تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : من دلائل الإعجاز القرآني : الجِناس .



أ د خديجة إيكر
01-07-2012, 05:37 PM
إن التناسب الصوتي في القرآن الكريم لا يمكن حصره في التوازنات الصوتية الشكلية، التي يمكن عدُّها وقياسها، ولا في تقارب مخارج الحروف وصفاتها كما قد يتراءى لأصحاب النظرة العجلى في البيان القرآني، بل إن الأمر يتجاوز ذلك بكثير .
لقد اهتم القرآن الكريم بالمناسبة بين المقال والمقام والسياق، وما لذلك من تأثيرفي نفس المتلَقِّين من العرب الفصحاء فوقفوا مشدوهين أمامه لا يؤمنون به ، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون إنكار روعته وجــلاله . و قد استخدم البيان القرآني بدائع بليغة كثيرة ، أعجزتْ مَن عاصروه عن أن يأتوا و لو بأقصر سورة من مثله وأعجزتْ مَن بعدهم و لا زالت تُعجزُ كل عالم بأسرار اللغة إلى يومنا هذا .
و من بين هذه البدائع و الدلائل الإعجازية الجناس الذي وظَّفه القرآن الكريم لتحقيق التوازن الصوتي ، و لملاءمة السياق والمقام . حيث استُعملت هذه الآلية البديعية لِما فيها من جمعٍ بين كلمتين متماثلتين أو متشابهتين من حيث اللفظ ، مختلفتين من حيث المعنى ، مما يُحدثُ من الناحية الصوتية تكرارا منتظما للأصوات ، موافقاً لتوقعات المتلقي، وفي الوقت نفسه متضمِّناً لمعانٍ جديدة ، مما يفسح مجالا رحبا للتأمل والنظر، فيحقق بذلك متعتين : متعة السماع بالتلذذ بما يُحدثه التجانس الصوتي عن طريق استعمال الجناس ، ومتعة العقل بما يفتحه ذلك التعبير من آفاق للتفكر.
كما أن الجناس من الوسائل التداولية الفعّالة، بحَمْلها و تشويقِها المتلقي إلى الإصغاء والانتباه وإعمال الفكر في هذا المتشابِه صوتيا، المختلِف دلاليا.
وقد أكثر القرآن الكريم من استخدام هذه الآلية البديعية بجميع أنواعها ، و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة أنواع من الجناس :
الجناس التام المفرد: وهو ما اتفق لفظاه في نوع الحروف وعددها وترتيبها وهيئتها ( أي حركاتها و سكناتها ) : ومنه قوله تعالى : ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلّب الليل و النهارإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . النور : 43 / 44 ، حيث وردت كلمة الأبصار الأولى للدلالة على جمع (بصر) وهو الحاسة المعروفة، بينما عَنى لفظ الأبصار الثاني جمع (بصيرة) . و قوله : ( و يوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) . الروم / 55 ، فالساعة الأولى يقصد بها يوم القيامة، بينما تعني الثانية القطعة من الزمان أو مفرد ساعات. ذلك أنها تعبر أدق تعبير عن إحساس المجرمين، فهم يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا وقتاً وجيزاً هو ساعة من الزمن .
و قوله عز و جل : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد ) . الإخلاص : من 1 إلى 4. فلفظ أحد الثاني غير الأول فالأول بمعنى الواحد أو المتوحد، خاص بالله ، لا يطلق على غيره... وأحد الثاني بمعنى الجمع وهو من الألفاظ التي تستعمل في النفي، نحو ما جاءني أحد.
الجناس المغاير: وهو ما تشابه لفظاه في الحروف و اختَلفا في الحركات ، كقوله سبحانه : ( و الجار الجُنُب و الصاحب بالجَنْب ) النساء / 36 . فكلمة الجُنُب تعني الذي يقرُب منك و يكون إلى جانبك ، و الصاحب بالجَنْب هو كلّ من صحبَك و كان إلى جانبك إما في السفر، أو بالجوار ، أو في العلم ، أو في مجلس معيّن ، أو في المسجد ، فكلّ هؤلاء لهم حق الجوار . و قوله سبحانه : ( و لقد أرسلنا فيهم مُنذِرين فانظر كيف كان عاقبة المُنْذَرين ) . الصافات / 72 . حيث دلت كلمة المنذِرين على اسم الفاعل الجمع من أَنذَرَ ، بينما دلت المنذَرين على اسم المفعول الجمع من الفعل نفسه .
الجناس الناقص : وهو الذي يختلف رُكناه في عدد الحروف سواء كان الحرف المزيد في أول الكلمة ، كقوله جل و علا : ( و التفَّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ). القيامة : 29 / 30 . حيث يتجلى الجناس بين لفظي الساق ، و هي ساق القدَم ، و المساق الذي زيد ت في أوله ميم المصدر ، فهو مصدر ميمي من ساقَ / يسوق / سوْقاً و سِياقاً ، أم كان الحرف المزيد في وسطها ، أم في آخرها كقوله سبحانه : ( ثم كلي من كلّ الثمرات ). النحل / 69 .
إن ما ذكرناه إن هو إلا غيضٌ من فيضٍ من أنواع الجناس الواردة في القرآن الكريم و هي كثيرةٌ كما أسلفنا منها : الجناس المصَحَّف ، و المَرْفُوّ، و المُذَيَّل ، والمضارع، واللاحق ، و اللفظي، وتجنيس القلب، وتجنيس الاشتقاق، وتجنيس الإطلاق .
إن وجود الجناس في القرآن لا يعني أنه جيء به لأجل التكلُّف كما يفعل الشعراء عادةً حين يستعملون المحسِّنات اللفظية ، و لكن مراعاةً لقوة المعاني وللمقاصد التي يهدِف إليها كتاب الله و يروم تبليغها .

بهجت عبدالغني
01-07-2012, 05:52 PM
ما أحوجنا الى مثل هذه المواضيع القيمة
التي تزيد من فهمنا لكتاب ربنا وتدبرنا له ..

والبلاغة بحر واسع عميق ..


الاستاذة الدكتورة خديجة إيكر
وفقك الله تعالى
وبانتظار مزيد ما يجود به قلمكم المبدع ..




تحياتي ودعائي ..

مازن لبابيدي
01-07-2012, 06:29 PM
أ د خديجة إيكر
شكرا لك أختي هذا الموضوع الكبير النفع والأجر ، وجزاك الله كل خير .
فعلا لا يزال الجناس من أقوى أدوات البديع التي تأسر السامع في مختلف فنون الأدب حتى العامي منها ، وها أنت تبينين مشكورة أنواعه في كلام الحق جل وعلا ، وهو المعجز أبدا .
تحيتي لك مع التقدير

أ د خديجة إيكر
01-07-2012, 09:04 PM
الأستاذ الفاضل بهجت الرشيد

حضورك الطيب وإطلالتك الراقية أُقدّرهما .

دمت و سلمت

أ د خديجة إيكر
01-07-2012, 09:08 PM
الأستاذ الفاضل مازن لبابيدي

جزاك الله الحسنى وزيادة على مرورك البهي ، و كلماتك النبيلة .

تحيتي و تقديري

ربيحة الرفاعي
01-07-2012, 09:34 PM
موضوع كبير نطمح فيه لمزيد من التفصيل والتوسع
ليس في الجناس فقط بل وفي غيره من البدائع ومعالم الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم

أ.د. خديجة إيكر

أهلا بك ألفا في واحتك حيث الصحبة الطيبة والحضور الهادف

تحاياي

أ د خديجة إيكر
02-07-2012, 12:17 AM
الأستاذة ربيحة الرفاعي


شكراً على المرور المميّز و التعقيب النبيل .

تحيتي

وليد عارف الرشيد
04-07-2012, 04:29 AM
موضوع رائع شائق ممتع مفيد ... ووجبة معرفية جميلة التقديم بهية الحضور
أشكرك أختنا الدكتورة على موضوعك القيم ومرحبًا بك في واحة الخير
مودتي وتقديري

أ د خديجة إيكر
04-07-2012, 06:48 PM
شكرا لك أستاذ وليد عارف الرشيد على كلماتك الطيبة .

دمت وسلمت .

ربيع بن المدني السملالي
06-07-2012, 04:11 PM
جميل هذا الثّراء اللغوي والعلمي الذي تتمتّعين به أ . د خديجة ، لا أخرج من نصوصك إلاّ مستفيداً ..أحيّيك .

بوركتِ وبورك مسعاكِ أختي .

تحياتي

لطيفة أسير
06-07-2012, 05:07 PM
أكرمك الله وبارك فيك أستاذتي الكريمة خديجة
تحيتي وتقديري

أ د خديجة إيكر
06-07-2012, 09:10 PM
جميل هذا الثّراء اللغوي والعلمي الذي تتمتّعين به أ . د خديجة ، لا أخرج من نصوصك إلاّ مستفيداً ..أحيّيك .

بوركتِ وبورك مسعاكِ أختي .

تحياتي

أخي الفاضل ربيع السملالي

بارك الله مرورك السّخي

دم واسلم

أ د خديجة إيكر
06-07-2012, 09:15 PM
أكرمك الله وبارك فيك أستاذتي الكريمة خديجة
تحيتي وتقديري

و لك المثل إن شاء الله أختي لطيفة أسير


إطلالة عطرة بصاحبتها