تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قصة أعجبتني



علياء التميمي
14-04-2012, 11:34 AM
حكاية صورة

مدّ يداً مرتعشةً إلى الصورة الملقاة فوق مكتبه ، ومسح بالأخرى ما علاها من التراب ، رفعها أمام حشد من الرجال الصامتين طالباً منهم أن ينظروا إليها ، خنقته الحسرة ، وغلبته الدموع ، ولكنه كان متماسكاً.. بالله عليكم ، انظروا إلى (بيسان) ، هذه هي ابنتي الكبرى في عمر الورد ، وهذه اختها (مايا) ، وتلك (أمل) أصغرهنّ. هل أحد منكم لا يعرفهن؟ثلاثة أسابيع والطبيب عزّالدين منهمك في أداء واجبه الوطني في مستشفى الشفاء بغزّة ، حيث أنقذ حياة الكثير من المصابين أثناء القصف المجنون ، كان بودّه كلما عالج طفلاً أن يتصل بأسرته ليسأل بيسان عن أختيها ، ولكن بشاعة القصف ، وقسوته ، وتواصله ، كان يحول دون هذه الرغبات الصغيرة. وذات قصف محموم جاءه صوت مايا من خلال الهاتف الجوال: بابا حبيبي ، كيفك؟ أخيراً سمعنا صوتك ، لا تقلق ، نحن بخير ، نعلم ظروفك ، ربنا معك ، أطفال غزّة بحاجة إليك. كلماتها هزّته من الأعماق ، تجلّد حتى انتهت مكالمتها السريعة ، التي اختلط فيا صوت القنابل ، بأزيز الطائرات ، وهدير الدبابات. حين التحق بجامعة القاهرة لدراسة الطب ، كان يمنّي نفسه أن يرعى في المستقبل أسرته الصغيرة طبّياً على نحو مثالي. سأتابع نمو أطفالي ، سأنظم طعامهم وشرابهم ، سأعمل المستحيل لحمايتهم من الفيروسات والأمراض المعدية. سيحمل أول أبنائي اسماً مميّزاً ، وليكن بيسان ، الله، اسم جميل ، ولكنه مكان في شمال فلسطين ، ونحن في أقصى جنوبها ، ولم لا؟ لا فرق بين شمال وجنوب ، وشرق وغرب ، فالوطن واحد ، والرب واحد. ما زال عزّالدين يرفع الصورة بيده المرتعشة ، ويقول: بالله عليكم، كيف يقوى إنسان على كراهية بيسان؟ كيف يستطيع إنسان أن يقاوم محبة مايا؟ هل رأيتم صغيرتي أمل وروعة ضحكتها ، وجمال ضفائرها ، ورشاقة خطوها...؟في الخلف ، بدت من نافذة المكتب أكوام الحجارة المتناثرة ، وبقايا الأثاث والأمتعة المبعثرة ، وأطفال صغار يستوطنهم الذعر ، وتطل الدهشة من عيونهم ، وعلى وجوههم أسئلة كثيرة حائرة. استحلفكم بالله أن تقولوا شيئاً، صمْتّ مطْبق كصمت القبور يلفّ الجميع ، كأنهم اتفقوا من قبل على أداء هذا المشهد ، وتدربوا عليه طويلاً ، لكن وجوههم تفصح عن الكثير. ربما يكون الصمت - أحياناً - أبلغ من الكلام. دعْهم يا عزّ الدين ، لا تسلْهم عن صمتهم ، سلْهم عمّن سرق الكلام عن ألسنتهم ، واغتال براءة أطفالهم. هذا أوان العمل لا القول. لي الله ، فهو حسبي وحسبهم. ولكن..آه، لوْ لمْ يصمت النظام العربي الرسميّ عشرين يوماً لما ماتت بيسان، لو لم يصمت النظام العالمي عشرين يوماً لما ماتت مايا، لو ظلّ الشارع العربي يصرخ ، ويصرخ لما ماتت أمل، أرجوكم ، يكاد صمتكم يقتلني.لم ينبس أحدهم بكلمة ، ولا تحرك أحدهم خطوة ، تسمّروا في أماكنهم ، شلّت الكلمات إرادتهم ، تمنّى لو عانقه أحدهم ، ما أحوجني إلى كتف أبكي عليه، من يعوّضني منكم صوت أمل ، وهي تتهجّى أبجديتها بصعوبة؟تذكّر حين غلبه النوم ذات ليلة جُنّ القصف فيها ، بعد أن أمضى يومين من العمل المتواصل ، والأطباء العرب المتطوعون يقفون منذ أسبوع على بوّابة معبر رفح المغلق ، ينتظرون السماح لهم بالدخول لمساعدتهم. رأى فيما يرى النائم أنه حمل بعض أشتال البرتقال الغزّي ، ومضى بها إلى طرف غزّة البعيد ، حيث وجد الكثير من الرجال منهمكين في زراعة أشتال الليمون والبرتقال ، ومنْ فرغ منهم أخذ في صبّ الماء حول ما زرع ، وبحرْص شديد زرع ما حمل ، وحين بحث عن الماء ليسقيها لم يجده ، ركض في كلّ اتجاه بحثاّ عن قطرة ماء حتى خارت قواه ، وصحا من نومه مذعوراً ، مرهقاً ، وقد جفّ حلقه ، فاستعاذ بالله ، وواصل صحوه.صرخ فجأة: أفيكم من يفسّر لي ما رأيت؟لم يفهموا شيئاً مما يقول ، ولا دروْا عمّ يسألهم ، وأشفقوا عليه ، فما زالت الصورة في يده المرتعشة ، وما زالت دموعه تغالب كبرياءه وتجلّده.. - همس أحدهم: الرجل فقد عقله ، وبدأ يهلوس. - كان الله في عونه ، مصيبته كبيرة. - ما العمل؟لم يسمع شيئاً من همْسهم ، دسّ الصورة بعناية في جيبه ، وقال لهم في رجاء: أريد أن أزور قبورهم. تحرّكوا وكأنّهم رجل واحد ، لا صوت سوى صوت وقْع أقدامهم. المدهش أنه بدأ يتقدمهم ، ويمضي في الاتجاه الصحيح ، وفجأة توقف قائلاً: أظنّها هنا. نعم ، هي كذلك. هنا زرعت شتلات البرتقال ، وعزّ عليّ الماء. أرجوكم ، أغيثوني بشيء من الماء. لم يسألوه شيئاً. هبوا من حوله ، وأحضروا له ما تيسّر منه ، وظلّ يصبّ الماء فوق قبورهن ، وهو يبكى بصمت ، ويتمتم بكلام لا يفهمه إلاّ الله والراسخون في محبة أوطانهم.

كاتب وأستاذ في جامعة البترا.
Date : 06-02-2009

احمد خلف
17-04-2012, 07:59 PM
الاخت علياء التميمي
كل الشكر لمجهوداتك الطيبة
وينقل الموضوع للقسم المناسب

علياء التميمي
18-04-2012, 06:06 PM
الاخت علياء التميمي
كل الشكر لمجهوداتك الطيبة
وينقل الموضوع للقسم المناسب

كل الشكر استاذ احمد

وهل لي أن أعرف أين سينقل الموضوع؟

ربيحة الرفاعي
01-05-2012, 04:57 PM
قصة منقولة موقعها الاستراحة

أعتذر من مشرفنا الرائع أحمد خلف
وأعيدها للاستراحة

مع فيوض التحايا

أماني عواد
01-05-2012, 08:46 PM
االاستاذة علياء التميمي


آه، لوْ لمْ يصمت النظام العربي الرسميّ عشرين يوماً لما ماتت بيسان، لو لم يصمت النظام العالمي عشرين يوماً لما ماتت مايا، لو ظلّ الشارع العربي يصرخ ، ويصرخ لما ماتت أمل، أرجوكم ، يكاد صمتكم يقتلني


علمونا ان السكوت من ذهب فصمتنا حتى حين سلبوا منا من هم اغلى من الذهب


قصة موجعة حد الموت
سلم نبضك

علياء التميمي
06-05-2012, 09:41 PM
االاستاذة علياء التميمي


علمونا ان السكوت من ذهب فصمتنا حتى حين سلبوا منا من هم اغلى من الذهب


قصة موجعة حد الموت
سلم نبضك

استاذة أماني
شكرا لك على مرورك اللطيف
فعلا موجعة ومؤثرة

سلمت لنا
:sm:

علياء التميمي
07-05-2012, 10:39 AM
حكاية صورة

مدّ يداً مرتعشةً إلى الصورة الملقاة فوق مكتبه ، ومسح بالأخرى ما علاها من التراب ، رفعها أمام حشد من الرجال الصامتين طالباً منهم أن ينظروا إليها ، خنقته الحسرة ، وغلبته الدموع ، ولكنه كان متماسكاً.. بالله عليكم ، انظروا إلى (بيسان) ، هذه هي ابنتي الكبرى في عمر الورد ، وهذه اختها (مايا) ، وتلك (أمل) أصغرهنّ. هل أحد منكم لا يعرفهن؟ثلاثة أسابيع والطبيب عزّالدين منهمك في أداء واجبه الوطني في مستشفى الشفاء بغزّة ، حيث أنقذ حياة الكثير من المصابين أثناء القصف المجنون ، كان بودّه كلما عالج طفلاً أن يتصل بأسرته ليسأل بيسان عن أختيها ، ولكن بشاعة القصف ، وقسوته ، وتواصله ، كان يحول دون هذه الرغبات الصغيرة. وذات قصف محموم جاءه صوت مايا من خلال الهاتف الجوال: بابا حبيبي ، كيفك؟ أخيراً سمعنا صوتك ، لا تقلق ، نحن بخير ، نعلم ظروفك ، ربنا معك ، أطفال غزّة بحاجة إليك. كلماتها هزّته من الأعماق ، تجلّد حتى انتهت مكالمتها السريعة ، التي اختلط فيا صوت القنابل ، بأزيز الطائرات ، وهدير الدبابات. حين التحق بجامعة القاهرة لدراسة الطب ، كان يمنّي نفسه أن يرعى في المستقبل أسرته الصغيرة طبّياً على نحو مثالي. سأتابع نمو أطفالي ، سأنظم طعامهم وشرابهم ، سأعمل المستحيل لحمايتهم من الفيروسات والأمراض المعدية. سيحمل أول أبنائي اسماً مميّزاً ، وليكن بيسان ، الله، اسم جميل ، ولكنه مكان في شمال فلسطين ، ونحن في أقصى جنوبها ، ولم لا؟ لا فرق بين شمال وجنوب ، وشرق وغرب ، فالوطن واحد ، والرب واحد. ما زال عزّالدين يرفع الصو:020:رة بيده المرتعشة ، ويقول: بالله عليكم، كيف يقوى إنسان على كراهية بيسان؟ كيف يستطيع إنسان أن يقاوم محبة مايا؟ هل رأيتم صغيرتي أمل وروعة ضحكتها ، وجمال ضفائرها ، ورشاقة خطوها...؟في الخلف ، بدت من نافذة المكتب أكوام الحجارة المتناثرة ، وبقايا الأثاث والأمتعة المبعثرة ، وأطفال صغار يستوطنهم الذعر ، وتطل الدهشة من عيونهم ، وعلى وجوههم أسئلة كثيرة حائرة. استحلفكم بالله أن تقولوا شيئاً، صمْتّ مطْبق كصمت القبور يلفّ الجميع ، كأنهم اتفقوا من قبل على أداء هذا المشهد ، وتدربوا عليه طويلاً ، لكن وجوههم تفصح عن الكثير. ربما يكون الصمت - أحياناً - أبلغ من الكلام. دعْهم يا عزّ الدين ، لا تسلْهم عن صمتهم ، سلْهم عمّن سرق الكلام عن ألسنتهم ، واغتال براءة أطفالهم. هذا أوان العمل لا القول. لي الله ، فهو حسبي وحسبهم. ولكن..آه، لوْ لمْ يصمت النظام العربي الرسميّ عشرين يوماً لما ماتت بيسان، لو لم يصمت النظام العالمي عشرين يوماً لما ماتت مايا، لو ظلّ الشارع العربي يصرخ ، ويصرخ لما ماتت أمل، أرجوكم ، يكاد صمتكم يقتلني.لم ينبس أحدهم بكلمة ، ولا تحرك أحدهم خطوة ، تسمّروا في أماكنهم ، شلّت الكلمات إرادتهم ، تمنّى لو عانقه أحدهم ، ما أحوجني إلى كتف أبكي عليه، من يعوّضني منكم صوت أمل ، وهي تتهجّى أبجديتها بصعوبة؟تذكّر حين غلبه النوم ذات ليلة جُنّ القصف فيها ، بعد أن أمضى يومين من العمل المتواصل ، والأطباء العرب المتطوعون يقفون منذ أسبوع على بوّابة معبر رفح المغلق ، ينتظرون السماح لهم بالدخول لمساعدتهم. رأى فيما يرى النائم أنه حمل بعض أشتال البرتقال الغزّي ، ومضى بها إلى طرف غزّة البعيد ، حيث وجد الكثير من الرجال منهمكين في زراعة أشتال الليمون والبرتقال ، ومنْ فرغ منهم أخذ في صبّ الماء حول ما زرع ، وبحرْص شديد زرع ما حمل ، وحين بحث عن الماء ليسقيها لم يجده ، ركض في كلّ اتجاه بحثاّ عن قطرة ماء حتى خارت قواه ، وصحا من نومه مذعوراً ، مرهقاً ، وقد جفّ حلقه ، فاستعاذ بالله ، وواصل صحوه.صرخ فجأة: أفيكم من يفسّر لي ما رأيت؟لم يفهموا شيئاً مما يقول ، ولا دروْا عمّ يسألهم ، وأشفقوا عليه ، فما زالت الصورة في يده المرتعشة ، وما زالت دموعه تغالب كبرياءه وتجلّده.. - همس أحدهم: الرجل فقد عقله ، وبدأ يهلوس. - كان الله في عونه ، مصيبته كبيرة. - ما العمل؟لم يسمع شيئاً من همْسهم ، دسّ الصورة بعناية في جيبه ، وقال لهم في رجاء: أريد أن أزور قبورهم. تحرّكوا وكأنّهم رجل واحد ، لا صوت سوى صوت وقْع أقدامهم. المدهش أنه بدأ يتقدمهم ، ويمضي في الاتجاه الصحيح ، وفجأة توقف قائلاً: أظنّها هنا. نعم ، هي كذلك. هنا زرعت شتلات البرتقال ، وعزّ عليّ الماء. أرجوكم ، أغيثوني بشيء من الماء. لم يسألوه شيئاً. هبوا من حوله ، وأحضروا له ما تيسّر منه ، وظلّ يصبّ الماء فوق قبورهن ، وهو يبكى بصمت ، ويتمتم بكلام لا يفهمه إلاّ الله والراسخون في محبة أوطانهم.

كاتب وأستاذ في جامعة البترا.

عذرا لم أكتب اسم الكاتب وهو استاذي الفاضل د أحمد موسى الخطيب
Date : 06-02-2009

نداء غريب صبري
08-05-2012, 01:34 AM
قصة جميلة أختي
شكرا لنقلها

بوركت

علياء التميمي
12-05-2012, 09:23 AM
قصة جميلة أختي
شكرا لنقلها

بوركت

:sm:

يسعدني مرورك أختي نداء غريب

تحياتي

نادية بوغرارة
18-06-2012, 12:35 PM
قصة جميلة ، شكرا لك على نقلها .

الأديبة علياء التميمي ،

ألف شكر لك .

علياء التميمي
18-06-2012, 10:12 PM
شكرا لمرورك استاذة نادية

مودتي
:sm:

علياء التميمي
18-06-2012, 10:14 PM
شكرا لمرورك الكريم استاذة نادية

تحياتي

ناديه محمد الجابي
29-11-2023, 08:19 PM
. لي الله ، فهو حسبي وحسبهم.
ولكن..آه، لوْ لمْ يصمت النظام العربي الرسميّ عشرين يوماً لما ماتت بيسان،
لو لم يصمت النظام العالمي عشرين يوماً لما ماتت مايا،
لو ظلّ الشارع العربي يصرخ ، ويصرخ لما ماتت أمل،

حسبنا الله ونعم الوكيل ..
والتاريخ يعيد نفسه لتلاقي غزة حربا شعواء بحيلها إلى دمار ودماء
والصمت العربي يؤلم ويقهر
أقول هذا وجهاز التلفاز يقدم قيديو لمسيرة دراجات بماليزيا بالآلاف داعمة
لفلسطين وهم يحملون العلم الفلسطيني.
اللهم نصرك الذي وعدت.
شكرا لك علياء على قصة مؤثرة وجميلة.
:009::008::009: