء ، إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها ، وبعثرت ذراتها ، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود
الغد بحر ، خضم ، زاخر ، يعب عبابه ، وتصطخب أمواجه ، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر ، أو الموت الأحمر .
لقد غمض الغد عن العقول ، ودق شخصه عن الأنظار ، حتى لو أن إنسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره ، لا يدري أيضعها على عتبة القصر أم على حافة القبر .
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار ، تحوم حوله البصائر ، وتتسقطه العقول ، وتستدرجه الأنظار ، فلا يبوح بسر من أسراره ، إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال
كأني بالغد وهو كامن في مكمنه ، رابض في مجثمه . متلفع بفضل إزاره ، ينظر إلى آمالنا نظرات الهزء والسخرية ، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء ، يقول في نفسه : لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب ، وهذا الولد أن يلد للموت : ما جمع الجامع ، ولا بنى الباني ، ولا ولد الوالد .
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم ، فاتخذ نفقا في الأرض ، وصعد في سلم إلى السماء ، وعقد مابين المشرق والمغرب بأسباب من حديد ، وخيوط من نحاس ، وانتقل بعقله إلى العالم العلوي ، فعاش في كواكبه ، وعرف أغوارها وأنجادها ، وسهولها ، وبطاحها ، وعامرها ، وغامرها ، ورطبها ويابسها ، ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة والموازين لوزن كرة الأرض إجمالاً وتفصيلاً .
وغاص في البحار فعرف أعماقها ، وفحص تربتها ، وأزعج سكانها ، ونبش دفائنها ، وسلبها كنوزها ، وغلبها على لآلئها وجواهرها .
ونفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها ، وعرف كيف يعيشون وأين يسكنون ، وماذا يأكلون ويشربون .
وتسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة ، فعرف النفوس وطبائعها ، والعقول ومذاهبها ، والمدارك ومراكزها ، حتى كاد يسمع حديث النفس ، ودبيب المنى .
واخترق بذكائه كل حجاب ، وفتح كل باب ، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزاً مقهوراً لا يجرؤ على فتحه ، بل لا يجسر على قرعه ، لأنه باب الله ، والله لا يطلع على غيبه أحد .
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب ، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى صفحة واحدة من صفحات وجهك المقنع ؟ أو لا ، فاقترب منا قليلاً ، وعلنا نستشف صورتك من وراء هذا اللثام المسبل دوننا ، فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك ، وذابت أكبادنا وجداً عليك .
أيها الغد ، إن لنا آمالا كبارا وصغارا ،وأماني حسانا وغير حسان , فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك؟ وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها ؟ أأذللتها واحتقرتها ، أم كنت لها من المكرمين ؟
لا ، لا ، صن سرك في صدرك ، وأبقِ لثامك على وجهك ، ولا تحدثنا حديثا واحداً عن آمالنا وأمانينا ، حتى لا تفجعنا في أرواحنا ونفوسنا ، فإنما نحن أحياء بالآمال ، وإن كانت باطلة ، وسعداء بالأماني ، وإن كانت كاذبة .
وليست حياة المرء إلا أمانيا ــــــــــ إذا هيَ ضاعت فالحياة على الأثر


النّظرات ج 1 ص 35 . 36 . 37

لؤي عبد الله الكاظم
10-04-2012, 10:07 AM
وليست حياة المرء إلا أمانيا ــــــــــ إذا هيَ ضاعت فالحياة على الأثر


جزيت خيراً أخي وأستاذي ربيع المدني على هذا الإمتاع ..


والغد غيوم غيب تتكشف عن شهود الوجود .. واحتجاب الشهود بفقد الموجود ..


والناس تسعى إلى دار ستبلغها *** بالخير تدرك مرقاها وعقباها


بوركت على النقل وحسن الاختيار ..


وجعلها الله في ميزان حسنات كاتبها كأُحُدٍ أجراً أو تزيد ..

ربيع بن المدني السملالي
10-04-2012, 11:14 PM
جزيت خيراً أخي وأستاذي ربيع المدني على هذا الإمتاع ..


والغد غيوم غيب تتكشف عن شهود الوجود .. واحتجاب الشهود بفقد الموجود ..


والناس تسعى إلى دار ستبلغها *** بالخير تدرك مرقاها وعقباها


بوركت على النقل وحسن الاختيار ..


وجعلها الله في ميزان حسنات كاتبها كأُحُدٍ أجراً أو تزيد ..

شاعرنا الكريم لؤي عبد الله الكاظم سررت بهذا الحضور الجميل بارك الله فيك وجزاك خيراً
دمت بخير وعافية
تحياتي لك والمودة

نادية بوغرارة
11-04-2012, 02:27 AM
من مفضلاتي الأدبية و ربما تكون أكثر شيء أعاود قراءته من كتب الأدباء ،

و لا أملّ من ذلك .

الأخ ربيع السملالي ،

كل الشكر لك .

عمر الحجار
11-04-2012, 02:38 AM
يستحضرني عمر الخيام سيدي


لبست ثوب العيش لم استشر
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف انضو الثوب عني
ولم ادرك لماذا جئت اين المفر



دم بخير وصفاء

ربيع بن المدني السملالي
11-04-2012, 02:57 AM
من مفضلاتي الأدبية و ربما تكون أكثر شيء أعاود قراءته من كتب الأدباء ،

و لا أملّ من ذلك .

الأخ ربيع السملالي ،

كل الشكر لك .

نعم وأنا مثلك ، كتب المنفلوطي هي التي حببت لي الأدب أيتها الراقية ، وقد قرأت أعماله مرارا وتكرارا ..
شكرا لهذا الحضور الكريمة شاعرتنا الكريمة ، والأخت العزيزة نادية
دمت بخير وعافية وسلامي للكتكوتات
تحياتي

نداء غريب صبري
15-02-2013, 02:20 PM
عرفت أني لبست أثوابي في الصباح ، وأني لا أزال ألبسها حتى الآن ، ولكني لا أعلم ، هل أخلعها بيدي ، أو تخلغها يدُ الغاسل ؟
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد ، فربما كان ملكا رحيما ، وربما كان شيطانا رجيماً ، بل ربما كان سحابه سوداء ، إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها ، وبعثرت ذراتها ، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود
ما أجمل قطوفك أخ الربيع
وما اروع ما تتحفنا به

شكرا لك

ناديه محمد الجابي
09-03-2021, 06:34 PM
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار , تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول وتستدرجه الأنظار
, فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال.

ما اروع اختيارك ، وما أمتع القراءة لكتب المنفلوطي
فكرا وأدبا ولغة وعلما
سلمك الله على جميل مأحضرت.
تحياتي وتقديري.
:0014::0014:

أسيل أحمد
09-04-2022, 11:58 PM
أيها الغد.. ان لنا آمالاً كباراً وصغاراً واماني حساناً وغير حسان فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك وخبرنا عن امانينا ماذا صنعت بها؟؟
أأذللتها واحتقرتها ام كنت لها من المكرمين؟؟
جميل هو المنفلوطي فكرا وقلبا وادبا
بوركت على النقل الحسن ـ ودمت بكل خير.