مشاهدة النسخة كاملة : السيجارة الأخيرة ـ قصة ـ
عبدالسلام المودني
16-05-2012, 01:04 PM
كنعيب غراب، طنّ في أذنه صوت الضابط عبر جاهز اللاسلكي، شفع بأصوات جذلى في الخلفية لزملاء حرب ينشدون أغاني حرب لم يخضها أحدهم، وانتصار لاتقابله هزيمة طرف آخر.
ظل للحظات هامد الحركة مشلول العقل. هل هذا ممكن؟ هل سيرحل، ويعود إلى دياره؟ لكنه ما عاد يذكر منذ مدة طويلة شيئاً عن أرض أخرى سوى هذا المكان الذي أمضى به... ما عاد يذكر.
لاشك أن الآخر مثله تماماً. يستطيع من هنا أن يلمح حزنه الشديد وكدره، ويتبين شروده وشلل عقله. ما عادت المسافات تفصل بين تخاطرهما. تطلب الأمر وقتاً ليس بالهين، من المراقبة السرية، تنفيذاً للأوامر، إلى المعاينة المسكونة بالفضول، فالإشارات بالأيدي للتواصل بينهما. ما كان لهما خيار آخر. كانا وحيدين، وأحدهما قبالة الآخر، واقتصر ارتباطهما بوطنيهما على أوامر تلقى عبر الجهاز اللاسلكي، ومؤونة تصل بانتظام. لم يتجاوزا التحية، والتزم كل بمكانه تنفيذاً للأوامر.
يلقى الجهاز اللاسلكي بذهول، ويهرول باتجاهه مخالفاً كل الأوامر. يلمحه قادماً نحوه مهرولاً.
يقف قبالته تماماً. ولأول مرة، يراه من ذلك القرب. يكتشف ملامحه متفاجئاً. يرفع حاجبيه. "يشبهني كثيراً، لكن لمَ قالوا إنه عدو. لايمكن أن يكون كذلك لأننا متشابهان. في النهاية، لاأحد يعرفه أكثر مني."
يبتسم الآخر في وجهه. يخرج علبة سجائر من جيب سترته. يمد له سيجارة. "يدخن السجائر المستوردة مثلي، ونوع السجائر نفسها، لاشك أنها تأتي على جزء مهم من راتبه، مثلي تماماً."
حين حضر صغيراً إلى هذا المكان، لم يكن يدخن. غير أن الخوف والفراغ والقرب من عدو قالوا عنه الشيء الكثير، جعلته يلقي بنفسه إلى السيجارة، العزاء الوحيد.
"هل نستورد من المكان نفسه؟"
ملامح وجهيهما متقاربة جداً. وفي نظرتهما الأسى عينه والإحساس بالخديعة نفسه.
"لاشك أن لنا السلاح نفسه، هل يبيعنا إياه تاجر الموت عينه؟"
يمج دخان سيجارته بعصبية بينة.
تلاشت النكهة المميزة للسيجارة. يلقيها كما الآخر.
يخرجان علبتي سجائرهما المملوءتين. يدعكانها بقرف. يلقياها. يدوسانها بقدميهما.
يتبادلان نظرة عميقة. "لمَ قالوا إنه عدو؟"
يمضي كل منهما من الوجهة التي قدم منها الآخر.
يقولان بصوت مخنوق واحد، وبلغة واحدة:
ـ نلتقي في حرب أخرى.
عبد السلام المودني
وليد عارف الرشيد
16-05-2012, 05:43 PM
هي الحرب بين الأشقاء ... هي حلقة مستمرة من حلقات التؤامر على الأمة لتبقى الفوضى والاضطرابات والتخلف والقتل بين الإخوة مستمرا ... ويبقى التربص والخوف من الجار والشقيق
هكذا وصلني من نصك الراقي أخي المبدع الجميل فاعذر قصور فهمي
قصة بل لوحة بديعة صيغت بأنامل مبدعٍ متمكن ... سردية راقية وأسلوب متميز ابتعد عن المباشرة وداعب العقل والمشاعر
أحييك وأشكرك على جميل ما أتحفتنا به وسررت أن أكون أول الوافدين
مودتي وكثير تقديري
محمد النعمة بيروك
16-05-2012, 06:22 PM
عنوان جميل جدا، لكنها قد لا تكون الأخيرة..
نعم.. لهما نفس الملامح، نفس السحنة، نفس الكلمات، لكنهما لا يتفقان إلا على نفس الهلاك/السيجارة..
إن السيجارة هنا لا ترمز إلى الموت البطيء الذي يعيشه الإخوة الأعداء فحسب، بل إلى نفس العدو.. فهي "موت مستورد" بامتياز..
ورغم دعس علب الموت، فللإخوة جولة أخرى من العداء، تتجه فيها البنادق إلى غير العدو الحقيقي الذي يمول حربيهما بعائدات السجائر التي تقتلهم ببطء..
نص عبَّر بروعة عن الحالة العربية في نظري، رغم بعض الهنات البسيطة "جهاز اللاسلكي" "يلقيانها" ولتفادي التكرار أقترح في هذه الجملة "زملاء حرب ينشدون أغاني حربية"..
أحييك أخي القاص عبد السلام على هذه القصة الجميلة، وأتمنى لك التوفيق.
آمال المصري
17-05-2012, 10:29 PM
نفس الملامح .. السلاح .. الأسى .. الوطن ..اللغة .. !
ورغم أن كلاهما تأكد أن الآخر ليس بعدو .. إلا أن انصرافهما كان على وعد بلقاء في حرب أخرى ..
هي ضرب اليد بالأخرى
نص رائع أديبنا الفاضل ومتانة في السرد والحبكة وخاتمة موفقة زادت من روعة الصورة
دام ألقك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي
ربيحة الرفاعي
17-05-2012, 10:53 PM
أعجبتني اللغة والسردية البعيدة عن المباشرة
وهذه القدرة التصويرية التي جعلتنا نمعن في محاولات الكشف عن هويتيهما
أحسنت القص فكرة ومعالجة
أهلا بك في واحتك
تحاياي
كاملة بدارنه
18-05-2012, 07:50 AM
يخرجان علبتي سجائرهما المملوءتين. يدعكانها بقرف. يلقياها. يدوسانها بقدميهما.
جيّد ما قاما به من دوس لتلك السّجائر فهي الأخطبوط الغريب الذي يمدّ أذرعه بالأذى والسّيطرة
نلتقي في حرب أخرى.
صورة مأساويّة بعد القرار بالتّخلّص من الغريب...
يبدو أنّ هناك الكثير ممّا يحاك من تآمر وتفسّخ وعداوة بين الإخوة
قصّة رائعة
بوركت
تقديري وتحيّتي
(يلقيانها)
عبدالسلام المودني
20-05-2012, 02:12 PM
هي الحرب بين الأشقاء ... هي حلقة مستمرة من حلقات التؤامر على الأمة لتبقى الفوضى والاضطرابات والتخلف والقتل بين الإخوة مستمرا ... ويبقى التربص والخوف من الجار والشقيق
هكذا وصلني من نصك الراقي أخي المبدع الجميل فاعذر قصور فهمي
قصة بل لوحة بديعة صيغت بأنامل مبدعٍ متمكن ... سردية راقية وأسلوب متميز ابتعد عن المباشرة وداعب العقل والمشاعر
أحييك وأشكرك على جميل ما أتحفتنا به وسررت أن أكون أول الوافدين
مودتي وكثير تقديري
العزيز وليد عارف الرشيد
حضور أسعدني بقدر ما أسعدك، فشكراً لكلماتك الطيبة.
محبتي وتقديري
عبد السلام المودني
عبدالسلام المودني
21-05-2012, 03:44 PM
عنوان جميل جدا، لكنها قد لا تكون الأخيرة..
نعم.. لهما نفس الملامح، نفس السحنة، نفس الكلمات، لكنهما لا يتفقان إلا على نفس الهلاك/السيجارة..
إن السيجارة هنا لا ترمز إلى الموت البطيء الذي يعيشه الإخوة الأعداء فحسب، بل إلى نفس العدو.. فهي "موت مستورد" بامتياز..
ورغم دعس علب الموت، فللإخوة جولة أخرى من العداء، تتجه فيها البنادق إلى غير العدو الحقيقي الذي يمول حربيهما بعائدات السجائر التي تقتلهم ببطء..
نص عبَّر بروعة عن الحالة العربية في نظري، رغم بعض الهنات البسيطة "جهاز اللاسلكي" "يلقيانها" ولتفادي التكرار أقترح في هذه الجملة "زملاء حرب ينشدون أغاني حربية"..
أحييك أخي القاص عبد السلام على هذه القصة الجميلة، وأتمنى لك التوفيق.
العزيز محمد النعمة بيروك
شكراً لك أخي على مرورك الجميل والمفيد، ولأنك أثرت انتباهي للأخطاء التي لم أنتبه لها.
ألف شكراً أخي الكريم.
مع المودة الصادقة
عبد السلام المودني
عبدالسلام المودني
21-05-2012, 03:47 PM
نفس الملامح .. السلاح .. الأسى .. الوطن ..اللغة .. !
ورغم أن كلاهما تأكد أن الآخر ليس بعدو .. إلا أن انصرافهما كان على وعد بلقاء في حرب أخرى ..
هي ضرب اليد بالأخرى
نص رائع أديبنا الفاضل ومتانة في السرد والحبكة وخاتمة موفقة زادت من روعة الصورة
دام ألقك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي
العزيزة آمال المصري
شكراً جزيلاً على مرورك العذب وكلماتك المشجعة.
دام لك الألق سيدتي.
عبد السلام المودني
عبدالسلام المودني
21-05-2012, 03:48 PM
أعجبتني اللغة والسردية البعيدة عن المباشرة
وهذه القدرة التصويرية التي جعلتنا نمعن في محاولات الكشف عن هويتيهما
أحسنت القص فكرة ومعالجة
أهلا بك في واحتك
تحاياي
العزيزة ربيحة الرفاعي
شكراً لك هذا المرور الجميل، وسعيد أن النص أعجبك.
محبتي الدائمة
عبد السلام المودني
عبدالسلام المودني
21-05-2012, 03:50 PM
جيّد ما قاما به من دوس لتلك السّجائر فهي الأخطبوط الغريب الذي يمدّ أذرعه بالأذى والسّيطرة
صورة مأساويّة بعد القرار بالتّخلّص من الغريب...
يبدو أنّ هناك الكثير ممّا يحاك من تآمر وتفسّخ وعداوة بين الإخوة
قصّة رائعة
بوركت
تقديري وتحيّتي
(يلقيانها)
العزيزة كاملة بدارنه
بل الرائع مرورك الكريم في متصفحي هذا
سعيد فعلاً أن النص أعجبك
محبتي الصافية
عبد السلام المودني
عبد الله الرحيلي
23-05-2012, 09:39 PM
كنعيب غراب، طنّ في أذنه صوت الضابط عبر جاهز اللاسلكي، شفع بأصوات جذلى في الخلفية لزملاء حرب ينشدون أغاني حرب لم يخضها أحدهم، وانتصار لاتقابله هزيمة طرف آخر.
ظل للحظات هامد الحركة مشلول العقل. هل هذا ممكن؟ هل سيرحل، ويعود إلى دياره؟ لكنه ما عاد يذكر منذ مدة طويلة شيئاً عن أرض أخرى سوى هذا المكان الذي أمضى به... ما عاد يذكر.
لاشك أن الآخر مثله تماماً. يستطيع من هنا أن يلمح حزنه الشديد وكدره، ويتبين شروده وشلل عقله. ما عادت المسافات تفصل بين تخاطرهما. تطلب الأمر وقتاً ليس بالهين، من المراقبة السرية، تنفيذاً للأوامر، إلى المعاينة المسكونة بالفضول، فالإشارات بالأيدي للتواصل بينهما. ما كان لهما خيار آخر. كانا وحيدين، وأحدهما قبالة الآخر، واقتصر ارتباطهما بوطنيهما على أوامر تلقى عبر الجهاز اللاسلكي، ومؤونة تصل بانتظام. لم يتجاوزا التحية، والتزم كل بمكانه تنفيذاً للأوامر.
يلقى الجهاز اللاسلكي بذهول، ويهرول باتجاهه مخالفاً كل الأوامر. يلمحه قادماً نحوه مهرولاً.
يقف قبالته تماماً. ولأول مرة، يراه من ذلك القرب. يكتشف ملامحه متفاجئاً. يرفع حاجبيه. "يشبهني كثيراً، لكن لمَ قالوا إنه عدو. لايمكن أن يكون كذلك لأننا متشابهان. في النهاية، لاأحد يعرفه أكثر مني."
يبتسم الآخر في وجهه. يخرج علبة سجائر من جيب سترته. يمد له سيجارة. "يدخن السجائر المستوردة مثلي، ونوع السجائر نفسها، لاشك أنها تأتي على جزء مهم من راتبه، مثلي تماماً."
حين حضر صغيراً إلى هذا المكان، لم يكن يدخن. غير أن الخوف والفراغ والقرب من عدو قالوا عنه الشيء الكثير، جعلته يلقي بنفسه إلى السيجارة، العزاء الوحيد.
"هل نستورد من المكان نفسه؟"
ملامح وجهيهما متقاربة جداً. وفي نظرتهما الأسى عينه والإحساس بالخديعة نفسه.
"لاشك أن لنا السلاح نفسه، هل يبيعنا إياه تاجر الموت عينه؟"
يمج دخان سيجارته بعصبية بينة.
تلاشت النكهة المميزة للسيجارة. يلقيها كما الآخر.
يخرجان علبتي سجائرهما المملوءتين. يدعكانها بقرف. يلقياها. يدوسانها بقدميهما.
يتبادلان نظرة عميقة. "لمَ قالوا إنه عدو؟"
يمضي كل منهما من الوجهة التي قدم منها الآخر.
يقولان بصوت مخنوق واحد، وبلغة واحدة:
ـ نلتقي في حرب أخرى.
عبد السلام المودني
قصة معبرة تظهر الوجه البشع للحرب التي تحصد الأبرياء،دفع بهم صانعو الحروب إلى القتال من أجل لاشئ تماما .
أو لإسترجاع شبر أرض مقابل أنهار من الدماء.إنهم مصاصو الدماء،ومجرمي الحرب.تحية تقدير ومودة للأخ عبد السلام المودني.
د. سمير العمري
23-08-2012, 08:06 PM
أسلوب مميز لطرح فكرة عميقة مفتوحة على بضعة مفاهيم كلها تصب في ذات بحر الألم الذي تغرق فيه الأمة.
نعم هي حرب لذات الملامح وموت بطيء نكون فيه آلات بيد أعداء الأمة والعقيدة ، ونحن نعلم ذلك ولكننا نصر على ذلك للأسف.
دمت بخير وعافية!
وأهلا ومرحبا بك في أفياء واحة الخير.
تحياتي
لانا عبد الستار
10-04-2013, 06:47 PM
قتال الأخوة لا يأتي أبدا بالخير
وما يزال الأخوة يقتتلون يخدعهم الغريب، ويصدق كل طرف منهم أنه على حق
لا أحد يكون على حق عندما يقتتل أخوان
قصة جميلة ومؤثرة
أشكرك
نداء غريب صبري
02-05-2013, 03:38 AM
عنوان جميل جدا، لكنها قد لا تكون الأخيرة..
نعم.. لهما نفس الملامح، نفس السحنة، نفس الكلمات، لكنهما لا يتفقان إلا على نفس الهلاك/السيجارة..
إن السيجارة هنا لا ترمز إلى الموت البطيء الذي يعيشه الإخوة الأعداء فحسب، بل إلى نفس العدو.. فهي "موت مستورد" بامتياز..
ورغم دعس علب الموت، فللإخوة جولة أخرى من العداء، تتجه فيها البنادق إلى غير العدو الحقيقي الذي يمول حربيهما بعائدات السجائر التي تقتلهم ببطء...ده
السجائر ما تزال موجودة
وسيعودون لتدخينها
هذه هي حقيقتنا
شكرا لك اخي
ناديه محمد الجابي
14-04-2014, 11:49 AM
ملامح وجهيهما متقاربة جداً. وفي نظرتهما الأسى عينه والإحساس بالخديعة نفسه.
"لاشك أن لنا السلاح نفسه، هل يبيعنا إياه تاجر الموت عينه؟"
استطعت ببراعة أن ترسم لنا مشهد لحرب الأشقاء بتصوير دقيق وحروف متخمة
بالإحساس .. قصة بديعة فنيا و انسانيا عبر أسلوب راق في السرد
غنية بفكرتها وطريقة عرضها ... سلم يراعك.
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir