براءة الجودي
24-09-2012, 12:42 PM
كشر عن أنيابه واعتلى سكينه , يبرق في الظلام , بصوت أجش ارتفع لتصغي له الآذان:
شرعــت الرحــلة فلنستأنف المشروع
تأرجحت ظفيرتـاه وهو يهوي بسكينه ليغرسه وسط الخريطة قائلا: لامكــان بيننا للضعفـاء تعـالت قهقهاتهم وخرجوا بعد انتهاء مؤتمر الشياطين .
" على الخـارطة تتـورط المـدن المختــارة "
هذا ماكان يقوله العم يحي بيد أني أتعجب من كثـرة تناقضاته !!
لاضيــر, مايهمني الآن ما ارتسم في عينيَّ من تلك الخارطة , كانت سلفاً كتلة واحدة من التضاريس , تمتد جنان الله في تلك القارات , تراها على مد البصر ولاتشبع من التقلب بين أعشابها الندية , وصوت العنادل ينسجم مع انسياب جداولهـا ؛لتضحك الشمس في أنشودة السلام.
لكن مايجلو لي حــاليا خطوطا تمتد طولا وعرضا , تفصل بين المناطق , وتنشب حروبا طاحنة بين شعوبها , أمامي على الخارطة تزداد وشائج الأغصان لتمنع تسلل الأشعة حيث الدفء , أخالها كخطاطيف تشجب كل من يطأ أرض هذه الغابة السوداء .
دعنا منها الآن , مايشل تفكيري ويجعلني في دوامة , تلك البقع الحمراء في أنحــاء شتى , تتسع ابتداءا من قلب الخريطة حتى الشمال وينحرف مسارها نحو الشرق !!
لم قارة آسيــا تعاني الشتات ؟!
وأفريقيا تتلعلع جــوعا ؟!
وأوربا تجوس الديار , وتعيث فسقا ؟!
تكــاد تخنقني خيوط الأسئلة المبرمة ...!!!
فتحت النافذة لأتأمل سماءنا البائسة , ماقبيل الفجــر كـل شئ يبدو كئيبا .. الأرض في وجوم , والنهر يركض كأن خلفه شخص يضربـه بالعصا , والأشجار منكمشة كعجوز ينتفض بالحمى , النجوم تخرج من مقلتي البدر متناثرة حوله ليتراءى لنا لمعانها الخافت .
يجول بصري بحركة رتيبة , تكاد تُزهق روحي هذه اللحظة !!
ياااويلي ياعـامر , أتذكر سنين القحــط والتشرد ؟؟ أتذكرني عندما كنت في التاسعة من عمري أقفز في كل خطوة أخطوها *أدور بفستاني الوردي جذلا , وأجمع زهور اللافندر لأهديها أمي في صباح العيد وأنت تلاحقني لتمسك يدي وتجرني بعصبية : كفاك شقاوة ياسحــر.
ثم تدفعني نحو ليلى لأوزع معها الطعام على فقراء الحي , تلك الفتاة المقيتة تكبرني بخمسة أعوام , حواجبها المقترنة ونظراتها المصطنعة حنانا تثير اشمئزازي وخوفي في آن واحد .
أتذكَر أنها سافرت لأحد القرى فترة طويلة وعادت لتتلقى الأحضان من والدها -العم يحي - عيناه التمعتا بحماس شديد حينما همست له بسر ما , و ربت على ظهرها برفق .
لاأعلم مامقصده حين قال لها : نضجت لتتحملي مسؤولية الدعوة على عاتقك يابنتي أما أنا كإمعة تحسبني ثورا يحرث في مزرعتهم .
قاطعتها منذ مدة لأنها لاتروق لي , وجاء قدر الله المحتم عندما دُهس عزي وبتر لجام شرفي .
ماقبيل الفجر مرت أحداثه كشريط سريع في ذاكرتي , كنت حينها ياعامر خارج القرية لتسدد دين والدي رحمه الله , وأمي في الدار تعاني المخاض , اتجهت صوب الهاتف أدير أرقاما لأستنجد بجارتنا حليمة كي تعين أمي حال ولادتها لكن مامن مجيب , الجميع يهنأ في سباته العميق
مضى الوقت عصيبا وانتهت الأزمة بعون الله , أخرجت لنا طفلا كفلقة القمر , بشعر أشقر كثيف وعينان كبحيرتا عسل متألقة لايمل الناظر لها, وانف دقيق وشفاه رقيقه بلون الورد , جسمه ممتلأ طري , يبكي ويصرخ بين يديها بينما أخذت أحادثها بتمن : لو كان والدي هنا كما كان معنا قبل عدة أشهر لصنع أكبر حفلة في قريتنا
ابتسمت والدتي بتعب معاتبة : لاتقولي لو ياصغيرتي ,الحمدلله على كل حال , الله اختاره ليكون في الدار الثانية ونحن سنلحقه فيما بعد
نظفت المكان , وساد الصمت لفترة عدا من مناغاة أخي الرضيع حسام , بدأ يضحك * ياااااه على ابتسامته البريئة تلك في وجه ملائكي , أبصم بالعشرة أن قلبي متعلق به مذ كان قابعا في ظلمة الرحم .
مرت الساعات تترى متلكأة ..
شعرت بالظمأ فأخذت الكأس الزجاجي على عجالة لأرتوي من مائه الراكد , مإن هممت بارتشافه ولامس شفتي حتى اخترقته رصاصة كوميض البرق سرعتها , فارتج الماء وتطاير مع شظايا الزجاج , هرعت أمي فزعة مرهقة لترى ماحل بي وتضمد جروحي الطفيفة , التفتت بوجل وهي تسمع صوت دبابة حربية جرشت الجدار الصامت فتصدع على إثره وسقط منهكا
أمي تستحثني النهوض والهرب لمنزل العم يحي حيث يبعد عنا بمسافة إلا أن لديه ملجأ خاص في حالات طارئة كهذه ريثما تجمع بعض الحاجيات انطلقت مسرعة وخرجت من الباب الخلفي لمنزلنا ومإن همت أمي بالفرار حتى حاصرها المهاجمون , انتشروا كجراد يفسد زرع صاحبه فلايبقي بذرة لنبتة صغيرة تستنشق عبير الحياة
لم أكمل الطريق قفلت راجعة خوفا على أمي وأخي حسام ,وطفقت أرقب مايحدث من خلال ثقب صغير بالحائط
تقدم أحدهم وهو يمسك خاصرته هازئا يقول بلكنته العبرية : مازلت تقفين كالبلهاء , هل ستقاومين الموت ؟
أجابته والدتي باقتضاب : لن أرضخ لكم أيها الفساق
أمال فمه بتهكم واحتدت عيناه الزائغتان : هــاه أيتها المسلمة اللعينة ستعذبين قبل الموت .
أومئ بيده فتقدم جنديان ليمسكانها * انتزع منها الرضيع ليدهسه بقدمه , الطفل يبكي يستغيث وأمي بح صوتها ترجو الإله وتُستباح الأدمع , أسمع صدى شهقاتها بين الفينة والأخرى , تتخبط بجسدها محاولة إبعادهما إلا أن ذلك الغشوم الكافر هوى بكعبه على بطن حسام كجلمود صخر انتُزعت منه الرحمة , تمزقت أحشائه , تبعثر لحمه , وتطايرت الدماء , ككتكوت خرج للتو من فقس البيض يرى الحياة فداسته مخالب الأسد ليخر صريعا
صرخة أكبتها في أعماقي عندما هاج اليهودي الأمهق , وتلاطمت أمواج غضبه بسبب عبارة أمي الأخيرة : غدا سألد آخر يذود عن الإسلام
اشتعل حقده القديم ليبجَ ثوبها * أأقول اغتصاب أمام ناظري ؟ ! لقت حتفها عندما استقرت أربعة أعيرة نارية في صدرها
لم أحتمل الموقف * هرولت بين جموع الناس الهاربة تسابق خطواتهم عجلة الزمن , محتمين بأيديهم من أسراب الطائرات الحائمة تمطرنا بالقنابل لنتجرع العلقم ونذوق الموت الزؤام
نــار تضطرم * ملجأ يستقبل الوافدين , جرحى يتأوهون , وصرعى ينتهي بهم المصير , سيارات الإسعاف كدبيب النمل في الطرقات , وغمغمة الأشخاص تُحدث جلبة , وقفت قبالة منزلهم كالراكع متكأة على الباب ألهث , طرقت عدة طرقات سريعة , فتحت ليلى الباب مرحبة بي وسحبتني للداخل قائلة بنظراتها المشفقة : فقدت أهلك أليس كذلك ؟؟
أجبتها ودمعة يتم ترقد بخدي هائمة : بقي عامر لم يعد بعد
أقبل العم يحي وهو يتلمس صلعته الناصعة هكذا إذا مقتهم لهذه القرية جعل أهلها في دمار شامل .
تمتمتُ بحنكة وعقل وماكنت أنطق به سوى ماعلمني إياه والدي وردده على مسامعي مذ كنت في الخامسة من عمري : ليس هكذا أيها العم إنها مسألة عقائدية والسبب ماذكره الله بهذه الآية ( ومانقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )
دُهش من سماعه لكلمات شخص عاقل واعي تتحدث بها صبية صغيرة .
أخذ يكرر : مسألة عقائدية !!
ثم رمقني بإعجاب وزحف بقربي متملقا: لاتخشي ياسحر سنتعاون معا لنعيد هذه القرية كما ينبغي أن تكون بشرط واحد .
تهللت ملامحي بشرا : وماهو ؟!
- مارأيك بالانضمام لحملتنا التبشيرية !
- تبشيرية !!!!!!
هـه , سمعتها من والدي أتريدني أن أعتنق النصرانية ؟
أجابني بابتهاج : نعم , نعم مثل قوتك وإصرارك على دينك وأنت بهذا السن نحتاجك حتما ياصغيرتي .
- لا لا أريد أن أتخلى عن إسلامي .
- أو تؤمنين بالمسيح ؟
- بلى أؤمن به وبجميع الأنبياء , ولكن لن يقبل الله غير الإسلام دينا لأنه شمل الأديان السابقة برمتها, وأنت أيها العم هل تؤمن بنبينا محمد ؟!!
بُهت العم يحي مثلما صُدمت أنا وعرفت أنه نصراني لم يُظهر ذلك خلال إقامته معنا في القرية , أخذت أُكيل عليه اللعنات بصدري , ذاك العجوز الفاسق تنصر على يده وابنته رتل هائل من المسلمين .
حاول أن يغير دفة الموضوع ويحرك مشاعري بكلمات تثيرني لأكن الضغينة على إخوتي المسلمين .
قالها بنبرة جادة : هل انتشلك المسلمون من بين المدافع ؟ لم يأبهوا بوالدتك , وأخيك عامر لن يعود سيُقتل على أيديهم قبل ولوجه القرية حتى ثم ضغط على زر التلفاز ليتنقل بين القنوات قائلا: هاهم من تستنجدين بهم في المراقص والاحتفالات , وتحت ظلال القصور في أبهة وترف , سحبت الجهاز من يده لأقلب على قناة أخرى فارتسمت على وجهي ابتسامة بهية : هاهم المسلمون حول الكعبة في طواف دائم يدعون لنا رب البرية أن يفرج كربنا * فما باليد حيلة إن لم يستطيعوا المجئ غير الالتجاء للمولى .
استشاط غضبا وابتسم بمكر : أنت لم تعرفي النصرانية بعد , مارأيك ياحلوتي أن تجربي اعتناقها فإن لم تعجبك فارجعي لدينك ؟
اتسعت حدقتا عيناي محملقة به: أأرتد عن الإسلام , كلا سأدخل النار إن فعلتها.
حرك يده بانفعال: بل بحالتك هذه ستكونين على ضلال وتحيدين عن الصواب .
هدأ صوته وكأنما يحثني للاعتناق : سأطهرك إن اعتنقت النصرانية ؟
- أنا على ضلال , أو تستطيع تطهيري ؟! قلتها بتعجب
-نعم فقط ادخلي دينك الجديد ستجدين العيش الهانئ بعيدا عن الحروب حيث السلم
- أووه ياعم ألم تسمع ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين )
أتذكر جيدا تفسير والدي لهذه الآية عندما حفظتها * حيث قال: المغضوب عليهم هم اليهود , والضالون هم النصارى , والذين أنعم الله عليهم طريق الاستقامة هم المسلمون إذا الإسلام هو دين الهداية وأنتم الضالون عن الطريـــــ ......
بترتُ عبارتي حين لطمني لطمة زلزت كياني , ظهر على حقيقته النتنة كنصل خبيث أو أفعى يتبدل جلدها ليتناسب مع مخدعها الذي تمكث به
طردني واغلق الباب فور خروجي بوجه ممتقع أصفريحاكي وجوه الموتى , وقلبي تعرض لهزات الألم ,أذعنت لبكاء مرير , ضعت بين الحارات أشعر بدوار ودوار ودوار , بين صخب المتفجرات وضجيج التأوهات * تهاويت في سكون وسقطت مغشيا علي بجانب سلة قمامة معدنية * وجانبي قط يموء كالثكالى وكأنما ينعي حالي.
( في اليوم التــالي )
استيقظ الجميع على أصوات الرشاشات , لا الليل ليل والنهار انهيار, سطعت شمس شعثاء غبراء قد اختلط ضوئها بذرات غبار كوجه عجوز ملأه التجاعيد والأخاديد بعدما كان وضاحا , لكنها مازالت تحمل ثمة دفء فتحت عيناي بتثاقل أبحث عن نسمة هواء نقي في جو ملوث بالدخان , تحركت ببطء شديد , تحاملت على نفسي لأنهض وأخذت أنبش القمامة علَي أجد ماأشاطره القطة فيسدَ جوعي .
في هذا اليوم عادت مهجتي كيف لا ؟ وقد عاد أخي عامر , شرعت له القرية أبوابها التي باتت تختزل الحكايا الموجعة وتندب حظها في حالة احتضار .
ويحــــكم * ماذا جــد ؟؟
أومازالوا يتأملون بهيكل سليمان عليه السلام؟
أي سذاجة هذه ؟ وأي قلب فقد ذرات الإحساس وألقى بالإنسانية جانبا؟
هكذا نطقها عامــر في حالة ذهول !!
رأى أطفالا بحلم ومستقبل مظلم , وشبابا بطموح آفل , ورجالا بكبرياء محطم *ونساءا ذابلات , القرية في يباب والنهر فقد صفاء أديمه واختلط بدماء طاهرة , المصاحف ممزقة ,وجثث هامدة كما نخل باسقات وسدت في خنادق , أسرع نحو المنزل ليتفقدنا وبيده كيس الحلوى والدمية التي وعدني بها
ماإن وصل حتى جثا على ركبتيه أمام منزلنا المحطم ووضع كلتا يديه على رأسه , مشهد يفتت الأكباد لتصرخ ألسن الشعراء بقصائد دامية أترثي أم تعاتب أم يسعر وجدانها الفقد؟؟ هنا أخي حسام تقطع لأشلاء وأمي عبثوا بها وجه مشوه , ويد مقطوعة , وأحد رجليها ملقاة خارج المنزل.
انتكس رأسه بأسى وزاد هلعه عند فقدي فلا أثر لي في البيت وماحوله , خرج يطوي الأرض بحثا عني ,تداخلت أفكاره , تمزق صوته فلم يعد له بوح , ضاق صدره , سمع صوتا مكلوما يناديه ومايلبث إلا أن يضئل شيئا فشيئا وكأن حبال حنجرة المنادي قد تقطعت : عــــــااااااامر عـــــامر عـامر
تلفت عن اليمين وعن الشمال محدثا نفسه : لابد أني أتوهم , أحــلم ..إلهي ~
بدأ بتفنيد واقعه , أدار ظهره فرأى جنديا يتلني من شعري ووجهي شاحب بعدما كنت زهرة متفتحة , وعلى حين غرة رماه عامر بالحجر فأدمى جبهته انطلق ليسحبني وركضنا بأقصى سرعة ويهطل الرصاص متتابع نحونا لكنه
يخطأ التصويب في كل طلقة , ابتعدنا عنهم ووقفنا في أحد الأزقة بأنفاس متقطعة وشفاه متيبسة تشتاق لشبم الماء يدغدغها ويذيقها الهناء .
جلس عامر ينقر على رأسي مازحا: أيتها البطلة هاهي الدمية والحلوى التي تفضلينها * قفزت إلى حضنه آكل بنهم وهو ينظر إلي بسعادة غامرة .
سمع وقع أقدام وأنا أحكي له ماجرى فأومئ إلي : أن اصمتي , أمسك بيدي لنهرب من المكان ولكن ثُقب صدره قبل أن نلوذ بالفرار , فسقط مضرجا بدمائه
وقع رأسه على فخذي تتسارع أنفاسه بدأ بالاضطراب وصوته يضعف ويتلاشى آخر ماقاله لي في الرمق الأخير " أختاه اضنني بدينك وعرضك , إن الروح تهون في سبيل المولى "
حلقت روحه في الهواء الطلق , وقفت وبيدي الدمية الملطخة بدمائه تلها الجندي مني ورعبلها , قذف بالحلوى إلى الناحية الأخرى وهو يستمتع بسمفونية الضياع من نشيج بكائي , كُسرت أضلاع أحلامي بمعاول الكيد ليحتار الأمل من المصير المجهول فيكتنفني الشجن وأتوه بين أيدي الخونة .
الأشجار اغتصبتها القنابل وجردتها من أسمالها فباتت عارية تشكو الضيم والفقر , والحمائم تطير مهاجرة من تلك الأرض المقفرة تعزف لحنا حزينا عن حكاية ماقبيل الفجر عند بدء المحنة في قرية الأحلام .
تواااااالت الفصول هجير الصيف فخريف بائس ثم صقيع الشتاء
ولم يأتي الربيع بعد ؟!!!!!!
النهـــــــــــــــــاية
شرعــت الرحــلة فلنستأنف المشروع
تأرجحت ظفيرتـاه وهو يهوي بسكينه ليغرسه وسط الخريطة قائلا: لامكــان بيننا للضعفـاء تعـالت قهقهاتهم وخرجوا بعد انتهاء مؤتمر الشياطين .
" على الخـارطة تتـورط المـدن المختــارة "
هذا ماكان يقوله العم يحي بيد أني أتعجب من كثـرة تناقضاته !!
لاضيــر, مايهمني الآن ما ارتسم في عينيَّ من تلك الخارطة , كانت سلفاً كتلة واحدة من التضاريس , تمتد جنان الله في تلك القارات , تراها على مد البصر ولاتشبع من التقلب بين أعشابها الندية , وصوت العنادل ينسجم مع انسياب جداولهـا ؛لتضحك الشمس في أنشودة السلام.
لكن مايجلو لي حــاليا خطوطا تمتد طولا وعرضا , تفصل بين المناطق , وتنشب حروبا طاحنة بين شعوبها , أمامي على الخارطة تزداد وشائج الأغصان لتمنع تسلل الأشعة حيث الدفء , أخالها كخطاطيف تشجب كل من يطأ أرض هذه الغابة السوداء .
دعنا منها الآن , مايشل تفكيري ويجعلني في دوامة , تلك البقع الحمراء في أنحــاء شتى , تتسع ابتداءا من قلب الخريطة حتى الشمال وينحرف مسارها نحو الشرق !!
لم قارة آسيــا تعاني الشتات ؟!
وأفريقيا تتلعلع جــوعا ؟!
وأوربا تجوس الديار , وتعيث فسقا ؟!
تكــاد تخنقني خيوط الأسئلة المبرمة ...!!!
فتحت النافذة لأتأمل سماءنا البائسة , ماقبيل الفجــر كـل شئ يبدو كئيبا .. الأرض في وجوم , والنهر يركض كأن خلفه شخص يضربـه بالعصا , والأشجار منكمشة كعجوز ينتفض بالحمى , النجوم تخرج من مقلتي البدر متناثرة حوله ليتراءى لنا لمعانها الخافت .
يجول بصري بحركة رتيبة , تكاد تُزهق روحي هذه اللحظة !!
ياااويلي ياعـامر , أتذكر سنين القحــط والتشرد ؟؟ أتذكرني عندما كنت في التاسعة من عمري أقفز في كل خطوة أخطوها *أدور بفستاني الوردي جذلا , وأجمع زهور اللافندر لأهديها أمي في صباح العيد وأنت تلاحقني لتمسك يدي وتجرني بعصبية : كفاك شقاوة ياسحــر.
ثم تدفعني نحو ليلى لأوزع معها الطعام على فقراء الحي , تلك الفتاة المقيتة تكبرني بخمسة أعوام , حواجبها المقترنة ونظراتها المصطنعة حنانا تثير اشمئزازي وخوفي في آن واحد .
أتذكَر أنها سافرت لأحد القرى فترة طويلة وعادت لتتلقى الأحضان من والدها -العم يحي - عيناه التمعتا بحماس شديد حينما همست له بسر ما , و ربت على ظهرها برفق .
لاأعلم مامقصده حين قال لها : نضجت لتتحملي مسؤولية الدعوة على عاتقك يابنتي أما أنا كإمعة تحسبني ثورا يحرث في مزرعتهم .
قاطعتها منذ مدة لأنها لاتروق لي , وجاء قدر الله المحتم عندما دُهس عزي وبتر لجام شرفي .
ماقبيل الفجر مرت أحداثه كشريط سريع في ذاكرتي , كنت حينها ياعامر خارج القرية لتسدد دين والدي رحمه الله , وأمي في الدار تعاني المخاض , اتجهت صوب الهاتف أدير أرقاما لأستنجد بجارتنا حليمة كي تعين أمي حال ولادتها لكن مامن مجيب , الجميع يهنأ في سباته العميق
مضى الوقت عصيبا وانتهت الأزمة بعون الله , أخرجت لنا طفلا كفلقة القمر , بشعر أشقر كثيف وعينان كبحيرتا عسل متألقة لايمل الناظر لها, وانف دقيق وشفاه رقيقه بلون الورد , جسمه ممتلأ طري , يبكي ويصرخ بين يديها بينما أخذت أحادثها بتمن : لو كان والدي هنا كما كان معنا قبل عدة أشهر لصنع أكبر حفلة في قريتنا
ابتسمت والدتي بتعب معاتبة : لاتقولي لو ياصغيرتي ,الحمدلله على كل حال , الله اختاره ليكون في الدار الثانية ونحن سنلحقه فيما بعد
نظفت المكان , وساد الصمت لفترة عدا من مناغاة أخي الرضيع حسام , بدأ يضحك * ياااااه على ابتسامته البريئة تلك في وجه ملائكي , أبصم بالعشرة أن قلبي متعلق به مذ كان قابعا في ظلمة الرحم .
مرت الساعات تترى متلكأة ..
شعرت بالظمأ فأخذت الكأس الزجاجي على عجالة لأرتوي من مائه الراكد , مإن هممت بارتشافه ولامس شفتي حتى اخترقته رصاصة كوميض البرق سرعتها , فارتج الماء وتطاير مع شظايا الزجاج , هرعت أمي فزعة مرهقة لترى ماحل بي وتضمد جروحي الطفيفة , التفتت بوجل وهي تسمع صوت دبابة حربية جرشت الجدار الصامت فتصدع على إثره وسقط منهكا
أمي تستحثني النهوض والهرب لمنزل العم يحي حيث يبعد عنا بمسافة إلا أن لديه ملجأ خاص في حالات طارئة كهذه ريثما تجمع بعض الحاجيات انطلقت مسرعة وخرجت من الباب الخلفي لمنزلنا ومإن همت أمي بالفرار حتى حاصرها المهاجمون , انتشروا كجراد يفسد زرع صاحبه فلايبقي بذرة لنبتة صغيرة تستنشق عبير الحياة
لم أكمل الطريق قفلت راجعة خوفا على أمي وأخي حسام ,وطفقت أرقب مايحدث من خلال ثقب صغير بالحائط
تقدم أحدهم وهو يمسك خاصرته هازئا يقول بلكنته العبرية : مازلت تقفين كالبلهاء , هل ستقاومين الموت ؟
أجابته والدتي باقتضاب : لن أرضخ لكم أيها الفساق
أمال فمه بتهكم واحتدت عيناه الزائغتان : هــاه أيتها المسلمة اللعينة ستعذبين قبل الموت .
أومئ بيده فتقدم جنديان ليمسكانها * انتزع منها الرضيع ليدهسه بقدمه , الطفل يبكي يستغيث وأمي بح صوتها ترجو الإله وتُستباح الأدمع , أسمع صدى شهقاتها بين الفينة والأخرى , تتخبط بجسدها محاولة إبعادهما إلا أن ذلك الغشوم الكافر هوى بكعبه على بطن حسام كجلمود صخر انتُزعت منه الرحمة , تمزقت أحشائه , تبعثر لحمه , وتطايرت الدماء , ككتكوت خرج للتو من فقس البيض يرى الحياة فداسته مخالب الأسد ليخر صريعا
صرخة أكبتها في أعماقي عندما هاج اليهودي الأمهق , وتلاطمت أمواج غضبه بسبب عبارة أمي الأخيرة : غدا سألد آخر يذود عن الإسلام
اشتعل حقده القديم ليبجَ ثوبها * أأقول اغتصاب أمام ناظري ؟ ! لقت حتفها عندما استقرت أربعة أعيرة نارية في صدرها
لم أحتمل الموقف * هرولت بين جموع الناس الهاربة تسابق خطواتهم عجلة الزمن , محتمين بأيديهم من أسراب الطائرات الحائمة تمطرنا بالقنابل لنتجرع العلقم ونذوق الموت الزؤام
نــار تضطرم * ملجأ يستقبل الوافدين , جرحى يتأوهون , وصرعى ينتهي بهم المصير , سيارات الإسعاف كدبيب النمل في الطرقات , وغمغمة الأشخاص تُحدث جلبة , وقفت قبالة منزلهم كالراكع متكأة على الباب ألهث , طرقت عدة طرقات سريعة , فتحت ليلى الباب مرحبة بي وسحبتني للداخل قائلة بنظراتها المشفقة : فقدت أهلك أليس كذلك ؟؟
أجبتها ودمعة يتم ترقد بخدي هائمة : بقي عامر لم يعد بعد
أقبل العم يحي وهو يتلمس صلعته الناصعة هكذا إذا مقتهم لهذه القرية جعل أهلها في دمار شامل .
تمتمتُ بحنكة وعقل وماكنت أنطق به سوى ماعلمني إياه والدي وردده على مسامعي مذ كنت في الخامسة من عمري : ليس هكذا أيها العم إنها مسألة عقائدية والسبب ماذكره الله بهذه الآية ( ومانقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد )
دُهش من سماعه لكلمات شخص عاقل واعي تتحدث بها صبية صغيرة .
أخذ يكرر : مسألة عقائدية !!
ثم رمقني بإعجاب وزحف بقربي متملقا: لاتخشي ياسحر سنتعاون معا لنعيد هذه القرية كما ينبغي أن تكون بشرط واحد .
تهللت ملامحي بشرا : وماهو ؟!
- مارأيك بالانضمام لحملتنا التبشيرية !
- تبشيرية !!!!!!
هـه , سمعتها من والدي أتريدني أن أعتنق النصرانية ؟
أجابني بابتهاج : نعم , نعم مثل قوتك وإصرارك على دينك وأنت بهذا السن نحتاجك حتما ياصغيرتي .
- لا لا أريد أن أتخلى عن إسلامي .
- أو تؤمنين بالمسيح ؟
- بلى أؤمن به وبجميع الأنبياء , ولكن لن يقبل الله غير الإسلام دينا لأنه شمل الأديان السابقة برمتها, وأنت أيها العم هل تؤمن بنبينا محمد ؟!!
بُهت العم يحي مثلما صُدمت أنا وعرفت أنه نصراني لم يُظهر ذلك خلال إقامته معنا في القرية , أخذت أُكيل عليه اللعنات بصدري , ذاك العجوز الفاسق تنصر على يده وابنته رتل هائل من المسلمين .
حاول أن يغير دفة الموضوع ويحرك مشاعري بكلمات تثيرني لأكن الضغينة على إخوتي المسلمين .
قالها بنبرة جادة : هل انتشلك المسلمون من بين المدافع ؟ لم يأبهوا بوالدتك , وأخيك عامر لن يعود سيُقتل على أيديهم قبل ولوجه القرية حتى ثم ضغط على زر التلفاز ليتنقل بين القنوات قائلا: هاهم من تستنجدين بهم في المراقص والاحتفالات , وتحت ظلال القصور في أبهة وترف , سحبت الجهاز من يده لأقلب على قناة أخرى فارتسمت على وجهي ابتسامة بهية : هاهم المسلمون حول الكعبة في طواف دائم يدعون لنا رب البرية أن يفرج كربنا * فما باليد حيلة إن لم يستطيعوا المجئ غير الالتجاء للمولى .
استشاط غضبا وابتسم بمكر : أنت لم تعرفي النصرانية بعد , مارأيك ياحلوتي أن تجربي اعتناقها فإن لم تعجبك فارجعي لدينك ؟
اتسعت حدقتا عيناي محملقة به: أأرتد عن الإسلام , كلا سأدخل النار إن فعلتها.
حرك يده بانفعال: بل بحالتك هذه ستكونين على ضلال وتحيدين عن الصواب .
هدأ صوته وكأنما يحثني للاعتناق : سأطهرك إن اعتنقت النصرانية ؟
- أنا على ضلال , أو تستطيع تطهيري ؟! قلتها بتعجب
-نعم فقط ادخلي دينك الجديد ستجدين العيش الهانئ بعيدا عن الحروب حيث السلم
- أووه ياعم ألم تسمع ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين )
أتذكر جيدا تفسير والدي لهذه الآية عندما حفظتها * حيث قال: المغضوب عليهم هم اليهود , والضالون هم النصارى , والذين أنعم الله عليهم طريق الاستقامة هم المسلمون إذا الإسلام هو دين الهداية وأنتم الضالون عن الطريـــــ ......
بترتُ عبارتي حين لطمني لطمة زلزت كياني , ظهر على حقيقته النتنة كنصل خبيث أو أفعى يتبدل جلدها ليتناسب مع مخدعها الذي تمكث به
طردني واغلق الباب فور خروجي بوجه ممتقع أصفريحاكي وجوه الموتى , وقلبي تعرض لهزات الألم ,أذعنت لبكاء مرير , ضعت بين الحارات أشعر بدوار ودوار ودوار , بين صخب المتفجرات وضجيج التأوهات * تهاويت في سكون وسقطت مغشيا علي بجانب سلة قمامة معدنية * وجانبي قط يموء كالثكالى وكأنما ينعي حالي.
( في اليوم التــالي )
استيقظ الجميع على أصوات الرشاشات , لا الليل ليل والنهار انهيار, سطعت شمس شعثاء غبراء قد اختلط ضوئها بذرات غبار كوجه عجوز ملأه التجاعيد والأخاديد بعدما كان وضاحا , لكنها مازالت تحمل ثمة دفء فتحت عيناي بتثاقل أبحث عن نسمة هواء نقي في جو ملوث بالدخان , تحركت ببطء شديد , تحاملت على نفسي لأنهض وأخذت أنبش القمامة علَي أجد ماأشاطره القطة فيسدَ جوعي .
في هذا اليوم عادت مهجتي كيف لا ؟ وقد عاد أخي عامر , شرعت له القرية أبوابها التي باتت تختزل الحكايا الموجعة وتندب حظها في حالة احتضار .
ويحــــكم * ماذا جــد ؟؟
أومازالوا يتأملون بهيكل سليمان عليه السلام؟
أي سذاجة هذه ؟ وأي قلب فقد ذرات الإحساس وألقى بالإنسانية جانبا؟
هكذا نطقها عامــر في حالة ذهول !!
رأى أطفالا بحلم ومستقبل مظلم , وشبابا بطموح آفل , ورجالا بكبرياء محطم *ونساءا ذابلات , القرية في يباب والنهر فقد صفاء أديمه واختلط بدماء طاهرة , المصاحف ممزقة ,وجثث هامدة كما نخل باسقات وسدت في خنادق , أسرع نحو المنزل ليتفقدنا وبيده كيس الحلوى والدمية التي وعدني بها
ماإن وصل حتى جثا على ركبتيه أمام منزلنا المحطم ووضع كلتا يديه على رأسه , مشهد يفتت الأكباد لتصرخ ألسن الشعراء بقصائد دامية أترثي أم تعاتب أم يسعر وجدانها الفقد؟؟ هنا أخي حسام تقطع لأشلاء وأمي عبثوا بها وجه مشوه , ويد مقطوعة , وأحد رجليها ملقاة خارج المنزل.
انتكس رأسه بأسى وزاد هلعه عند فقدي فلا أثر لي في البيت وماحوله , خرج يطوي الأرض بحثا عني ,تداخلت أفكاره , تمزق صوته فلم يعد له بوح , ضاق صدره , سمع صوتا مكلوما يناديه ومايلبث إلا أن يضئل شيئا فشيئا وكأن حبال حنجرة المنادي قد تقطعت : عــــــااااااامر عـــــامر عـامر
تلفت عن اليمين وعن الشمال محدثا نفسه : لابد أني أتوهم , أحــلم ..إلهي ~
بدأ بتفنيد واقعه , أدار ظهره فرأى جنديا يتلني من شعري ووجهي شاحب بعدما كنت زهرة متفتحة , وعلى حين غرة رماه عامر بالحجر فأدمى جبهته انطلق ليسحبني وركضنا بأقصى سرعة ويهطل الرصاص متتابع نحونا لكنه
يخطأ التصويب في كل طلقة , ابتعدنا عنهم ووقفنا في أحد الأزقة بأنفاس متقطعة وشفاه متيبسة تشتاق لشبم الماء يدغدغها ويذيقها الهناء .
جلس عامر ينقر على رأسي مازحا: أيتها البطلة هاهي الدمية والحلوى التي تفضلينها * قفزت إلى حضنه آكل بنهم وهو ينظر إلي بسعادة غامرة .
سمع وقع أقدام وأنا أحكي له ماجرى فأومئ إلي : أن اصمتي , أمسك بيدي لنهرب من المكان ولكن ثُقب صدره قبل أن نلوذ بالفرار , فسقط مضرجا بدمائه
وقع رأسه على فخذي تتسارع أنفاسه بدأ بالاضطراب وصوته يضعف ويتلاشى آخر ماقاله لي في الرمق الأخير " أختاه اضنني بدينك وعرضك , إن الروح تهون في سبيل المولى "
حلقت روحه في الهواء الطلق , وقفت وبيدي الدمية الملطخة بدمائه تلها الجندي مني ورعبلها , قذف بالحلوى إلى الناحية الأخرى وهو يستمتع بسمفونية الضياع من نشيج بكائي , كُسرت أضلاع أحلامي بمعاول الكيد ليحتار الأمل من المصير المجهول فيكتنفني الشجن وأتوه بين أيدي الخونة .
الأشجار اغتصبتها القنابل وجردتها من أسمالها فباتت عارية تشكو الضيم والفقر , والحمائم تطير مهاجرة من تلك الأرض المقفرة تعزف لحنا حزينا عن حكاية ماقبيل الفجر عند بدء المحنة في قرية الأحلام .
تواااااالت الفصول هجير الصيف فخريف بائس ثم صقيع الشتاء
ولم يأتي الربيع بعد ؟!!!!!!
النهـــــــــــــــــاية