عمر الحجار
29-05-2012, 11:45 AM
النكبة:
وتأثيرها في الشخصية الفلسطينية
حتى حلول كارثة النكبة عام 1948 لم يكن الفلسطينيون قد حددوا ملامح استيعابهم لمكونات ومعنى فلسطين التاريخي، والروحي، والفلسفي والقانوني، لأنهم ببساطة كانوا قبلها كأي شعب آخر غير فاقدين لمكونات وجودهم فيها.
و بالطبع لم يكن لدى العرب أيضا معنى لفلسطين يشكل كل هذا التميز والفرادة التي يتمتع بها اسمها اليوم، وكانت فلسطين تشكل فقط ذلك البلد الجميل المتطور ذو الحضارة العميقة والطبيعة الخلابة والاقتصاد المتطور عن محيطه والقابل لان يحلموا بالإقامة والعمل فيه لكسب الرزق، كما لم تكن تبعات سايكس بيكو قد نضجت بعد في ذهن الإنسان الفلسطيني أو العربي، كانت فلسطين لازالت سوريا الجنوبية، وسوريا ليست سوى إقليم عربي ينظر إليه الجميع باعتباره ولاية من ارض ودولة العرب.
من هنا لم يكن هناك ما يمكن تسميته بالشخصية أو الهوية الفلسطينية – كحالها اليوم – على الرغم من التميز الجزئي، بحكم خصائص ومناخات محلية، لكنها تشترك بشكل عضوي مع المجموع المحيط الداني والقاصي، وتشكل بالتالي شخصية محلية متمايزة إلى حد ما وبسيط، بدأ بالتغير التدريجي منذ لحظة الانتداب البريطاني الذي حمل في طياته خطر إمكانية العمل على تهيئة الأجواء السياسية وغيرها لخلق كيان استعماري بجهد دولي على ارض فلسطين يضم مجموعات المهاجرين المخدوعين من اليهود، وكانت هذه المسألة أشبه بالخيال، لم يصدق العرب ومنهم الفلسطينيون أن هؤلاء المستوطنين قادرون عل تحقيق شيء حتى لو قدم لهم العالم بأسره دعما حيويا، وقد ثبت تاريخيا وعلى ارض الواقع بأن ذلك كان سذاجة نادرة، دفع الفلسطينيون ثمنها خسارة أول بلد بني على وجه الأرض وقدم كل هذه الحضارة والفلسفة والمعرفة للبشرية جمعاء ، فسقط بطريقة دراماتيكية، لم يحدث في التاريخ لها مثيلا.
كانت صدمة النكبة قاسية جدا حمّل الفلسطينيون والعرب مسؤوليتها للنظام العربي المتآمر، وبنوا بسرعة هائلة هيئات سياسية متطورة عن المحيط حملت خطابا واعيا وصنعوا ثورات مهمة وحالات فريدة كالإضراب الذي استمر لستة أشهر عام 1936 والثورة التي لم يقم الفلسطينيون بتكليف عزالدين القسام بقيادتها من فراغ، وإنما لتكريس فلسطين كجزء من سوريا والأرض العربية، وقد ذكر صهاينة عدة منهم الإرهابي بن غوريون بأن عرب فلسطين أصبحوا خطرين، منذ أن استوعبوا اللعبة عام 1936 .
اعتبر الفلسطينيون أنفسهم سذجا مع حلول النكبة ، ولاموا أنفسهم لعدم استيعابهم عظمة وقوة الهجمة وتأسيس النظام العربي الجديد الذي لازال قائما إلى اليوم على أنقاض تاريخهم ومدنهم، لهذا انتشرت مقولات الحقد على هذا النظام عند العامة والشتائم والسباب وطال حتى رموزا دينية منافقة كانت تحظى بعباءة الخديعة، ومن جهته رد النظام العربي على ذلك ولا زال بتشويه الحقيقة ودعم الكيان الصهيوني الناجز من خلال محاربة المقاومة وبث أجهزة مخابراته لفكرة بيع الفلسطينيين لأرضهم، وهو أمر لم يكن يحدث فعلا، خصوصا أن الكيان الصهيوني مع كل التقدمات المجانية التي نفذتها بريطانيا والمصادرات والتلاعب بالأوراق والمستندات والحقائق لم تكن تملك عام 1948 سوى 7.8 % من ارض فلسطين فكيف باع الفلسطينيون وطنهم إذن؟
فقدان الوطن جعل من الإنسان الفلسطيني مصدوما والعربي القريب و البعيد يائسا ومستشعرا لتحمله مسؤولية ما، أما الفلسطيني الذي يجلس تحت المطرقة لاجئا خارجها أو مقيما تحت حراب الدولة النازية العنصرية الصهيونية التي تنطق باسم الرب الوهمي فقد قرر دفع أي ثمن لاسترجاع وطنه وصارع الكيان الصهيوني وتوابعه من الأنظمة العربية والعالمية، فحمل السلاح وأعاد تفكيك وتركيب شخصيته الوطنية ومؤسساته بسرعة أذهلت العالم وفي ظروف مستحيلة، حتى ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية التي بلورت الشخصية الوطنية من جديد وجعلت لفلسطين معنى آخر يختلط فيه الحضاري بالديني بالتاريخي بالرومانسي، وصارت تضحية الفلسطيني في سبيل وطنه ليست واجبا فحسب إنما حالة رومانسية عالية الجمالية، حتى أضحى السلاح الفردي البسيط عنوانا للشخصية الوطنية الفلسطينية " الكلاشنكوف"، من هنا وكما نشط الفلسطينيون والجماهير العربية لتحرير فلسطين، نشط العالم ومعه الكيان الصهيوني لمحاولة سحقها وشارك النظام العربي بقوة في ذلك حتى صار الكرسي في الذهن الفلسطيني عدوا كالكيان الصهيوني.
في حين نشط الأدب والفن في ترسيخ أسطوري تماثل مع قتال أسطوري وصمود من جميع المشتتين داخل فلسطين وخارجها وبدعم قوي من الشارع العربي برمته وأحرار العالم، وما تلك النزعة _ الفلسفية _ عند كنفاني ودرويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وجبرا إبراهيم وغيرهم سوى تعبير وترسيخ عميقين لذلك، فقد أظهرت القصائد والآداب والفنون الصلة الالتصاقية بين الفلسطيني وبندقيته، حتى تحولت الصورة الفوتوغرافية التي تلتقط للذكرى لا تخلو من ترصيع لشكل البندقية أو الطلقة.
كان التاريخ القريب السابق قد دون مدى ارتباط الإنسان البسيط بالتضحية الهادفة، خصوصا بعد صدمة الإعدام ذي الشكل المثيولوجي الذي اتخذه وتحديدا لحظة إعدام محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير على يد الانكليز، فقد تسابق كل محكوم للتنفيذ في مشهد مسرحي عال، فتحول الإعدام ومعناه من معاقبة لمناهضي الاحتلال إلى بطولة نادرة خلقته شجاعة الثلاثة الذين لا زال الفلسطينيون يسمون شوارعهم بأسمائهم و يغنون لهم ويقدسون أسماءهم حتى اللحظة، في لحظة الإعدام تلك برزت فلسفة عربية وفلسطينية جديدة وحرج العربي من خنوعه وذله بشكل عام ، فخلق الشهداء الثلاثة معنى جديدا وفهما عميقا للنضال والوطن والفكرة تلك كانت لحظة إرهاص عميق، لكنها لم تصبح عامة شاملة إلا بعد النكبة، فقبلها كان الفلسطيني غير مصدق لإمكانية أن يستولي اليهود على البلاد، بل كان الفلسطينيون ينظرون إلى اليهودي بشكل عام باعتباره مسكينا بسيطا، ولم يكن يتوقع أو يصدق حتى ذاك أن اليهودي الفلسطيني والعربي نفسه سوف يخون وطنه وشعبه ويقف مع العصابات الصهيونية، لكن " طوطم الرب " كان أقوى من وطنية اليهودي العربي فخان وطنه لصالح وهم الرب والميعاد ولصالح القوى الاستعمارية، لكن وعلى الرغم من ذلك لم يتحول الفلسطيني بالمقابل إلى عنصري متقوقع دينيا، على الرغم من إيمانه، وهو ما يمثل وعيا عاليا سعى الكيان الصهيوني لنشر ذلك إيمانا منه بأن أي خطاب ديني عنصري يخدم وجوده ويبرر فكرة الصهيونية المنطلقة من مفهوم وعد الرب.
ولم تكن التركيبة المعقدة للشخصية الفلسطينية القائمة اليوم لتكون لولا الصدمة التاريخية التي ولدتها النكبة، فقد ولد الشعور بالسذاجة والخديعة شعورا بالنقص، لهذا سعى الفلسطينيون إلى التعلم والتثقف ونهض في مختلف المجالات حتى باتوا في زمن قياسي من الشعوب الأولى عالميا في مجالات الثقافة والفن والعلم والصناعة والاقتصاد ، لقد صنعت خديعة النكبة من الفلسطيني البسيط شخصا آخر، وتعلم الجميع أن لحظة الغفلة قد تكون كارثية ومن هنا تظهر الحساسية المفرطة للفلسطيني عند التعرض لوطنه أو انتمائه والتي يفهمها البعض على أنها عنصرية، وما هي في الواقع إلا ردة فعل على طريقة ومعنى ضياع الوطن.
الفلسطيني والمكان _ الذاكرة أصبحا مرتبطين بصورة تبدو غريبة أحيانا وكأنها عشق مرضي أعمى، إذ يجري الخلط بين الفقدان والحسرة ومكونات وطبيعة القرى والمدن المفقودة، مما شكل حالة فريدة صالحة للبحث العميق في تصور المكان ذهنيا، قد يكون هذا مفهوما للاجئين الذين ورثوا الحنين إلى حجارة مدنهم وقراهم أما بالنسبة للمتبقين صامدين هناك، فهو أمر صعب الفهم حقا وفريد تاريخيا، وهو يعيش في القرية التي يفترض أن يعاني فيها ويملها ويراها عادية لارتباطها بحياته اليومية والآنية، ولكنه وبغرابة يقدسها كأنها جنة أرضية عليا، تلك مأثرة وحالة نادرة، فالبشر عادة يقدسون المكان عندما يبتعدون عنه لارتباطه بالذاكرة والأشخاص والطفولة، وقد شكل هذا صدمة للنظرية والمشروع الصهيوني تحديدا من الصامدين في الداخل، بل عقدة نفسية وفكرية أيديولوجية لكيان الاحتلال، ولهذا ينظرون إليهم باعتبارهم القوة المندسة الخطيرة في الداخل لتدمير الكيان الصهيوني، ولا يستطيعون فهمهم إلا بوصفهم خطرا قادما على الكيان.
المهم في وصول الشخصية الفلسطينية إلى هذه الفرادة الحفاظ على الوحدة العضوية فالحدود والمخيمات واختلاف الشكل الإداري وحتى بطاقات الهوية لم يكن عائقا أمام وحدة الهدف والمصير بمعزل عن أي انتماء، لهذا ترحب الصهيونية بكل خرافات النفاق التي ترتدي عباءة الدين لان ذلك يجعل من فلسطين وشعبها مقولات متوهمة غير واقعية ويبرر في الوقت ذاته العقلية الصهيونية كما ينسف الشخصية والهوية الفلسطينية واستنادها إلى التاريخ والمنطق والقانون والواقع.
وتأثيرها في الشخصية الفلسطينية
حتى حلول كارثة النكبة عام 1948 لم يكن الفلسطينيون قد حددوا ملامح استيعابهم لمكونات ومعنى فلسطين التاريخي، والروحي، والفلسفي والقانوني، لأنهم ببساطة كانوا قبلها كأي شعب آخر غير فاقدين لمكونات وجودهم فيها.
و بالطبع لم يكن لدى العرب أيضا معنى لفلسطين يشكل كل هذا التميز والفرادة التي يتمتع بها اسمها اليوم، وكانت فلسطين تشكل فقط ذلك البلد الجميل المتطور ذو الحضارة العميقة والطبيعة الخلابة والاقتصاد المتطور عن محيطه والقابل لان يحلموا بالإقامة والعمل فيه لكسب الرزق، كما لم تكن تبعات سايكس بيكو قد نضجت بعد في ذهن الإنسان الفلسطيني أو العربي، كانت فلسطين لازالت سوريا الجنوبية، وسوريا ليست سوى إقليم عربي ينظر إليه الجميع باعتباره ولاية من ارض ودولة العرب.
من هنا لم يكن هناك ما يمكن تسميته بالشخصية أو الهوية الفلسطينية – كحالها اليوم – على الرغم من التميز الجزئي، بحكم خصائص ومناخات محلية، لكنها تشترك بشكل عضوي مع المجموع المحيط الداني والقاصي، وتشكل بالتالي شخصية محلية متمايزة إلى حد ما وبسيط، بدأ بالتغير التدريجي منذ لحظة الانتداب البريطاني الذي حمل في طياته خطر إمكانية العمل على تهيئة الأجواء السياسية وغيرها لخلق كيان استعماري بجهد دولي على ارض فلسطين يضم مجموعات المهاجرين المخدوعين من اليهود، وكانت هذه المسألة أشبه بالخيال، لم يصدق العرب ومنهم الفلسطينيون أن هؤلاء المستوطنين قادرون عل تحقيق شيء حتى لو قدم لهم العالم بأسره دعما حيويا، وقد ثبت تاريخيا وعلى ارض الواقع بأن ذلك كان سذاجة نادرة، دفع الفلسطينيون ثمنها خسارة أول بلد بني على وجه الأرض وقدم كل هذه الحضارة والفلسفة والمعرفة للبشرية جمعاء ، فسقط بطريقة دراماتيكية، لم يحدث في التاريخ لها مثيلا.
كانت صدمة النكبة قاسية جدا حمّل الفلسطينيون والعرب مسؤوليتها للنظام العربي المتآمر، وبنوا بسرعة هائلة هيئات سياسية متطورة عن المحيط حملت خطابا واعيا وصنعوا ثورات مهمة وحالات فريدة كالإضراب الذي استمر لستة أشهر عام 1936 والثورة التي لم يقم الفلسطينيون بتكليف عزالدين القسام بقيادتها من فراغ، وإنما لتكريس فلسطين كجزء من سوريا والأرض العربية، وقد ذكر صهاينة عدة منهم الإرهابي بن غوريون بأن عرب فلسطين أصبحوا خطرين، منذ أن استوعبوا اللعبة عام 1936 .
اعتبر الفلسطينيون أنفسهم سذجا مع حلول النكبة ، ولاموا أنفسهم لعدم استيعابهم عظمة وقوة الهجمة وتأسيس النظام العربي الجديد الذي لازال قائما إلى اليوم على أنقاض تاريخهم ومدنهم، لهذا انتشرت مقولات الحقد على هذا النظام عند العامة والشتائم والسباب وطال حتى رموزا دينية منافقة كانت تحظى بعباءة الخديعة، ومن جهته رد النظام العربي على ذلك ولا زال بتشويه الحقيقة ودعم الكيان الصهيوني الناجز من خلال محاربة المقاومة وبث أجهزة مخابراته لفكرة بيع الفلسطينيين لأرضهم، وهو أمر لم يكن يحدث فعلا، خصوصا أن الكيان الصهيوني مع كل التقدمات المجانية التي نفذتها بريطانيا والمصادرات والتلاعب بالأوراق والمستندات والحقائق لم تكن تملك عام 1948 سوى 7.8 % من ارض فلسطين فكيف باع الفلسطينيون وطنهم إذن؟
فقدان الوطن جعل من الإنسان الفلسطيني مصدوما والعربي القريب و البعيد يائسا ومستشعرا لتحمله مسؤولية ما، أما الفلسطيني الذي يجلس تحت المطرقة لاجئا خارجها أو مقيما تحت حراب الدولة النازية العنصرية الصهيونية التي تنطق باسم الرب الوهمي فقد قرر دفع أي ثمن لاسترجاع وطنه وصارع الكيان الصهيوني وتوابعه من الأنظمة العربية والعالمية، فحمل السلاح وأعاد تفكيك وتركيب شخصيته الوطنية ومؤسساته بسرعة أذهلت العالم وفي ظروف مستحيلة، حتى ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية التي بلورت الشخصية الوطنية من جديد وجعلت لفلسطين معنى آخر يختلط فيه الحضاري بالديني بالتاريخي بالرومانسي، وصارت تضحية الفلسطيني في سبيل وطنه ليست واجبا فحسب إنما حالة رومانسية عالية الجمالية، حتى أضحى السلاح الفردي البسيط عنوانا للشخصية الوطنية الفلسطينية " الكلاشنكوف"، من هنا وكما نشط الفلسطينيون والجماهير العربية لتحرير فلسطين، نشط العالم ومعه الكيان الصهيوني لمحاولة سحقها وشارك النظام العربي بقوة في ذلك حتى صار الكرسي في الذهن الفلسطيني عدوا كالكيان الصهيوني.
في حين نشط الأدب والفن في ترسيخ أسطوري تماثل مع قتال أسطوري وصمود من جميع المشتتين داخل فلسطين وخارجها وبدعم قوي من الشارع العربي برمته وأحرار العالم، وما تلك النزعة _ الفلسفية _ عند كنفاني ودرويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وجبرا إبراهيم وغيرهم سوى تعبير وترسيخ عميقين لذلك، فقد أظهرت القصائد والآداب والفنون الصلة الالتصاقية بين الفلسطيني وبندقيته، حتى تحولت الصورة الفوتوغرافية التي تلتقط للذكرى لا تخلو من ترصيع لشكل البندقية أو الطلقة.
كان التاريخ القريب السابق قد دون مدى ارتباط الإنسان البسيط بالتضحية الهادفة، خصوصا بعد صدمة الإعدام ذي الشكل المثيولوجي الذي اتخذه وتحديدا لحظة إعدام محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير على يد الانكليز، فقد تسابق كل محكوم للتنفيذ في مشهد مسرحي عال، فتحول الإعدام ومعناه من معاقبة لمناهضي الاحتلال إلى بطولة نادرة خلقته شجاعة الثلاثة الذين لا زال الفلسطينيون يسمون شوارعهم بأسمائهم و يغنون لهم ويقدسون أسماءهم حتى اللحظة، في لحظة الإعدام تلك برزت فلسفة عربية وفلسطينية جديدة وحرج العربي من خنوعه وذله بشكل عام ، فخلق الشهداء الثلاثة معنى جديدا وفهما عميقا للنضال والوطن والفكرة تلك كانت لحظة إرهاص عميق، لكنها لم تصبح عامة شاملة إلا بعد النكبة، فقبلها كان الفلسطيني غير مصدق لإمكانية أن يستولي اليهود على البلاد، بل كان الفلسطينيون ينظرون إلى اليهودي بشكل عام باعتباره مسكينا بسيطا، ولم يكن يتوقع أو يصدق حتى ذاك أن اليهودي الفلسطيني والعربي نفسه سوف يخون وطنه وشعبه ويقف مع العصابات الصهيونية، لكن " طوطم الرب " كان أقوى من وطنية اليهودي العربي فخان وطنه لصالح وهم الرب والميعاد ولصالح القوى الاستعمارية، لكن وعلى الرغم من ذلك لم يتحول الفلسطيني بالمقابل إلى عنصري متقوقع دينيا، على الرغم من إيمانه، وهو ما يمثل وعيا عاليا سعى الكيان الصهيوني لنشر ذلك إيمانا منه بأن أي خطاب ديني عنصري يخدم وجوده ويبرر فكرة الصهيونية المنطلقة من مفهوم وعد الرب.
ولم تكن التركيبة المعقدة للشخصية الفلسطينية القائمة اليوم لتكون لولا الصدمة التاريخية التي ولدتها النكبة، فقد ولد الشعور بالسذاجة والخديعة شعورا بالنقص، لهذا سعى الفلسطينيون إلى التعلم والتثقف ونهض في مختلف المجالات حتى باتوا في زمن قياسي من الشعوب الأولى عالميا في مجالات الثقافة والفن والعلم والصناعة والاقتصاد ، لقد صنعت خديعة النكبة من الفلسطيني البسيط شخصا آخر، وتعلم الجميع أن لحظة الغفلة قد تكون كارثية ومن هنا تظهر الحساسية المفرطة للفلسطيني عند التعرض لوطنه أو انتمائه والتي يفهمها البعض على أنها عنصرية، وما هي في الواقع إلا ردة فعل على طريقة ومعنى ضياع الوطن.
الفلسطيني والمكان _ الذاكرة أصبحا مرتبطين بصورة تبدو غريبة أحيانا وكأنها عشق مرضي أعمى، إذ يجري الخلط بين الفقدان والحسرة ومكونات وطبيعة القرى والمدن المفقودة، مما شكل حالة فريدة صالحة للبحث العميق في تصور المكان ذهنيا، قد يكون هذا مفهوما للاجئين الذين ورثوا الحنين إلى حجارة مدنهم وقراهم أما بالنسبة للمتبقين صامدين هناك، فهو أمر صعب الفهم حقا وفريد تاريخيا، وهو يعيش في القرية التي يفترض أن يعاني فيها ويملها ويراها عادية لارتباطها بحياته اليومية والآنية، ولكنه وبغرابة يقدسها كأنها جنة أرضية عليا، تلك مأثرة وحالة نادرة، فالبشر عادة يقدسون المكان عندما يبتعدون عنه لارتباطه بالذاكرة والأشخاص والطفولة، وقد شكل هذا صدمة للنظرية والمشروع الصهيوني تحديدا من الصامدين في الداخل، بل عقدة نفسية وفكرية أيديولوجية لكيان الاحتلال، ولهذا ينظرون إليهم باعتبارهم القوة المندسة الخطيرة في الداخل لتدمير الكيان الصهيوني، ولا يستطيعون فهمهم إلا بوصفهم خطرا قادما على الكيان.
المهم في وصول الشخصية الفلسطينية إلى هذه الفرادة الحفاظ على الوحدة العضوية فالحدود والمخيمات واختلاف الشكل الإداري وحتى بطاقات الهوية لم يكن عائقا أمام وحدة الهدف والمصير بمعزل عن أي انتماء، لهذا ترحب الصهيونية بكل خرافات النفاق التي ترتدي عباءة الدين لان ذلك يجعل من فلسطين وشعبها مقولات متوهمة غير واقعية ويبرر في الوقت ذاته العقلية الصهيونية كما ينسف الشخصية والهوية الفلسطينية واستنادها إلى التاريخ والمنطق والقانون والواقع.