المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في ديوان ( سمفونيات الدرويش )



خليل حلاوجي
02-10-2012, 09:10 PM
قراءة في ديوان ( سمفونيات الدرويش )
للشاعر د. ميسر الخشاب

1- دلالة المدينة :

الشعر هذا الطائر الذي ينشر أشواق أرواحنا ، يسرقنا من أحزاننا لينقش تغاريده على نبضات وجداننا ، فنتفيأ ظلال المعاني ونرتشفُ رحيق الجمال ، ونخوض به معركة الصدق ونتذوّق نفحات الإنتماء .. فهو زورق الرحلة إلى تأمل الأشياء والمعاني .. بل هو المسار ، به نطرح الأسئلة المفتوحة لتنطق الذاكرة تراتيل الحلم وترسم الغد الأجمل : وهكذا كنت أجوبُ قصائد شاعرنا ، أزور كل شبر في أرض مدينتنا الحبيبة – الموصل – حيث القصيدة توظف إيمانه الصادق ، وحبّه لوطنه ، وتمسّكه بالحرية ، فنقف أمام لغة شاعرية إنسانية وهو يرتدي عباءة الدرويش فيصدح بأغنيات الولاء تنطق بذلك ألفاظ لغته فيقول :
( قلبت في يدي قصائدي
الليل وحش والبيوت حولنا
أدركها كالطفلة النعاس
يا أيها الباب القديم لم تعد
تنادم الحراس
وهكذا يا قسوة المفارقة
أن يجد المظلوم قاضيا جلاده
في ساعة المحاكمة ) ص 18

هذا النبض الشعري الرقيق النيّر يغدو نغماً روحيّاً حاضراً ، فهو نداء مشرق عذب ، يتجلّى بكلّ صفائه وجماله ، ويغدو الشعر نسمةً تملؤنا بالتحدي بهذا القابض على قيمه ولغته . ففي البدء كانت ( الغربة والدمعة) رفيقا تلك الرحلة المقلقة في صوت الغربة يطل علينا البطل المسكون بصمت الفجيعة فيقول :
( في الشارع قصة
في المنزل والورشة قصة
في المسجد أو في حقل الحنطة قصة
قصص تحكي كيف تصير الجثة لقمة ) ص 11
لم تكن دلالة ( المدينة ) إلا وهي تفضح معنى الغربة في وجدان الشاعر ، فهو يعيش تفاصيل حكايته متأملاً متجولاً في أزقتها .. ينزف مشاعر الولاء محاولاً الولوج إلى الحدث اليومي بكل بشاعاته فيقف متهكماً ومعترضاً ولايملك سوى القصيدة التي تؤرخ الفجيعة .

2- دلالة التصوف :
ثم ينقلنا الشاعر إلى لوحة يمازج فيها مشاهد من الحروب الدامية التي أكلت أكتافنا بمشاهد الفجر ، لوحة ترسم خريطة الخاصرة وبشاعات الخوف وفوازع الأسئلة فيقول :
(كأن الحرب تغلي فوق خاصرتي
يجئ الصبح بالتسبيح ، لا تأتي
يمد الخوف مخلبه أمامي .. ولا تأتي
ومثل الفجر شد النور بالرؤيا
*
*
كأن الذئب والشيطان مرا حوله سرا ) ص 21
ليجعلنا نرصد قدرة الشعر على المزج بين الصور الحسيّة والمعنوية ، ولعلنا نستكشف شعرية اللغة وهي تنسج الكلمات التي تحمل ذائقة التصوف ، وانظر هذا التقابل بين الجمال الحسيّ والمعنوي في تصوير تقابل : ( الذئب والشيطان ) وتقابل الصورة الحسية الشفيفة : ( الصبح والتسبيح ) ويشخّص هذه اللغة التي أحبّها ،فيوحّد بينها وبين مظاهر الطبيعة البكْر ؛ فالفجر صاحب المخلب له وقع خاص في حكايات الشاعر وهو يقول :

خليل حلاوجي
02-10-2012, 09:11 PM
فالفجر صاحب المخلب له وقع خاص في حكايات الشاعر وهو يقول :
( طويت مكاني
وجمعت أجنحتي كالعجوز البرئ
لأبحث عنها ) ص 24
يبحث عن حكايته يستمدّ صفاءه من النبع والبحر يبحث عن الحقيقة وتدفّقها من سطور شعره ومشاعره .مستخدماً التكنيك الحداثوي الممتزج بالأصالة ، حيث الشيخ رمزاً يحمل السراج الذي نسير نحن وفق رؤيته وهداه إذ طريقنا إلى المستقبل موصول بالماضي المضمخ بالحكمة
لنصل في القسم الثاني حين يطرح الشاعر وقفات نفرية في حال الدرويش نراه يعبر المسافات يتذكر صوت الشيخ الذي استوقفه كثيراً يتخاصم بعضه ببعضه
يقول :
( واوقفني في قناة الجسد
وقال : تعوذ من الغدر واحذر
بنات الموانئ ) ص 56
ثم تتوالى وقفاته في لوحة تصويرية رائعة ، يرسمها الشاعر عبر لغة مُتدفّقة ، وعبارة مشرقة تحفل بالمشاهد الشعرية الموحية ، ونرى عبر هذه المشاهد إلحاح الشاعر وتكراره لكلمة (اوقفني ) بشكل مباشر ليسند بلاغة الموقف بقوّة وأصالة لهذه اللغة الصوفية ؛ ثم ينتقل إلى لوحات ( المواجهة فيضع ذاته في الطليعة دائماً ؛ فنلحظ تكرار الضمير (ياء المتكلم ) و ( تاء الفاعل ) مرّات عدّة في القصيدة سواءً كان يعرض ذاتيته الحائرة بين الوقوف والمواجهة ، ممّا يثري تجربته الهادئة في إبراز ألفاظ التصوف بشاعرية لها جمال البنفسج وشذى الدلال . إنّ هذا الارتباط الحميم مابين الفكرة واللغة ، والاعتزاز بعراقة الأمكنة فهو يختارها بدقة ( عند أسوار دلمن ، عابراً ، قرب سور تهدم ، قرب عرش الأميرة ، عبر وادي القرون ، فضاء العذاب ، قناة الجسد ، تحت جدران أسئلة ساخنة ... ) وهي أماكن تنبض بمعانيها السامية فيتجلى لدى شاعرنا وحي المناجاة بعد ذلك فنصل معه إلى مقاطع ( في المناجاة ) يرسم من خلالها قصيدة تخلق ( الحرف واللون مملكة ) ص68 ، ولا بدّ أن يقف المتلقي لمشاركاً بهذا الوجدان الزاخر بالمحبة والقلق والصدق ، إنّه وجدان المشاعر الصافية ، والإيمان المرهف ، والتحدّي لكل أشكال التشويه والقسر الذي مارسته الثقافة المرتبكة المتهالكة فيصرخ شاعرنا :
قتل الحلاج بأيدينا
هل سارت أشجار التفاح
ونخل البصرة
خلف جنازته ) ص 79
فيكتب شعوره ويحمل عقيدة وجوده بلفظ يجعلنا نلتقي الحياة بعقل راجح فتنتقل تلك المشاعر إلى المتلقي كدهشة الطفولة كذرات النور كبوارق الفجر ، تنطلق الرؤية من نبض اليقين ، وتَركَنُ إلى شيء من الكشف العميق ؛ تتلاحق الصور الشعرية والتشبيهات من معجم الطبيعة ونحن مع الشاعر نسافر لاستقصاء جماليات لفظ لغته.
لم يلجأ الشاعر إلى أسلوب طلبي يُراوح بين الاستفهام والنداء والتعجب ، بل وجدنا لغة تقريرية معبراً بألفاظها عن عميق جرحه لما تعانيه لغته من تحدي للواقع المتأزم محاولاً التوفيق بين الأسى كواقع والفرح والفرج كحلم يتمناه شاعرنا بكل عنفوان حتى غدت القصيدة كتغريد البلابل
تطربنا بصدق عفوي آسر ...هكذا يشجينا الشاعر عبر لمسات شفيفة وإيقاعات مفرداته نلتصق معه بالمزيد من التفاعل والحوار الحيّ حتى نصل ختام الحكاية.

ربيحة الرفاعي
09-11-2012, 08:53 PM
قراءة باهرة بفهم عميق وتأمل دقيق في تفاصيل الحرف وما وراءه من محرك حسّي ومنطلق فكري
جميل ما أتحفتنا به من قراءة

أهلا بك ايها الكريم في واحتك

تحاياي

براءة الجودي
09-11-2012, 09:12 PM
أستاذ خليل من مهارتكم وقراءاتكم نستفيد
بوركتم

خليل حلاوجي
01-12-2012, 07:59 PM
الأستاذة الكريمة : ربيحة الرفاعي .

ببصيرتك وذائقتك ... وعذوبة سطورك هنا : قلبي يبتهج : أختي الكريمة.