فاطمة بلحاج
06-10-2012, 05:12 PM
الهجرة
ترك عياش القرية بعد اجتياح الجفاف لأرضه، فقد كانت السنة جفاءً، والقحط أخذ بمحصوله كاملاَ، و هشَّم الجوع عظام صغاره السبعة، هلكت الماشية وشحَّت المياه، وأقام المحتل في القرية مُخيَّمات لجنوده، الذين قدِموا لاحتلال المنطقة، فباع القليل من أملاكه المُتبقية لديه، و أمَر زوجته وابنته بديعة - التي لا يتجاوز عمرها الرابعة عشر- بالإسراع؛ كي يغادروا القرية، متسللين ليلاً حتى لا ينتبه لهم الجنود، فالمحتل حلَّ بالمنطقة بجنودٍ تَلهث كالكلاب، وصاروا ينتشلون من الأهالي المُمتلكات اليسيرة، ويخربون بيوت القرية كما يشاؤون!
وخشية أن يأخذوا منه ما تبقَّى له، ترَك أرضه الأقل خصبًا، وسلك طريقاً صعباً في رحلة من قريته إلى مدينة الأحلام خارج المنطقة، عابرًا الجبال الوعرة، المليئة بالمطبات والمُنحدرات، رفقة زوجته و صغاره، ملتحقاً بكوكبة من المهاجرين أمثاله، الباحثين عن الخبز وشربة ماءٍ في أرض أخرى قد ينتمون إليها!
كان يجر أولاده الستة وهم يُمسكون بجِلبابه الصوف القصير، أما زوجته، فتمشي وراءه بخطوات متأنِّية برُفقة بديعة، حاملةً فوق كَتِفها كومة ملفوفة بإحكامٍ، فيها بطانية ولحافٌ للصغار، وبديعة الفاتنة كانت بدورها تحمل كيسًا به خبزٌ يابسٌ، وبَدْرة ماء تَحملها فوق الكتف، مُمسكة بها من يدها اليمنى، واليد الأخرى به كيس من الخبز الجاف.
لم يكن يَملك أية وسيلة للنقل سوى حمار عجوز، مات عطشًا بعد ساعات من الهجرة، فكان عليه أن يسير لأسابيع وشهور؛ ليصل إلى مدينة الأحلام، تاركًا وراءه أرضه الطاهرة، وفي تلك الرحلة العَسِرة انقطَعت به السبل، ولم يَبقَ له أي قطعة خُبزٍ، فصار الصغار يبكون من الجوع، ويشدونه تارةً من جِلبابه وتارة من لِحيته، فلم يجد ما يُطعمهم سوى أوراق الأشجار اليابسة، وأعشاش النباتات الجافة؛ لتتمزَّق أمعاؤهم وجعًا، ويَنزفون دمًا وآلامًا، فيَسقطون كأوراق الخريف أمام ناظِريه، ويَنسلت البقاء؛ لتَرحل الروح القابعة في أجسادهم، فيَفقد نفسه الهائمة مع رَكْب الهجرة قبل فِقدانهم.
***
بديعة - ابنة عياش - فتاة جميلة، ذات سَحنة حمراء، لها جدائلُ طويلة، تصل إلى الخصْر، ترتدي فستانًا أصفرَ اللون، اشتراه لها والدُها حين بدت عليها الأُنوثة، تُغطي رأسها بوشاح صغيرٍ مزخرف، فتبقى الجدائل مكشوفة، تحرِّكها الرياح من حينٍ إلى آخر.
كان من بين المهاجرين شاب قوي البنية، لا يتعدَّى عُمره السابعة عشرة - ذاك الفتى ميمون - لم يَغضَّ الطرف عن بديعة، حذَّرته أُمه العجوز مرارًا من كثرة السهام التي يوجِّهها بنظراته لبديعة، فقد تُكلفه عُمره، لكنه لم يَأْبه لذلك، بل تجرَّأ وطلَب منها أن تَخطبها له، فسَخِرت من كلامه، واستهزَأت بمشاعره تُجاه المحبوبة بديعة!
بعد أكثر من شهر في رحلة شاقَّة، وصل عياش وعائلته إلى منطقة معروفة بزراعة أنواع عدة من النباتات المختلفة.
الأرض هناك مُخضرة وتُغري العيون، رائحة العشب الزكية تتوغَّل في الخياشيم! وعلى حين غِرَّة هبَّت نسائم الربيع، لتُداعب الوجوه الشاحبة، والعيون الغائرة، فسال لُعاب الجائعين، فركَضت أمُّ ميمون نحو إحدى المزارع المزهوَّة اخضرارًا، فتبِعتها بعض النسوة يَركُضنَ كالخيول الجامحة بأجسادهنَّ الغامرة، ثم ارْتَمَيْنَ فوق الأعشاش، وصِرْن يَلتهمْنَ المحصول بأفواههنَّ المُنفرجة! فالبطون فارغة، وتُغرغر شوقاً لأي شيء تَشتمُّه النفس التوَّاقة لِمَلء أمعائها المُتهدجة وجعًا، إلى أن شَعَرْنَ بدوخةٍ مفاجئة بأتون الجنون، فبدَأْنَ بالرقص والتمرُّغ في التربة، وسقَط الحايك؛ لتظهر فساتينهنَّ البالية والمُرقَّعة، التي تكشف عن أجسامٍ نَحيلة استوى عليها الجوع الذي مزَّق أوصالهنَّ من زمنٍ ليس بالبعيد، فهُرِع الرجال إليهنَّ وصار كل واحدٍ منهم يغطي امرأته بالحايك! ويَضربها على الفَعْلة المَشينة التي هزَّته وأشعَرته بالخِزي، لكن النسوة أبَيْنَ ترْك المزرعة، وصِرْنَ يَتمايَلْنَ ويتفوَّهن بأهازيج مُبهمة، إلى أن ملُّوا من سترهنَّ ومحاولة إخراجهن من تلك الأرض الزراعية، فجرُّوهنَّ من الجدائل إلى أن رضَخنَ للبقاء، فحَجَبْنَ ما بقِي لهنَّ من كينونة.
أما عياش، فلم يترك أي مجال لزوجته وابنته بديعة للالتحاق بالنسوة، فبعد فِقدان الصغار، صار يُمسك بكل واحدةٍ من يدها، ويجرهما جرًّا كمَن يَحرُث أرضًا للزراعة، فالاثنتان لم تكونا تَقويان على السير، أقدامهما لا ترتفع عن الأرض، والطريق طويل، الأمعاء والأحشاء تتقطَّع من شدة الجوع، وهما معًا يُمسكان بخيط الأمل الوحيد -عياش - ومن أجْلهما هو صابر لإيصالهما إلى بَر الأمان، بعيدًا عن عيون المحتل، خصوصًا بديعة التي لا تتوقَّف عن تَكرار الأهازيج بصوتها العذب بالرغم من تَعبِها، إلى أن يَنهرَها عياش حين يَمَلُّ من إحدى الأهازيج المُبتدعة التي تَذكر الرجل بالسوء والخيانة!
***
الأهازيج الأُنثوية التي تَشدو بها بديعة، تُطرِب ميمونًا، فيَتمايل معها محرِّكًا رأسه، يترنَّم أحلامًا بعُشٍّ صغير يَجمعه وإيَّاها! ويردِّد لأُمه رغبته في الزواج بها، لكن الأم كانت تَفرُك له أُذنه في كل مرة، آمِرة إياه ألا يرفع لَحظَيه عن الأرض! فبعد تناوُلها تلك الأعشاش، لم تعُد تقوى على السير، فصار يحملها على ظهره، مُمسكة بكتفيه، يمشي بها في مسالك وعِرةٍ شديدة الانحدار، وحين تتوارى بديعة وراء الهضبات والسهول المُمتدة من قريته إلى مدينة الأحلام، يُسرع راكضًا رغم ثِقَل أُمه فوق ظهره للالتحاق بالكوكبة؛ كي تبقى بديعة تحت ناظِريه، فيتأمَّلها بنظرات شوقٍ، وتَرتسم ابتسامة انشراحٍ على شفَتيه، فيرقص فؤاده ترنُّمًا لرؤيتها، فيَخف العبء قليلاً عن كتِفيه.
لم ينتبه عياش لنظرات ميمون، ولم يُدرك ملاحقته لابنته التي أخرجها من أرضه؛ خوفًا عليها وعلى زوجته وصغاره، وإن فقَد الصغار، فبديعة الفاتنة لن يَفقدها إلا إذا صارت في بيت رجل يقدِّم لها ما عجَز عنه!
وذات ليلة مُظلمة وفي غمرة الرحلة المُتعبة، هبَّت رياح الشرقي العاصفة، فعصَفت بالوجوه والنفوس المُنهدمة، فالْتَحم الجميع ببعض، مُتخفين من زخات رمليَّة تَزحف نحوهم من شواطئ قريبة من مدينة الأحلام، فاختَنق عياش وعائلته.
كتمت تلك العاصفة أنفاس الجميع، فحُشِر عياش مع زوجته وبديعة تحت بطانية واحدة - يلتمسون الدفء - فالتصقَت أجسام الثلاثة ببعض، منكمشين في صمتٍ، آملين نهاية تلك الزوبعة، إلى أن أخذتهم غفوة نومٍ.
***
في صباح اليوم التالي استيقظ عياش، فوجد نفسه مغطًّا بالرمال العاصفة، وزوجته قد اكتسى وجهها السواد، وعيونها جاحظة، وعلى فمها رغوة ناشفة، احتضَنها بقوة وبكى حتى ابتلَّت لِحيته، وهذه أول مرة يبكي في حياته، لم يبكِ حين فقَد صغاره، مع أن الدمعة كانت تتأجَّج كل مرة بين أهدابه، فيتعجَّب رِفاقه من ردَّة فِعْله الباردة تلك، أما الآن، فلم يستطع مقاومة رغبته في البكاء،ولمَ يقاوم؟! فالراحلة جزءٌ لا يتجزأ من رُوحه، وهي أهم وأثمن منهم جميعًا؛ فقد شارَكته لحظات البؤس والقنوط، وزحْف الجوع الذي عصَف بأُسرتهما الصغيرة، ومن أجلها وبديعة، ترَك أرضه المتصحِّرة وهاجَر إلى مدينة الأحلام.
عانقَها لمدة طويلة وهو يُودِّعها بأُهزوجة حزينة، ومعها دفَن حلم تناوُل وجبة لذيذة رُفقتها في بيت صغير بمدينة الأحلام، وإقامة حفل زفاف لبديعة من أحد أشبال تلك المدينة! لكن حلمه مات حين ودَّعته المحبوبة، وترَكته وراءها موجوعًا وفارغ الوجدان، ولم يكن عزاؤه بفِقدان رفيقته، سوى بديعة التي مسَحت دموعه بيديها الباردتين، وتقبيل جبهته كل حين – مواسية إيّاه – كاتمةً حُزنها، ومن أجلها فقط قرَّر عياش عدم الاستسلام، وإكمال المسير في طريقه المغمور إلى بَر الأمان.
***
لم يتوقَّف ميمون عن التطلُّع إلى بديعة، فبعد وفات أُمها ورِثت الحايك عنها، وارتَدته لتغطي جسدها الفاتن وجدائلها الطويلة، ولم يَعُد يظهر منها سوى عينيها الواسعتين، والقدمين المُتسختين بالتربة! صارت ابنة ورفيقة والدها، الذي لم يُفارقها البتة منذ تلك اللحظة.
بعد أيام، وفي مساء بارد صرَخ ميمون صرخة طفلٍ موجوع، حين لفظَت أُمه أنفاسها الأخيرة وتركته يتيمًا، فأخذه عياش في حضنه يُواسيه لَما رآه مهزوزًا باكيًا للوحدة التي صار فيها، ومُشفقًا عليه لفِقدان آخر أحبابه، ومنذ ذلك اليوم صار يعامله كابنٍ له، ويسير في طريقه المُنحدر مُمسكًا به - بديعة في الجهة اليمنى، وميمون في الجهة اليسرى - مُتشبِّثًا بهما في هجرة إلى مدينة الأحلام.
كان ميمون قريبًا من بديعة، لا يَفصله عنها سوى جدار كهل أُصيب بالوهَن، ويكاد ينهار في أي لحظة، ومع ذلك شعَر بالخجل منه وتوقَّف عن التطلُّع إلى بديعة، فقَد الأمل بأن تكون له، وطأطَأ رأسه احترامًا لعياش، فسار الثلاثة جَنبًا إلى جنبٍ.
وعلى مشارف المدينة، وقف عياش يَستنشق هواءها، أحسَّ بريح عاصفة تُعيده إلى الوراء، تمنَّى من أعماقه لو لم يترك أرضه، ولو بقِي هناك إلى أن يَلفظ أنفاسه الأخيرة فوق أرضه المتصحِّرة بجوار صغاره وزوجته، تطلَّع بعينيه الفارغتين إلى ميمون لبُرهة؛ حيث كان ميمون يُسلم فاكهة لبديعة - وهَبها له أحد المزارعين - بدا عليه الارتباك وهو منحني الرأس، فشعر عياش باطمئنان في أعماقه، وانشرَح صدره الموهون! وقال في رقة بصوتٍ عالٍ:
_فليَشهد الجميع أني زوَّجت ابنتي بديعة لميمون
تراقَص قلب ميمون فرحًا، ثم ركَض إليه، وصار يقبِّل يده لعشرات المرات، فربَّت عياش على كتِفَيه، وقضَمت بديعة الفاكهة في استحياءٍ وهي تتطلَّع إلى ميمون بعيونها الواسعة، وفي تلك اللحظة شعَر بالوهن، فسقط على الأرض وبكى طويلاً حتى ابتلَّت لِحيته، ثم قال:
_ سأعود للقرية، وسأُواجه المحتل إلى آخر نقطة دمٍ وآخر نفَسٍ، فإن كنتما - يا بديعة، ويا ميمون - ستعودان معي، فهيَّا، وإن كنتما ستَقبعان في مدينة الأحلام، فذاك خياركما.
خَطا خُطوات للعودة إلى القرية، فركَض ميمون وراءه مُمسكًا بيد بديعة قائلاً:
_هاجَرنا معًا وسنعود للقرية معًا.
ترك عياش القرية بعد اجتياح الجفاف لأرضه، فقد كانت السنة جفاءً، والقحط أخذ بمحصوله كاملاَ، و هشَّم الجوع عظام صغاره السبعة، هلكت الماشية وشحَّت المياه، وأقام المحتل في القرية مُخيَّمات لجنوده، الذين قدِموا لاحتلال المنطقة، فباع القليل من أملاكه المُتبقية لديه، و أمَر زوجته وابنته بديعة - التي لا يتجاوز عمرها الرابعة عشر- بالإسراع؛ كي يغادروا القرية، متسللين ليلاً حتى لا ينتبه لهم الجنود، فالمحتل حلَّ بالمنطقة بجنودٍ تَلهث كالكلاب، وصاروا ينتشلون من الأهالي المُمتلكات اليسيرة، ويخربون بيوت القرية كما يشاؤون!
وخشية أن يأخذوا منه ما تبقَّى له، ترَك أرضه الأقل خصبًا، وسلك طريقاً صعباً في رحلة من قريته إلى مدينة الأحلام خارج المنطقة، عابرًا الجبال الوعرة، المليئة بالمطبات والمُنحدرات، رفقة زوجته و صغاره، ملتحقاً بكوكبة من المهاجرين أمثاله، الباحثين عن الخبز وشربة ماءٍ في أرض أخرى قد ينتمون إليها!
كان يجر أولاده الستة وهم يُمسكون بجِلبابه الصوف القصير، أما زوجته، فتمشي وراءه بخطوات متأنِّية برُفقة بديعة، حاملةً فوق كَتِفها كومة ملفوفة بإحكامٍ، فيها بطانية ولحافٌ للصغار، وبديعة الفاتنة كانت بدورها تحمل كيسًا به خبزٌ يابسٌ، وبَدْرة ماء تَحملها فوق الكتف، مُمسكة بها من يدها اليمنى، واليد الأخرى به كيس من الخبز الجاف.
لم يكن يَملك أية وسيلة للنقل سوى حمار عجوز، مات عطشًا بعد ساعات من الهجرة، فكان عليه أن يسير لأسابيع وشهور؛ ليصل إلى مدينة الأحلام، تاركًا وراءه أرضه الطاهرة، وفي تلك الرحلة العَسِرة انقطَعت به السبل، ولم يَبقَ له أي قطعة خُبزٍ، فصار الصغار يبكون من الجوع، ويشدونه تارةً من جِلبابه وتارة من لِحيته، فلم يجد ما يُطعمهم سوى أوراق الأشجار اليابسة، وأعشاش النباتات الجافة؛ لتتمزَّق أمعاؤهم وجعًا، ويَنزفون دمًا وآلامًا، فيَسقطون كأوراق الخريف أمام ناظِريه، ويَنسلت البقاء؛ لتَرحل الروح القابعة في أجسادهم، فيَفقد نفسه الهائمة مع رَكْب الهجرة قبل فِقدانهم.
***
بديعة - ابنة عياش - فتاة جميلة، ذات سَحنة حمراء، لها جدائلُ طويلة، تصل إلى الخصْر، ترتدي فستانًا أصفرَ اللون، اشتراه لها والدُها حين بدت عليها الأُنوثة، تُغطي رأسها بوشاح صغيرٍ مزخرف، فتبقى الجدائل مكشوفة، تحرِّكها الرياح من حينٍ إلى آخر.
كان من بين المهاجرين شاب قوي البنية، لا يتعدَّى عُمره السابعة عشرة - ذاك الفتى ميمون - لم يَغضَّ الطرف عن بديعة، حذَّرته أُمه العجوز مرارًا من كثرة السهام التي يوجِّهها بنظراته لبديعة، فقد تُكلفه عُمره، لكنه لم يَأْبه لذلك، بل تجرَّأ وطلَب منها أن تَخطبها له، فسَخِرت من كلامه، واستهزَأت بمشاعره تُجاه المحبوبة بديعة!
بعد أكثر من شهر في رحلة شاقَّة، وصل عياش وعائلته إلى منطقة معروفة بزراعة أنواع عدة من النباتات المختلفة.
الأرض هناك مُخضرة وتُغري العيون، رائحة العشب الزكية تتوغَّل في الخياشيم! وعلى حين غِرَّة هبَّت نسائم الربيع، لتُداعب الوجوه الشاحبة، والعيون الغائرة، فسال لُعاب الجائعين، فركَضت أمُّ ميمون نحو إحدى المزارع المزهوَّة اخضرارًا، فتبِعتها بعض النسوة يَركُضنَ كالخيول الجامحة بأجسادهنَّ الغامرة، ثم ارْتَمَيْنَ فوق الأعشاش، وصِرْن يَلتهمْنَ المحصول بأفواههنَّ المُنفرجة! فالبطون فارغة، وتُغرغر شوقاً لأي شيء تَشتمُّه النفس التوَّاقة لِمَلء أمعائها المُتهدجة وجعًا، إلى أن شَعَرْنَ بدوخةٍ مفاجئة بأتون الجنون، فبدَأْنَ بالرقص والتمرُّغ في التربة، وسقَط الحايك؛ لتظهر فساتينهنَّ البالية والمُرقَّعة، التي تكشف عن أجسامٍ نَحيلة استوى عليها الجوع الذي مزَّق أوصالهنَّ من زمنٍ ليس بالبعيد، فهُرِع الرجال إليهنَّ وصار كل واحدٍ منهم يغطي امرأته بالحايك! ويَضربها على الفَعْلة المَشينة التي هزَّته وأشعَرته بالخِزي، لكن النسوة أبَيْنَ ترْك المزرعة، وصِرْنَ يَتمايَلْنَ ويتفوَّهن بأهازيج مُبهمة، إلى أن ملُّوا من سترهنَّ ومحاولة إخراجهن من تلك الأرض الزراعية، فجرُّوهنَّ من الجدائل إلى أن رضَخنَ للبقاء، فحَجَبْنَ ما بقِي لهنَّ من كينونة.
أما عياش، فلم يترك أي مجال لزوجته وابنته بديعة للالتحاق بالنسوة، فبعد فِقدان الصغار، صار يُمسك بكل واحدةٍ من يدها، ويجرهما جرًّا كمَن يَحرُث أرضًا للزراعة، فالاثنتان لم تكونا تَقويان على السير، أقدامهما لا ترتفع عن الأرض، والطريق طويل، الأمعاء والأحشاء تتقطَّع من شدة الجوع، وهما معًا يُمسكان بخيط الأمل الوحيد -عياش - ومن أجْلهما هو صابر لإيصالهما إلى بَر الأمان، بعيدًا عن عيون المحتل، خصوصًا بديعة التي لا تتوقَّف عن تَكرار الأهازيج بصوتها العذب بالرغم من تَعبِها، إلى أن يَنهرَها عياش حين يَمَلُّ من إحدى الأهازيج المُبتدعة التي تَذكر الرجل بالسوء والخيانة!
***
الأهازيج الأُنثوية التي تَشدو بها بديعة، تُطرِب ميمونًا، فيَتمايل معها محرِّكًا رأسه، يترنَّم أحلامًا بعُشٍّ صغير يَجمعه وإيَّاها! ويردِّد لأُمه رغبته في الزواج بها، لكن الأم كانت تَفرُك له أُذنه في كل مرة، آمِرة إياه ألا يرفع لَحظَيه عن الأرض! فبعد تناوُلها تلك الأعشاش، لم تعُد تقوى على السير، فصار يحملها على ظهره، مُمسكة بكتفيه، يمشي بها في مسالك وعِرةٍ شديدة الانحدار، وحين تتوارى بديعة وراء الهضبات والسهول المُمتدة من قريته إلى مدينة الأحلام، يُسرع راكضًا رغم ثِقَل أُمه فوق ظهره للالتحاق بالكوكبة؛ كي تبقى بديعة تحت ناظِريه، فيتأمَّلها بنظرات شوقٍ، وتَرتسم ابتسامة انشراحٍ على شفَتيه، فيرقص فؤاده ترنُّمًا لرؤيتها، فيَخف العبء قليلاً عن كتِفيه.
لم ينتبه عياش لنظرات ميمون، ولم يُدرك ملاحقته لابنته التي أخرجها من أرضه؛ خوفًا عليها وعلى زوجته وصغاره، وإن فقَد الصغار، فبديعة الفاتنة لن يَفقدها إلا إذا صارت في بيت رجل يقدِّم لها ما عجَز عنه!
وذات ليلة مُظلمة وفي غمرة الرحلة المُتعبة، هبَّت رياح الشرقي العاصفة، فعصَفت بالوجوه والنفوس المُنهدمة، فالْتَحم الجميع ببعض، مُتخفين من زخات رمليَّة تَزحف نحوهم من شواطئ قريبة من مدينة الأحلام، فاختَنق عياش وعائلته.
كتمت تلك العاصفة أنفاس الجميع، فحُشِر عياش مع زوجته وبديعة تحت بطانية واحدة - يلتمسون الدفء - فالتصقَت أجسام الثلاثة ببعض، منكمشين في صمتٍ، آملين نهاية تلك الزوبعة، إلى أن أخذتهم غفوة نومٍ.
***
في صباح اليوم التالي استيقظ عياش، فوجد نفسه مغطًّا بالرمال العاصفة، وزوجته قد اكتسى وجهها السواد، وعيونها جاحظة، وعلى فمها رغوة ناشفة، احتضَنها بقوة وبكى حتى ابتلَّت لِحيته، وهذه أول مرة يبكي في حياته، لم يبكِ حين فقَد صغاره، مع أن الدمعة كانت تتأجَّج كل مرة بين أهدابه، فيتعجَّب رِفاقه من ردَّة فِعْله الباردة تلك، أما الآن، فلم يستطع مقاومة رغبته في البكاء،ولمَ يقاوم؟! فالراحلة جزءٌ لا يتجزأ من رُوحه، وهي أهم وأثمن منهم جميعًا؛ فقد شارَكته لحظات البؤس والقنوط، وزحْف الجوع الذي عصَف بأُسرتهما الصغيرة، ومن أجلها وبديعة، ترَك أرضه المتصحِّرة وهاجَر إلى مدينة الأحلام.
عانقَها لمدة طويلة وهو يُودِّعها بأُهزوجة حزينة، ومعها دفَن حلم تناوُل وجبة لذيذة رُفقتها في بيت صغير بمدينة الأحلام، وإقامة حفل زفاف لبديعة من أحد أشبال تلك المدينة! لكن حلمه مات حين ودَّعته المحبوبة، وترَكته وراءها موجوعًا وفارغ الوجدان، ولم يكن عزاؤه بفِقدان رفيقته، سوى بديعة التي مسَحت دموعه بيديها الباردتين، وتقبيل جبهته كل حين – مواسية إيّاه – كاتمةً حُزنها، ومن أجلها فقط قرَّر عياش عدم الاستسلام، وإكمال المسير في طريقه المغمور إلى بَر الأمان.
***
لم يتوقَّف ميمون عن التطلُّع إلى بديعة، فبعد وفات أُمها ورِثت الحايك عنها، وارتَدته لتغطي جسدها الفاتن وجدائلها الطويلة، ولم يَعُد يظهر منها سوى عينيها الواسعتين، والقدمين المُتسختين بالتربة! صارت ابنة ورفيقة والدها، الذي لم يُفارقها البتة منذ تلك اللحظة.
بعد أيام، وفي مساء بارد صرَخ ميمون صرخة طفلٍ موجوع، حين لفظَت أُمه أنفاسها الأخيرة وتركته يتيمًا، فأخذه عياش في حضنه يُواسيه لَما رآه مهزوزًا باكيًا للوحدة التي صار فيها، ومُشفقًا عليه لفِقدان آخر أحبابه، ومنذ ذلك اليوم صار يعامله كابنٍ له، ويسير في طريقه المُنحدر مُمسكًا به - بديعة في الجهة اليمنى، وميمون في الجهة اليسرى - مُتشبِّثًا بهما في هجرة إلى مدينة الأحلام.
كان ميمون قريبًا من بديعة، لا يَفصله عنها سوى جدار كهل أُصيب بالوهَن، ويكاد ينهار في أي لحظة، ومع ذلك شعَر بالخجل منه وتوقَّف عن التطلُّع إلى بديعة، فقَد الأمل بأن تكون له، وطأطَأ رأسه احترامًا لعياش، فسار الثلاثة جَنبًا إلى جنبٍ.
وعلى مشارف المدينة، وقف عياش يَستنشق هواءها، أحسَّ بريح عاصفة تُعيده إلى الوراء، تمنَّى من أعماقه لو لم يترك أرضه، ولو بقِي هناك إلى أن يَلفظ أنفاسه الأخيرة فوق أرضه المتصحِّرة بجوار صغاره وزوجته، تطلَّع بعينيه الفارغتين إلى ميمون لبُرهة؛ حيث كان ميمون يُسلم فاكهة لبديعة - وهَبها له أحد المزارعين - بدا عليه الارتباك وهو منحني الرأس، فشعر عياش باطمئنان في أعماقه، وانشرَح صدره الموهون! وقال في رقة بصوتٍ عالٍ:
_فليَشهد الجميع أني زوَّجت ابنتي بديعة لميمون
تراقَص قلب ميمون فرحًا، ثم ركَض إليه، وصار يقبِّل يده لعشرات المرات، فربَّت عياش على كتِفَيه، وقضَمت بديعة الفاكهة في استحياءٍ وهي تتطلَّع إلى ميمون بعيونها الواسعة، وفي تلك اللحظة شعَر بالوهن، فسقط على الأرض وبكى طويلاً حتى ابتلَّت لِحيته، ثم قال:
_ سأعود للقرية، وسأُواجه المحتل إلى آخر نقطة دمٍ وآخر نفَسٍ، فإن كنتما - يا بديعة، ويا ميمون - ستعودان معي، فهيَّا، وإن كنتما ستَقبعان في مدينة الأحلام، فذاك خياركما.
خَطا خُطوات للعودة إلى القرية، فركَض ميمون وراءه مُمسكًا بيد بديعة قائلاً:
_هاجَرنا معًا وسنعود للقرية معًا.