المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامة العربية



عبد الرحيم صادقي
28-05-2012, 08:33 PM
حدثنا يحيى بن جعفر قال: كان مُعلّم العربية ذو الفَقار، كثيرَ الزَّهْوِ والفَخَار، بالعربية والعرب، ولِعاً بمُوشّحاتِهم والطّرَب. وحين علا ذَقَنيَ الزّغب، علمتُ أن أمة العرب، في هَمٍّ وكرب، وأن فخر المعلم زمنَ اللّعِب، مع التِّرْبِ في التَّرْبِ، طرائفُ ونُخَب. وإذا بحُلمِ ذي الفقار، قد تبخّر وطار، وطُوِيَ كما يطوي الليلَ النهار. لكني عزمتُ على تَبيُّن ما قد سلَف، وكيف صار الجيران إلى تلَف، بعدما انفرط ما ائتلف، وحلّ صَرْمٌ بعد إلْف، ودبَّ بين الخَلْف الخُلْف، وانتقض الشَّرَفُ و العُرْف. ثم إني سألت حنظلة الأحنف: ما بالُ العرب، في طريق سَرَب، يَتَّقي بعضهم بعضا كما يُتَّقَى الجَرَب، قد أفلَ نجمُهم وغرَب؟
فعدَّل حنظلة جِلسته وتنحنح، وبسملَ إذِ الأمر صحصح، ثم قال: اعلمْ أن أسّ البلاء، ودَرَك الشقاء، جاهليةٌ جهلاء. أمَا ترى فُرقةً وحمَيّة، وتفاخرا وعصبيّة؟ وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، ونفاقا في قُربه ونَأيه؟ قد كانوا يشكون جوْر آل عثمان، لكن استرقاق الإفرنج لذَّ وهان. وبعضٌ قاوم وقال لا أخاف، ثم دَرْدَبَ لـمَّا عَضَّه الثِّقافُ. يا يحيى أقول ولا أحنَث، ولا بدَّ للمصدور أن يَنْفُث، قد كانوا عصبة وأمّة، فصاروا كعبدٍ صَريخُه أَمَة. قلت: هُم منازلُ ومَراتب، فأنصفْ ولا تعاتِبْ! قال: بل هم في بُردَة أخْماس، من بغداد إلى فاس. قوم لُكْعٌ أهلُ ضِرار، ونَزْوُ الفُرار استجهلَ الفُرار. ما بالعَيْر من قُماص، ولقد حقّ عليهم القِصاص.
قلت: فكيف كان الذي كان؟ قال: جاء "بيكو" يحتال، قال يا "سايكس" تعال! للدّهرِ حَوال، وذا كَعْكٌ يُنال. فليكنْ قسمةً بيننا، ولنُصلِحْ ذاتَ بينِنا، وللرّعاع الكلأ! ثم إنهما صدَقا العَهْد، وأنجزا الوَعْد، وما كانا كبَرْق ورَعد، ولا سُقْيا ولا غيْث بَعْد. وتركوا بَجْداً بنَجْد، تُورِدُ الإبلَ كما أوْردَها سَعْد. فلا تَغُرّنّك ألقابُ جلالةٍ وفخامة، وإمارةٍ وهامَة. ولله درُّ القائل:
مما يُزّهدُني في أرضِ أندلسٍ ؞؞؞ أسماءُ مُعتمدٍ فيها ومُعتضد
ألقابُ مملكة في غيرِ موضعِها ؞؞؞ كالهرِّ يَحكي انتفاخاً صوْلةَ الأسد
ولا ثَمّ جاهٌ وحَسَب، سوى فخرٍ بنسَب. أوليس القَريبُ مَن تَقرّب، لا مَن تَنَسَّب؟ قلت: رُبَّ بعيدٍ أقربُ من قريب. قال: ولا هنالك مجدٌ أو شرف، وإنما تنعُّم وترَف. ولا عَدْل ثَمَّ ولا أَيْد، وإنما نِيرٌ وقَيْد. قد أطالوا السلاسلَ والأغلال، واتّخذوا العبيدَ والأذيال، ولا خيراً فعلوا ولا غمّ زال، وهل في الرِّمال أوْشال؟
قلت: فكيف تراهُم وعدُوَّهم؟ قال: قومٌ صُفْر، مَقلومُو الظُّفر. ليس فيهم حابلٌ ولا نابل، أو ذو صمصامٍ قاطع أو دارِع، ولا ثَمَّ غيرُ حَسير راكِع. أما سمعتَ عن ملوك الطوائف؟ فإنهم إخوانهم ولهم خلائف. وإنّ للعرب لجَعْجعَة، لا سلاح ولا قَعقعَة. قومُ سَفاهة، ولُؤمٍ وفَهاهة. أمرُهم لَهْلَهة، جمعُهم قهقهة. ولَتعرِفنَّهم في لحنِ القول، لا قوة لهم ولا حول. أنفٌ في السماء، واستٌ في الماء. أما بلَغك فخرُ حاجب بنِ زُرارَة عند كِسرى؟ قلت: وما قال؟ قال حنظلة: قال خيولنا جمّة، وجيوشُنا فخمة، إن استنجَدْتَنا فغيرُ رُبُض، وإن استطرَقْتَنا فغير جُهُض. قلت: فما كان قول كسرى؟ قال جاوَبه: أنفسٌ عزيزة، وأُمّة ضعيفة. قلت: ما أصدقه! كأنه الآن يصِف، ما خَفِيَ وكُشِف.
قال حنظلة: صدقت، فها هُم أولاءِ يَلقى بعضُهم مِن بعضٍ عَرَقَ القِرْبة، كأنْ ليس بينهم نَسبٌ أو قُربة. أمرُهم عجُاب، ودونهم حُجّاب، كأنهم أرْباب، إليهم المآب. منهم مَن عزلَ أباه وبطَر، ولولا النّفطُ وَشَلَ وقطَر، لبانَ الحقُّ وظهر. وقد كانوا بوادٍ غير ذي زرع، غارَ ماؤه وجفَّ الضّرع، وبعضُ الجَدْبِ أمْرَأُ للهَزيل. كيف وقد كان قائلُهم على فاقتِه يقول:
فقالوا غريبٌ طارقٌ طوَّحتْ به ؞؞؞ متونُ الفيافي والخطوبُ الطوائح
فقمتُ ولم أجثم مكاني ولم تقُم ؞؞؞ مع النّفسِ عِلّات البخيلِ الفواضح
وناديتُ شبلا فاستجابَ ورُبما ؞؞؞ ضمنا قِرَى عَشر لمن لا نُصافح
فأصبحوا على رغدِهم لا يدفعون مَنائح، ويُنفقون على خزيٍ وفضائح، وأهلُوهُم ليس لهم طعامٌ إلا من ضريع، أوليسَ الزيتُ في العَجين لا يضيع؟ ومنهم من يحضنُ الأمريكان ويَدّعي الهمَّة، والهمُّ مِنه ومنه الغُمّة. على رأسه الطّوْق، يحدُوه الشّوْق. وما يفعل الجُرائش، وما للدّوابِ غير حشائش؟ وما يقولُ عِفْضاجٌ، ممتلئ أعْفاج، أرْدَتهُ التكاليف، والجارُ في تَعْجيف؟ ومنهم مَن ثَلَّ عرشُه، وذهب عِزُّه، ومنهم من ينتظر. قد تركوا حُكم الدِّين، وآثروا نساء وبنين، وادّخروا كلَّ ثمين. فإذا هم أشغلُ من ذاتِ النِّحْيَيْن، ولقد جاوز الحِزامُ الطِّبْيَيْن. فدُنياهم زينةٌ وتفاخر، ولهوٌ وتكاثر. وفي الشام عَشَنَّط، مخلوعٌ ولا قَنَط. وعلى أهلِ شَنْقيط، قومٌ عَضاريط. ومنهم الشِّرْداح، أكلٌ ونِكاح. وأكثرُهم مَلَّتْهُ البهائم، وأحْفَظَ الخلائقَ والسّوائم. ففيم رجاؤُك يا يحيى؟
قلت: كذلكُم الناسُ مَدارج، فهل ترى للعَويص مَخارج؟ قال حنظلة: كُنّا أمّة وصيَّرونا دُوَلا، فإذا نحن شُتوتٌ أمرُهم شَتيت، سرَى بينهم المقتُ السِّخْتيت. والناسُ -يا يحيى- دليلُها الخِرّيت، فكيف وقد أُسنِد الأمر إلى غير أهله؟
قال يحيى بن جعفر: ثم انصرف حنظلة وهو يتَمثَّلُ قولَ القائل:
بلادُ العُرب أوطاني ؞؞؞ من الشّام لبَغدان
ومن نَجدٍ إلى يمَن ؞؞؞ إلى مِصر فتطوان
فلا حدّ يُباعدنا ؞؞؞ ولا دين يفرّقنا
لسانُ الضّاد يجمعنا ؞؞؞ بغسّان وعدنان

كاملة بدارنه
28-05-2012, 10:03 PM
كلمات نزفت الواقع المؤلم فزادت الوجع
ندعو لهذه الأمّة وولاتها بالصّحوة والعودة لعروبتها المطلوبة
بوركت أستاذ عبد الرّحيم وبورك الإبداع الرّائع
تقديري وتحيّتي

ربيحة الرفاعي
28-05-2012, 11:41 PM
يا يحيى أقول ولا أحنَث، ولا بدَّ للمصدور أن يَنْفُث، قد كانوا عصبة وأمّة، فصاروا كعبدٍ صَريخُه أَمَة. قلت: هُم منازلُ ومَراتب، فأنصفْ ولا تعاتِبْ! قال: بل هم في بُردَة أخْماس، من بغداد إلى فاس. قوم لُكْعٌ أهلُ ضِرار، ونَزْوُ الفُرار استجهلَ الفُرار. ما بالعَيْر من قُماص، ولقد حقّ عليهم القِصاص.
قلت: فكيف كان الذي كان؟ قال: جاء "بيكو" يحتال، قال يا "سايكس" تعال! للدّهرِ حَوال، وذا كَعْكٌ يُنال. فليكنْ قسمةً بيننا، ولنُصلِحْ ذاتَ بينِنا، وللرّعاع الكلأ! ثم إنهما صدَقا العَهْد، وأنجزا الوَعْد، وما كانا كبَرْق ورَعد، ولا سُقْيا ولا غيْث بَعْد. وتركوا بَجْداً بنَجْد، تُورِدُ الإبلَ كما أوْردَها سَعْد. فلا تَغُرّنّك ألقابُ جلالةٍ وفخامة، وإمارةٍ وهامَة.

قلت: فكيف تراهُم وعدُوَّهم؟ قال: قومٌ صُفْر، مَقلومُو الظُّفر. ليس فيهم حابلٌ ولا نابل، أو ذو صمصامٍ قاطع أو دارِع، ولا ثَمَّ غيرُ حَسير راكِع. أما سمعتَ عن ملوك الطوائف؟ فإنهم إخوانهم ولهم خلائف. وإنّ للعرب لجَعْجعَة، لا سلاح ولا قَعقعَة. قومُ سَفاهة، ولُؤمٍ وفَهاهة. أمرُهم لَهْلَهة، جمعُهم قهقهة. ولَتعرِفنَّهم في لحنِ القول، لا قوة لهم ولا حول. أنفٌ في السماء، واستٌ في الماء. أما بلَغك فخرُ حاجب بنِ زُرارَة عند كِسرى؟ قلت: وما قال؟ قال حنظلة: قال خيولنا جمّة، وجيوشُنا فخمة، إن استنجَدْتَنا فغيرُ رُبُض، وإن استطرَقْتَنا فغير جُهُض. قلت: فما كان قول كسرى؟ قال جاوَبه: أنفسٌ عزيزة، وأُمّة ضعيفة. قلت: ما أصدقه! كأنه الآن يصِف، ما خَفِيَ وكُشِف.

قال حنظلة: كُنّا أمّة وصيَّرونا دُوَلا، فإذا نحن شُتوتٌ أمرُهم شَتيت، سرَى بينهم المقتُ السِّخْتيت. والناسُ -يا يحيى- دليلُها الخِرّيت، فكيف وقد أُسنِد الأمر إلى غير أهله؟

تكتب مقاماتك بمداد من دم الأمة المسفوح أو عرق حيائها المذبوح، فنقف أمام حرفك عاجزين إلا عن كفكفة الدمع ومدارة الآه وغصتها
لغة قوية وسبك متين وتمكن من حرفك وحسك باهر

أصفق لهذا الإبداع بإكبار

تحاياي

عمر الحجار
29-05-2012, 12:19 PM
الاستاذ الكبير عبد الرحيم صادقي


احلام واماني كبيرة توجع القلب وتحفز الامل

فلا يعز العرب البهاليل الا وحدة قد وددت اني اراها



اشكر ابداعك الكبير

ربيع بن المدني السملالي
29-05-2012, 06:50 PM
بارك الله فيك أستاذ عبد الرحيم وفي فكرك النّير ، ولغتك الباذخة ، سررتُ بمصافحتي لهذه الدّرة ..
نسأل الله أن يرفع عن أمتنا الضّيم والخنوع والذّل والهوان ..
دمت مشرقاً أخي
تحيتي والمحبة

نادية بوغرارة
29-05-2012, 08:38 PM
الأخ المبدع عبد الرحيم صادقي ،

مازلت تتربع على عرش المقامة في واحتنا الأديبة ،

ومازلنا ننتظر جديدك فيها لنجدد فيه متعة القراءة لك .

دمت والفكرة .

:hat:

وليد عارف الرشيد
29-05-2012, 09:44 PM
حس رائع أبي يأبه بحال الأمة فلا يغادر لها موضوعًا إلا اقترفه ولا همةً إلا استفزها ولا قلبًا إلا أحياه ... ولغة أصيلة جزلة متينة بارعة ... وأسلوب ماتع يشد من ألفه إلى يائه
بوركت أديبنا الكبير وبورك الحرف السامق ... لا حرمنا من هذا الألق
تمنيت تغيير نوع الخط لسهولة القراءة
محبتي التي تعلم وكثير تقديري

عبد الرحيم صادقي
01-06-2012, 01:25 AM
الأساتذة الكرام، الأفاضل والفضليات
كاملة، ربيحة، عمر، ربيع، نادية، وليد عارف
بورك فيكم ولا حرمنا دفعكم
تحياتي ودعواتي لكم بالسلامة والتوفيق