تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الغربة



محمد الطيب الحواط
05-07-2012, 12:03 AM
الغربة

بقلمي

عشت طفولة هادئة ، أتلمظ عذوبة المتعة في أحضان البر والمودة .ترعرعت الفرحة بجانبي كفرد من العائلة .أوكد عمل لي ، التمسك بتلابيب الدراسة والتحصيل .
كنت ميالا إلى بعض المناهل على حساب أخرى ، أفضل لحظات التربية الرياضية ، أود لو استغرقت سحابة يومي وهزيع ليلي .ارتقيت سلم العمر بسرعة البرق ، أخطو على بساط العقد الثاني .بعد تعب غير معتاد ، رافقتني سنة في جولة مريحة . اخترت قدوتي من صدر بيتي .بدأت أبصر ما حولي .أميز خيوط الضوء المتسللة إلى أعماقي ، تجوب بيسر ، ممتطية زفير أنفاسي ، تعم كل جسدي . تغمرني فرحة الإقبال على لون حياة جديد .امتطيت صهوة الغربة على مقربة من نضجي .ينازع فرحتي لهفي على وسطي .
أذكر حين لوحت بيدي معلنا رجفة الرحيل ، لمحته نفث زفيرا أشعل الحرائق في كل سبيل ، وأطرق متماسكا ، رافضا إبداء ملامح من يجهش أسفا على فراق ، يحث النائحات على العويل .انزوت فرحتي واختفت تحت أسارير الدهشة الخانقة ، وأخذت الألوان التي تستشف في داخلي تتوارى مستسلمة لهبوب العتمة الكاسحة .بدأت أقلب اختياراتي ومنها اعتذاري لغربتي ، والتخلي عن مشروعي الطافح .أغدو وأروح على مسافة الرصيف ، بين مشيع متميز وقارب متحفز .غربتي مصرة على الرحيل ، أخذت تربت على كتفي ، تنضو عني غبار التردد . انتشلتني بقوة من عالمي المسيج بعادات مثقلة بالطقوس ، انزلقنا إلى جهة الوضع البديل .أبحرت أجدف بين أمواج المفاجآت المتتالية . جعلت التيه نصب عيني . خلفت ورائي أحلامي الصغيرة . توجهت نحو أسراري الدفينة المتوارية خلف أستار الغفلة .سافرت في سكينة ، أناجي دؤابات الفلق الطالع ، أستانس بخيوط الضوء اللائحة من ظل عتمة المجهول الزاحف . تحدوني أحلام سامقة كأشجار الآمال المديدة . أطرح بعيدا أوراق الخريف ، المتساقطة من شجرة أيامي العنيدة . أنشر ذكرياتي على الرصيف أمامي ، أشذب أطرافها التي جفت ، وأصون الباقي بين جوانحي .أتمدد في عراء البيداء الشاسع ، أحاكي صفير الرياح ، أسير عدوا إلى أبعد من مدى الصياح . يسوقني كلام تفجر نبعا من داخلي ، ملأ شراييني دما فوارا ، يفيض سناه على الوجنتين .استبدت بي غربتي ، حجبتني عن شهوة الشهود ، تدروني بلطف مثلما يدرو النسيم رذاذ السحب .مدت جناحها مطية ، تسلقت مدارات النجوم ، اخترقت سدم الغيب ، قاومت الهواجم بترس الوجوم .الكواكب تجري ، وأنا بين منعطفات مداراتها أمشي ، بلا أشباح ولا ظلال . أطرق أبواب الأقمار المشرعة على كل احتمال .أستشف العصارة من غمام المآل .أطفو فوق سطح متاجج بلهيب أعماقي . تظل عيوني يقظى ترقب مرور يد الساقي . فيكف شروقي عن الغروب المعتاد بالديار . وأمحو من عاداتي توالي طلعة الضياء وذبول الأقمار .حيث كان طفلنا يشيخ ألف مرة بين الليل والنهار .وتوءد أحلامنا قبل استقرارها بخلد الإنسان .ولا تسمع غير أنين الخطى المتعبة المترهلة . ولا ترى سوى شباك الصيد في المياه العكرة .ولا تتعامل إلا مع الذين يكذبون كما يتنفسون . يغتالون البسمة ومن دمائها يمتحون .يشيعون الموتى والأحياء معا إلى مثوى النسيان .انتصر الطبع ، فلفت شجون العادة مضجعي .وشدني الحنين إلى الأوجاع القديمة المغردة في عرائشي الدفينة ، فهممت بالنزول عبر مهاوي الإشفاق .علمت غربتي فدنت وزمجرت : من زارنا صار منا ، وكل ملتفت إلى الخلف نشنقه بحبل ارتداده ، ونمثل بمشكاته على أبواب مدينته . ثم نرتقها في لجة الاختراق بعد الاحتراق .طأطأت مصغيا .... تملكني رعب غريب .سحبت روحي من ظلمتي ، أفرغت أكداس ذكرياتي وبعثتها لتعبث بها أجيال الرياح .طفقت أجثو بلا جسد ولا ألم خارج طيفي . أنسج من ومض البرق رداء لحظة حتفي .أحجب وجهي بكفي ، أحضن الظلام ، أحتمي بحلكته ، أنتظر مصيري .فسمعت من ناداني من بعيد . صوت خافت كأنه يصدر من قعر جب عميق .
تصورته الموت قادما في جثة يتحرك .وأنا أرنو متلهفا في اتجاه الحياة .تلك غنة صوت أمي ، توقظني لأستعد للاتحاق بمدرستي .انتفضت بسرعة . أخذت نفسا عميقا لتعبئة رئتي .
سحبت جسدي من سريري .تلمسته ... إنه شاخص كخشب عنيد يتحدى آلة النشر .أبحث عن يقظتي .دنوت من ابتسامة باردة وسألتها :هل أعيش في حلم ؟أم الحلم أنا . . . ؟

مصطفى حمزة
05-07-2012, 06:46 AM
الغربة

بقلمي

عشت طفولة هادئة ، أتلمظ عذوبة المتعة في أحضان البر والمودة .ترعرعت الفرحة بجانبي كفرد من العائلة .أوكد عمل لي ، التمسك بتلابيب الدراسة والتحصيل .
كنت ميالا إلى بعض المناهل على حساب أخرى ، أفضل لحظات التربية الرياضية ، أود لو استغرقت سحابة يومي وهزيع ليلي .ارتقيت سلم العمر بسرعة البرق ، أخطو على بساط العقد الثاني .بعد تعب غير معتاد ، رافقتني سنة في جولة مريحة . اخترت قدوتي من صدر بيتي .بدأت أبصر ما حولي .أميز خيوط الضوء المتسللة إلى أعماقي ، تجوب بيسر ، ممتطية زفير أنفاسي ، تعم كل جسدي . تغمرني فرحة الإقبال على لون حياة جديد .امتطيت صهوة الغربة على مقربة من نضجي .ينازع فرحتي لهفي على وسطي .
أذكر حين لوحت بيدي معلنا رجفة الرحيل ، لمحته نفث زفيرا أشعل الحرائق في كل سبيل ، وأطرق متماسكا ، رافضا إبداء ملامح من يجهش أسفا على فراق ، يحث النائحات على العويل .انزوت فرحتي واختفت تحت أسارير الدهشة الخانقة ، وأخذت الألوان التي تستشف في داخلي تتوارى مستسلمة لهبوب العتمة الكاسحة .بدأت أقلب اختياراتي ومنها اعتذاري لغربتي ، والتخلي عن مشروعي الطافح .أغدو وأروح على مسافة الرصيف ، بين مشيع متميز وقارب متحفز .غربتي مصرة على الرحيل ، أخذت تربت على كتفي ، تنضو عني غبار التردد . انتشلتني بقوة من عالمي المسيج بعادات مثقلة بالطقوس ، انزلقنا إلى جهة الوضع البديل .أبحرت أجدف بين أمواج المفاجآت المتتالية . جعلت التيه نصب عيني . خلفت ورائي أحلامي الصغيرة . توجهت نحو أسراري الدفينة المتوارية خلف أستار الغفلة .سافرت في سكينة ، أناجي دؤابات الفلق الطالع ، أستانس بخيوط الضوء اللائحة من ظل عتمة المجهول الزاحف . تحدوني أحلام سامقة كأشجار الآمال المديدة . أطرح بعيدا أوراق الخريف ، المتساقطة من شجرة أيامي العنيدة . أنشر ذكرياتي على الرصيف أمامي ، أشذب أطرافها التي جفت ، وأصون الباقي بين جوانحي .أتمدد في عراء البيداء الشاسع ، أحاكي صفير الرياح ، أسير عدوا إلى أبعد من مدى الصياح . يسوقني كلام تفجر نبعا من داخلي ، ملأ شراييني دما فوارا ، يفيض سناه على الوجنتين .استبدت بي غربتي ، حجبتني عن شهوة الشهود ، تدروني بلطف مثلما يدرو النسيم رذاذ السحب .مدت جناحها مطية ، تسلقت مدارات النجوم ، اخترقت سدم الغيب ، قاومت الهواجم بترس الوجوم .الكواكب تجري ، وأنا بين منعطفات مداراتها أمشي ، بلا أشباح ولا ظلال . أطرق أبواب الأقمار المشرعة على كل احتمال .أستشف العصارة من غمام المآل .أطفو فوق سطح متاجج بلهيب أعماقي . تظل عيوني يقظى ترقب مرور يد الساقي . فيكف شروقي عن الغروب المعتاد بالديار . وأمحو من عاداتي توالي طلعة الضياء وذبول الأقمار .حيث كان طفلنا يشيخ ألف مرة بين الليل والنهار .وتوءد أحلامنا قبل استقرارها بخلد الإنسان .ولا تسمع غير أنين الخطى المتعبة المترهلة . ولا ترى سوى شباك الصيد في المياه العكرة .ولا تتعامل إلا مع الذين يكذبون كما يتنفسون . يغتالون البسمة ومن دمائها يمتحون .يشيعون الموتى والأحياء معا إلى مثوى النسيان .انتصر الطبع ، فلفت شجون العادة مضجعي .وشدني الحنين إلى الأوجاع القديمة المغردة في عرائشي الدفينة ، فهممت بالنزول عبر مهاوي الإشفاق .علمت غربتي فدنت وزمجرت : من زارنا صار منا ، وكل ملتفت إلى الخلف نشنقه بحبل ارتداده ، ونمثل بمشكاته على أبواب مدينته . ثم نرتقها في لجة الاختراق بعد الاحتراق .طأطأت مصغيا .... تملكني رعب غريب .سحبت روحي من ظلمتي ، أفرغت أكداس ذكرياتي وبعثتها لتعبث بها أجيال الرياح .طفقت أجثو بلا جسد ولا ألم خارج طيفي . أنسج من ومض البرق رداء لحظة حتفي .أحجب وجهي بكفي ، أحضن الظلام ، أحتمي بحلكته ، أنتظر مصيري .فسمعت من ناداني من بعيد . صوت خافت كأنه يصدر من قعر جب عميق .
تصورته الموت قادما في جثة يتحرك .وأنا أرنو متلهفا في اتجاه الحياة .تلك غنة صوت أمي ، توقظني لأستعد للاتحاق بمدرستي .انتفضت بسرعة . أخذت نفسا عميقا لتعبئة رئتي .
سحبت جسدي من سريري .تلمسته ... إنه شاخص كخشب عنيد يتحدى آلة النشر .أبحث عن يقظتي .دنوت من ابتسامة باردة وسألتها :هل أعيش في حلم ؟أم الحلم أنا . . . ؟


--------------
أخي الأكرم ، الأديب محمد الحواط
أسعد الله أوقاتك
حلمٌ جميل ، لكنّ معاني كثيرة عن الغربة وردت فيه لا يعرفها إلا من عاناها ..فكيف يحلم بها طالب في المدرسة ؟!
السرد ممتع انتهى بقفلة مفاجئة بعد أن أوحيتَ للقارئ من البداية أنك مغترب حقيقيّ .. لكنني أظنّ أنك أتعبتَ نفسك
وأرهقتَ القارئ بحشد الكثير من الصور البيانية في النصّ ، على جمالها .
تحياتي وتقديري

ربيحة الرفاعي
06-07-2012, 03:04 AM
حكائية ماتعة وفكرة تحاكي جرحا لدى كل من عاش الغربة وأوجاعها
ولغة طيبة بأداء جميل

أظنك أسهبت قليلا وكان بعض التكثيف يلزم

أهلا بك اديبنا في واحتك
وبانتظار جديدك

تحاياي

محمد الطيب الحواط
12-07-2012, 10:43 PM
الأستاذ مصطفى حمزة


مشكور على المرور والقراءة

والارتسامات المشجعة

مقدر على الاهتمام والتوجيه

لك مودتي

محمد الطيب الحواط
12-07-2012, 10:45 PM
الأستاذة ربيعة الرفاعي

تقديري كبير لاهتمامك وتتبعك

وامتناني فائق بتوجيهك وتقييمك

لك مودتي

كاملة بدارنه
14-07-2012, 04:04 PM
قصّة رائعة بلغتها وفكرتها وقفلتها، لكنني أوافق من سبقني فيما أبدوه من ملاحظات رغم جمالها
بوركت
تقديري وتحيّتي

محمد الطيب الحواط
13-01-2013, 04:35 PM
الفاضلة كاملة بدارنة

مشكورة على الاهتمام والتتبع والتشجيع

مقدرة على القراءة والتمعن والتقييم .

تقبلي مودتي

نداء غريب صبري
01-06-2013, 05:45 PM
قصة جميلة وسرد استمتعت بجماله
وأنا مع أخوتي في ملاحظتهم

شكرا لك أخي

بوركت

محمد الطيب الحواط
03-06-2013, 09:59 AM
الشاعرة المبدعة

الفاضلة

نداء غريب صبري

ممتن لاهتمامك وتتبعك

مقدر لقراءتك ارتساماتك

لك مودتي

ناديه محمد الجابي
24-12-2018, 06:20 PM
بلغة أنيقة قوية، وسرد ماتع ، وحبكة قوية نجحت في إيصال معنى الغربة
التي عبرت عنها بجمال وسلاسة وروعة في الأداء
رصفت الحروف بسرد متناغم لتصل بنا إلى النهاية المفاجأة.
سلمت يداك ـ ودمت بكل خير.
:001::noc::0014: