المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منديل عطيل 2011



حسام حسين
21-07-2012, 02:23 AM
منديل عطيل 2011

منديل عطيل 2011

مستحيل، خبرٌ كاذب، الجزيرة عودتنا صب الزيت على النار. فضائية أخرى ربما أوقفتْ القدر.. سأنهار، سأموتُ حتما إن غادرنا المُلهم هاربا.
ولِم ، ومِمن؟
البلاد والعباد والهواء خواتم في أصبعه. الجنرال ليس بهذا الضعف، القصة لم تكن بهذه الهشاشة.

بالأمس كان غريبا، إيقاع أنفاسه، ملامحه، عباراته المرتبكة.. يا ألهي. القسوة تتلعثم ؟!
الطقس مختلف، ديجول وتاريخه كانا على المحك، وليست فرنسا كلها.. ألا تفهم؟
فهمتنا، والبلاد كلها تنفجر غضبا؟
فهمتنا؟؟
شابٌ بائسٌ يحرق نفسه، فيحرق مرحلة بأسرها. من أين تأتي أزمة الفهم إذن؟
لم يخبروك الحقيقة؟!
كذبٌ صراح ورب الكعبة، نكتة ليس هذا وقتها، أنا ورفاق الدنس كنا الدليل أن الحقيقة تصلك طازجة برائحة البحر.
والآن، التلفاز يتآمر على إيماني بك، يسخر مني، والشاشات تسدد رصاصات الصدمة في كل الجسد.
زوجتي البلهاء مبتهجة، تراقب ذاك الصعود الدرامي المثير، تتمتم بصوت أسمعه، بمكر أعرفه.. لو أن طائرة الجنرال تتسع، لربما كنتَ معه.

نافقت معتقداتي فيك، اشترينا أعلامك، ووقفنا معا نترقب مرورك، ترفرف، ونرفرف معها صارخين فيك، نستجديك لأن تظل لنهاية الأبد، إن كان للأبد من نهاية.
لا؛ إن هو ألا عارض، الجنرال لا يهرب، هو أكبر من هذه اللحظات، كان أكبر من التعاطف مع الرجل الرمز، الطاعن في العمر، فعلها وكأنه يقلم أظافره.

هي السخرية، كيف أمر الآن على ذاكرة زملاء العمل؟
كانت الوظيفة أكبر مني، جاءت بتقاريري المخلصة لزبانيتك. ضحيتُ بالكثير من أجلها.. ضحيتُ؟
يا لشقائي وبؤسي!!
رتبت الوشايات، رفعت التقارير في الأصدقاء والأعداء، تلذذت برعبهم، فشلهم العتيد لأن يحصلوا على حد أدنى من حياة، لم أبذل قطعة حلوى لطفل لم يرِ أباه، جاء للدنيا وأبوه معتقل ولا يعرف أني السبب. ولم أمنع نفسي من مغازلة زوجته كحيوان كريه.

كنتُ مُخدرا، أشاهد المتعطلين في جل المقاهي، ضحايا العوز، والدموع المتيبسة في كل العيون، ابتسامات غادرت الوجوه الشاحبة إلى غير رجعة، الأمهات المدججات بالقهر، لكم سحلوا من أولاد، قتلوهم في حوادث أكثر غموضا من القدر.

لا.. لم أكن مُخدرا، كنتُ قذرا ورخيصا، منزوع الإنسانية وجبانا.. أنا العار له قدمان، الوجه المؤبلس الوحيد في هذا الحي، كيف سأواجه أهله وأنا القاتل؟
احتاج قهوة تعيد لي الاتزان يا امرأة.
التلفاز الحقير مازال مستمرا في قتلي يا جنرال، ولم يعد لي من أمل ألا في موت عاجل كأخبار الجزيرة، أو لينقطع التيار وتتوقف المهزلة.

ربيحة الرفاعي
21-07-2012, 03:24 AM
جميل ما طرحت هنا من فكرة
نعم ...
ربما هكذا يفكر أذيال الظلام، وربما لهذا يجتهدون في عرقلة خطوات الأمة للأمام
وكلما زاد ما اقترفوا من جرائم زاد كرههم للفرج القادم وزادوا حرصا على استمرار الأنظمة " الجنرالاتية" العميلة الغاشم

هطول أول مبشر بخير عميم قادم
أهلا بك أيها الكريم في واحتك
وبانتظار جديدك

تحاياي

ربيع بن المدني السملالي
21-07-2012, 03:39 AM
جميل ما قرأت هنا ، وهادف ، لله درّك ما أنضجك

أهلا ومرحبا بك معنا أيها الكريم في واحتك حيثُ تبحر قوارب الفكر العارف بأشرعة الأدب الهادف لبناء معالم الوطن الحلم بإعادة صياغة واقع الأمة وتأسيس حالة ناهضة برسالة الواحة الراشدة ...

دمتَ بخير وعافية

تحياتي

كاملة بدارنه
21-07-2012, 11:34 AM
أهلا بك أخ حسام في واحتك وبمشاركتك الأولى التي صوّرت بشكل جميل - رغم المأساة - النّفسيّة القياديّة السّاديّة المريضة للقائد!
بوركت
تقديري وتحيّتي
رمضان كريم

حسام حسين
21-07-2012, 01:46 PM
جميل ما طرحت هنا من فكرة
نعم ...
ربما هكذا يفكر أذيال الظلام، وربما لهذا يجتهدون في عرقلة خطوات الأمة للأمام
وكلما زاد ما اقترفوا من جرائم زاد كرههم للفرج القادم وزادوا حرصا على استمرار الأنظمة " الجنرالاتية" العميلة الغاشم

هطول أول مبشر بخير عميم قادم
أهلا بك أيها الكريم في واحتك
وبانتظار جديدك

تحاياي


الفضلى أستاذة ربيحة الرفاعي
تعليقك أكبر مني، لكنه مؤكد سيدفع بي كي أكتب أفضل في قادم الأيام، لذا أشكر مرورك الكريم

حسام حسين
21-07-2012, 01:49 PM
جميل ما قرأت هنا ، وهادف ، لله درّك ما أنضجك

أهلا ومرحبا بك معنا أيها الكريم في واحتك حيثُ تبحر قوارب الفكر العارف بأشرعة الأدب الهادف لبناء معالم الوطن الحلم بإعادة صياغة واقع الأمة وتأسيس حالة ناهضة برسالة الواحة الراشدة ...

دمتَ بخير وعافية

تحياتي


سيدي الكريم / ربيع بن المدني
أشكر لك ترحيبك الذي ينطلق من نفس كبيرة حقا وصدقا. سعيد بوجودي بينكم

حسام حسين
21-07-2012, 02:03 PM
أهلا بك أخ حسام في واحتك وبمشاركتك الأولى التي صوّرت بشكل جميل - رغم المأساة - النّفسيّة القياديّة السّاديّة المريضة للقائد!
بوركت
تقديري وتحيّتي
رمضان كريم


الفضلى / كاملة بدارنة
ترحيبك شرف وتقديرك وسام، ورب رمضان أكرم، نسأله سبحانه أن يمتع كل أهل الواحة بكل تفاصيل السعادة

فاطمه عبد القادر
22-07-2012, 12:59 AM
هي السخرية، كيف أمر الآن على ذاكرة زملاء العمل؟
كانت الوظيفة أكبر مني، جاءت بتقاريري المخلصة لزبانيتك. ضحيتُ بالكثير من أجلها.. ضحيتُ؟
يا لشقائي وبؤسي!!

السلام عليكم أخي حسام وأهلا بك
رائعة ,,رائعة جدا هذة القطعة الأدبية
إنها من مذكرات شيطان من زبانية الأنظمة الفاسدة ,عمل طول حياته بإذلال من حوله ليرضي شيطانه الأكبر وشيطانه الأصغر
تبا لهم ,,هؤلاء
لقد رأيت الكثير من أمثالهم في طريق حياتي ,يمارسون الحقارة المدعومة على الآخرين
هم بلا ضمير ولا أخلاق ولا دين ,إنهم أحقر مخلوقات الدنيا
شكرا لك
ماسة

حسام حسين
22-07-2012, 03:06 AM
هي السخرية، كيف أمر الآن على ذاكرة زملاء العمل؟
كانت الوظيفة أكبر مني، جاءت بتقاريري المخلصة لزبانيتك. ضحيتُ بالكثير من أجلها.. ضحيتُ؟
يا لشقائي وبؤسي!!

السلام عليكم أخي حسام وأهلا بك
رائعة ,,رائعة جدا هذة القطعة الأدبية
إنها من مذكرات شيطان من زبانية الأنظمة الفاسدة ,عمل طول حياته بإذلال من حوله ليرضي شيطانه الأكبر وشيطانه الأصغر
تبا لهم ,,هؤلاء
لقد رأيت الكثير من أمثالهم في طريق حياتي ,يمارسون الحقارة المدعومة على الآخرين
هم بلا ضمير ولا أخلاق ولا دين ,إنهم أحقر مخلوقات الدنيا
شكرا لك
ماسة


فاطمة هانم
مرورك رائع ومشجع. أشكر القدر العطوف الذي يسر لي هذه الواحة

آمال المصري
24-07-2012, 07:17 PM
مرور للترحيب والثناء على قلم يبشر بالخير
وفي انتظار مايجود به قلمك أديبنا المكرم
وكل عام وأنت للرحمن أقرب
تحاياي

نادية بوغرارة
27-07-2012, 03:12 PM
نص زاخر بالمعاني، عميق الأفكار .

مرحبا بالأديب حسام حسين في واحة الخير والعطاء .

في انتظار جديدك ،

لك فائق التقدير .

حسام حسين
31-07-2012, 03:47 AM
الفضلى / آمال المصري، والسيدة نادية بو غرارة
مروركما شرف أتمنى أن استحقه
كل عام وكل من يمر من هنا بخير وصحة وسعادة

حسام حسين
15-09-2012, 12:58 AM
كل زهرة تفوح كمبخرة
والكمان يرتعش كالقلب المُعذب
{ بودلير}

هناك، حين تنصرف التفاصيل التي تملأ اليوم ، ويُغلق الباب مع دقات ساعة حائط المبكى الليلي؛ وحين يدخل كعادة كل يوم مع النوم فى صراع من أجل البقاء ؛ يجد الماضي شاخصا عند باب الغرفة، يتحرك متجها إلى الفراش كشبح مخيف ، يتذكر يوما من أيام خريف هذه المدينة المُفعمة بالسحر، سفينة ترسو في رصيف الميناء ، يقف على ظهرها قاتلٌ مأجور يحمل نفس ملامحه، ومقتول في آنٍ واحد، ينظر إلى سيدة تحمل ملامح نفس ذاك الملاح المغامر الذي شيّد هذه المدينة؛ تقف تودعه .

كان راحلا لوجهة يعرفها ولا تعرفه ؛ كانت يداه ثقيلة؛ يريد أن يرفعها لكي يودعها وداعا يليق ، ولكنه كان كمن يغرغر ومن ثم سيموت ، تثاقل الجسد كله، أشفق عليها من طول الوقت حتى ارتفع سُلم المسافرين من فوق الرصيف، نظر إليها وللمدينة التى كانت مثلها تبتعد شيئا فشيئا ، صوتان كريهان : صراخ النساء وعويلهن يوم ماتت أمه، وصوت هذه السفينة الذي يسحب روحه من شاطئ هذه المدينة المتغلغلة فى نفسه .
تذكر النهار الأخير في مدينته، ضجيج الشارع وغبار الإسفلت وفنجان القهوة المُر، وبعض الفراغ، وجريدة أجنبية تحمل دليلا حاسما على الرفض، وأخبار حرب لم تكن تشغله كثيرا، شقق القمار وفلول فتيات علب الليل في الزمن الضائع، وحاناتٍ تعرفه كزعيم تولى قيادة الصعاليك فى ثورة شاملة حدثت في غفلة من النظام ؛ تراثه على هذه الأرض المُبتعدة مؤلمٌ جدا .
واقعيا لا ينتظر الشفقة ، لكنه أشفق على نفسه كثيرا، ظلمته الظروف فى لحظة عمياء ، كان شيوعيا على طريقته الخاصة ، كان ذكيا ربما، ولكن فى غياهب المعتقل، لعن كل مسميات الذكاء التى يتحدثون عنها، خرج وصديقه الوحيد الذى جاد به الدهر بعد سنوات الجحود والنكران واليُتم، جلسا يراجعان كل شيء، إلا صداقتهما الرائعة، عاشا الكارثة بكل تفاصيلها المؤلمة، عاشا الضياع فى قمة تجلياته، تاريخهما معا؛ تاريخ الأرصفة والشوارع والبارات والبلياردو والمسارح وعلب الليل .

كان يتعلل بالتعب وينصرف فى هدوء الموتى، ويظل سائرا من شارع (السلطان حسين) حتى سور كلية الهندسة، هذا المبنى كان يستحق أن يُعمره بآماله، أروقته وقاعاته، أساتذته، كل التفاصيل حتى الصغير منها شعر إنه يفتقدها بعنف، أخذ ينظر من بين السياج الحديد، ويحلم من الوضع واقفا، وكأنه يدير حلقة للدرس، يمنح الطلبة الكثير من عشقه لهذا العلم، يفيق ليجد دموعه المُحبطة قد بللت كل شيء، ولولا إنه ينظر لدار ٍللعلم، لظن من يراه فى هذا الليل إنه لص ينتظر الفرصة لأن يسرق كل شيء ، يذهب للنوم فلا ينام، فاليوم خيمة السيرك وهو لاعب (العُقلة) الذي يتأرجح من أعلى إلى أسفل، يباغته القدر بواحدة من أعنف صدماته، نزل إلى الشارع المدجج بالصمت، بعد أن قضى بعض الوقت فى بوهيميته، شعر ببعض الجوع من فرط ما شربه في هذه الأمسية ، يلتقي (الجندي) مخمورا هو الآخر، عند ميدان محطة مصر، تتشابك يده بيده ؛ ويتشابك كل إحباطٍ يحملانه ، يصل قبله ، يودعه راثيا لحاله، ويظل هو صاعدا إلى حيث بيت {رتيبة} تلك المرأة الرجل التى صنعت بتعاليمها أركانا كثيرة من أسطورته فيما بعد، ترحمه من تساؤلاتها عن تلك السهرات وهذا الغياب وهذا الضياع، تريد من فرط حبها وتعاطفها أن تختلس بعضا من الوقت لتنظر إليه وتحدثه، تتعلل بالجوع، يقوم كأي أبن بار ويأتي لها بالطعام، يناديها فلا ترد، ظن إنها تتدلل عليه كتعبير رحيم عن غضبها، يناديها مجددا فلا ترد، يتجه مندفعا إلى غرفتها المُعطرة بالصلوات والدعاء ، كانت غرفتها أطهر بقعة في عالمه، يقف مرتعدا من جلال الموت الذي ارتسم على ملامحها المضيئة فى هذه اللحظات، يدرك الحقيقة، لم يكن متاحا لها أن ترد وهى فى حضرة من هو أعظم من كل شيء، يصرخ: يا رب. لقد كانت جائعة قبل لحظات قليلة، كيف ترسل من يقبض روحها جائعة؟ لكنه يعلم أن طعام الله سيكون مذاقه أكثر جمالا وروعة، كانت التجربة مريرة ومن وقتها وللآن لا يطيق أن يتناول الطعام منفردا، فإن كان الموت فى الماضي حسبما فهم حلا هروبيا من مشكلة ما، فالموت بعد موت {رتيبة} قد أكتسب معنى إضافيا ؛ أدرك أن الموت فى واحدٍ من معانيه؛ أن يأكل منفردا .

كان دائما يسأل نفسه. لماذا لم يتخلص من الحقيبة التي أتى بها طفلا إلى هنا؟ سبعة وعشرون عاما، الرحيل فيها جزء من تراثه ؛ عقد العزم وملأ الحقيبة ثانية، كان ضروريا أن يراود غضبه وكراهيته لجذوره، رحل إلى قريته؛ لا من أجل توديع الأحياء الذين كانوا وراء نفيه ، بل هو ليس يتيما منفردا تماما، فهناك قبران وبيت، تجمعت الأموال اللازمة لرحيله، كانوا أكثر سخاء مما يتصور، فكّر واحدٌ من أخواله أن يصاحبه فى زيارة قبر أبيه وأمه في ختام الزيارة، ولكنه رفض، كان يريد أن يأنس بهما وحده ، قرأ قرآنا كثيرا على قبريهما؛ ربما لم يكن يمتلك اليقين الحاسم وقتها فى فائدة ما يتلوه ، لكنه كان يشعر براحة غريبة مع الاستمرار فى التلاوة، كان الوقت الذى استهلكه عند قبر أبيه أكبر من ذاك الوقت الذى استهلكه عند قبر أمه، كان يشعر أن فى هذا قمة العدل، كان يتمتم : لقد عاش أبى فى صحبتي عامين، بينما هي ست سنوات، ليس سهلا على كل حال أن تُختزل السنوات الأربع فى مجرد ساعة إضافية يمنحها لأبيه، لكنه أبوه ؛ هكذا قال وهو يبكى الاثنين معا .

بكى كثيرا لكنه عاد إلى بعض الهدوء، اعتلى منبر اللحظة وصار يهتف في الفضاء البعيد والقبران بينه وبين المدى الفسيح.
أبي ؛ ما سر هذا القتام؟ فلقد مُتَّ قبل أن أمارس معك بعضا من عقوقي، أي عدلٍ هذا الذي يطيح بأحلامي فى هاوية هذا الكابوس؟ كيف لي أن أمضي عامين كطفل ضائعٍ وتموت وأنت شديد الغضب عليّ هكذا ؟ تُراك تراقبني من أبراج الغيب وأنا أمارس هذه السقطات؟ تُراك تستطيع الغضب وأنت في حضرة بارئك؟ ما أشد ظلمك يا أبي !! بحق السماء كنت أحبك، وأتعاطف كثيرا مع مشاعرك المرهفة التي أودت بحياتك، رغم إنني لم أتشرف بلقاؤك في ساحة الحياة المكتظة بالمسافرين.

أمي !! وعدتك أن أكره الريف والسُل، وألا أعود فلاحا أبدا، وعدتك وأنتِ متدثرة بكفنكِ الثلجيّ أن أنجح، وإلى الآن لم أذق للنجاح طعما، ربما عند الشاطئ الآخر من البحر سأجده، لن أنام، لن أترك لحظة من عمري دون أن أحققه أو أكاد، ولكنك أخلفتِ الوعد، قلت لى لن تتركيني لهم، قبّلتي جبيني وأطبقت عيني على هذا الوعد، وفي الصباح رحلتي إلى الله، من في ملكوت الله يحتاج لأمٍ مثلك غيري؟ الملائكة لا يريدون الأمهات، هم مشغولون بالتسبيح والذكر والطواف السرمدي حول العرش، ربما قد عدتِ طفلة في الفردوس،أو فتاة رائعة الحسن رغم ما كان في ملامحك من لمسات المأساة الثقيلة، لكنك عدتِ لحقيقتك أجمل من أي امرأة في الدنيا، تجلسين مع أبي على الأرائك؛ أشعر بكما، وكأني أراكما، تتبادلان الأنخاب من خمرٍ ٍ لا يشبه ما نشربه هنا في الحانات الأرضية المفعمة بالدخان والجنون، أراكِ تشمين ملابسه السُندسية؛ تقتفي أثر عطرٍ غريبٍ لا تستخدميه عادة، وتقتفي أثر شعرة طويلة قد سكنت قميصه المزركش بالنعيم، أمي هل في الفردوس أيضا تعبث بكم غيرة النساء ؟ مالكِ تصنعين هذا فى أبي؟ علمي إنه يحبك، فماذا يضير أبى إذا عانق حورية في طريق العودة إلى أريكتك المطرزة باللآلئ والنور؟
أمي اذكريني هناك، واحملي لأبي السلام، ابلغيه إنني كنت دائم السؤال عنه، قبّلي جبينه ويديه نيابة عنّى.

توقف فجأة، ولم يشأ أن يعكر صفو سكان القبور بحديثه العائليّ المفعم ببعض التجاوز، أنهما لا يستحقان غير البر، فتوقف، فوجد عينيه تذرفان دموعا ربما أودت ببصره، داهمه الوقت فرحل، القطار كالقدر لا ينتظر من أحدٍ غالبا، عاد إلى تفاصيل الرحيل الكبير، في أحضان تلك الفتاة التى كانت في رصيف الميناء، أيام قليلة، غارق في الثمالة، يرقص كالذبيح، ما أصعب{ التانجو} وفي القلب كل هذا الشجن!!
لم يشأ أن يجرحها، رغم إنه كان مستعدا أن يحبها بشرف، وهي بدورها أدركت إنه لا أمل، فمنحته نفسها كشربة ماء يحتاجها ميت، تنفّسا المتعة حتى انطفأت الشموع في هذه الأمسية الأخيرة. وحين دقت ساعة الرحيل وأتمَّ كل شيء، ألقت العطر في كفيها في الصباح ومسحت بها وجهه الحليق، وظلت تبكي، وراحت تسأله ..
- ستذكرني؟
- هل ستعود يوما وتبحث عنّى ؟
كان يقف كالطود، وهو يسمع هذه الكلمات، كان يعرف أن هذه العبارات من الممكن أن تقتله، كان متعاطفا معها أشد التعاطف، كان يشعر أنه محاصر بعاطفة امرأة محبة، من الصعب الانفلات منها، تعامل مع نساء كثيرات، لكنها حتما تختلف، ليست مثلهن، هي تحبه حقا، لكنه مذبوحٌ من الوريد للوريد، رحيله ليس رحيلا عاديا، ولكنه رحيل من أجواء القتام الذي يغلف مسيرته هنا، مؤكد إنها تعلم، هنالك هزم صمته وقال بصوته المفعم بالحزن:
- (أسبا) ربما تتعدد الدوائر وتتشابك هنا وهناك، لكنكِ على الدوام مركز الدائرة، تعرفين كيف هو وفائي، لكن من العسير أن أعدك بالعودة إلى هنا، ربما خارج هذه الأرض، فلقد عاهدت نفسي وبعضا من أصدقائي ألا أُدفن فيها، ليس لي أهل غيرك، ولا ينافسك في محبتي إلا الجندي ؛ تعرفيه بالطبع، ساعديني لأن أُولد من جديد، وتابعي أخباري. أرجوكِ.
خرج معها في اتجاه الميناء في سيارة أجرة، كان يحتاط لنفسه أن ينظر من نافذتها، كي لا يرى أي معالم من ذكرياته الحاضرة في هذه اللحظة، للمرة الأولى التي شعر فيها إنه يبكي من داخله، بدا منضبطا، لكنه كان يرتعش بعنف، تهمة التخلي، ومغبة المجهول الذي ينتظره خلف هذا البحر، هي أيضا بدت منضبطة، لكنها بين الحين والآخر تعطي إذنا لدمعة تخرج في أثر دمعة، كان يراها في مرآة السيارة، صمت طويل، كانت مباراة في قوة التحمل على ما يبدو، لكن وهو بصدد الصعود إلى ظهر الباخرة؛ تعانقا عناقا ظل بطول عمره يبحث عن امرأة تمنحه هذا الإحساس الذي منحته له هذه المرأة بعناقها في هذه اللحظات، ثم وضعت رأسها فى كتفه وبكت حتى انهار هو فى نوبة من بكاء هستيري، وتوسل لها أن تذهب، فبقاؤها واقفة سيطعنه حتما، لكنها أصرت بضراوة على أن تبقى إلى حين الإبحار، كان ثقيلا جدا وقع هذا المشهد، هي والإسكندرية يبتعدان في قسوة، ما كان ليتحمل هذا الطعن الذي تمارسه المسافات التى تبتعد شيئا فشيئا، فاختفى في الداخل، وأسدل معه ستارة مشهدٍ استمر فوق خشبة مسرح لا يعرض إلا نصوص البكائيات العبثية طيلة سبعة وعشرين عاما .

طاف كثيرا بدروب العمر، عاش الحياة كما قُدِّر له أن يعيشها، دخل بملء إرادته في تروس الماكينة الباحثة عن تحقيق أحلامه، لم ينسها، ظلت ذاكرته مسكونة بها سنوات وسنوات، بحث عنها كثيرا، رحلت لبلدها أخيرا، ولكنها رحلت فيما بعد لجهة غير معلومة، دائما يحن لأن ينظر إليها، وخصوصا عندما تدق التاسعة في ساعة حائط المبكى الليلي، حين يلتقي بالوحدة وجها لوجه؛ بعد يوم تبخرت منه كل أطياف البشر.

وليد عارف الرشيد
15-09-2012, 12:37 PM
هو ما قلت مبدعنا وقد قلته ببراعة وأسلوب متفرد جميل
يطيب لي أن أقرأ لك هنا وأرحب بك مبدعًا في واحة الخير
دمت ودام لك الألق
مودتي وإعجابي وتقديري
ملاحظة: نصك الجميل بعنوان : كل عام وانت بخير سمحت لنفسي بنقله إلى قسم القصة لتوافر شروط القص به

سامية الحربي
15-09-2012, 01:24 PM
ربما ما سقته هنا من تحليل هو المبرر المستساغ لتلك الشخوص التي إبتلينا بها و ارجعتنا ألف سنة إلى الوراء . نص بديع أخذ بنا إلى أعتاب شخوص نتمنى أن لا تتكرر لم نلقي لها بالاً رغم نزوحنا تحت رحمتها لعقود . مع خالص تقديري.

محمد فجر الدمشقي
15-09-2012, 06:05 PM
ياااااااه

كتبت فأوجزت و الله

و كأنك تصور لنا حال أمة و نفسية طاغية

نص من طراز أدبي رفيع و ساخر بطريقة مؤلمة

مبدع أنت و أكثر

تقبل مروري يا راقي