مازن لبابيدي
17-09-2012, 10:04 AM
بل لأنهم عرفوه .. لم يحبوه
ينتشر بين المسلمين في السنوات القليلة الأخيرة مقولة تكاد أن تصبح عندهم حقيقة ومبدأ يحتجون به وينافحون عنه وذلك في أمر تجرؤ الكفار على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأباطيل أو الرسوم أو الأفلام المسيئة على طريق السخرية والاستهزاء والاتهام ، فيقول أولئك المسلمون أن المسيئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لوعرفوه لأحبوه" ، وينطلقون من هذه المقولة إلى إعطاء بعض المعذرة لفعل هؤلاء "الجهلة" وإلى لوم المسلمين لتقصيرهم في التعريف بنبيهم صلى الله عليه وسلم لأنهم بسلوكهم المبتعد عن سنته وتقاعسهم في بيان صفاته وفضله تركوا الناس في جهل بحقيقته ونسبوا إليه جهلا وظلما ما هو منه بريء .
إن هذه المقولة وما تنطوي عليه من كوامن ودوافع في ضمير المسلمين وثقافتهم وحكمهم على الذات والغير فيها من المغالطة والدلالات الشيء الكثير ، ومن الممكن أن يفتح نقاشها بابا واسعا للخوض في العديد من مشكلات فهمنا وتعاطينا لشخصية نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة بل والإسلام عموما عقيدة وتشريعا ومنهجا وسلوكا ودعوة ، بل أزعم أن ذلك قد يتجاوز إلى ثقافتنا الدينية والعربية بشكل عام وإلى هويتنا "ونفسيتنا" الفردية والجماعية "كأمة مسلمة" .
بيد أن التفرع والتوسع من شأنه أن يميع المحور الأساس للموضوع الذي أرغب في إلقاء الضوء عليه وتفنيده والخلوص إلى عكسه تماما لأقول "لأنهم عرفوه لم يحبوه" ، ولن يضير على أي حال ذكر بعض هذه الأفكار بين ثنايا الأسطر لتوضيح الإطار العام للموضوع دون الإخلال بمحتواه .
تشير مقولة "لو عرفوه لأحبوه" لإحساس عميق بغيرة المسلمين على نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم وحزنهم لما يقال عنه ، الأمر الذي يحرض عندهم سلوكا انفعاليا يتباين في مظهره بشكل كبير بحسب ثقافة الفرد وموقعه والوسائل المتاحة له في التعبير ووجود خلفيات ودوافع أخرى تعزز عنده ردة الفعل هذه ، فقد تباينت ردود الأفعال بين تبادل إعلامي للخبر إلى مقولات تنتشر هنا وهناك في الشابكة ووسائل الإعلام – ومنها المقولة موضوع المقال – إلى مظاهرات منددة وشعارات معادية إلى سلوك عدواني وعنف فوضوي إلى مواقف مؤسسية وحكومية تحاول مسايرة أو لملمة واحتواء الموقف ، إلى غير ذلك من ردود أفعال شديدة التباين في رفض الإهانة الموجهة والرد عليها . وفي الجانب المقابل – بين المسلمين أقصد – نجد من يخطئ ويدين هذه السلوكيات بوجهات نظر متفاوتة كذلك ، مثل الدفاع عن مبدأ حرية التعبير ، والسكوت عن الأمر حتى لا ينشهر وينتشر ، وعدم تحميل الحكومات ذنوب الأفراد ، وغير ذلك .
وتفتقر هذه المواقف سواء منها ما كان باتجاه الهجوم أو الدفاع للفهم الحقيقي الكامل للدوافع وراء هذه الإساءات ، ويتفق معظمها على فكرة أن الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم هي من الجهل بشخصه وسيرته وهديه ، وهذا وإن كان فيه شيء من الصحة إلا أنه ليس السبب الحقيقي وراء الإقدام – الذي أراه ممنهجا وموجها – على التعرض لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين وصاحب الرسالة الخاتمة "للعالم أجمع" .
وعودة إلى مناقشة العلاقة بين معرفة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومحبته ، وعودة إلى بداية معرفة الناس به قبل بعثته ثم بعدها ، بل حتى بالعودة إلى معرفة صفاته في الكتب السماوية ، نجد أن الذين ناصبوه العداء وطعنوا في نبوته ومن ثم في شخصه الكريم كانوا يعرفونه حق المعرفة بنسبه وصدقه ونزاهته وكمال خلقه الشريف ومع ذلك اتهموه بتهم كاذبة حتى أنهم كذبوا أنفسهم بها ، فمن كان يشهد له بالصدق والأمانة والعقل والحكمة قبل بعثته هم أنفسهم من قال عنه ساحر ومجنون وكاهن وكذاب عندما أتاهم بالرسالة والقرآن ، ثم جاء اليهود بعد ذلك وقد كانوا يعرفون صفته في التوراة ويتوعدون بقدومه العرب ظنا منهم أنه سيكون منهم ، فلما بعث كذبوه وناصبوه العداء وحاربوه وحاولوا قتله ، قال تعالى : "الذين آتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، وقال جل وعلا : "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين".
إن من يشرع من الفنانين أو الكتاب أو المفكرين أو رجال الدين من أهل الكتاب في عمل متوجه للإساءة إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يكون لديهم خلفية جيدة من المعلومات عن سيرته الشريفة ويبحثون عادة عما يظنونه ثغرات في هذه السيرة للولوج منها إلى مطعن يستطيعون به إحداث صدع في تقبل الأمة والعالم لنبوته ورسالته ومن ثم إلى الهدف الأبعد والأهم وهو القرآن الكريم الذي نزل عليه وفي هذا ما لا يخفى من كيد للإسلام والمسلمين ، فلا نتصور أن أحدهم لديه فقط نظرة فنية ومفاهيم خاطئة عن الإسلام ونبي الإسلام وأنه بحسن نية – فيما يخدم مبادئه – يسعى لتحذير قومه من هذا الخطر المتمثل في الإسلام والمسلمين بحجة أن دينهم ونبيهم دعاة قتل وإرهاب وإهدار لحقوق الإنسان والمرأة وأعداء للحضارة والتقدم .
ومما يعزز هذه الفكرة أن معظم هذه الممارسات المسيئة يعتمد على السخرية والاستهزاء والتجريح لأن هذا هو مسلك فاقدي الحجة ، وإلا فإن أي تعاط علمي فكري منهجي للعقيدة الإسلامية والنبوة والرسالة والقرآن لا تصمد أمام الحق المبين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
اختيار الظرف والتوقيت لانطلاق مثل هذه الحملات العدائية التي تشوه وتسيء لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم يخبرنا الكثير عن التخطيط المغرض وتوظيف هذه الأعمال للتلاعب بالمشاعر الفطرية والعاطفة الدينية غير المنضبطة للمسلمين لتحقيق مآرب ما من ورائها .
من الأهداف التي أعتقد أنها خلف قيامهم بمثل هذه الأعمال كذلك واحد من أهمها خطرا ، وهو السعي لتشويه الإسلام وإظهاره بصورة سيئة عند شعوبهم كمحاولة يائسة لوقف أو تعطيل انتشار إعتناق الإسلام الذي أصبح يتسارع بشكل يشعرهم باليأس مما يدفعهم لاتخاذ أقذر الوسائل الممكنة متجاهلين وضاربين عرض الحائط بما ينادون به من المنهج العلمي في البحث واحترام الأديان وحقوق الإنسان والحضارة المزعومة التي يتشدقون بها ويسحرون بها ضيقي الآفاق حتى من المسلمين . ولعل الإلمام بهذا الجانب هو المبرر الوحيد الذي يجعلني أقبل "باستخدام" مقولة مثل "لو عرفوه لأحبوه" إن وجهت فعلا للجاهلين منهم ليس بهدف الحصول على تعاطفهم وحبهم لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب بل كأحد مداخل الدعوة إلى دين الله تعالى ، وبذلك نقلب السحر على الساحر .
لعل ملامح الفكرة بدأت تتضح ، هم في الحقيقة يعرفون ويعلمون من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويدركون ما يترتب على معرفتهم لمقام النبوة وخاتم النبيين ورسالة الإسلام ، وقد كرهوا ما أنزل من الحق فكرهوا الذي جاء به والذين اتبعوه ، فهو يخبرهم أنهم على الباطل وأنهم إن لم يتبعوا الهدى فمآلهم إلى النار ، وهم يبحثون عن ثغرات أو مواطن شبهة يوجهون إليها معاول الهدم اليائسة لمحاولة صدع هذا البنيان الشامخ ، فهم حقيقة في موقع دفاعي من حيث نظنهم يهاجمون ، ولكنه دفاع يائس ، فشمس النبوة التي أشرقت مع ولادة البشرية واعتلت كبد السماء ببعثة خير ولد آدم أشرف الخلق وحامل لواء الحق وخاتم النبيين والمرسلين ورحمة الله إلى العالمين ، هذه الشمس لن تغرب ما دامت السموات والأرض ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
أما موقف المسلمين الذي قدمت له وهو الموقف الانفعالي لا الفاعل والمتداعي لا الداعي والسلبي لا الإيجابي ، فهو نابع كذلك من تراكمات مزمنة من الجهل بالعقيدة والدعوة والسنة النبوية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونهجه بل وحتى لشخصه الذي يدافعون عنه .
إن تعامل المسلمين مع غيرهم يجب أن ينطلق من مبدأ الدعوة لدين الله تعالى فنحن أمة رسالة ابتعثنا الله بقيادة وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لندل الناس إلى طريق النور ونأمر بالمعروف وننه عن المنكر ونجادلهم بالتي هي أحسن ونقدم في ذلك الأسوة الحسنة والمثال النموذجي ، فغايتنا هدايتهم فإذا اهتدوا وأسلموا عرفوا الحق عقلا وقبلوه اعتناقا وقلبا وأحبوا النبي الذي جاءهم به لزوما .أما من بقي منهم على كفره وعناده وعداوته فلا فرق عندنا إن أحب النبي– وهو عندي مستحيل - أم لم يحبه أو إن قال فيه خيرا أو شرا ، "ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم"
هذا لا يعني بحال من الأحوال أنني أدعو للصمت والسكوت عن الإساءة ، وإنما التصدي لها على ضوء هذه المفاهيم ومن قبل أهل الدعوة والرأي ومن استشارهم من أولي الأمر وفي إطار دعوي عام يراعي الظرف والوقت والوسائل المتاحة وتغليب مصلحة الدعوة على الرغبة بالانتصار الانفعالي الآني القولي أو الفعلي .
عندما يكون هناك منهج واضح للدعوة وجهد متواصل حثيث من الدعاة وقيادة فكرية وعلمية متأصلة للمسلمين يرجعون إليها وينزلون على توجيهاتها ويثقون بها فمن شأن ذلك أن ينتج موقفا واضحا قويا علميا دعويا يتبناه الجميع بمن فيهم أهل السياسة ، ويخاطب به الأخرون رسميا وشعبيا ، ويكون موازيا لمسارات دعوية أخرى توظف أحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الإعلام والنشر والخطاب والحوار ، "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
فإن تم ذلك أغلق الباب على المغرضين ونزع البساط من تحتهم وزرع الثقة في نفوس المسلمين عالمهم وجاهلهم في أن هناك من ينافح عن الدين والرسول ويتصدى لأعداء الأمة ، فلا تثور ثائرتهم لتعويض هذا النقص والتقاعس ، ولا يستغلون من قبل الآخرين لإظهار عورة المسلمين وسوقهم إلى ما يراد لهم من الفوضى والاضطرابات لخلق الذرائع لمعاداتهم ولتشويه صورتهم أمام الشعوب الأخرى لتبغيضها في الإسلام والحد من انتشاره .
وقبل استيفاء الموضوع لا بد من الإشارة إلى أمر أراه من الأهمية بمكان كذلك ، وهو أن إشغال المسلمين بأمر يستفز عواطفهم ويستثير انفعالاتهم يبعدهم كثيرا ويقلل اهتمامهم ونضالهم في القضايا الساخنة الأشد أهمية والأكثر التصاقا بواقعهم ومستقبل أمتهم ويضعف بالتالي دفاعهم ويسهل على عدوهم تمرير مخططاته ومكائده ، وليس أدل على هذا الأمر من تزامن تلك الحملات الاستفزازية مع حروب تشن هنا أو هناك على بلاد الإسلام أو مجازر ترتكب بحقهم أو قرارات يراد لها أن تمرر في المحافل الدولية ضد مصالحهم وحرياتهم واستقلالهم .
أخيرا أقول إن أعداء الإسلام ونبيه وقرآنه والمسلمين ، يعرفون كل شيء عنهم ، ويعرفون تماما من هو نبيهم وما هي صفاته وإلى أي شيء يدعوهم وما أنذرهم به ، ولأنهم يبغضون الحق بكفرهم وصدهم عن سبيل الله فقد كرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم به ، ولذلك أقول "لأنهم يعرفونه ... لم يحبوه"
د. مازن لبابيدي
ينتشر بين المسلمين في السنوات القليلة الأخيرة مقولة تكاد أن تصبح عندهم حقيقة ومبدأ يحتجون به وينافحون عنه وذلك في أمر تجرؤ الكفار على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأباطيل أو الرسوم أو الأفلام المسيئة على طريق السخرية والاستهزاء والاتهام ، فيقول أولئك المسلمون أن المسيئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم "لوعرفوه لأحبوه" ، وينطلقون من هذه المقولة إلى إعطاء بعض المعذرة لفعل هؤلاء "الجهلة" وإلى لوم المسلمين لتقصيرهم في التعريف بنبيهم صلى الله عليه وسلم لأنهم بسلوكهم المبتعد عن سنته وتقاعسهم في بيان صفاته وفضله تركوا الناس في جهل بحقيقته ونسبوا إليه جهلا وظلما ما هو منه بريء .
إن هذه المقولة وما تنطوي عليه من كوامن ودوافع في ضمير المسلمين وثقافتهم وحكمهم على الذات والغير فيها من المغالطة والدلالات الشيء الكثير ، ومن الممكن أن يفتح نقاشها بابا واسعا للخوض في العديد من مشكلات فهمنا وتعاطينا لشخصية نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة بل والإسلام عموما عقيدة وتشريعا ومنهجا وسلوكا ودعوة ، بل أزعم أن ذلك قد يتجاوز إلى ثقافتنا الدينية والعربية بشكل عام وإلى هويتنا "ونفسيتنا" الفردية والجماعية "كأمة مسلمة" .
بيد أن التفرع والتوسع من شأنه أن يميع المحور الأساس للموضوع الذي أرغب في إلقاء الضوء عليه وتفنيده والخلوص إلى عكسه تماما لأقول "لأنهم عرفوه لم يحبوه" ، ولن يضير على أي حال ذكر بعض هذه الأفكار بين ثنايا الأسطر لتوضيح الإطار العام للموضوع دون الإخلال بمحتواه .
تشير مقولة "لو عرفوه لأحبوه" لإحساس عميق بغيرة المسلمين على نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم وحزنهم لما يقال عنه ، الأمر الذي يحرض عندهم سلوكا انفعاليا يتباين في مظهره بشكل كبير بحسب ثقافة الفرد وموقعه والوسائل المتاحة له في التعبير ووجود خلفيات ودوافع أخرى تعزز عنده ردة الفعل هذه ، فقد تباينت ردود الأفعال بين تبادل إعلامي للخبر إلى مقولات تنتشر هنا وهناك في الشابكة ووسائل الإعلام – ومنها المقولة موضوع المقال – إلى مظاهرات منددة وشعارات معادية إلى سلوك عدواني وعنف فوضوي إلى مواقف مؤسسية وحكومية تحاول مسايرة أو لملمة واحتواء الموقف ، إلى غير ذلك من ردود أفعال شديدة التباين في رفض الإهانة الموجهة والرد عليها . وفي الجانب المقابل – بين المسلمين أقصد – نجد من يخطئ ويدين هذه السلوكيات بوجهات نظر متفاوتة كذلك ، مثل الدفاع عن مبدأ حرية التعبير ، والسكوت عن الأمر حتى لا ينشهر وينتشر ، وعدم تحميل الحكومات ذنوب الأفراد ، وغير ذلك .
وتفتقر هذه المواقف سواء منها ما كان باتجاه الهجوم أو الدفاع للفهم الحقيقي الكامل للدوافع وراء هذه الإساءات ، ويتفق معظمها على فكرة أن الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم هي من الجهل بشخصه وسيرته وهديه ، وهذا وإن كان فيه شيء من الصحة إلا أنه ليس السبب الحقيقي وراء الإقدام – الذي أراه ممنهجا وموجها – على التعرض لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين وصاحب الرسالة الخاتمة "للعالم أجمع" .
وعودة إلى مناقشة العلاقة بين معرفة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومحبته ، وعودة إلى بداية معرفة الناس به قبل بعثته ثم بعدها ، بل حتى بالعودة إلى معرفة صفاته في الكتب السماوية ، نجد أن الذين ناصبوه العداء وطعنوا في نبوته ومن ثم في شخصه الكريم كانوا يعرفونه حق المعرفة بنسبه وصدقه ونزاهته وكمال خلقه الشريف ومع ذلك اتهموه بتهم كاذبة حتى أنهم كذبوا أنفسهم بها ، فمن كان يشهد له بالصدق والأمانة والعقل والحكمة قبل بعثته هم أنفسهم من قال عنه ساحر ومجنون وكاهن وكذاب عندما أتاهم بالرسالة والقرآن ، ثم جاء اليهود بعد ذلك وقد كانوا يعرفون صفته في التوراة ويتوعدون بقدومه العرب ظنا منهم أنه سيكون منهم ، فلما بعث كذبوه وناصبوه العداء وحاربوه وحاولوا قتله ، قال تعالى : "الذين آتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون" ، وقال جل وعلا : "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين".
إن من يشرع من الفنانين أو الكتاب أو المفكرين أو رجال الدين من أهل الكتاب في عمل متوجه للإساءة إلى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يكون لديهم خلفية جيدة من المعلومات عن سيرته الشريفة ويبحثون عادة عما يظنونه ثغرات في هذه السيرة للولوج منها إلى مطعن يستطيعون به إحداث صدع في تقبل الأمة والعالم لنبوته ورسالته ومن ثم إلى الهدف الأبعد والأهم وهو القرآن الكريم الذي نزل عليه وفي هذا ما لا يخفى من كيد للإسلام والمسلمين ، فلا نتصور أن أحدهم لديه فقط نظرة فنية ومفاهيم خاطئة عن الإسلام ونبي الإسلام وأنه بحسن نية – فيما يخدم مبادئه – يسعى لتحذير قومه من هذا الخطر المتمثل في الإسلام والمسلمين بحجة أن دينهم ونبيهم دعاة قتل وإرهاب وإهدار لحقوق الإنسان والمرأة وأعداء للحضارة والتقدم .
ومما يعزز هذه الفكرة أن معظم هذه الممارسات المسيئة يعتمد على السخرية والاستهزاء والتجريح لأن هذا هو مسلك فاقدي الحجة ، وإلا فإن أي تعاط علمي فكري منهجي للعقيدة الإسلامية والنبوة والرسالة والقرآن لا تصمد أمام الحق المبين الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
اختيار الظرف والتوقيت لانطلاق مثل هذه الحملات العدائية التي تشوه وتسيء لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم يخبرنا الكثير عن التخطيط المغرض وتوظيف هذه الأعمال للتلاعب بالمشاعر الفطرية والعاطفة الدينية غير المنضبطة للمسلمين لتحقيق مآرب ما من ورائها .
من الأهداف التي أعتقد أنها خلف قيامهم بمثل هذه الأعمال كذلك واحد من أهمها خطرا ، وهو السعي لتشويه الإسلام وإظهاره بصورة سيئة عند شعوبهم كمحاولة يائسة لوقف أو تعطيل انتشار إعتناق الإسلام الذي أصبح يتسارع بشكل يشعرهم باليأس مما يدفعهم لاتخاذ أقذر الوسائل الممكنة متجاهلين وضاربين عرض الحائط بما ينادون به من المنهج العلمي في البحث واحترام الأديان وحقوق الإنسان والحضارة المزعومة التي يتشدقون بها ويسحرون بها ضيقي الآفاق حتى من المسلمين . ولعل الإلمام بهذا الجانب هو المبرر الوحيد الذي يجعلني أقبل "باستخدام" مقولة مثل "لو عرفوه لأحبوه" إن وجهت فعلا للجاهلين منهم ليس بهدف الحصول على تعاطفهم وحبهم لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب بل كأحد مداخل الدعوة إلى دين الله تعالى ، وبذلك نقلب السحر على الساحر .
لعل ملامح الفكرة بدأت تتضح ، هم في الحقيقة يعرفون ويعلمون من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويدركون ما يترتب على معرفتهم لمقام النبوة وخاتم النبيين ورسالة الإسلام ، وقد كرهوا ما أنزل من الحق فكرهوا الذي جاء به والذين اتبعوه ، فهو يخبرهم أنهم على الباطل وأنهم إن لم يتبعوا الهدى فمآلهم إلى النار ، وهم يبحثون عن ثغرات أو مواطن شبهة يوجهون إليها معاول الهدم اليائسة لمحاولة صدع هذا البنيان الشامخ ، فهم حقيقة في موقع دفاعي من حيث نظنهم يهاجمون ، ولكنه دفاع يائس ، فشمس النبوة التي أشرقت مع ولادة البشرية واعتلت كبد السماء ببعثة خير ولد آدم أشرف الخلق وحامل لواء الحق وخاتم النبيين والمرسلين ورحمة الله إلى العالمين ، هذه الشمس لن تغرب ما دامت السموات والأرض ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
أما موقف المسلمين الذي قدمت له وهو الموقف الانفعالي لا الفاعل والمتداعي لا الداعي والسلبي لا الإيجابي ، فهو نابع كذلك من تراكمات مزمنة من الجهل بالعقيدة والدعوة والسنة النبوية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونهجه بل وحتى لشخصه الذي يدافعون عنه .
إن تعامل المسلمين مع غيرهم يجب أن ينطلق من مبدأ الدعوة لدين الله تعالى فنحن أمة رسالة ابتعثنا الله بقيادة وهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لندل الناس إلى طريق النور ونأمر بالمعروف وننه عن المنكر ونجادلهم بالتي هي أحسن ونقدم في ذلك الأسوة الحسنة والمثال النموذجي ، فغايتنا هدايتهم فإذا اهتدوا وأسلموا عرفوا الحق عقلا وقبلوه اعتناقا وقلبا وأحبوا النبي الذي جاءهم به لزوما .أما من بقي منهم على كفره وعناده وعداوته فلا فرق عندنا إن أحب النبي– وهو عندي مستحيل - أم لم يحبه أو إن قال فيه خيرا أو شرا ، "ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم"
هذا لا يعني بحال من الأحوال أنني أدعو للصمت والسكوت عن الإساءة ، وإنما التصدي لها على ضوء هذه المفاهيم ومن قبل أهل الدعوة والرأي ومن استشارهم من أولي الأمر وفي إطار دعوي عام يراعي الظرف والوقت والوسائل المتاحة وتغليب مصلحة الدعوة على الرغبة بالانتصار الانفعالي الآني القولي أو الفعلي .
عندما يكون هناك منهج واضح للدعوة وجهد متواصل حثيث من الدعاة وقيادة فكرية وعلمية متأصلة للمسلمين يرجعون إليها وينزلون على توجيهاتها ويثقون بها فمن شأن ذلك أن ينتج موقفا واضحا قويا علميا دعويا يتبناه الجميع بمن فيهم أهل السياسة ، ويخاطب به الأخرون رسميا وشعبيا ، ويكون موازيا لمسارات دعوية أخرى توظف أحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الإعلام والنشر والخطاب والحوار ، "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
فإن تم ذلك أغلق الباب على المغرضين ونزع البساط من تحتهم وزرع الثقة في نفوس المسلمين عالمهم وجاهلهم في أن هناك من ينافح عن الدين والرسول ويتصدى لأعداء الأمة ، فلا تثور ثائرتهم لتعويض هذا النقص والتقاعس ، ولا يستغلون من قبل الآخرين لإظهار عورة المسلمين وسوقهم إلى ما يراد لهم من الفوضى والاضطرابات لخلق الذرائع لمعاداتهم ولتشويه صورتهم أمام الشعوب الأخرى لتبغيضها في الإسلام والحد من انتشاره .
وقبل استيفاء الموضوع لا بد من الإشارة إلى أمر أراه من الأهمية بمكان كذلك ، وهو أن إشغال المسلمين بأمر يستفز عواطفهم ويستثير انفعالاتهم يبعدهم كثيرا ويقلل اهتمامهم ونضالهم في القضايا الساخنة الأشد أهمية والأكثر التصاقا بواقعهم ومستقبل أمتهم ويضعف بالتالي دفاعهم ويسهل على عدوهم تمرير مخططاته ومكائده ، وليس أدل على هذا الأمر من تزامن تلك الحملات الاستفزازية مع حروب تشن هنا أو هناك على بلاد الإسلام أو مجازر ترتكب بحقهم أو قرارات يراد لها أن تمرر في المحافل الدولية ضد مصالحهم وحرياتهم واستقلالهم .
أخيرا أقول إن أعداء الإسلام ونبيه وقرآنه والمسلمين ، يعرفون كل شيء عنهم ، ويعرفون تماما من هو نبيهم وما هي صفاته وإلى أي شيء يدعوهم وما أنذرهم به ، ولأنهم يبغضون الحق بكفرهم وصدهم عن سبيل الله فقد كرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتاهم به ، ولذلك أقول "لأنهم يعرفونه ... لم يحبوه"
د. مازن لبابيدي