المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رهاب الحُلم والواقع



بثينة محمود
14-05-2012, 10:28 PM
لم يكن صياداً.. بل موظفاً عمومياً إن كان هذا الوصف مازال قائماً.. لكنه يسلك الطريق الطويل المتعرج الذي يصل بين بيته المتواضع وضفة النيل البعيد كل يوم وقت العصر.. حاملاً صندوقه الخشبي وكيس بلاستيكي يحوي زاده القليل.. وهناك في تلك البقعة المتوارية عن القصور الوارفة يقوم باختيار مكان جلسته و يُعمل يديه في سنارته وتعليق ما يشبه الطعم في طرفها.. يطوحها في الهواء عالياً ثم يراها تستقر في الأعماق
وينتظر
يأتيه بعد قليل كوب الشاي من العجوز البعيد مع ابتسامة صغيرة لا يكاد يتبينها.. فيشير بيديه للعجوز محيياً وينفح الصبي شيئا من حافظته
لم يكن صياداً
ولم يكن يصطاد.. بل إنه لم يرغب يوماً في إخراج سمكة من تلك المياه الداكنة
إنه فقط يجلس منتظراً.. ولم يسفر الأمر أبداً عن سمكة.. لم يزد عشاؤه في يوم من الأيام عن شرائح سمكة التونة المحفوظة
لم يكن صياداً.. بل موظفاً في شركة عامة.. وظيفته ترتيب الأوراق المنتهية الصلاحية في إدارة الأرشيف.. قلما احتاجه أحد.. وقلما انتبه لوجوده أحد..بلا رئيس وبلا مرؤوسين في ذلك المكتب الرطب وحده.. حارس على الأوراق وحشراتها.. بعد ان انتقلت صوراً منها الى الحواسب.. وصار الأصل نسياً منسياً
لم يكن عمله حقيقياً.. كان حضور كانصراف.. أو إبحار في يم يهلك أيامه بلا طائل
ولم يكن بيته حقيقياً.. كان بيت مؤجر ببناية قديمة.. تطالعه أحذية المارين في الحارة الضيقة عندما يطل من شباكه الواطيء
ما الذي كان حقيقياً فيه؟! لا يمكن التكهن بذلك
تطول جلسته حتى يوشك النيل على ابتلاع الشمس في أحشائه.. أو بالأحرى تبتلعها تلك القصور الوارفة على الضفة الأخرى.. لكن ذراعه يهتز بعنف لأول مرة ويدرك أن هناك صيداً علق بسنارته بلا طعم حقيقي.. يتعجب.. لقد أمضى وقتاً طويلاً ليصل لتلك البقعة الخاوية من أي صيد
يقف حائراً..خائفاً.. ينظر حوله كأنه يستنجد بأحد ما يؤازره في لحظة حقيقية لم يمر بها من قبل.. يشعر بثقل السنارة وتلاعبها بين يديه.. يطيل الحبل ولا يجذبه إليه مانحاً صيده فرصة الإفلات والنجاة.. يزداد الثقل على ذراعه النحيل فينقل السنارة من ذراع إلى آخر آملاً في انفلات الصيد ونجاته من الموت
يشعر بثقل ماء النيل كله يرتكز على طرف سنارته.. يوشك ان يفلتها ويُلقي بها .. ولكنه يثبت للحظات.. وتتشبث قدماه على الأرض فيشعر صيده يحاوره.. ولا يجد بداً من لف الحبل تجاهه في قوة لم يعهدها بنفسه بعد أن شعر بأن الصيد يكاد يجذبه ويلقيه في الماء
يخرج الصيد إلى الهواء.. لا يتبينه.. فقط يجذبه إليه بعد أن بدأ الظلام يتسلل إلى المكان.. يقترب الصيد ويدركه الرجل.. يبتسم.. يضحك.. يقهقه عاليا وهو يسحب الصندوق الحديدي العالق.. يتلقفه بين يديه ويضعه على الأرض الطينية بين قدميه.. يداعب القفل الصديء بقدمه ويسهم طويلاً.. يفكر عما قد يحتويه.. يبتسم مجدداً ابتسامة باهتة..لعلها ابتسامة زاهدة

ثم ينشغل الرجل في فض الإشتباك يين سنارته والصندوق
ينجح في ذلك ثم يطوي سنارته في مكانها بعناية ويتناول كيسه البلاستيكي الذي يحوي طُعما زائفاً.. ويرحل.. مُلقياً نظرة لامبالية على ما حملته إليه المياه الداكنة

مازن لبابيدي
15-05-2012, 09:51 AM
المبدعة بثينة محمود

قصة كتبت بعناية وموهبة كبيرة شدتني كلماتها من البداية بعد أن كان العنوان طعما حقيقيا جذبني إليها ويمكنك القول أنها اصطادتني .
السرد كان ممتعا جدا والوصف كذلك الذي صور الشخصية المحورية للقصة بإتقان جعل القارئ ينظر إليها من خلال الكلمات .

أختي بثينة ، نسبة لتاريخ انتسابك للواحة ، أراك قد حرمتنا من الكثير من إبداعك ومشاركاتك القيمة .

تقديري وتحيتي

بهجت عبدالغني
15-05-2012, 10:17 AM
رائعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى

حقاً كما قال الاستاذ مازن انها تصاد القارئ ..



المبدعة بثينة محمود

هطول مبدع

بانتظار المزيد



تحياتي ..

وليد عارف الرشيد
15-05-2012, 10:58 PM
فأين أنت يا أختي المبدعة ؟ .. فقد استبيت ذائقتنا بقوة ... بقصة من بديع ما قرأت تمكنًا لغويًّا وسردًا ماتعًا وتصويرًا مدهشًا
مرحبًا بحضورك الجميل وأتمنى أن نقرأ لك المزيد
مودتي وتقديري كما يليق

خليل حلاوجي
15-05-2012, 11:50 PM
بين السنارة والسمك ثمة مسافات من الرؤى والخجل .. الحضاري : لمعنى الصيد ذاته

كلنا هذا الصياد ... حين ننسى صندوق معدتنا عند أول الطريق الى الغد

ياسر ميمو
15-05-2012, 11:51 PM
السلام عليكم أستاذة بثينة

حقيقة استمتعت كثيراً بقراءة هذا النص الجميل

اللغة , الأسلوب , المعنى , الرشاقة

أدوات جميلة تجسدت بقوة في النص

أهنئك من كل قلبي على هذه التحفة

دمت.... مبدعة

ربيحة الرفاعي
16-05-2012, 02:12 AM
القاصة الرائعة بثينة محمود
بمهارة أدخلتنا لجو النص وبذكاء رسمت المشهد لنتابع معك تصاعد الحس في حدث محدود المساحة أعطانا السرد المتقن مفاتيح بطله لنشارك بثقة في تفاصيل القفلة

جميل ما قرأت هنا

تحاياي

بثينة محمود
17-05-2012, 08:49 AM
الأعزاء الأفاضل
الأستاذ/ مازن
الأستاذ/ بهجت
الأستاذ/ وليد
الأستاذ/ خليل
الأستاذ/ ياسر
الأستاذة/ ربيحة
يعجز القلم عن الرد على كلماتكم الرقيقة بحق نصّي الصغير
حيرة منذ الأمس امتدت فصمتّ! ولعله طول الاغتراب عن الواحة وطول الصمت أفقدني قدرة التواصل!
شكراً لكلماتكم
تقديري واحترامي

عبد الرحيم صادقي
17-05-2012, 09:59 AM
رائع هذا الصياد الذي لا يصطاد، بطعم الوهم في كيسه الفارغ، حقيقة كل شيء في حياته بين الواقع والحلم.
وجدت في القصة مهارة وبراعة، باختصار أعجبتني القصة. فليتكِ أصلحتِ بعض ما بها من هنات.
تقبلي هذا المرور، أدام الله لك السرور.
تحياتي

ناديه محمد الجابي
03-03-2013, 05:23 PM
قلم ساحر.. ماهر .. إستطاع أن يصيد الأزهان والعقول
بشباك الكلم الماتع فوقع أسير حروفك وجميل ما كتبت
الأخت بثينة .. لا تبخلي علينا بجديدك , نحن في الإنتظار
تحياتي والورود .

لانا عبد الستار
06-04-2013, 12:14 AM
قص جميل وطرح إيجابي وسرد مشوق
أعجبني ما قرأت
أشكرك

نداء غريب صبري
01-07-2013, 11:35 PM
قصة جميلة شدتني منذ عنوانها
وسرد مشوق بقلم مبدع

امتعتني قراءتها

شكرا لك أختي

بوركت

كاملة بدارنه
11-07-2013, 11:29 PM
ثم ينشغل الرجل في فض الإشتباك يين سنارته والصندوق
ينجح في ذلك ثم يطوي سنارته في مكانها بعناية ويتناول كيسه البلاستيكي الذي يحوي طُعما زائفاً.. ويرحل.. مُلقياً نظرة لامبالية على ما حملته إليه المياه الداكنة
نهاية موفّقة لما جاء من سرد شائق
هي الحياة رحلة صيد ...
تمنّيت خلوّها من بعض الأخطاء
بوركت
تقديري وتحيّتي

د. سمير العمري
19-06-2014, 07:27 PM
نص قصصي بارع يحمل الكثير من الإسقاطات الإنسانية والنفسية وحتى الاجتماعية جاء هذا كله في سياق مقنع وبأسلوب مميز ولغة معبرة.

لا فض فوك!

تقديري

خلود محمد جمعة
22-06-2014, 09:36 AM
الواقع الذي رسمته بدقة وعمق صور حياة شريحة ربما نكون نحن بينها
سرد متناغم بلغة جميلة وصور متقنة واسلوب ماتع
بورك الحس والحرف
مودتي وكل التقدير

آمال المصري
15-04-2015, 11:34 PM
الرهبة من المجهول أم قسوة الواقع من جعله يلقي تلك النظرة قبل الرحيل ؟
نص حي يتحرك أمامي نجحت أيتها الرائعة في نسجه بإتقان وتركتينا والفضول يلوكنا بنهاية محيرة
رائعة قرأتها هنا
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي