بهجت عبدالغني
25-04-2012, 03:34 PM
العقيدة والفن
بهجت عبدالغني الرشيد
مما لا شك فيه أن تحريم تصوير التماثيل والأشخاص وصنعها ونحتها مسألة تمس العقيدة الإسلامية ، وقد نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك في أحاديث متعددة ، وذلك حتى لا يقع المسلم في الإشكالية نفسها التي وقع فيها من كان قبلهم من الأقوام ، وسداً لذريعة اتخاذ هذه الصور والتماثيل وسيلة للوقوع في الشرك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن ( وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً ) أسماء رجال صالحين من قوم نوح ( عليه السلام ) ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (1) .
ولكننا نجد فضلاً عن هذا البعد العقدي لهذه المسألة ، حضور البعد الجمالي والإبداعي ، وهو يلقي بظلاله على هذا التحريم ..
وهذا الجانب الجمالي والإبداعي تفجّر عندما وجد الفنان المسلم نفسه في زاوية محصورة ضيقة بعد أن حرّم عليه ما اعتاد من الفن الذي كان يعتمد في غالب الأحوال على النقل المباشر للإنسان والحيوان ، ومنذ أقدم العصور تعوّد الإنسان مثل هذا الفن ، ونظرة عابرة على الفن البابلي والآشوري والفرعوني واليوناني والروماني تخبرنا عن هذا النوع ، فقد كان الفن يعتمد بالدرجة الأساس على نسخ المخلوقات الحية على سطوح الجدران والمعابد واللوحات ، وتصوير الملك في صور مختلفة تعبر عن نشاطاته المتنوعة ، وتسجيل الطقوس الدينية ، وصنع منحوتات للآلهة على هيئة البشر ..
ولذا كان لا بد للفنان المسلم أن يختار بين أمور ثلاثة ، إما أن يقف مكتوف اليدين فلا يحرك ساكناً ، أو يخرق تعاليم الدين فيمارس الممنوع ، أو يتحرك نحو أفق جديد يعبر من خلاله عن إبداعه وتألّقه ..
وكان الأخير هو اختياره ..
يقول الدكتور عماد الدين خليل : ( إن هنالك قانوناً حضارياً لا يخطئ ، وهو أن إقفال أي باب أمام قدرات الإنسان التعبيرية في أي مجال من مجالات الحياة ـ لسبب سلبي أو ايجابي ـ كفيل بفتح باب آخر للتعويض عن الباب المسدود ، ولفتح ثغرة تتسرب عن طريقها طاقة الإنسان في ميدان التعبير ، فقط شرط أن يكون ذلك الإنسان ايجابياً ، يحيا في وسط حضاري خلاق .. ) (2) .
ويقول : ( إن الأمة المتحضرة ذات القدرة على الفعل ، تجد في الضوابط والتحديات للإبداع في مجالات بكر لم تكن قد خطرت على بال ) (3) .
ولأن الفنان المسلم كان ايجابياً ، وكان في بيئة حضارية فاعلة ، فقد انتفض وثار .. وجعل من حاجته أمّاً للاختراع والابتكار ، ومن رفضه المحاكاة والتقليد والنقل المباشر الساذج عن الطبيعة طريقاً للتجريد الجمالي الخالص وإعادة الصياغة .. فقدم لنا ألواناً أخرى من الفن ، ما كنا نراها ونعشقها لولا رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقائدي ..
نعم .. لم يظهر عندنا نحن المسلمون عباقرة في فنّي الرسم والنحت أمثال ( بيكاسو أو ميكال أو رافاييل ... الخ ) ، الذين أعطوا للعالم لوحات وتماثيل فنية .. لكن ظهر عندنا فنانون قدموا للعالم إضافة جديدة في مجالات متنوعة ما كانت تخطر على بال أحد ، وفتحوا مديات واسعة لأطر التأمل الخلاق ، فقدموا بذلك فنون الزخرفة والخط والمعمار الهندسي ، والأشكال التجريدية ، والمساجد التي تزخر بمعمارها الفني الرائع ، ابتداءً من محاريبها ومروراً بقبابها ومآذنها وانتهاءً إلى مجال مفتوح لمزيد من العطاء ..
وهذا الضعف الظاهري للمسلمين في مجالي الرسم والنحت ، هو في الحقيقة كما عبر عنه روم لاندو ( ظاهرة من ظواهر القوة ) (4) ، وليس ضعفاً حقيقياً أو عجزاً من قبل الفنان المسلم ، وإنما احتراماً للمنظور العقائدي لديه .
لقد جرد الفنان المسلم ـ الذي رفض النحت والتجسيم وتصوير ذوات الأرواح ـ الفن وأعطاه الحياة والنشاط ، بدل الذبول والفناء ، وغاص به إلى عمق آخر امتاز به الفن الإسلامي ، ألا وهو العمق الوجداني ، بعد أن حرره الإسلام وجدانياً وانتشله من ( عصور الوثنية والتعبد للقريب الملاصق ، إلى سماوات التوحيد الخالص ، والطموح للامتداد النفسي إلى ما وراء المنظور الملموس ) (5) .
وبذلك حرر الإسلام ـ من خلال هذا التحريم ـ الإنسان من قيود العبودية لغير الله من جهة ، وحرر فنه من السذاجة والمحاكاة والتقليد من جهة أخرى ، فاتحد الجوهر بالمظهر في تميز عقائدي وفني وحضاري ، لم يشهده أمة أو حضارة أخرى .
ــــــــــــــــــــــ
1 ـ رواه البخاري في صحيحه ، كتاب ( التفسير ) ، باب ( سورة نوح ) ، رقم الحديث ( 636 ) ، ج4 ، ص1873 .
2 ـ الطبيعة في الفن الغربي والإسلامي ، عماد الدين خليل ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ، 1981 ، ص40 .
3 ـ الفن والعقيدة ، عماد الدين خليل ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، 1990 ، ص16 ـ 17.
4 ـ الإسلام والعرب ، روم لاندو ، ترجمة : منير البعلبكي ، ط2 ، دار العلم للملايين ـ بيروت ، 1977 ، ص315 .
5 ـ الطبيعة في الفن الغربي والإسلامي ، ص40 .
بهجت عبدالغني الرشيد
مما لا شك فيه أن تحريم تصوير التماثيل والأشخاص وصنعها ونحتها مسألة تمس العقيدة الإسلامية ، وقد نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك في أحاديث متعددة ، وذلك حتى لا يقع المسلم في الإشكالية نفسها التي وقع فيها من كان قبلهم من الأقوام ، وسداً لذريعة اتخاذ هذه الصور والتماثيل وسيلة للوقوع في الشرك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن ( وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً ) أسماء رجال صالحين من قوم نوح ( عليه السلام ) ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (1) .
ولكننا نجد فضلاً عن هذا البعد العقدي لهذه المسألة ، حضور البعد الجمالي والإبداعي ، وهو يلقي بظلاله على هذا التحريم ..
وهذا الجانب الجمالي والإبداعي تفجّر عندما وجد الفنان المسلم نفسه في زاوية محصورة ضيقة بعد أن حرّم عليه ما اعتاد من الفن الذي كان يعتمد في غالب الأحوال على النقل المباشر للإنسان والحيوان ، ومنذ أقدم العصور تعوّد الإنسان مثل هذا الفن ، ونظرة عابرة على الفن البابلي والآشوري والفرعوني واليوناني والروماني تخبرنا عن هذا النوع ، فقد كان الفن يعتمد بالدرجة الأساس على نسخ المخلوقات الحية على سطوح الجدران والمعابد واللوحات ، وتصوير الملك في صور مختلفة تعبر عن نشاطاته المتنوعة ، وتسجيل الطقوس الدينية ، وصنع منحوتات للآلهة على هيئة البشر ..
ولذا كان لا بد للفنان المسلم أن يختار بين أمور ثلاثة ، إما أن يقف مكتوف اليدين فلا يحرك ساكناً ، أو يخرق تعاليم الدين فيمارس الممنوع ، أو يتحرك نحو أفق جديد يعبر من خلاله عن إبداعه وتألّقه ..
وكان الأخير هو اختياره ..
يقول الدكتور عماد الدين خليل : ( إن هنالك قانوناً حضارياً لا يخطئ ، وهو أن إقفال أي باب أمام قدرات الإنسان التعبيرية في أي مجال من مجالات الحياة ـ لسبب سلبي أو ايجابي ـ كفيل بفتح باب آخر للتعويض عن الباب المسدود ، ولفتح ثغرة تتسرب عن طريقها طاقة الإنسان في ميدان التعبير ، فقط شرط أن يكون ذلك الإنسان ايجابياً ، يحيا في وسط حضاري خلاق .. ) (2) .
ويقول : ( إن الأمة المتحضرة ذات القدرة على الفعل ، تجد في الضوابط والتحديات للإبداع في مجالات بكر لم تكن قد خطرت على بال ) (3) .
ولأن الفنان المسلم كان ايجابياً ، وكان في بيئة حضارية فاعلة ، فقد انتفض وثار .. وجعل من حاجته أمّاً للاختراع والابتكار ، ومن رفضه المحاكاة والتقليد والنقل المباشر الساذج عن الطبيعة طريقاً للتجريد الجمالي الخالص وإعادة الصياغة .. فقدم لنا ألواناً أخرى من الفن ، ما كنا نراها ونعشقها لولا رفض التشخيص احتراماً للمنظور العقائدي ..
نعم .. لم يظهر عندنا نحن المسلمون عباقرة في فنّي الرسم والنحت أمثال ( بيكاسو أو ميكال أو رافاييل ... الخ ) ، الذين أعطوا للعالم لوحات وتماثيل فنية .. لكن ظهر عندنا فنانون قدموا للعالم إضافة جديدة في مجالات متنوعة ما كانت تخطر على بال أحد ، وفتحوا مديات واسعة لأطر التأمل الخلاق ، فقدموا بذلك فنون الزخرفة والخط والمعمار الهندسي ، والأشكال التجريدية ، والمساجد التي تزخر بمعمارها الفني الرائع ، ابتداءً من محاريبها ومروراً بقبابها ومآذنها وانتهاءً إلى مجال مفتوح لمزيد من العطاء ..
وهذا الضعف الظاهري للمسلمين في مجالي الرسم والنحت ، هو في الحقيقة كما عبر عنه روم لاندو ( ظاهرة من ظواهر القوة ) (4) ، وليس ضعفاً حقيقياً أو عجزاً من قبل الفنان المسلم ، وإنما احتراماً للمنظور العقائدي لديه .
لقد جرد الفنان المسلم ـ الذي رفض النحت والتجسيم وتصوير ذوات الأرواح ـ الفن وأعطاه الحياة والنشاط ، بدل الذبول والفناء ، وغاص به إلى عمق آخر امتاز به الفن الإسلامي ، ألا وهو العمق الوجداني ، بعد أن حرره الإسلام وجدانياً وانتشله من ( عصور الوثنية والتعبد للقريب الملاصق ، إلى سماوات التوحيد الخالص ، والطموح للامتداد النفسي إلى ما وراء المنظور الملموس ) (5) .
وبذلك حرر الإسلام ـ من خلال هذا التحريم ـ الإنسان من قيود العبودية لغير الله من جهة ، وحرر فنه من السذاجة والمحاكاة والتقليد من جهة أخرى ، فاتحد الجوهر بالمظهر في تميز عقائدي وفني وحضاري ، لم يشهده أمة أو حضارة أخرى .
ــــــــــــــــــــــ
1 ـ رواه البخاري في صحيحه ، كتاب ( التفسير ) ، باب ( سورة نوح ) ، رقم الحديث ( 636 ) ، ج4 ، ص1873 .
2 ـ الطبيعة في الفن الغربي والإسلامي ، عماد الدين خليل ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ، 1981 ، ص40 .
3 ـ الفن والعقيدة ، عماد الدين خليل ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت، 1990 ، ص16 ـ 17.
4 ـ الإسلام والعرب ، روم لاندو ، ترجمة : منير البعلبكي ، ط2 ، دار العلم للملايين ـ بيروت ، 1977 ، ص315 .
5 ـ الطبيعة في الفن الغربي والإسلامي ، ص40 .