تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : البحر لا يضحك كثيرا



محمد النعمة بيروك
25-10-2012, 02:02 AM
البحر لا يضحك كثيرا (1)

(من أدب الرّحلة)
محمد النّعمة بيْروك


بدتِ القاهرة من الأجواء في عتمة الليل وكأنّها صحن كبير من الجمر المتّقِد، لم أكن أتصوّر أن الطّائرة تمكث فوق هذه العاصمة كلّ هذا الوقت.. سرحتُ في سحر الأضواء فوجدتني أعيد شريط الرّحلة..
لمْ تعدّ لي والدتي وأنا أغادر مدينة العيون كيس السّكر والشاي كما كانت تفعل من قبل، بل أنّها لم تقم كعادتها بقراءة سورة الفاتحة في كفي عندما أكون مسافرا،...
والحقيقة أنّها لم تكن حتّى تعرفني، قبّلتُ رأسها ويديْها وأنا على وشك البكاء، تمالكتُ نفسي حتى لا انخرط في نوبة نحيب لا تليق بالرجال، حاولتُ مغادرة الغرفة بسرعة كي لا أمنح نفسي وقتا للتّأمّل، كنتُ أخدّر نفسي باستمرا:
"سأراها ثانية بحول الله.. سيكون كلّ شيء على ما يرام.. إنهما فقط أسبوعان، وسأعود.."
حتى في باحة المنزل والزقاق حاولت قدر الإمكان قتل لحظات الوداع..
كانت الشوارع بشجيراتها القليلة تعود إلى الخلف ببطء وكأنها تشدّني إلى الوطن، لكنني كنت أعمّق حالة التخدير بأي شيء:
- الأطفال لا يخافون السّيارات
-نعم يا أخي.."غير الله ييحفظ أُ صافي"
هكذا أختلق حوارا مع السائق.
في المطار تنصحني الموظفة بتسجيل اجراءات الرحلة من الدّار البيضاء إلى القاهرة هناك في العيون، تسعدني الفكرة وأشكرها، لأني سأقضي يوما تقريبا في البيضاء في انتظار السفر في اليوم التالي، وسأكون -بالتالي- خفيفا..
يصادفني مكان واسع في الطائرة لأني أجلس في ممرّ إلى باب الطوارئ..
-البارحة تأخرتْ عن الإقلاع لعشرين دقيقة..
هكذا يخاطبني الشاب الذي يجلس حذوي بدون سابق معرفة..
-هل تقف في أغادير طولا ؟
-نصف ساعة.. ولا يُسمح لمتمّمي الرحلة بالنزول عن الطائرة..
لم أحظ برؤية فوقية لأغادير بسبب غفوة، لكنني رأيت البيضاء التي بدت أضواؤها كحبات الذهب المنثور هنا وهناك، لم أفهم ما سرّ العتمة في بعض الأماكن، وما سرّ كثافة النور في أخرى..
لم أكن لأجد أحدا في اتنظاري بالمطار.. رغم أن عبد الرّحيم اقترح عليّ عبر الهاتف أن يستقبلني..
-سأكون في انتظارك بالمطار..
-كلّا.. شكرا.. سأستقل تاكسي..
-إنّه مكلّف
-لا بأس

(يتبع...)

كاملة بدارنه
25-10-2012, 10:57 AM
جميل أدب الرّحلات كجمال المناطق!
أخذتنا معك أستاذ محمّد
تقديري وتحيّتي

محمد النعمة بيروك
25-10-2012, 05:55 PM
جميل أدب الرّحلات كجمال المناطق!
أخذتنا معك أستاذ محمّد
تقديري وتحيّتي

سعيد برفقتكم أختي المبدعة كاملة..

شكرا جزيلا

آمال المصري
25-10-2012, 06:59 PM
مدخل لرحلة يبدو أنها ستكون ماتعة
سأجوب معك بإذن الله ماتجود به علينا
في انتظار تفاصيل الرحلة
دام ألقك أديبنا
وكل عام وأنت بخير
تحاياي

محمد النعمة بيروك
25-10-2012, 11:40 PM
مدخل لرحلة يبدو أنها ستكون ماتعة
سأجوب معك بإذن الله ماتجود به علينا
في انتظار تفاصيل الرحلة
دام ألقك أديبنا
وكل عام وأنت بخير
تحاياي

سعيد أن أحظى بقارئة مثلك، بعد أن عرفتك مبدعة وكاتبة أختي الأديبة آمال..

أرجو أن تمتلكي الصّبر لمتابعتي، فتلك بالتأكيد مؤازرة لي في اتمام هذا العمل..

شكرا جزيلا لكِ.

محمد النعمة بيروك
26-10-2012, 12:18 AM
البحر لا يضحك كثيرا (2)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

أشعر أني في متاهة وأنا أستقل تاكسي بالدّار البيضاء إلى بيت عبد الرّحيم الذي اقترح عليّ المبيت عنده من خلال رسالة إلكترونية، حين استثرتُ كرمَه بسؤال مبطّن:
"هل يوجد فندق غير مكلّف بالقرب من المطار"
"لِمَ تبحث غن فندق ؟.. تعال إلى بيتي"
هكذا ببساطة قررتُ الذهاب إليه بعد أن استوضحته كلَّ التفاصيل لقضاء ما تبقى من اليوم في انتظار موعد الإقلاع...
الموالي.
كان السائق صامتا طوال الرحلة التي لم تكن قصيرة، وكان الظلام دامسا وبدتِ الأشجار التي تسترق النّور من بعيد وكأنّها أشباح..
وصلنا الحي أخيرا..
- شحال عندك ؟
- 300 درهم.
اعتقدتُ للحظة أني لم أسمع جيّدا:
- كم؟
- 300 درهم
- أنت تمزح.. صحيح ؟
- لا خويَ.. واش هدا وقت لمزاح.. راه هادي هي الطريفة..
أخذتُ المحمول واتصلتُ بعبد الرحيم، الذي لاح من بوابة الإقامة بابتسامته العميقة
- مرحبى.. مرحبى
الآن لم يعد صديقا افتراضيا، أو في أحسن الأحوال صديقا أدبيا، على اعتبار أن كتابة "القصة القصيرة" تجمعنا..
يعانقني بحرارة كرمٍ مغربي..
يصطحبني - بعد أن يقلص السائق المبلغ قليلا-
- مرحبى.. مرحبى.. وانهار كبير هادا
نجلس مع إبنيه الصّامتين طيلة الوقت، ونشرب الشاي أمام نشرة الأخبار:
"مقتل ثمانين شخصا في سوريا على إثر قصف بالطائرات"
- لم أعد أشتاق سماع الأخبار
- موْت.. موْت.. موْت..
- ليس فقط لقسوة الخبر، بل لمصداقيته أيضا..
كل شيء مغربي أصيل في البيت بدءا بالشاي والعشاء وانتهاءً بالسّجادة والدرّاعية اللتين قدم بهما إلي:
- الدّار دارك.. ها الصّالون.. ها الكوزينة.. ها الدّوش..
أطلّ من النافذة
يا لوقع المكان في نفسي من مشهد الدّور المعتمة، منذ ساعات كانت تلك الدّور وأرجاؤها تعج بالضجيج.. بصوت الباعة والكادحين.. بأبواق السيارات، والآن لا صوت سوى للريح أو لبعض السيارات المسرعة، والنزر اليسير من أصوات البشر.. مساكين هؤلاء النائمون على عتبة الأحلام حيث هناك متسع للظفر بالعيش الكريم بعيدا عن زحمة الحياة في انتظار غد جديد من الكدح والتعب.

(يتبع..)

محمد النعمة بيروك
27-10-2012, 12:32 AM
البحر لا يضحك كثيرا (3)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

يتكشف الصباح عن خبر مفجع يرتسم على الصفحة الأولى من الجريدة التي أودعها عبد الرحيم من تحت باب غرفتي..
...
"مقتل أكثر من عشرين شخصا في انقلاب حافلة قرب زاكورة"
وعلى الرغم من قسوة الخبر، فقد حزّ في نفسي تحديدا معرفة بعض تفاصيل الحادث من النّاجين، حيث أن السائق أخبر الرّكاب بأن كابل الكوابح قد انقطع، فبدأ الجميع بالتكبير، سرحتْ مخيلتي في تصوّر كيفية مقتل طفلة وأبويها في تلك الأثناء..
لم تعد تستثير الصّحافة غير مأساة كهذه، أمّا الحوادث الصغيرة فحدّثْ ولا حرج، إذ تحصد حوادث السير في المغرب سنويا من القتلى أكثر مما تحصد الحرب في دولة متوتّرة مثل أفغانستان..
قطع تفكيري في كل ذلك صوت الباعة المتجولين القادم من النّافذة خلفي، ممتزجا بصوت التلفاز القادم من الأمام..
لم أكن أعلم حين خرجتُ مع عبد الرّحيم بعد ذلك بقليل بأن اليوم سيكون بيضاويا بامتياز، وأنني سأعيش معه يوما من أيامه الإعتيادية، حيث اصطحبني إلى النادي التابع للمؤسسة التي يعمل بها، أدهشني سحر المكان ونحن نشرب عصيرا ثقيلا مع أصدقاءعبد الرّحيم..

"اعلاش ما كاين نوادي كبيرة ومساحات خضراء فهاد لمدينه.. لأنّا متخلفين"

هكذا ينتقد صديق عبد الرحيم بعض الأوضاع من وجهة نظره..

"يا ودّي راه لبلاد اللي تهمل العلماء ديالها ما فيها خير، شوف أمريكا كيف كرّْمت فيندير فان براون اللي كان كايضربهم بالصوارخ"

نترك المكان حين يتلقّى رفيقي مكالمة من أحمد الذي سأتعرف عليه عندما يقدم بسيارته "الباليو"

- مرحبى بولد الصحرا.. راه كانفكر أنجي عندكم شي انهار..
- الله يا ودّي.. إيوه على الله..
لا يشعر المرء بالملل أبدا مع عبد الرحيم وصديقه البشوش..
أقضي مع الإثنين نصف يوم وأدخل مع عبد الرّحيم في محيط عمله بمكتبه الصغير..
هي ذاتها المشاكل التي يعانيها التعليم في الوطن العربي، فوزير التعليم يريد بدء الدّراسة بعد أسبوع واحد، فيما لم يتقدّم للتسجيل سوى تلميذ واحد..
ننطلق بالسيارة من جديد.. وحين نترجل قليلا -ودون استشارة- أجد نفسي في مطعم للأكلات الفاخرة..

(يتبع...)

عبد السلام هلالي
27-10-2012, 03:17 PM
أخي محمدأنتظر بشوق باقي تفاصيل الرحلة.
مرور للتحية والتهنئة بالعيد. ودام ابداعك.

محمد النعمة بيروك
27-10-2012, 04:33 PM
أخي محمدأنتظر بشوق باقي تفاصيل الرحلة.
مرور للتحية والتهنئة بالعيد. ودام ابداعك.

سعيد بحضورك أخي المبدع عبد السلام..

شكرا جزيلا لك.

آمال المصري
27-10-2012, 11:18 PM
مازلت متابعة بشوق ماذا بعد ؟
كل عام وأنت بخير أديبنا الفاضل
تحاياي

محمد النعمة بيروك
28-10-2012, 12:01 AM
مازلت متابعة بشوق ماذا بعد ؟
كل عام وأنت بخير أديبنا الفاضل
تحاياي

سعيد بمتابعتك أيتها الأخت العزيزة آمال..

مايزال في الجعبة الكثير والكثير، فهو عمل روائي وإن في مجال الرحلة.لذلك منت منكِ الصّبر في المداخلة الأولى ههههه

شكرا جزيلا لكِ

براءة الجودي
28-10-2012, 01:14 AM
من العنوان يبدو أنها جميلة
حجز

لم اقرأ شيئا الآن سأعود إلى القراءة والتعليق لاحقا
في حفظ الله

محمد النعمة بيروك
28-10-2012, 02:30 AM
من العنوان يبدو أنها جميلة
حجز

لم اقرأ شيئا الآن سأعود إلى القراءة والتعليق لاحقا
في حفظ الله

سعيد بمروركِ هذا، وأنتظر حضوركِ اللاحق أختي المبدعة براءة..

جزيل الشكر.

محمد النعمة بيروك
28-10-2012, 02:31 AM
البحر لا يضحك كثيرا (4)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


لم يكن من اللائق أن أسأل عمّا يحدث، فأنا ضيف في آخر المطاف، لكنني لا أرغب أن أبدو ضيفا ثقيلا، لذلك قررتُ في سرّي أن أدفع الحساب رغم غلاء الفاتورة التي يكشف عنها نوع الأكل الذي وُضع أمامنا؛ لحم وسمك ورخويات وسَلَطات وعصائر..
...
ورغم كثرة الزبائن فقد أخذت تنهيدة عميقة لهبّة النّسيم البارد التي شعرتُ بها في هذا المكان الفسيح بعد أن أخذنا حقّنا غير منقوص من حرارة أيلول بالخارج..
كان أحمد في كلّ مرة يَقْدم فيها النّادل بشيء يوصيه بي أكلا:
"وتهلّا لينا فهاد الرّاجل"
لكنّ العصير الذي شربته مع عبد الرّحيم في النّادي حدّ من قدرتي على الأكل، ورغم ذلك كنتُ أحرص على أن أبدو وكأنّ الأكل يعجبني..
تسلّلتُ في غمرة حديثٍ بين الرّجلين إلى صاحبة الصندوق في مدخل المطعم لأدفع الحساب، لكن أحمد لمحني وأنا على وشك فعل ذلك، فأقدم يجري مع عبد الرّحيم الذي أصرّ ألّا أفعل تحت قسم أحمد
"والله أسيدي ما تخلّص"
وفي ما أكمل الرّجلان حديثهما عن بعض إكراهات الدّخول المدرسي، كنت أتأمّل أنواع الأكل البحري على الطّاولة
"ألهذا علاقة بإلغاء اتفاقية الصيد البحري مع الإتحاد الأروبي؟"
قادني هذا التساؤل إلى تأمل الحالة العربية عموما
"لماذا تنعدم التبادلات والتعاملات البينية في العالم العربي رغم الجغرافيا واللغة والدين والتاريخ، وتتجه إلى أروبا والغرب عموما؟"
إنه موضوع معقّد فالدّول العربية الغنية تبحث عن البيئة الصحيحة للإستثمار، وهو ما لا يوجد في الغالب في شقيقاتها الفقيرة، هذا ما يقوله المقرر في مادة "الأوضاع السياسية في الوطن العربي"..
ولأنّي لم أنهِ قراءة الكتاب بعدُ، فقد انعرج ذهني إلى المقرر الدّراسي برمّته، والذي يعتمده معهد البحوث والدّراسات التابع للجامعة العربية..
"سيكون هناك متسع من الوقت في الطّائرة لقراءة الفصل الأخير"

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
28-10-2012, 04:14 PM
البحر لا يضحك كثيرا (5)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

لم يتبقّ على إقلاع طائرتي أكثرُ من ثلاث ساعات..
...
أحاول معانقة رفيقيّ مودّعا فيرفضان..
- سنوصلك للمطار
- كلّا.. هذا كثير
يتدخّل أحمد بطرافته المعهودة:
- سنأخذ منك نقود التاكسي، وحق التجوال، وكلّ شيء، لا تقلق..
تنطلق السيارة في متاهة البيضاء من جديد، لا أعرف في أي اتجاه تسير، منعرجات وطرق بذات الملامح، كل شيء متشابه في هذه المدينة، مشاهد برمّتها تبدو وكأنها تتكرر..
لم يفطن الرّفيقان إلى أني غفوتُ على دفعات في المقاعد الخلفية للسيارة.. كان منظر الشجيرات العابرة إلى الخلف بين كلّ غفوة يجعلني أشعر وكأنّي في سفر آخر..
لاح أخيرا المشهد الرهيب لمطار الدار البيضاء الكبير..
حاولتُ من جديد أن أودّعهما على حافة الدّخول فرفضا مجدّدا، حيث ظلّ عبد الرّحيم إلى جانبي حتى حدود القاعة الخاصة بالمسافرين..
حملتُ معي بسمته العميقة وأنا أوّدعه.. حتى حين بقيتُ وحيدا في القاعة ظلّ وقع معاملته وضيافته يُشعرني بامتنان كبير..
مرّت من أمامي امرأة مسنّة بملامح غربية تبدو وكأنها تجرّ كلّ سنين عمرها في حقيبة كبيرة، تساءلتُ عمّا يفعله أبناؤها في هذه اللحظات.. وهل لها أبناء أصلا.. ثمّ سرحتْ مخيّلتي من جديد..
يا لبعض الأمّهات المسكينات
ويا لبعض الآباء المساكين
و يا لأمّي المسكينة.. أي هواجس تزورها الآن في هذه اللحظة، بعد أن فقدتْ قدرها على معرفة الآخرين ؟.. أتعرف كيف تُعبّر عن ألمٍ تشعر به ؟..
هل يحقّ لي السفر عنها ؟
أسئلة تلحّ عليّ بقسوة، فأجيب بخجل "لها أبناء غيري، والأهمّ أني سأعود"..
أحاول ألّا أفكّر كثيرا في هذا الأمر، عليّ أن أتابع حالة التخدير بالهروب إلى الأمام حتى العودة لنقطة الصفر، حيث أهلي وأحبابي..
لكن بدلا من ذلك يزورني وجه ابني وابنتي الصّغيرة أيضا؛ هل هما نائمان الآن..
وكأنّي أُجمل كلّ شيء، أعيد كلمات التخدير اللحظي قبل محاولة إلغاء الحنين:
"سأعود حتما وقريبا.. سأعود لأرى مسبحة أمّي، وكُحْل زوجتي، ومقلمة ابني، ودمية ابنتي.. سأرى إخوتي و أصدقائي.. وسيكون كلّ شيء بخير"..
أحاول طرد كلّ الصّور من ذهني بالقراءة، لكني وقبل أن أفتح الكتاب أبصر شابا قادما نحوي بابتسامة عريضة..

(يتبع...)

براءة الجودي
29-10-2012, 12:31 PM
عدتُ ...
القصة ممتعة ولي ملاحظات قليلة أتمنى أن تتقبلها بصدر رحب بع إذنك



بل أنّها لم تقم كعادتها بقراءة سورة الفاتحة في كفي عندما أكون مسافرا،...
هذه من البدع ولاتجوز ليتك تصححها أو تبين خطا هذا الفعل بنفس القصة

أليس من الأفضل أن تقول سأستقل سيارة أجرة إن كانت هناك كلمة صيحة تعبر عنها تكون افضل من تاكسي


"يا ودّي راه لبلاد اللي تهمل العلماء ديالها ما فيها خير، شوف أمريكا كيف كرّْمت فيندير فان براون اللي كان كايضربهم بالصوارخ"
ممكن ترجم ياودي راه , همل العلماء ديالها , أمريكا كرمت فيندير , ؟؟؟

لديك أسلوب جميل
شكرا لك وبانتظار التكملة

محمد النعمة بيروك
29-10-2012, 02:33 PM
عدتُ ...
القصة ممتعة ولي ملاحظات قليلة أتمنى أن تتقبلها بصدر رحب بع إذنك



هذه من البدع ولاتجوز ليتك تصححها أو تبين خطا هذا الفعل بنفس القصة

أليس من الأفضل أن تقول سأستقل سيارة أجرة إن كانت هناك كلمة صيحة تعبر عنها تكون افضل من تاكسي

ممكن ترجم ياودي راه , همل العلماء ديالها , أمريكا كرمت فيندير , ؟؟؟

لديك أسلوب جميل
شكرا لك وبانتظار التكملة

أهلا بأختي الفاضلة براءة وهذه المداخلة المفيدة التي أسعدتني للغاية، وهي أوّل رد نقدي مُقوّم أحظى به على هذا العمل..

بالنسبة لـ"قراءة الفاتحة في الكف" لن تكون الصورة معبّرة إن لم تكن كذلك، لأن الموقف بالفعل يُعبّر عن بدعة متمثلة في حالة شعبية وممارسة نقليدية معاشة لا يمكن أن أنفيها عن الواقع بمجرد ألا نذكرها في الرواية، فوالدتي لم تقرأ في الأزهر، بل تربّت في البادية في زمن الاستعمار، ولم تحظ بالتّعليم اللازم، وهذا بالضبط ما توصله الرواية من خلال تلك الممارسة.
أمّا الإشارة لـ"خطإ" الفعل، فليس هذا مجاله أختي الغالية، لأن الرواية كما قال إيديوت :"مرآة المجتمع" تعكس أخطاءه كما تعكس صوابه، وليست درسا وعظيا، ومن القراء من لا يؤمن بما تؤمنين به أختي الكريمة، بغض النّظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، وطبعا لا يمكن أن تكون الرّواية موجّهة لنوعية ملتزنة ومثقفة من القراء دون غيرهم.

بالنّسبة لكلمة "تاكسي" فقد أورتها عن عمد، لأنّها من الكلمات الشائعة التي تعبّر عن ثقافتنا المدنية التي تقبّلتها اللغة العربية من وجهة نظري، وقد استعملها الكتّاب غيري، وهناك رواية شهيرة بعنوان "تاكسي" لخالد الخميسي، وأعتقد أنّها كلمة تضع القارئ في الصورة.. لكنّني سأراجع الأمر بجد، وسأغيّرها في النص إن اتضح لي صواب رأيك المشكور.

أمّا بالنسبة للجملة "آودي راه..."، فهي طبعا باللهجة المغربية، لأن البطل في الدّار البيضاء، لكني لا أملك حق شرحها، لأنّ الرواية لا تتحمل الهوامش، ولأنني لم أشرح اللهجة المصرية مثلا في الرواية، فكيف أفعل مع المغربية، وأرى أن القارئ لا يجب أن يقف عند كلّ شيء، لأنّ السياق هو الذي يحدّد الفكرة، أما "فندر فان براون" فهو العالم الألماني الذي اختطفته أمريكا من برلين بعد هزيمة هتلر، ورحّلته إلى أرضها، حيث أكرمته، واستفادت من خبراته في التصنبع، وغزو الفضاء..

شكرا جزيلا أختي المبدعة براءة لأن مداخلتك كانت تقويمية، وأرجو منك دوام المتابعة والتقويم، خصوصا على مستوى الحدث، لأنني أخشى أن يكون في الرواية ما يتناقض مع بعضها، فأنا أكتب الرحلة وأنا خارجها، وقد لا أذكر كل شيء، كما قد تخونني الذاكرة في تحديد زمن حادث قبل آخر..

وجودكِ هنا مؤازرة كبيرة لي.. وأنا ممتنّ لذلك..

تقبّلي فائق تقديري واحترامي.

ربيحة الرفاعي
29-10-2012, 10:31 PM
يمكن لأدب الرحلات أن يكون لونا ساحرا عندنا يكون السرد بحرف أديب قدير، متمكن من أدوات القص
وقد عشنا هذا السحر الأدبي في الأجزاء الثلاث التي تقدمت

وبانتظار التتمة نبقى

أهلا بحضورك الفاعل في واحة الخير

تحاياي

محمد النعمة بيروك
29-10-2012, 10:55 PM
يمكن لأدب الرحلات أن يكون لونا ساحرا عندنا يكون السرد بحرف أديب قدير، متمكن من أدوات القص
وقد عشنا هذا السحر الأدبي في الأجزاء الثلاث التي تقدمت

وبانتظار التتمة نبقى

أهلا بحضورك الفاعل في واحة الخير

تحاياي

شهادتك دفعة مهمّة بالنّسبة لي لاتمام الرّحلة..

شكرا بحجم الحضور أيتها الأديبة.

محمد النعمة بيروك
29-10-2012, 10:57 PM
البحر لا يضحك كثيرا (6)

(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

السلام عليكم
- وعليكم السلام
- الأخ من اليمن ؟
- لا
- شبهت عليك.. معلش..
- لابأس
- ممكن أقعد معك
- طبعا.. منين انت ؟
- أنا مازن.. من فلسطين.. غزة

هكذا أجدني في دردشة مع جليس غير متوقّع، أستخلص من كلامه أنه متجه إلى القاهرة على نفس الطّائرة.. يأخذنا الحديث في كلّ الاتجاهات، ثمّ يهزّني بسؤال مفاجئ:
- لمَ لا تزور القدس ؟
بدا وكأنه يعرف الجواب مسبقا بهز رأسه وابتسامته..
- أأدخل القدس بتأشيرة صهيونية ؟

وبحماسة وثقة يجيب:

- ولو أخي الكريم.. ماذا يعني رسم تأشيرة في جوازك مقابل زيارة أولى القبلتين وثاني الحرمين، هل فلسطينيو الخط الأخضر مطبّعون بحملهم وثائق إسرائيلية، أم أنهم جاثمون على قلب هذا الكيان، وعندما تمرّالأم الفلسطينية من حواجز الإحتلال وتقف في الشمس لساعات، وتصبر على الذل، أليس هذا من أجل رِؤية إبنها في السجن.. ألا يستحق الأقصى بعض الصّبر مقابل الصلاة فيه.. يا أخي لا تصدّق أن الإسرائليين يرغبون في مجيئكم إلى القدس لتحقيق بعض التطبيع.. إنهم يكرهون قدومكم لأنه يُعبّر عن حبكم للقدس والأقصى تحديدا، لكنهم لا يستطيعون منع مواطني الدّول التي تجمعها بها علاقة من أي نوع..
هكذا يلمّح مازن إلى جنسيتي..
لكنني أنعطف بالحوار إلى زاوية أخرى من المعضلة الفلسطينية
- كيف تحمل أفكارا كهذه، وتقيم في غزة لحدّ الآن؟
- أن تكون غزاويا لا يعني بالضرورة أنك حمساوي
- طبعا، لكن كيف تدبّر أمورك هناك بعيدا عن العمل مع حكومة حماس.
- قبل الانقلاب الحمساوي كنتُ أشتغل مع السلطة الفلسطينية التي توفّر لي راتبا أستلمه لحدّ الآن من البنك في غزة..
-
الآن تتضح لي بعض الأمور التي لم أكن أفهمها.. كانت تدور في رأسي تساؤلات أخرى لكن مكبّر الصوت أعلن وقت التوجه إلى الباب المؤدّي للطائرة..

(يتبع...)

مصطفى حمزة
30-10-2012, 06:51 AM
أخي العزيز ، الأستاذ محمد نعمة
أسعد الله اوقاتك
أدب الرحلات من أكثر أنواع الأدب متعة وفائدة وإثارة ، لما يحتويه من وصف للمشاهدات ، وتسجيل لعادات وتقاليد المجتمعات التي يمر بها الرحالة ، وكذلك لما يقدمه من معلومات في علوم مختلفة . ويختلف كتاب الرحلة عن كتّاب العلوم بأنهم يُقدمون مادّتهم وفيها انطباعاتهم الشخصية ، وأساليبهم الأدبية ...لذلك فإنّ كاتب الرحلة من أدواته اللازمة ثقافة واسعة ، وتمكن من أدوات اللغة وأديبنا الحبيب محمد النعمة ممن يملك ذلك بجدارة
وليس على كاتب الرحلة أن يُعرّب أو يُفصّح ما سمع من لهجات أو كلمات في أثناء رحلته ، بل ليركها على حالها ليوثّق ما شاهده ويُثبته للتاريخ ..
أفدتنا وأمتعتنا وشوّقتنا للمتابعة ..فإيه أديبنا .
أرى أن تكثر من الوصف ، وبدقة ، وتقلل من سرد الأحداث الشخصية الخاصّة ..مجرد رأي
لك تحياتي وتقديري

محمد النعمة بيروك
30-10-2012, 02:04 PM
أخي العزيز ، الأستاذ محمد نعمة
أسعد الله اوقاتك
أدب الرحلات من أكثر أنواع الأدب متعة وفائدة وإثارة ، لما يحتويه من وصف للمشاهدات ، وتسجيل لعادات وتقاليد المجتمعات التي يمر بها الرحالة ، وكذلك لما يقدمه من معلومات في علوم مختلفة . ويختلف كتاب الرحلة عن كتّاب العلوم بأنهم يُقدمون مادّتهم وفيها انطباعاتهم الشخصية ، وأساليبهم الأدبية ...لذلك فإنّ كاتب الرحلة من أدواته اللازمة ثقافة واسعة ، وتمكن من أدوات اللغة وأديبنا الحبيب محمد النعمة ممن يملك ذلك بجدارة
وليس على كاتب الرحلة أن يُعرّب أو يُفصّح ما سمع من لهجات أو كلمات في أثناء رحلته ، بل ليركها على حالها ليوثّق ما شاهده ويُثبته للتاريخ ..
أفدتنا وأمتعتنا وشوّقتنا للمتابعة ..فإيه أديبنا .
أرى أن تكثر من الوصف ، وبدقة ، وتقلل من سرد الأحداث الشخصية الخاصّة ..مجرد رأي
لك تحياتي وتقديري

نصيحة في الصميم أيها العزيز مصطفى، فالوصف هو الركيزة الأولى لانجاز عمل ناجح في أدب الرحلة..
فقط أريد أنّ أشير إلى أن فكرة العمل هي رواية في هذا الأدب تتحدث عن رحلة إلى مصر، وكما تلاحظ فيما سبق فإن السارد لم يدخل أرض الكنانة بعد..
أتمنى أن تؤازرني بوجودك أيها الأديب، وألا تتردد في إبداء الملاحظات ونقد العمل، لأنني أنوي طبعه في كتاب..

شكرا بحجم الحضور أيها الأديب.

محمد النعمة بيروك
30-10-2012, 10:46 PM
البحر لا يضحك كثيرا (7)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

في طريق العبور إلى الطّائرة أنجزتُ آخر اتصال عبر المحمول مع زوجتي، لأنني لن أتمكن من الاتصال القادم إلا من الرّقم المصري عند الوصول إلى القاهرة..
...
وكأنّني أسجّل وصيّتي، كنتُ أوصيها بالأطفال، وأن تبلّغ سلامي للجميع..

"لا تنس دعاء الركوب"

هكذا تذكّرني عند كلّ اتصال..

بدتِ الطّائرة من الخارج كطائر نورس كبير يفرد جناحيْه ليحمي صغاره من الشمس.. إنّه منظر رائع كان يتقلّص كلّما اقتربنا أكثر..
ورغم أنّها ليست المرّة الأولى التي أصعد فيها طائرةً، فقد عاودني الشعور بالرّهبة.. أحيانا أشعر أن لديّ فوبيا الطّيران، لكنني أحاول عدم التفكير في الأمر كثيرا..
جلستُ في مقعد موال للنّافذة في وسط الطائرة تقريبا..
وعندما مرّ مازن من حذوي متّجها إلى مكانه خلفي، لفت اتباهي لشيء غير اعتيادي

- أنت محظوظ، يوجد متسع أمامك..

لم أفهم كلامه إلا عندما لا حظتُ أن الفسحة ضيقة بين المقاعد والتي أمامها عند الآخرين، وعندما تأمّلتُ الوضع وجدْتُني أجلس في أحد الممرّات العرْضية للطّوارئ..
لم تكن الطّائرة مكتظّة، لذلك أشرتُ لمازن الذي كان يجلس وحيدا بالقدوم والجلوس إلى جانبي، مادام المكان شاسعا نسبيا بالمقارنة مع الصفوف الأخرى،

- والله فكرة.. أوّلا نمدّد أرجلنا كما نشاء، وثانيا نهرب بسرعة من باب الطّوارئ إذا حدث شيء.. "بس على الله ما يقولولنا نرجع مكانّا"

ضحكتُ معه ملء فِي، لكنّ الصّوت القادم من قمرة القيادة عكّر صفوي قليلا

"نعتذر عن هذا التأخر البسيط بسبب عطب يتمّ إصلاحه"

-عطبٌ في الطّائرة.. يا سلام..

هكذا يُعلّق مازن، لكنني أحاول أن أبدو متماسكا

وعند الإقلاع تأتي رسالة أخرى تُعمّق حالة الارتباك لديْ:

"نريد أن نعلمكم أن الطّائرة ستتعرّض لبعض المطبّات الهوائية فوق الجزائر.. نرجو لكم رحلة مريحة معنا"

ورغم أن الطّائرة لم تقلع بعدُ، فقد سمعتُ البعض يقرأ القرآن، ورأيتُ آخرين متسمّرين بدون حراك، وهو ما لم أعهده كثيرا في الرّحلات السّابقة..

قرأتُ دعاء السّفر.. ثم رفعتُ سبّابتي خلسة وكأنّني أخشى أن يتهمني أحد بالجبن، ونطقتُ الشّهادتيْن.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
30-10-2012, 10:46 PM
البحر لا يضحك كثيرا (7)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

في طريق العبور إلى الطّائرة أنجزتُ آخر اتصال عبر المحمول مع زوجتي، لأنني لن أتمكن من الاتصال القادم إلا من الرّقم المصري عند الوصول إلى القاهرة..
...
وكأنّني أسجّل وصيّتي، كنتُ أوصيها بالأطفال، وأن تبلّغ سلامي للجميع..

"لا تنس دعاء الركوب"

هكذا تذكّرني عند كلّ اتصال..

بدتِ الطّائرة من الخارج كطائر نورس كبير يفرد جناحيْه ليحمي صغاره من الشمس.. إنّه منظر رائع كان يتقلّص كلّما اقتربنا أكثر..
ورغم أنّها ليست المرّة الأولى التي أصعد فيها طائرةً، فقد عاودني الشعور بالرّهبة.. أحيانا أشعر أن لديّ فوبيا الطّيران، لكنني أحاول عدم التفكير في الأمر كثيرا..
جلستُ في مقعد موال للنّافذة في وسط الطائرة تقريبا..
وعندما مرّ مازن من حذوي متّجها إلى مكانه خلفي، لفت اتباهي لشيء غير اعتيادي

- أنت محظوظ، يوجد متسع أمامك..

لم أفهم كلامه إلا عندما لا حظتُ أن الفسحة ضيقة بين المقاعد والتي أمامها عند الآخرين، وعندما تأمّلتُ الوضع وجدْتُني أجلس في أحد الممرّات العرْضية للطّوارئ..
لم تكن الطّائرة مكتظّة، لذلك أشرتُ لمازن الذي كان يجلس وحيدا بالقدوم والجلوس إلى جانبي، مادام المكان شاسعا نسبيا بالمقارنة مع الصفوف الأخرى،

- والله فكرة.. أوّلا نمدّد أرجلنا كما نشاء، وثانيا نهرب بسرعة من باب الطّوارئ إذا حدث شيء.. "بس على الله ما يقولولنا نرجع مكانّا"

ضحكتُ معه ملء فِي، لكنّ الصّوت القادم من قمرة القيادة عكّر صفوي قليلا

"نعتذر عن هذا التأخر البسيط بسبب عطب يتمّ إصلاحه"

-عطبٌ في الطّائرة.. يا سلام..

هكذا يُعلّق مازن، لكنني أحاول أن أبدو متماسكا

وقُبيل الإقلاع تأتي رسالة أخرى تُعمّق حالة الارتباك لديْ:

"نريد أن نعلمكم أن الطّائرة ستتعرّض لبعض المطبّات الهوائية فوق الجزائر.. نرجو لكم رحلة مريحة معنا"

ورغم أن الطّائرة لم تقلع بعدُ، فقد سمعتُ البعض يقرأ القرآن، ورأيتُ آخرين متسمّرين بدون حراك، وهو ما لم أعهده كثيرا في الرّحلات السّابقة..

قرأتُ دعاء السّفر.. ثم رفعتُ سبّابتي خلسة وكأنّني أخشى أن يتهمني أحد بالجبن، ونطقتُ الشّهادتيْن.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
31-10-2012, 04:29 PM
البحر لا يضحك كثيرا (8)

(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


استوتِ الطّائرة في الأجواء وصار بوسعي أن أغفو قليلا كما كنتُ أفعل في رحلات سابقة، لكن النّوم رفض المجيء هذه المرّة متعلّلا بحالة التوجس التي ترافقني.. أمّا القراءة فلم أعد أملك القدرة ولا التركيز على استعاب فكرة واحدة قبل أن تعبر الطّائرة الأجواء الجزائرية..
...
كان مازن يتتبّع وضع الطائرة على الشاشة التي تعرض كلّ المعلومات عن الرّحلة، فيما كنتُ أطلّ من حين لآخر من النافذة الصغيرة حيث تبدو السحب من الأعلى وتحت ضوء القمر وكأنّها منعكسة في جدول ماء.. كنتُ أرى مناظر رهيبة لتعرجات سحبية على مدى البصر، وكأنها كتل من الصّوف الأبيض، وبين تشققاتها كنت أرى بقعا سوداء رهيبة المنظر، تبدو في بعضها حفنات من نقط النّور التي تشي بوجود مدينة أو قرية ما، في مكان ما..
تداعبني التّخيّلات..
من يعيش هناك، وكيف؟
هل يحملون ذات الهموم؟ أ لهم ذات المشاكل؟
كم هو مضحك وصغير هذا الإنسان الذي لا تبدو المدينة التي يعيش فيها برمتّها أكبر من حبّات أُرزٍ..
ما أتفهك وما أصغرك أيها الإنسان..
لكن أليس هذا الإنسان هو من صنع هذه الطّائرة الضخمة بالمقارنة بحجمه؟ ألم يغز الفضاء بفكره وآلاته..
هكذا يتجاذبني التأمّل، فأجدني أهمس بنَفَس مسموع كأنّه لا إرادي:

وتحسبُ أنّك جرمٌ صغير
و فيك انطوى العالمُ الأكبَرُ

ثم أعود لتأمّل عالمي مع الراكبين والطّاقم..
يا إلهي.. أي عزلة نحن فيها الآن.. بعيدون عن التراب وبعيدون عن السّماء.. بعيدون عن الأهل والأحباب.. بل أنّا نكتشف أنّا بعيدون حتّى عن أنفسنا، حين لا تَحْدث المراجعة الذاتية والتأمل في الكون إلا في ما نعتقد أنه حالة ضعف بعيدا عن الأرض..
هكذا أحاور نفسي في مونولوج فلسفي، قبل أن يأتي صوت امرة من القمرة:

"سيداتي وسادتي نرجو شدّ الأحزمة.. بعد قليل ستدخل الطائرة في مطبّات هوائية"..

(يتبع...)

ناديه محمد الجابي
31-10-2012, 06:11 PM
أخذتنا معك فى رحلة ماتعة تعرفنا فيها على المغرب وعلى اللهجة المغربية
والكرم المغربى العربى الأصيل .. مشاهد حية وتصوير مباشر جعل القراءة
غنية بالمعلومات وممتعة ومسلية .

أعجبنى حوار البطل مع نفسه وهو فى الطائرة .. من الغريب أنها نفس أفكارى
وكلماتى عندما أشعر بإتساع الكون من حولى وأنا فى الطائرة فأسبح لله الذى
سخر ذلك العالم الواسع ليكون فى خدمة الإنسان الذى كرمه الله واصطفاه من
بين سائر الكائنات .

أخى الفاضل .. لقد شدينا الأحزمة معك
وفى شوق وشغف نتابع ...
حفظك الله وحرفك وإبداعك .

محمد النعمة بيروك
31-10-2012, 09:02 PM
أخذتنا معك فى رحلة ماتعة تعرفنا فيها على المغرب وعلى اللهجة المغربية
والكرم المغربى العربى الأصيل .. مشاهد حية وتصوير مباشر جعل القراءة
غنية بالمعلومات وممتعة ومسلية .

أعجبنى حوار البطل مع نفسه وهو فى الطائرة .. من الغريب أنها نفس أفكارى
وكلماتى عندما أشعر بإتساع الكون من حولى وأنا فى الطائرة فأسبح لله الذى
سخر ذلك العالم الواسع ليكون فى خدمة الإنسان الذى كرمه الله واصطفاه من
بين سائر الكائنات .

أخى الفاضل .. لقد شدينا الأحزمة معك
وفى شوق وشغف نتابع ...
حفظك الله وحرفك وإبداعك .

يا لسعادتي بمرورك من هنا أختي القاصة نادية..
ردكِ أشعر معه أني استطعتُ أن أبلّغ بعض الأحاسيس وأن أعبّر عن بعض الهواجس، وأن أعكس بعض الصور من الرّحلة..
شكرا جزيلا للقراءة والوقت اللذين أعطيتِهما للرحلة..
وأرجو منكِ الصبر معي و دوام القراءة، ولا تترددي في التّقويم والتصحيح..
شكرا بحجم الحضور الطيب أيتها الأخت الأديبة

محمد النعمة بيروك
01-11-2012, 05:39 PM
البحر لا يضحك كثيرا (9)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


ربّما لو كنتُ أعرف معنى عبارة "مطبّات هوائية" لمَا توجستُ خيفةً ممّا سيحدث، ذلك أنّها لم تكن أكثر من اهتزازت بسيطة ومتفرقة ومتباعدة أيضا.. كما أنّها لم تستمرّ أكثر من عشرين دقيقة..
...
حين أعلنتِ المضيفة عن خروجنا مجال المطبّات، وجدتُني أستطيع النّوم أخيرا..
أيقظني مازن حتى لا تفوتني الوجبة الوحيدة التي يقدّمونها في الطّائرة، وعندما وصلَنا المضيفُ، أخذتَ تنهيدة عميقة لمجرّد رؤية الشاي..
ألقيت نظرة على الشاشة التي تعرض تفاصيل الرّحلة، فوجدتنا لم نخرج الأجواء التونسية بعد، وذلك يعني أنّنا لم نعد بعيدين عن البحر الأبيض المتوسط، ورغم اعتقادي بأني أعاني فوبيا الطّيران، فأنّي لا أشعر بالخوف أكثر إلا فوق البحر، لذلك كنتُ أحاول ألّا أعلم، لكن مازن -الذي يتابع باهتمام وتركيز الشاشة المعروضة لتفاصيل الرحلة- يُخبرني بكل براءة بعد ذلك بقليل بأننا فوق المتوسط..
أتشجع على غير عادتي وأطل من نافذتي ليعتريني شعور رهيب.. لم أر قطرة ماء واحدة، رغم اختفاء السحب، لكنّ الظلام كان يتخذ شكل البحر.. ربّما كانتِ الرهبة منه على إثر ذكريات وحكايات شتى في الطّفولة.. فقد سمعتُ أن البحر يقتل الصياد بعد أن يبتسم له أكثر من مرّة.. كنتُ أطردُ من ذهني صور رهيبة لسقوط الطّائرات في البحر.. قد تكون رواسب أحلام و أفلام وحقائق على الأرض.. فأنا أعرف بالإسم بعض قتلى الهجرة السرّية من معارفي وأقربائي.. أولئك الذين حلموا بتغيير واقعهم المادي، فتغيّر بالفعل، ولكن في عالم آخر.. وإلى الأبد.. إنهم مثلي، حملوا هدفا، وسعوا إليه.. صحيح أنّ هدفهم كان ماديا، لكنّه هدف في آخر المطاف، قد لا يَفْرق كثيرا عن هدفي في المعرفة والتحصيل.. صحيح أن الوجهة مختلفة، فأنا لاأزال في البلاد العربية، لا أخترق غير الحدود الوهمية التي وضعها الإستعمار، بينما يضطرّ المتسلّلون إلى إلى الثقافة الغربية إلى حرق هوياتهم العربية من أجل ألّا يُعادوا إلى بلدانهم.. كلّهذا من أجل المال والإقامة لأنّهما حاجة ملحّة قد تقودهم للحصول على جنسية غربية تفرض على حكوماتهم تقديم الحد الأدنى من احترامهم كبشر..

(يتبع...)

عبد السلام هلالي
01-11-2012, 05:50 PM
وتستمر الرحلة، المتعة ، التشويق. وما زلت أتتبع خطواتك في لهفة وأقتفي آثارك في البر وأحلق معك في السماء.
استمر في امتاعنا وليت الرحلة تطول وتطووووووول.
حياك الله أيها المبدع.

محمد النعمة بيروك
01-11-2012, 09:38 PM
وتستمر الرحلة، المتعة ، التشويق. وما زلت أتتبع خطواتك في لهفة وأقتفي آثارك في البر وأحلق معك في السماء.
استمر في امتاعنا وليت الرحلة تطول وتطووووووول.
حياك الله أيها المبدع.

يشرفني تتبعك أخي العزيز عبد السلام..

ممتنّ لكلماتك التي تنم عن أدبك ودماثة خُلُقك..

شكرا جزيلا..

محمد النعمة بيروك
02-11-2012, 03:13 AM
البحر لا يضحك كثيرا (10)


لا أزال سارحا في سحر أضواء القاهرة وكأنني في حالة تخدير.. وعندما تبدأ الطائرة في الإقتراب من الأرض تبدأ الأضواء تتكشف عن أبنية في حجم علب الكبريت، محاطة ببعض الأشجار التي تبدو كالدّبابيس الصغيرة..
...
أول ما ينطبع في ذهن أي راء للقاهرة من الأعلى هو أنّها مبنية على صحراء..
خلال عمليّة الهبوط ينطق مازن بعبارة واحدة يبدو بها وكأنه يحدّث نفسه

- سيأخذونني إلى السجن

لا أعرف إن كان يقولها بهزل أو بجد، لكنها هزّتني من الدّاخل..

- أتمزح
- سترى بعينك

في الطريق إلى المعبر الأمني، أفهم من مازن أي نوع من الاعتقال يقصد..
- سيجمعون كل الفلسطنيين ويحملونهم على متن سيارة أو أكثر إلى معبر رفح حيث بوّابة الدخول إلى أكبر سجن في العالم/غزة..

- أيحدث هذا بعد الثورة، وفي ظل حكم يوصف بأنّه إسلامي؟

هكذا أسأله، ولا يجيب..
كنتُ أسمع من بعض مؤيّدي نظام مُبارك أنّه كان يمنع الغزّاويين من دخول مصر حفاظا على بقائهم في أرضهم، ونكاية بالصهاينة الذي يسعون لطردهم من ديّارهم، و حتى لا تُقام مخيمات لاجئين جدد في مصر، كما هي في بقية دول الطّوق.. لذلك نظرتُ إلى الأمر من هذه الزاوية.. لكنّني لستُ مقتنعا تماما بما سمعتُ..

عانقتُ مازن بحرارة وأنا أغالب الدّمع.. أخذتُ رقم هاتفه، وملامح وجهه.. وعبرت الحاجز الأمني إلى.. مصر.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
03-11-2012, 12:14 AM
البحر لا يضحك كثيرا (11)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


غيّرتُ بطاقة المحمول خاصّتي، ونقودي، ولهجتي.. وركبتُ تاكسي إلى "حدائق المعادي" حيث بدأتُ أشعر أنّني فعلا في مصر.. وطّد هذا الشعور رؤية قنّينة الغاز التي تسير بها السيارة حين كنتُ أضع حقيبتي في مخزنها الخلفي، فليس في مدينة العيون شيء اسمه سيارة تسير بالغاز.
...
لم يكن الفجر بعيدا، لذلك كانت الطريق سالكة للسير بسرعة، حيث بدتْ خالية إلا من مجموعات كثيرة من الكلاب والقطط التي تعيش –ضدا عن العالم- في سلام ووفاق، رأيتُ في ما سبق القطط تلهو دون خوف من الكلاب، ولاحظتُ أنّ النّاس –بما فيهم الأطفال- لا يخشونها إطلاقا..

كان السائق ذو اللهجة الصعيدية ينتزع الحديث منّي من حين لآخر:

- انت عارف ده إيه ؟
- لا والله.. ما عرفش
- أمّال ما تسألشي ليه.. دَ بيت المخسوف
- المخسوف مين ؟
- -الرّيس اللي في السجن..

هكذا يجيب عن أسئلة يقترحها هو، أو يعطي ملاحظات معينة عن الطّريق مثلا:

-أنا كنت هخذ الطّريق الدّوّار، بس قلت الشوارع فارغة دِ لوقت..

إنّها الشوارع التي تحمل جينات مصر في شكل مساجدها ذات الصوامع المدوّرة.. في هيئة بناء مؤسساتها الكبيرة.. في ساحاتها الدّائرية الخضراء الواسعة رغم قحولة الأرض.. حتّى في دُور الأزقّة البسيطة.. بل حتى في أهل الليل من العبّاد العابرين إلى الفجر، والعاملين، والمتسكّعين..

لم أعد أشعر بالغربة لمجرّد دخول الحي.. إنّه "حدائق المعادي" حيثُ أقمتُ في مجيئي السّابق، ولازلتُ أقيم..
حزّتْ في نفسي رؤيةُ أكوام النفايات هنا وهناك، لأنّني كنت آمل أن يتغيّر شيء خلال غيبتي..
سمعتُ تحليلات شتى للحالة المزرية التي تعيشها القاهرة من هذا الجانب، قيل أن شركات أجنبية كانت تقف على هذا الأمر، فاسحبت بسبب "انعدام الأمن" خلال وبعد الثورة.. قيل أيضا أن قتل الخنازير في مصر إبّان موجة "انفلوانزا الخنازير" جعل فئة معينة من الشعب المصري تكُفُّ عن جمع الأزبال التي كان كلّ ما يؤكل منها يُعطى لتلك الحيوانات..

"لكني رأيتُ بأمّ عيني أشخاصا يرمون الأزبال في الأزقة والشوارع، بدون حتى توضع في أكياس"

هكذا أبديتُ ملاحظتي لزميلي الدّراسي خالد ذات يوم..

"وماذا يفعلون.. حتى إن وُضعتْ تلك النّفايات في أكياس، فستأتي الكلاب والقطط وتمزّقها"

صعدت درج العمارة وأنا أفكّر في كل ذلك، وعند وصول باب الشقة، وقبل أن أُخرِج المفتاح من جيْبي، أسمع حركة شخصٍ يتّجهُ إلى الباب من الدّاخل..

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
04-11-2012, 01:18 AM
البحر لا يضحك كثيرا (12)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


...وعند وصول باب الشقة، وقبل أن أُخرِج المفتاح من جيْبي، أسمع حركة شخصٍ يتّجهُ إلى الباب من الدّاخل..
...
إنّه "الخليل" الذي يسبقني إلى الباب.. في الحقيقة أشعر أنّه يسبقني إلى كلّ شيء.. كعادته بشوشا بوجهه الوضّاء الأبيض، ولحيته المهذبة، وسنواته الثلاثين يبادلني كلمات السلام وكأنّه يهمس كي لا يوقظ عشيرنا الناّئم..
تدهشني مبادرات الخليل، كأنّه يعرف موعد قدومي بالثانية.. يقودني إلى فراش جاهز.. ثمّ ينسحب بهدوء إلى غرفته..
يوشك آذان الفجر أن يملأ السماء، لذلك انتظرُ أن يصدح السيّد المازني –مؤذنُ الحي- بصوته العذب..
***
انبلج صبح القاهرة بصياح الباعة التجوّلين، وصوت ماكينة المخبز أسفل العمارة، وزئير محرّكات السيارات، والدّرّاجات النّارية.. فهرب النّوم.. وعندما تسلّلتْ أولى خيوط الشمس إلى وجهي اتّحد البصر مع السّمع، فلم أجد بدّا من القيام..

كان عليّ أن أدفع وثائق الإقامة اليوم في المُجمّع الواقع في ميدان التحرير، حتى أستغلّ وقتي في القاهرة، بحيث أتمكن من سحب الموافقة قبل مغادرتي مصر..
خرجتُ برفقة سويلم عشيري وزميلي في الفصل الدّراسي الذاهب إلى المعهد الذي ندرس فيه..
ركبنا "الميترو" حيث شعرتُ أني أنصهرُ من جديد مع هؤلاء الكادحين في العاصمة..

لا أحد ينتبه لك أو يراقبك مهما فعلت.. إلا إذا سقطتَ مغشيا عليك..
كان اسويلم قد وجد مكانا للجلوس، لذلك كنت أقف في ركن القاطرة وأتأمّل الناّس وأحوالهم في هذا البلد العريق..
كأنّي أخاطب شخصا آخر كنتُ أحدّث نفسي بينهم:
"سترى ما يندر أن تراه في بلدك، قد ترى شابّا بتيشورت عصري وسروال جينز يقرأ القرآن الكريم بصوت مرتفع.. قد ترى شيخا كبيرا بقلنسوة ومسبحة يحمل جريدة.. سترى رجالا يهبّون واقفين لترك أمكنتهم لسيّدة واحدة.. قد ترى مرضعة تمدّ صغيرها وهي تصعد الميترو لرجل لا تعرفه، فيعيده إليها عندما تجلس.. أنا لا أرى الصّورة من زاوية الرجل على قدر نبلها، بل من زاوية تلك المرأة نفسها.. كيف تجرؤ على مدّ صغيرها لرجل لا تعرفه؟
نعم.. قد تصادف نشالا أو بلطجيا في مكان ما، لأنّك في النّهاية لستَ في مدينة أفلاطون.. لكنّك بالتأكيد ستأخذ حقّك كاملا من مشاهد النّبل والأصالة..
كأنّ الفقر يورث النّبل.. هم هؤلاء المُتعبون أكثر نبلا وطيبة.."
فكّرتُ في كلّ ذلك وأنا أتعمّق أكثر في ملامحهم.. لازلتُ أصرّ أن المرء لن يعرف شعبا دون أن ينصهر معه،.. دون أن يأكل "عيشه".. ويساوم باعته.. ويزاحم أهله في باصاتهم الصغيرة.. دون أن يشتم رائحة عرق الكادحين منه..

كلّ هذا وسيلة حصول على صورة ضوئية لجينات شعب، ورغم ذلك فقد رأيتُ اسويلم الجالس بينهم يحمل ذات السحنة السّمراء المائلة إلى النضرة.. لقد كانت ذات السحنة، لأنّها ذات العروبة..
قد تختلف التصرّفات وبعض العادات، لكن الدّم هو ذات الدّم الذي يجري في العروق.. هو ذات الدّم الذي يفور لمنظر الموت في فلسطين أو العراق أو ليبيا، وقد يفور لمشهد الظلم في أي مكان..

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
04-11-2012, 10:16 PM
البحر لا يضحك كثيرا (13)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


يشير إليّ اسويلم بأنه سينزل في "السيدة زينب"..

- نلتقي في البيت
- حسنا

أستمرّ في تأمّل محيطي الخاص.. أتأمّل في نفسي وأنا في عاصمة المعز..في كلّ متر مربّع يحتويني هنا أو هناك في هذا البلد الكبير الذي أشعر في كلّ مرّة وكأنّي أزوره لأوّل مرّة.. أريد أن أتمعّن في كل شيء فيه.. أريد أن أحسّ بكلّ ثانية.. بكلّ خطوة.. بكلّ مشهد.. بكلّ كلمة..

أنزل في محطة "السّادات" وأتجه إلى الأعلى لأجد نفسي في ميدان التحرير الشهير..
حيث ترى من هناك البناية العملاقة للمجمّع..
يا لهول المشهد فيه، مئات الناس في صعود، ومئات الناس في نزول عبر الدّرج، في حركة مستمرّة لا تكلّ حتى انتهاء الدّوام.. ترى كلّ الجنسيات تقريبا..
أتجه إلى بغيتي التي أعرفها جيدا، أشتري طوابعَ، أمرّ بصاحب المطبوعات المخصّصة للإقامة حيث أعبّئ مطبوعا، أرفقُه بالقيْد الذي يُثبت استمراري في الدّراسة بالقاهرة، أتّجه إلى الشبّاك 25 حيث أقف في طابور يشمل عراقيين وسوريين ومغاربة.. لكنّني أتذكّر فجأة أخي مازن حين ألاحظ أن الفلسطينيين قد خصّصوا بشباك آخر منعزل عن بقية الجنسيات العربية..

يصل دوري سريعا.. تأخذ الموظفة في تصفح الوثائق، لكنّها تقف عند "القيد":

- اسمك غير واضح.. قلنا لهم أكثر من مرّة أن يكتبوا الأسماء بخط واضح..

ثم تنادي موظفة تبدو أكبر سنا ودرجة، تُمعنُ هذه الأخيرة النّظر في الإسم، ثمّ تنظر إلي:

- آسفين.. الخط مش واضح

- فأردّ تلقائيا:

- طيب.. إيه دنبي أنا
- ما لكشي دنب.. انتا صعبان علينا.. بس الخطأ بتاعهم همّ
- طب ما تحتجو انتو عليهم إداريا.. مش انتو جهتين إداريتين.. مش تكتبو لبعضيكم.. واللا إيه
- بس همّ بعتولنا القيد ده معاك انتَ.. مش في رسالة إدارية..

وهكذا أشعر أن الحوار سيدخل حلقة مفرغة، فأنسحب بخيبة أمل من الحصول على الإقامة على الأقل اليوم، وربّما لن أحصل عليها خلال تواجدي الحالي، لأن الوقت سيضيع في انتظار استصدار قيْد جديد من المعهد..

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
05-11-2012, 11:37 PM
البحر لا يضحك كثيرا (14)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


أعود من حيث أتيتُ..
...
...
مازال ميدان التحرير يحمل آثارا من بقايا الثورة، كتابات على الأسوار والتّماثيل، وبعض الشّباب الجالسين في وسطه، أو الواقفين على جنباته.. أعلام البلاد.. رسوم انطباعية لبعض الشهداء.. وأخرى تمعن في إبراز وجه شرّير للرئيس السابق..
حتى ما يعرضه الباعة الناشرون والمتجوّلون يُجمل صفات الثورة.. "تيشورتات" بصور ورسوم للشهداء، "لفحات" بألوان علم مصر، صور لميدان التحرير نفسه.. حتى الأقلام وحاملات المفاتيح تحمل ذات الملامح..

ألاحظ بعض التوتر في الجهة الموالية لمتحف مصر، بعض الشباب يحملون الأعلام ويجرون ويصرخون وكأنّهم ملاحَقين.. أخشى أن يتطوّر الأمر فأعدو بدوري إلى مدخل المترو.. أكتشف أن كثيرين غيري قد اتخذوا نفس القرار..أقطع الشارع مع الجموع بصعوبة بالغة، في خضمّ ضجّة كبيرة يبدو أنّها تتطوّر.. أسمع تكبيرات، وألمح شابّا يحمل راية تحمل عبارة "لاإله إلا الله".. ينتابني تشوش ذهني، فانشغل بمحاولة فهم ما يحدث، وفي نفس الوقت العمل على الوصول بسرعة إلى مدخل الميترو.. أشمّ رائحة مثل رائحة الكبريت، ثم أكتشف أنه الغاز المسيل للدّموع عندما تبدأ عيناي في السّيلان.. يصبح لديّ هدف واحد أوحد هو الوصول إلى المدخل في أسرع وقت قبل أن يُغمى عليّ.. يزداد الهرج والمرج وتختلط الصيحات والشعارات بأبواق السيارات، تسقط نظارتي دون أن ألتفتَ إليها.. أتلمّس محفظتي فهي الأهمّ..
أصل أخيرا إلى مدخل الميترو مع عشرات مثلي حملهم الخوف إلى هناك، أنزل الدّرج مهرولا، أبلغ الأنفاق مع مئات من العابرين في كلّ الاتجاهات.. أوجّه النظر إلى كل لوحة أو لافتة تشير إلى اتجاه حُلوان.. أسمع أصوات طلقات أعتقد أنّها نارية بعيدة المصدر..
أخيرا أقف على عتبة القطار الذي يتجه إلى "حدائق المعادي" مع حشود غفيرة من الناس..

أسمع رجلا يحدّث آخر:

"كلّ هذا من أجل فيلم تافه لا يستحق حتى أن نناقشه، فكيف أن نخرج للاحتجاج عليه"

أفهم أخيرا لماذا كان التكبير، ولماذا لمحتُ راية التوحيد..

(يتبع...)

ناديه محمد الجابي
06-11-2012, 11:50 AM
رائع أيها الكاتب البديع ..
هكذا هى العين الغريبة .. نافذة .. ناقدة . .
قادرة على إستيعاب الصورة وكأنك تلتقطها
بآلة تصوير دقيقة , وقد استطعت هنا أن تكون مسجلا
لأحداث مصر الأخيرة فى الفترة الأخيرة بكل إيجابياتها وسلبياتها
ومن أهم هذة السلبيات الأزلية فى مصر : الروتين المميت لموظفى
الدولة والمتفننين فى حرق دم كل من له طلب والمتمثلين هنا فى
موظفى ( طلب الأقامة ) . .
مازلنا نتابع بشغف وشوق فلا تتأخر علينا
سلمت والأبداع .

محمد النعمة بيروك
06-11-2012, 02:31 PM
رائع أيها الكاتب البديع ..
هكذا هى العين الغريبة .. نافذة .. ناقدة . .
قادرة على إستيعاب الصورة وكأنك تلتقطها
بآلة تصوير دقيقة , وقد استطعت هنا أن تكون مسجلا
لأحداث مصر الأخيرة فى الفترة الأخيرة بكل إيجابياتها وسلبياتها
ومن أهم هذة السلبيات الأزلية فى مصر : الروتين المميت لموظفى
الدولة والمتفننين فى حرق دم كل من له طلب والمتمثلين هنا فى
موظفى ( طلب الأقامة ) . .
مازلنا نتابع بشغف وشوق فلا تتأخر علينا
سلمت والأبداع .

سعيد بردّك هذا أيتها المبدعة القارئة..

تشرّفني متابعتك..

جزيل الشكر والتقدير.

محمد النعمة بيروك
07-11-2012, 04:47 PM
البحر لا يضحك كثيرا (15)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


أقرّر عدم ركوب القطار القادم لهول ما ينتظره من حشود.. يأتي فينزل القليل من النّاس ويصعد ضِعفُهم.. أتعجّبُ لحجم التزاحم، تبدو الأبواب على وشك أن تُنتزع من إطاراتها من شدّة الضغط، كأن تهافتهم للركوب كان بحثا عن أمان مفقود وتشبّث بأمل آت "لم يفته القطار بعد".. ربّما لأنّني لا أحمل ذات الهمّ بالقدر نفسه، كنت أنتظر القطار الموالي بصبر، لكنّ ذات المشهد كان يتكرّر في كلّ مجيء جديد، ومع ذلك أقرّر المزيد من الصّبر والانتظار.. آخر شيء يمكن أن أفكّر فيه هو العودة لميدان التجرير لأخذ سيارة أجرة من هناك..
...
أستغلّ وقت انتظاري للإحساس بأنّني فعلا في مصر، أتأمّل كعادتي في أحوال النّاس، الواقفين على عتبات السّكك، بالطّبع لا أعرف تفاصيل حياة كلّ شخص يقف هنا في محطّة الميترو، لكنّني أعرف أنّ معظمهم هرب للتوّ من الميدان خوفا وجزعا، يبدو هروبهم من هناك حالة صغرى في حالة أعمق، قد لا يكون ميدان التحرير سوى تجسيد صغير للوطن نفسه، فقد تنوّعتْ حشوده إبّان الثورة، وهاهم الإخوان يسيطرون عليه اليوم، لكن الميدان تجسيد يمكن الهروب منه، فهل يمكن الهروب من الوطن الأكبر، قد تقرأ في عيون النّاس الحيرة والتّرقب، كما قد تقرأ الأمل والرّجاء، لكنك لن تقرأ في تلك الوجوه رغبة في التّخلّي عن مصر في المحنة التي تمرّ بها، إنّهم هنا في وطنهم صابرون ومصابرون، ساعون في تحصيل كلّ شيء: المال والعِلم والجمال، تتحدّث بعض الإحصائيات عن أربعين في المائة من النّاس تحت خط الفقر، ومع ذلك تجد روح النّكتة والدّعابة منتشرة في كلّ مكان..
أمكث في مكاني لنصف ساعة تقريبا حين ألمح عربة غير مكتظّة كثيرا، أعدو بما أوتيت من قوّة وأصعد بالتّوازي مع غلق الباب لأجد نفسي من جديد بين البسطاء الكادحين حيث الجو ساخن جدا، لكن لا مجال لممارسة هوايتي في التأمّل وأنا أشعر بضيق في التنفّس رغم المروحيات المشغّلة، صبّرتُ نفسي بأمل نزول البعض في المحطّة القادمة لينفرج المكان قليلا، لكنّي وجدتُ الذين يصعدون أكثر من الذين ينزلون، لذلك فكّرت في أن أنزل بدوري لانتظار عربة أفرغ، أو أخذ تاكسي إذا دعتِ الضّرورة..

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
08-11-2012, 12:26 AM
البحر لا يضحك كثيرا (16)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

هكذا أترك الميترو مضطرا في "السيدة زينب"..
...
على الأقلّ أعرف أين أتجه في هذا الحي الذي يقع فيه المعهد حيث أدرس.. كان عليّ قطع مسافة للوصول إلى شارع "القصر العيْني" وكانت الشمس تُمعن في الحرارة.. أشفقتُ على الباعة النّاشرين وذوي العربات، ليس من حرّ الشّمس فقط، بل من الضّجيج، ومن حالة الشارع وتلوّث الهواء أيضا.. أشفقتُ كذلك على هؤلاء المتسوّلين الذين لا تكّل أيديهم من المدّ، ولا تكفّ أفواههم عن الدّعوات للعابرين، كلّ العابرين، متصدّقين أو غير متصدّقين..
أصل الشارع المقصود، إنّه الشارع حيث يوجد معهد البحوث التابع للجامعة العربية، وحيث يوجد القصر الفرنسي، إنّه شارع من جانبيْن يسيران في نفس الاتّجاه.

أشير إلى تاكسي ..

- حدائق المعادي؟
- فين في حدائق المعادي ؟
- ميدان الاتحاد
- لا.. معرفوش

هكذا ببساطة يتركني..
كنتُ أستغرب في البداية عندما يقول لي صاحب سيارة أجرة أو ميني باص أنّه لا يعرف مكانا ما في القاهرة، لكنّني بتّ ألتمس العذر للجنّ إن جهلوا مكانا في هذه المدينة العظيمة الحجم، عندما أفكّر في منظرها من الطّائرة..
أوقف سيارة أخرى، وعلى صوت أم كلثوم القادم من داخلها أحدّد وجهتي

- حدائق المعادي، ميدان الاتحاد
- اركب
- بكم ؟
- الحسّاب ؟
- لا حدّيك 10 جنيه
- ادّيني عشرين.. وخلّيك جدع
- لا.. 10
- اركب

وعلى صوت أم كلثوم تخترق السيّارة الشارع الطّويل

"يا حبيبي كلّ شيء بقضاء..
ما بأيدينا خُلقنا تعساء..
ربّما تجمعنا أقدارنا..
ذات يوم .. بعدما عزّ القضاء"

تنعطف السيّارة يمنة ويسرة، وعلى وقع صوت "السّت" دائما يبدي السائق تذمّره من الأوضاع بعبارات من قبيل

"البلد سايبه يا أخي.. كل واحد عاوز ياخد حقو بإيدو"

كنت أفضّل أن أسمع منه قدر المستطاع، لذلك كنت أومئ له برأسي لأحفّزه على الاستمرار في التحدّث، أو أنبس بعبارة، أو حتّى كلمة من قبيل

"مؤسف"

وكانت أم كلثوم تطلّ من حين لآخر

"إنّ الحظّ شاء.. إنّ الحظّ شاء.. إنّ الحظّ شاء.."

وعندما نصل الحي يسألني عن مكان "ميدان الاتحاد"، فأجيبه بأنني لا أعرف، فيسأل أحد الجالسين على عتبات الطّريق فيدلّه.. لينعطف راجعا..

"ضيّعنا الوقت والوقود"

أفهم الرّسالة، لكنّني لا أجيب..
نصل أخيرا الميدان:

-حتزوّدني 10 جنيه كمان
- ليه ؟

يصبح إنسانا آخر

- تهت ياأخي.. مانتَ شُفتْ بعينك

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
08-11-2012, 04:43 PM
البحر لا يضحك كثيرا (17)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


ميدان الاتحاد.. ميدان من الميادين الكثيرة المنتشرة.. إنها في الغالب حدائق جميلة وكبيرة وسط البنايات، يلجأ إليها النّاس عندما يتنفّس النهار.. عشب أخضر.. أشجار وارفة، وبعض المقاعد القليلة التي تآكل بعضُها بفعل حرارة الشّمس.. إنها فرصة السّاكنة الوحيدة للظّفر بمنظر أخضر، والتربّع على العشب برفقة الأبناء، دون خوف من السيّارات والدرّاجات النّارية الكثيرة..
...
قد لا يعيب ميدان الاتّحاد –مثلا- غير تناثر الأزبال والفضلات هنا وهناك.. يمكن أنْ تُعدّ بالمئات علب "المهلّبية" في جلسة واحدة لشمّ نسيم مساء ما..
كنت أنا واسويلم نترك تلك المقاعد المهترئة مضطرّين، ونؤجّل مراجعة درس ما في الهواء الطّلق عندما يأتي أصحاب الدرّاجات النّارية المراهقون، الذين يمارسون الألعاب البهلوانية بدرّجاتهم ذات الأشكال السبعينيّة، ويطوفون بالميدان بلا كلل..
كأنها موضة، في كل مكان ترى أولئك المراهقين بتلك الدرّجات الكبيرة، وموسيقى عمرو دياب أو كاظم السّاهر تغرق الشوارع والأزقّة صخبا..
عادة ما نؤجل الجلوس في الميدان حتى وقت من الليل، وحتى في ذلك الوقت قد لا يحالفنا الحظّ إذا أقدمتْ جموع مراهقين من نوع آخر، بضجيجهم الحاد، ومناقشاتهم الكثيرة، ومداعباتهم لبعضهم، وضحكاتهم الصّاخبة..
قد تجد حلات سكر منفردة ونادرة هنا أو هناك، لكنّك لن تجد في هؤلاء أو أولئك سُكْرا أو فُحشا، وإذا أخذتَ واحدا منهم على حدة، فستجده طيّبا بسيطا.. لكنّهم هكذا يعيشون مراهقتَهم.. هكذا ينفّسون عن ذواتهم.. هكذا يعبّرون عن أنفسهم..
أحيانا أتقصّد مراقبتهم، في خضمّ تأمّلي للمشهد العام في هذا البلد المتنوّع، فأجد منهم مثقّفين تسري السّياسة في عروقهم، ويختلفون تماما مثلما يختلف أي مثقف مع آخر على الفضائيات.
ونادرا ما تأتي مجموعة يافعة من المتسكّعين غير السّكارى

"يا أخينا.. معاك سيجارة... طبْ معاك جنيه.."

إنّها حالات قليلة.. لكنّ الأكيد أن لا أحد سيلحقك بسوء هنا.. يمكنك الخروج في أي وقت.. مساءً، ليلا، فجرا.. ولن تشعر إلا بمزيد من الأمان، حتّى إن تهتَ هنا فسيأتي ألفُ شخص ليدلّك على الطّريق.. وقد يصادقك..
وقد يصادقك صاحب المتجر المجاور، و قد تشعر أن "المكوجي" قريب منك.. ويكفي –مثلا- أن تتردّد على مقهى مرّتين كي تشعر أن النّادل يعرفك منذ سنين.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
09-11-2012, 10:24 PM
البحر لا يضحك كثيرا (18)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك



يحالفني الحظ مع اسويلم هذه الليلة.. فنجد متّسعا في ميدان الاتحاد لمراجعة درس أو بعض منه..
...
ليس في الميدان الليلة ما يدعو للقلق، حتى الكلاب والقطط تبدو هادئة وهي تتمدّد على العشب على مسافة آمنة منّا ومن بعضها، في طرف الميدان تبدو عائلة من أب وأمّ ورضيع يحتلّون واحدا من مقعديْن صالحين للجلوس في الميدان بأسره، لكنْ من المؤكّد أنّهم لن يمكثوا كثيرا وقد اقترب منتصف الليل، فيما يجلس شاب وفتاة على المقعد الآخر.. أمّا أنا ورفيقي فنجلس على حافة أحد الأرصفة داخل الميدان وأرجلنا على العشب، في انتظار أن يترك أحد مقعده..
لم تبق إلّا أيام معدودة وتبدأ الامتحانات.. لا درّاجات ناريّة ولا جماعات شبابيّة الليلة، وبما أنّي قد أخذتُ قيلولة تخلّصتُ بها من بقايا تعبٍ السّفر، فقد كان هناك متّسع مزاجيٌ أيضا..
كانت المادة الدّراسة بالنّسبة لنا كطلّاب منتسبين عبارة عن كتب، كنّا نقرأ فقرة ثم نقوم بمناقشتها معا، وأحيانا نجد أنفسنا نختلف حول طرح الكاتب، فيتفرّع النّقاش ونبتعد عن لبّ الموضوع.. ففي كتابه "التعليم في البلاد العربية" يتحدّث د.محمد منير مرسي عن بعض الإكراهات التي يعانيها التعليم في العالم العربي، لكنّني أختلف مع اسويلم، وندخل في نقاش شبيه بلغز البيضة والدّجاجة، ففي الوقت الذي يرى فيه هو أنّ التعليم السيّء هو السّبب في تدهور الأوضاع العربية وليس العكس.. كنتُ أعتقد أن الحكومات والتسيير العام في هذه البلدان هو السبب، ذلك أنّي كنتُ أرى بأمّ عيني البنية الظاهرية -حتّى لا أقول التحتية- للتّعليم والتي كانت تبدو قويّة في مصر: جامعات كبيرة ورائعة في كلّ الشُّعَب والاختصاصات، معاهد فنيّة ومهنية في كلّ مكان، مدارس متخصصة، أيضا دورات تكوينيّة، ومحاضرات، وأنشطة ثقافية وعلمية، ومشاريع تُسمّى على العالِم زويل أو فاروق الباز.. كنتُ أيضا أنظر إلى المسألة من زاوية الشّهرة العلمية لمصر،ويكفي هنا أن نذكر الأزهر، كما كنتُ أنظر إليها من زاوية علماء هذا البلد ومشاهيره في كل المجالات.. لكنّ بعد كلّ ذلك أصل إلى نتيجة مُرّة، هي أنّ مصر لا تزال دولة متخلّفة..
إذن، فالتعليم ليس مسؤولا، أو على الأقّل ليس مسؤولا أوّلا و مباشرا..
عادة ما ينتهي النّقاش بتمسّك كل طرف بوجهة نظره، عندما يقول اسويلم:

- عارف شدٍّير.. أرجعْ لْنا كاعْ للدَّرس. .

وبالفعل نعود إلى الدّرس، إلى حين اندلاع نقاش آخر.. ثمّ نتفطّن إلى أنّا على وشك الاكتفاء، ولم نبرح بعدُ ذلك الرّصيف.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
10-11-2012, 03:32 PM
البحر لا يضحك كثيرا (19)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


... وقبل أن نبرح المكان تمرّ دراجة ناريّة كالبرق، وصوت المسجّل فيها يصمّ الآذان، برغم خبوّه شيئا فشيئا وهي تبتعد
...

يا نبي سلام عليك
يا رسول سلام عليك
يا حبيب سلام عليك

"كيف يجرؤ هذا الشّاب على ازعاج النّاس في وقت متأخر من الليل، حتى وإن كان يصدح بالقرآن الكريم"

هكذا يُعلّق اسويلم على هذا المشهد..

- هل شرعوا ؟
- من حسن الحظّ أنّهم تأخّروا هذه الليلة.

في تلك الليلة أوقظتُ أكثر من مرّة على زئير تلك الدرّاجات ممتزجا بأصوات الأغاني التي كنتُ أميّز أحيانا أنها أغان بكلمات مدحيّة..

تعجبني ملاحظة الخليل ونحن على مائدة إفطار مصري، مع شاي صحراوي..

"أين أصحاب الدّراجات الآن.. إنّهم نائمون بالتّأكيد.."

ثمّ يبتسم ويُضيف:

"هكذا ينصرون النّبي"

كان الصبحُ يُسمع رغم ضجيجه أقلَّ صخبا من الليل نفسه..

حينما خرجتُ للتّسوّق في شارع "الدّسوقي" الممتد وسط الحي كالشّريان، والمكتظّ بالناّس دائما، كانت الأغاني المدحيّة تخرج من أغلب المحلّات..

كنتُ ألاحظ أنّ النّاس منشغلون بما يعتبرونه إساءة للإسلام، حتى في البسطاء منهم، ممّن لا يخطر ببال المرء أنّهم مُطّلعون على شيء..

فعندما لم أجد اللّحام في المكان الذي عهدته فيه، سألتُ صاحب عربة للفواكه عن آخر

- شوف يا سْمك إيه
- محمد
- على اسم حبيبنا بقه.. دنت لازم نكرمك يا عم..

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
11-11-2012, 11:09 PM
البحر لا يضحك كثيرا (20)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

في كلّ حالة تواصل مع واحد من فئة معيّنة من هذا الشّعب أكتشف جديدا، لكنّ أهم ما يجمع فئاته البسيطة كلّها أنهم منهمكون حتّى النّخاع في تدبير لقمة العيش اليومي، وفي الوقت نفسه منفتحون على محيطهم الأكبر.. قد تجد بيّاعا ناشرا يكاد مدخوله لا يسدّ رمقه، لكنّك ستسمع منه العجب، حين تحدّثه مثلا عن مجلس الشعب، أوالحكومة، أوالثورة، أوالفلول، أوالإخوان، أوالفن، ولربّما أبهرك بوجهة نظره في شأن عربي كالأزمة السّوريّة مثلا.. ومع كلّ هذا قد لا تشعر بوحدة الآراء، إذ يغلب المتعاطفون مع الشّعب السّوري مثلا في الشّارع المصري بسبب الحِسّ الثوري الذي مازال ينبض منذ أن كُسِر حاجزُ الخوف في "25 يناير"، لكنّك لا تفتأ تشعر بنوع من ازدواجية الرّأي حين يُنظر للأزمة كمؤامرة ضدّ المقاومة والممانعة أحيانا.. قد يكون للإعلام العربي دور في ترجيح الجانب الإنساني من الأزمة، لكنّ الحالة العامّة نسبيا مائلة للصّمت حيال ما يجري في سوريا بسبب غيابها شبه التّام عن القنوات المصرية نفسها والتي تركّز على الشأن الدّاخلي المستند عاد...
ة على الإثارة الإعلامية، فتجد أن حربا إعلاميّة ناشبة بين مذيعي تلك القنوات من علمانيين "متحرّرين" وإخوان "ملتزمين"، وأحيانا بين بعض رموز الفن، وبعض رموز السّلفية أو الإخوان، وأحيانا بين السّلفيين والإخوان أنفسهم، أو بين العلمانيين أنفسهم..
سترى في مصر لأوّل مرّة مذيع يقول عن تجربة الإخوان التي لم يمرّ عليها الكثير أنها "بنت ستّين كلب".. ولأول مرّة سترى صور كاريكاتورية للرّئيس.. بل أنّك ستسمع بوضوح مذيعا يهدّده.
إذن تبقي للخبر المصري أسبقيته وحضوره.. ربّما لذات السّبب ينفعل المصريون مع ما يُسمّى بـ"الفيلم المسيء"، أكثر من غيرهم في العالم العربي لما يُشاع من أن منتجه كان مصريا قبطيا..
لذلك تسمع من يخشى تدهور الأمور:

"يا خْوانّا، الإقباط مالهومشي دعوه بالمسخرة دي.. ده عمل فردي جبان"

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
13-11-2012, 01:50 AM
البحر لا يضحك كثيرا (21)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


لذلك تسمع من يخشى تدهور الأمور:
...

"يا خْوانّا، الأقباط مالهومشي دعوه بالمسخرة دي.. ده عمل فردي جبان."

إنّه "الحاج امْحَمّد" الذي يجلس أمام مسجد صغير بدون صومعة في الحي، مسجد من مساجد كثيرة جدا في أحياء القاهرة، إذ يكاد المرء يجد بين كل مجموعة بيوت مسجدا، وجلّها نظيف ومكيّف، أينما تقطن في القاهرة فهناك دائما مسجد حذو بيتك، وأينما حللتَ فيها، أو مررتَ من أحيائها، فمسجد بالقرب منك وفيه كلّ المرافق البسيطة لتحقيق شروط الصّلاة بَدَنِياً..
هي مساجد لا يبدو أنها حكومية على الإطلاق، وتكاد تجزم أنّ النّاس العاديين يدبّرون شؤونها، أو ربّما جهات تابعة لجهات خيرية أو حزبية على أبعد تقدير.

في هذا الجوّ الحارّ أجد متعة في الذّهاب مع الخليل إلى مسجد "النّور" لما سأحظى به من جوّ منعش، وشربة ماء عذب بارد هناك، وطبعا للصّلاة والتّأمّل..
أجلس على فراش المسجد النّاعم، أتأمّل المكان ومرتاديه.. كل الأشكال والتصرّفات تُشعرني أنّني في مصر:

يُمنّع دخول مكان الوضوء بـ"الشّبشب"..
مقاعد خلفية للعجزة والمرضى..
مروحيّات في كل مكان..

حتّى كيفية الصّلاة ومقدّماتها وغير ذلك فيه ما هو مستجَدّ عليّ، حيث لا يُكبّر في الصّلاة غيرُ الإمام.. لطالما شعرتُ بالحرج في الصّلاة وأنا أجهر بالتكبير لوحدي، أحيانا يكون الموقف أخفّ عندما يقع معي الخليل في نفس "الخطأ"..
لا تدخلات ولا خطب قبل الصلاة كما قد يحدث في بلدي، فقط صلاة التحيّة وصمتٌ مطبق، لكن بمجرّد الانتهاء من الفريضة، عادة ما ينهض أحد الشّيوخ الملتحين بعمامته البيضاء ليخطب في النّاس:

"مين قال إنِّ الخير مش موجود.. مانتَ بتصلّي أهو.. وبتزكّي.. أبتصوم.. بس ده مش كفاية يا جماعه.. لازم ننشر دين ربّنا في كلّ مكان.. في كلّ دقيقة يموت واحد عاصي، أو حتى على غير دين الإسلام.."

وهكذا تستمرّ تلك الخطبة، وفيما ينسحب الخليل عادة، أبقى لمعرفة الجدوى من هذا الكلام الذي يصل إلى بيت قصيده، حين يعلن الشيخ الدّعوة بصراحة:

"اللي عاوز يخرج معانا يوم لاربع لمدّة تلات أيام أهلا وسهلا بيه"..

وفيما هو يستمرّ في حضّ النّاس على الخروج في سبيل الله حسب قوله، يقوم زميله بتقسيم المكسّرات على ما تبقّى من المُصلّين.

(يتبع...)

محمد النعمة بيروك
15-11-2012, 12:34 AM
البحر لا يضحك كثيرا (22)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


هكذا في كلّ صلاة تتكرّر الخطب باختاف قائليها، ونوعياتهم، وأحيانا حسب ما يستجدّ على السّاحة السّياسية.
...

لكن صلاة الجمعة حالة خاصّة.. حيث يُفْرَش الزّقاق بالحصائر، وتَحضر أضعاف مضاعفة من المصلّين، لكنّ أكثر ما يثير إعجابك في ذلك اليوم هو الإمام الخطيب "الحاج عبد الله"، إنّه خطيب مفوّه، فصيح في لسانه، رائع في طرحه، مؤثر بطريقته وارتجاله العجيب، فبمجرّد أن ينتهي المازني من الآذان بصوته الشجي، تبدأ الخُطبة العصماء التّي تهتزّ لها قلوب النّاس وأركان المسجد الصغير على حدّ سواء:

"إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
وبعد..
أحبتي في الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل..."

ثمّ يثير قضيّة الأسبوع التي عادة ما تكون حديث السّاعة، بلغة مسترسلة فصيحة دون حتّى أن يحمل في يده ورقة ولا قلما.
وعلى غير ما أعتاده، أسمع البعض يتجاوب أحيانا مع الخطيب في قوله مثلا..

"هذا يتّهم ذاك بالعَلمانية، وذاك يتّهم هذا بالرّجعيّة.. وكلّ حزب بما لديْهم فرحون.."

فيتمتم أحدهم

"صح.. والله صح.."

أو لربّما أضاف آخر:

"الله ينوّر عليك يا شيخ"

وقد لا يروق هذا التعقيب لرجل في الصفّ الأوسط، فيقول

"ما تسكت يا أخي.."

إنّها لمحات نادرة، لكنّها موجودة.

ما لفت انتباهي في إحدى الخُطب أنّ "الحاج عبد الله" تفرّع به الحديث بعيدا عن موضوعه، ولمّا تفطّن لذلك طلب من المصلّين البقاء بعد إتمام الصّلاة للحديث في الموضوع المستجّد.

لكنّ ما أدهشني أكثر من كلّ ذلك هو بعض الصّور على هامش الصّلاة، والتي كانت وما زالت تَعْلق بقلبي وذاكرتي معا:

*شاب يُرتّب أحذية ونعال الناس في الرّفوف.
*رجل يُقْدم قصعةً من الأرز باللحم للفقراء.
*تعاون النّاس في جمع الحصائر المنتشرة على مدّ الزّقاق عند انتهاء الصّلاة.

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
16-11-2012, 10:51 PM
البحر لا يضحك كثيرا (23)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك



أحيانا أتأمّل المسجد ومحيطه وأنا في طريقي إلى السوق، ولا أجد غير "الحاج امحمّد" لوحده جالسا على كرسيّه، أو مع واحد أو اثنين آخريْن على الأكثر.. وكأنّ شيئا لم يكن ينتظر المكان يوم الجمعة الموالي..
...
لكنّ مظاهر الحياة الرّوحية تستمر في بقية الصّلوات، وفي الشّعارات الدّينية التي تزيّن كلّ مكان.. سترى في الحي شجرة بلوح مثبّت كتوب عليه عبارة "الحمد لله" وآخر عبارة "الله أكبر".. سترى عمودا كهربائيا بلوح مشدود بمسامير يحمل عبارة التوحيد، وقد ترى سهما يدلّك على محطّة الميترو، وداخل السّهم عبارة "أذكر الله"..
طبعا هذا ناهيك عن العبارات الإيمانية التي تتعطّر بها أفواه النّاس في أحاديثهم اليوميّة.. "نحمد ربّنا".. "نشكر فضلو".. "ما تصلّي عالنبي يا عم".. "مستوره، ولله الحمد"..

حتّى في السّوق تأخذني الذّاكرة والإعجاب لاسترجاع ما أراه في هذا الشعب، وكأنني أريده أن يتقمصّني إلى حين إيصاله لمن لم يره.. في السوق حيث تذوب ملامحك بين المصريّين، فعلى مستوى السّكان باعة ومستهلكين لا أحد يعرف أنّك لست من أرض الكنانة، قد تشعر أنّ البعض يعرف أنّك لست من "حدائق المعادي" وكما ألِفتَ لن تشعر بتمييز من أحد.. وأحيانا يعتريك شعور بأنّهم يعرفون أنّك قاطن عابر..

أقتني لحما وخبزا وأعود.. أشتمّ رائحة الطّبيخ وأسمع غليانه حتّى قبل أن أدخل الشقّة، لكنّني لا أسمع حركة أحد، يبدو أنّ اسويلم لايزال نائما، والخليل ليس هنا، وإن كان من الواضح أنّه قريب..
الغداء اليوم نصف مصري، فالطّبق الأساسي مرق دجاج، وعلى الهامش هناك خبز "الفينو" الشّبيه بخبزنا، والذي غالبا ما نفضّله على "العِيش" المحلّي، وهناك كذلك صحن "الطّعمية" المصريّة اللذيذة..
لكن ما يُوطّد "مصريّة" جو الوجبة أكثر هو الأكل على "السُّفرة"، والجلوس على الأرائك في انتظار قدوم الأكل.. كلّ هذا لا يوجد في العيون.
أتمدّد على الأريكة الأطول، فأشعر وكأنّ التعب يتبخّر من جسدي، وفي انتظار أن يستفيق اسويلم، أو يُقبِل الخليل، أتأمّل الحجرة..
مروحية كبيرة في السّقف، وبعض مناشب الكهرباء المرتفعة جدا في الحائط.. وحبال الغسيل المعقودة برؤوس العيدان المُثبّتة بالحائط أسفل النّافذة.

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
20-11-2012, 01:41 AM
]البحر لا يضحك كثيرا (24)[/SIZE]
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


مروحية كبيرة في السّقف، وبعض مناشب الكهرباء المرتفعة جدا في الحائط.. وحبال الغسيل المعقودة برؤوس العيدان المُثبّتة بالحائط أسفل النّافذة التي أطلُّ منها على حيّز صغير فقط من الحي على الرّغم من ارتفاع العمارة، إذ يكاد ينسدّ أفق السّماء بسبب العمارات المجاورة، وتكاد تختفي الأرض بسبب الأشجار..
...
إنّها عمارات شاهقة تتّسم بها القاهرةُ، وهي ...
بالتأكيد نموّ عمودي يفرضه تعداد السّكان في إحدى أكبر المدن في أفريقيا..
لكن كيف تنمو هذه الأشجار الكبيرة والكثيفة في مكان يبدو قاحلا كالقاهرة..
ألهذا يسمّى هذا الحي بـ"حدائق المعادي؟"..
تدهشني هذه المناظر الخضراء رغم أنّها متفرّقة، ومتباعدة أحيانا، لأنّها تذكّرني بنقيضها وأنا أسترجع مشاهد التّربة الرّمادية الشبيهة بالغبار أسفل العمارة وفي الكثير من الطّرقات.. لذلك أكاد أكلّم نفسي:
"لماذا لا تعمم الخضرة في كل مكان.. إنهم يستطيعون زرع الصحراء إذا توّفرت العزيمة والوقت"
أتأمّل الزقاق الذي يبدو ضيّقا لطبيعة المكان كحي شعبي.. لكنّي أحترم بقوّة وجود ميدان الإتحاد، رئة الحي التي يتنفّس بها البسطاء..
أحيانا تبدو مثلُ هذه الأحياء عشوائية في تموضع مكوّناتها الحيوية، لكن بقليل من التأمّل يتضح أن التجمّعات السّكانية تملك القدرة التّلقائية على توزيع متاجر البقالة مثلا ، وهو الأمر الذي يحدّده احتياج كل مجموعة سكّانية على حدة، فيما يأخذ دكّان اللحام على سبيل المثال حصة أكبر، تماما كما تتوزّع المساجد حسب الاحتياج المسافي..
كل هذه أمور تلقائية يخلقها السكّان بأنفسهم، ويحددها الزمن والنموّ الدّيموغرافي في الحي..

إنّها مسألة تستحقّ المزيد من التّدبّر، لكنّ الخليل يدخل..

-ألم تقتني اللحم
-بلى
-هل سيأتون
-نعم.. اتصلتُ بهم.. سيأتون..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
22-11-2012, 11:09 PM
البحر لا يضحك كثيرا (25)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك



يأتي صوت اسيلم من الدّاخل..
...

-آتون جميعا؟

ويأتي الرّد من المطبخ

-هذا ما أكّدوه

إذن سنلتقي الليلة زملاءَنا الذين استضافونا العام الماضي إبّان الذكرى الأولى للثورة، حين جئنا متوجّسين خيفة من الأوضاع..
يالها من ذكريات جميلة..
لن أنسى مناظر الطّريق الطّويل.. لن أنسى المشهد المهيب لمآذن القاهرة التي تبدو وكأنها تخترق كبد السماء مسبّحة ومهلّلة.. لن أنسى منظر القناطر ونحن تحتها حينا، و فوقها حينا آخر.. لن أنسى شعرات الثورة المكتوبة على الحيطان.. ولن أنسى ما حييت مشهد شاب بزيّ مدني ينظّم حركة المرور عند إحدى التّقاطعات..
كانت الظروف حينها مواتية للانبهار بأرض مثل مصر، ربّما لأنّها زيارتي الأولى، وربّما لأنّها في وضح النّهار أيضا، على غير ما كانت عليه زياراتي اللاحقة..
أذكر أنّ البرد كان قارسا حدّ التّجمّد، ومع ذلك كنتُ أشعر بسخونة الاستكشاف.. كنتُ أدرك قيمة الوقت الذي تسمح به الأوراق الرّسمية.. كنتُ متحمّسا لرؤية كلّ شيء.. لمعرفة كلّ شيء.. لمحادثة الجميع.. لزيارة كلّ الأماكن.. السياحية كالأهرام ومتحف مصر.. والدّينية كالأزهر.. والطبيعية كالنّيل.. والسياسية كميدان التحرير وميدان مصطفى محمود..
صحيح أنّي –مثل رفيقيّ- كنتُ مضطربا باضطراب الوضع العام في مصر، حيث لم يكنْ قد مُلِئ الفراغ السياسي بعد..
لكنّ اسويلم –الذي أفاق للتّو- يضحك ملء فيهِ وهو يتذكّر شيئا آخر حين يُذكّرنا بصاحب سيّارة الأجرة الذي أقلّنا من المطار، والذي أعطاه الخليل ورقة نقدية بمائة جنيه معتقدا أنّها من فئة خمسين، حيث أعادها إليه بكلّ أمانة، لكنّه استشاط غضبا من أجل عشر جنيهات بعد ذلك..
لكن الموقف لا يثير ضحكي، بقدرما يثير إعجابي..
يأتي صوت الخليل من المطبخ ليضيف لمحة جميلة بحديثه عن صاحب المحل الذي سألناه عن مكان إقامة زملائنا، فردّ باللهجة الحسّانية..
أذكِّرُهُما بدوري بما فعله مضيّفونا من أجلنا، حيث كانوا ليلا يصرّون على أن ننام على الأسرّة، فيما ينامون على الأرض.. وكانوا نهارا يبحثون لنا عن شقة للكراء..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
24-11-2012, 03:51 AM
البحر لا يضحك كثيرا (26)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


أذكِّرُهُما بدوري بما فعله مضيّفونا من أجلنا، حيث كانوا ليلا يصرّون على أن ننام على الأسرّة، فيما ينامون على الأرض.. وكانوا نهارا يبحثون لنا عن شقة للكراء..
...
إنهم طلّاب منتظمون، سبقونا إلى مصرَ بشهرين أو أقل فقط، لكنّهم كانوا نعم السّكن الذي احتوانا بكرم..
تعبوا معنا حتّى ظفرنا بشقة للكراء في عمارة "الحاج غندور" الشيخ المزعج الذي كان يقطن في الشقّة السفلى بنفس العمارة..

"مين فتح باب العمارة اليوم الفجر؟"
...
"ما تبقوش تسيبو الغسيل كتير في السّطح"

كنا ندرك أنّها أيّام وستمرّ، وإن كان مثل هذه الأسئلة والملاحظات أقلّ وقعا علينا من بعض التحذيرات التي وجهها لنا غندور في اليوم الأول من مجيئنا..

"أنا مش ممكن أسمح بدخول ستّات هينَا أبدا.. مفهوم.. واللي أولو شرط آخرو نور"

كانت الشقق نادرة، وكان قد أخذ منّا التّعب مأخذه، وكنّا نفكّر في الضّيق الذي نسبّبه لسعيد وأصدقائه..

"يا سيدي إحنا متجوزين، وزي ما تشوف كده ما عدناش مراهقين.. وبعدين احنا ما نعرفش حد هينَا.."

لكنّه يضيف..

"ودوشه وزيطة مش عاوز.. الله إخلّيكو.. إنتو ازّاهر فيكو أولاد ناس.. بس أنا أحب أشرط بس"

لكن السؤال الذي كان يُغضب اسويلم هو:

"مين بات معاكم امبارح؟"

وكان يندلع جدال بسبب هذا السؤال بين اسويلم و"الحاج غندور" ينتهي باطمئنان هذا الأخير إلى أننا لازلنا ثلاثة في الشقة، وأن الزائر كان ضيفا عابرا.
والغريب أنّ "الحاج اللي مش عاوز دوشه" لا يرى غضاضة في بدء أشغال البناء في سطح شقتنا..
لكن الخليل يطالبنا دوما بالصّبر..
أذكر أننا تسلّمنا الشقة متّسخة وفي حاجة ماسّة إلى أكثر من كنْس، لكنّنا عند المغادرة وجدناه يحاسبنا على كلّ شيء، ولم نتسلّم منه غير نصف مبلغ التأمين الذي يفترض أن يعيده إلينا كاملا..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
29-11-2012, 04:21 AM
البحر لا يضحك كثيرا (27)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


لكنّ كلَّ شيء تحوّل الآن إلى ذكريات جميلة..
...

حتى شجاراتنا نحن أنذاك، تحمل الآن نكهتها الخاصة..
بالفعل، قيمة اللحظة في الخروج منها..

لطالما هدّد اسويلم الذي يصغرنا سنّا بالانسحاب من العشرة لمجرّد أنى والخليل ننصحه، فقد يترك ثيابه على الحبل ليومين كاملين، أو يترك أواني المطبخ بدون تنظيف.. أو يسهر أمام التلفاز ونحن مصبحون على امتحان، حتى واجباته المنزلية كنّا نقوم بها نيابة عنه أحيانا حين يصبح نائما.. أو يخرج ليلا ولا يعود حتى وقت متأخر..
طبعا لكلٍّ منّا أخطاؤه.. لكن للخطإ حدوده.. ومع ذلك كان اسويلم يأتيك ضاحكا بعد أي سوء تفاهم، وكأنّ شيئا لم يكن..

نعم قد تزيد قيمة اللحظة عندما تنصرم، لكنْ حتى في حينها، كنتُ منبهرا شخصيا بكلّ شيء في حياتنا الجديدة داخل الشقة، وفي الخارج بدءا بالأهرام، وانتهاءً بحيوان صغير جدا مثل "العرسة" أو ابن عرس، الذي يجول في الشوارع والأزقة مثل أي قط، إنه حيوان شبيه بالقوارض، حجمه أصغر من سنجاب وأكبر من يربوع، وشكله رقيق وطويل..
ظننتُ في البداية أنه إحدى مستَجلَبات الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، لكنّ زميلي خالدا أكد لي أن أرض مصر إحدى مواطنه الأصلية، إضافة إلى شرق البحر الأبيض التوسط وأوروبا، وأنّ لديه قدرة على التأقلم مع البشر، كما لديه فطرة العيش في براري البلاد.. أنّه جزء من الثقافة المحليّة، يضيف ضاحكا:

-هو انت عمرك ماسمعت المثل اللي بيقول "اللي يخاف من العرسة ما يربيش كتاكيت"؟

يتأقلم النّاس مع وجود هذا الحيوان الصّغير، حتى أنّه لا يثير انتباههم، كما يثير انتباهي بذيله الأسود، وفرائه البني الفاتح، وظهوره الخاطف، وتحرّكاته السّريعة..
كنتُ أخشى أن يراني أحد وأنا أحاول التقاط صورة لهذا الحيوان بالمحمول..

(يُتبع...)

نداء غريب صبري
04-12-2012, 06:11 PM
حلقات جميلة في أدب الرحلات
ناممتع ومفيد

أشكرك أخي
بوركت

ناديه محمد الجابي
04-12-2012, 09:13 PM
أخى الفاضل :
استمتعت بكل ما كتبت , وأتابع معك بإهتمام
أرى معك مصر بعينيك , فأزهو وأفرح ..
وأشكرك لأنك كنت تنظر بعين النحلة التى تقع
على كل طيب , وتتجاوز الخبيث , فتخرج من الورد العسل
حتى كلمات النقد كانت دائما موضوعية , وغير جارحة .

همسة : أنت أيضا كانت لك بعض الغلطات المطبعية
ومفيش حد أحسن من حد .

محمد الشرادي
04-12-2012, 09:24 PM
البحر لا يضحك كثيرا (1)

(من أدب الرّحلة)
محمد النّعمة بيْروك


بدتِ القاهرة من الأجواء في عتمة الليل وكأنّها صحن كبير من الجمر المتّقِد، لم أكن أتصوّر أن الطّائرة تمكث فوق هذه العاصمة كلّ هذا الوقت.. سرحتُ في سحر الأضواء فوجدتني أعيد شريط الرّحلة..
لمْ تعدّ لي والدتي وأنا أغادر مدينة العيون كيس السّكر والشاي كما كانت تفعل من قبل، بل أنّها لم تقم كعادتها بقراءة سورة الفاتحة في كفي عندما أكون مسافرا،...
والحقيقة أنّها لم تكن حتّى تعرفني، قبّلتُ رأسها ويديْها وأنا على وشك البكاء، تمالكتُ نفسي حتى لا انخرط في نوبة نحيب لا تليق بالرجال، حاولتُ مغادرة الغرفة بسرعة كي لا أمنح نفسي وقتا للتّأمّل، كنتُ أخدّر نفسي باستمرا:
"سأراها ثانية بحول الله.. سيكون كلّ شيء على ما يرام.. إنهما فقط أسبوعان، وسأعود.."
حتى في باحة المنزل والزقاق حاولت قدر الإمكان قتل لحظات الوداع..
كانت الشوارع بشجيراتها القليلة تعود إلى الخلف ببطء وكأنها تشدّني إلى الوطن، لكنني كنت أعمّق حالة التخدير بأي شيء:
- الأطفال لا يخافون السّيارات
-نعم يا أخي.."غير الله ييحفظ أُ صافي"
هكذا أختلق حوارا مع السائق.
في المطار تنصحني الموظفة بتسجيل اجراءات الرحلة من الدّار البيضاء إلى القاهرة هناك في العيون، تسعدني الفكرة وأشكرها، لأني سأقضي يوما تقريبا في البيضاء في انتظار السفر في اليوم التالي، وسأكون -بالتالي- خفيفا..
يصادفني مكان واسع في الطائرة لأني أجلس في ممرّ إلى باب الطوارئ..
-البارحة تأخرتْ عن الإقلاع لعشرين دقيقة..
هكذا يخاطبني الشاب الذي يجلس حذوي بدون سابق معرفة..
-هل تقف في أغادير طولا ؟
-نصف ساعة.. ولا يُسمح لمتمّمي الرحلة بالنزول عن الطائرة..
لم أحظ برؤية فوقية لأغادير بسبب غفوة، لكنني رأيت البيضاء التي بدت أضواؤها كحبات الذهب المنثور هنا وهناك، لم أفهم ما سرّ العتمة في بعض الأماكن، وما سرّ كثافة النور في أخرى..
لم أكن لأجد أحدا في اتنظاري بالمطار.. رغم أن عبد الرّحيم اقترح عليّ عبر الهاتف أن يستقبلني..
-سأكون في انتظارك بالمطار..
-كلّا.. شكرا.. سأستقل تاكسي..
-إنّه مكلّف
-لا بأس

(يتبع...)

أهلا برجال الساقية الحمراء.

حكي شيق يغري بالمتابعة. كل هذه المشاهد البانورامية للمدن المغربية التي قدمها النص كانت بوصف جميل.
يتبع
مودتي

محمد النعمة بيروك
05-12-2012, 01:55 AM
حلقات جميلة في أدب الرحلات
ناممتع ومفيد

أشكرك أخي
بوركت


تسعدني متابعتك أختي الأديبة نداء..

شكرا جزيلا لك

محمد النعمة بيروك
05-12-2012, 02:00 AM
أخى الفاضل :
استمتعت بكل ما كتبت , وأتابع معك بإهتمام
أرى معك مصر بعينيك , فأزهو وأفرح ..
وأشكرك لأنك كنت تنظر بعين النحلة التى تقع
على كل طيب , وتتجاوز الخبيث , فتخرج من الورد العسل
حتى كلمات النقد كانت دائما موضوعية , وغير جارحة .

همسة : أنت أيضا كانت لك بعض الغلطات المطبعية
ومفيش حد أحسن من حد .

تعليق من أجمل ما مرّ معي أختي الأديبة نادية..

سعيد أن راق لك العمل.. وممتن لقراءتك الجميلة، وللتنبيه للهنات المطبعية..

سأراجع العمل إن شاء الله قبل طبعه..

شكرا جزيلا لكِ.

محمد النعمة بيروك
05-12-2012, 02:02 AM
أهلا برجال الساقية الحمراء.

حكي شيق يغري بالمتابعة. كل هذه المشاهد البانورامية للمدن المغربية التي قدمها النص كانت بوصف جميل.
يتبع
مودتي

تشرفني متابعتك أخي الأديب الشرّادي..

سعيد برأيك الذي يهمّني..

أشكرك كثيرا.

محمد النعمة بيروك
05-12-2012, 02:07 AM
البحر لا يضحك كثيرا (28)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


كنتُ أخشى أن يراني أحد وأنا أحاول التقاط صورة لهذا الحيوان بالمحمول وهو يتسلّل من تحت سيارة قديمة..
وعلى ذكر السيّارات القديمة فقد أثار تواجدها الكثيف استغرابي في البداية، إذ يمكن أن تجد في القاهرة سيارة من نوع "سيسيينتو" أو "فيات 131" وأنواع أخرى شبه منقرضة من "البيجو" و"المرسديس"، كا يمكن أن تجد درّاجات نارية قديمة من نوع "ياماها" مثلا..
ستجد مثل هذه السيارات والدّرّاجات تجول في المدينة وهي تبدو في حالة جيّدة.. لكنّك سترى الكثير منها مغطى بالغبار على جنبات الأزقة والشوارع، وأحيانا مع عبارة "للبيع" خصوصا في الأحياء الشعبية..
أحيانا أتساءل "كيف يسمحون بإيقاف تلك السيّارات في تلك الأماكن".. قد يصادفك زقاق ضيّق، ومع ذلك تقف على جنبه سيارة قديمة، وأحيانا ترى صفا من السيّارات المغطّاة بأقمشة بالية، تزاحم الشوارع المكتظة أصلا بالعابرين، خصوصا في المساء وأوّل الليل..
لكنك في الوقت نفسه، وأنت تقف على حافة الرصيف، قد تمرّ من أمامك سيارة كونكورد وآخر موديلات المرسيدس..
ربّما يعبّر الشارع بسيّاراته ودرّاجاته -كما يعبّر براجليه - عن اتّساع البوْن بين الأغنياء والفقراء في بلد مثل مصر عانى كثيرا من الفساد والتّسيّب المالي..
حتى عندما ترى سيّارة فخمة في حي شعبي، أو شارع مثل "الدّسوقي" يبدو لك صاحبها وكأنّه سائح عابر..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
06-12-2012, 02:38 PM
البحر لا يضحك كثيرا (29)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

كلّ تلك مناظر باتت مألوفة بالنّسبة لي، بعد أن تكرّرت الزيارات..
...
وبما أني مُقدم على سهرة إجبارية الليلة، كان لابدّ من قيلولة بعد الغَداء..
لكنّني أفيق على يد اسويلم تربت على كتفي:

-صديقك المصري في الصّالون..

خالد.. كم يسعدني مجيئه.. إنّها فرصة لدعوته للعشاء..

نجلس معا في انتظار أن يبرد اليومُ للتّمشي قليلا كالعادة..
كان بوّدّي لو انهمكنا في مراجعة درس من الدّروس، لكنّ ذلك سيعزل الخليل –الذي يدرس شعبة مختلفة- عن الجماعة..
تثير إحدى القنوات المصرية على التلفاز–الذي يعرض صورة طفلة- انتباه اسويلم فيشير لنا بالسّكوت

"...عمرها تقريبا سنتين.. الارجح إنِّ اسم والدتها "فاطمة" كما فهم المحلل النفسي للقناة من الحروف اللي بتقولها.. وياريت نكتب أرقام تليفوناتنا في أوراق، ونخليها فجيوب أولادنا.. ما حدش عارف هيجرى إيه.. اللي يعرف البنت دي، يتصل بينا على الرقم الزاهر على الشاشه، وحنا نوّصلها لغاية بيت عيلتها.."

-أهلها مين يا عم.. ده جايز إنِّ أهلها همّ اللي رموها..

هكذا يُعلّق خالد على الخبر..

فيتساءل اسويلم

-كاين حد يزرك أولادو؟

كنتُ أعلم شخصيا بوجود ظاهرة أولاد الشوارع في أغلب البلدان العربية، بدءا بالمغرب وانتهاءً بالعراق، حتى في دولة مثل السعودية يوجد أطفال شوارع، فكيف بدولة عانت من دكتاتورية الجشع على مدى عقود!
حكيتُ لهم كيف أنّ طفلا صغيرا سمعني أسأل رجلا عن اتجاه "سوق العتَبَة" في ميترو الأنفاق، فاقترح عليّ أن أتبعه.. لن أنسى كيف كان يسير أمامي، وينزل الدّرج تلو الدّرج، ويجري أحيانا، ثمّ ينتظرني عند المنعطفات، حتى وصلت..
-أهو.. هتركب من هينا، وتنزل في المحطّه الجايّه، وتروح النّاحية التانية، وتركب من هِناك، وتنزل في المحطه اللي فْوِشّك على طول.. فِهمتْ؟
-آه.. فهمت متشكّر..
-طب قوللي هتعمل إيه.. عشن أطمئن..
هكذا تدهشني معاملته، لكنّني أتأخّر في إعطائه شيئا، حيث أفتش كل جيوبي بحثا عن "فكّه".. فيذهب لرجل واقف حذونا، وكأنّه سيشكوني إليه، يمسك جلبابه ليثير انتباهه.. فيتملّكني الذّهول وأنا أسمعه يوصيه بي خيرا، بعد أن تبلّغ وِجهته:

"والنّبي خد بالك من الراجل ده.."

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
10-12-2012, 11:49 PM
البحر لا يضحك كثيرا (30)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

يحكي الخليل أيضا موقفا مشابها..

من حسن الحظ أنّنا لم نر قطّ هؤلاء الأطفال نائمين في أزقّة "حدائق المعادي"، رغم أنه حي شعبي، لكنّني شاهدتهم بأمّ عيني في الشّارع وهم ينامون على الرّصيف في أوج البرد.. كما شاهدتُ مرارا أطفالا في العاشرة والسابعة من العمر وهم يدخّنون السّجائر، ويتسوّلون عند شارات المرور..
لكنّ خالداً يزوّدنا كعادته بمعلومات...
أخطر، حين يتحدّث عن أنّ مصر بلغتْ الجيل الثالث من هذه الظاهرة، وأصبح هناك ما يسمّى بـ"رجال الشوارع" أي الأطفال الذين بلغوا سن الثلاثين وما حولها وهم يقيمون في الشارع!
ومع ذلك فالمأساة لا تقف هنا، حيث يحدثنا خالد عن الغياب شبه التّام للحكومة، إذ لاتوجد سجلات بأسمائهم، ولا حتّى احصائيات بأعدادهم! وإن كانت التّقديرات تقول بثلاثة إلى أربعة ملايين طفل مشرّد في القاهرة..
وحسب خالد دائما فإنّ صبية الشوارع يعانون من أخطار أخرى تحدّق بطفولتهم، تتمثّل في تجار الجنس والأعضاء، الباحثين عن المال والشهوة في براءة الأطفال.
أمّا الإدمان فشيء لابدّ منه في منظور طفل الشارع، لأنّه السّبيل الوحيد لتغييب العقل عن فهم الظلم الذي يتعرّض له منذ أن رُمي في الشارع وهو صغير، وبما أن المخدّرات مكلّفة ماديا، فأغلب هؤلاء يبحثون عن طرق أخرى لتخدير الذّات عن طريق شمّ "الكلّة" مثلا أو النزين..
وفي مدينة عملاقة من حجم القاهرة لا توجد سوى سبع جمعيات للإهتمام بهؤلاء، وأغلبها لا يستطيع الكثير.
لكن الّذي صعقتي في حديث خالد هو حديثه عن زواج رجال الشوارع من بائعات المناديل المتشرّدات بدون ورق، حيث تحدث حالات ولادات، يتمّ فيها نزع الأولاد الذين ينتجون عنها من قِبَل الحكومة عُنوةً من آبائهم الذين لا يملكون أوراقا تثبت أبوّتهم، ناهيك عن المَسْكن والمأكل..
وقد حزّ في نفسي –في حديث خالد- أن الذين يموتون منهم في الشوارع، سواء كانوا أطفالَ أو رجال شوارع، لا تُستصدر لهم شهادات وفاة، بل يدفنون في قبر يُكتبُ عليه "مجهول"..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
22-12-2012, 12:07 AM
البحر لا يضحك كثيرا (31)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك

لم أكن أسوعب -مثل اسويلم- كيف يجرؤ امرؤ على التخلّي عن فلذة كبده.. لكنّ خالداً يحكي لنا حالات خاصة لأطفال أُجْبِرَ آباؤهم على التخلّي عنهم، بل أنّ البعضَ منهم أجبره الموتُ على ذلك، مثل حالة الطفل حكيم الاسكندراني الذي يحكي لنا خالد قصته بحرقة.. "يعمل" هذا الطفل ذو العشر سنوات مرشدا في الميترو، حيث أنّ عمّه جلبه من الاسكندرية ، بعد أن اغترّ أبوه بضحكة بحرها ذات مساء في رحلة صيد، ولم يعد أبدا.. لكنّ العمّ قسا على ابن أخيه الذي فرّ إلى الشارع، ولم يبرحه منذ عام ونصف..
إنه موضوع مؤثّر يجعلنا نوغل في الحديث وننسى أنفسنا..
لم يعد هناك وقت للخروج.. علينا أن نتعاون لإعداد العَشاء.. كلّ شيء جاهز للطّهو في المطبخ.. وخالد يقترح المساعدة، فيما يجلس اسويلم أمام "الطّبلة" لإعداد شاي صحراوي، بعد أن أخفض صوت التلفاز، وأشعل هاتفه المحمول..

صوتك القادم من خلف الغيومِ
سكب النّاااااار
سكب النّار على الجرح القديمِ مدّ لي أرجوحة من نغمٍ
رماني نجمةً بين النجومِ

هكذا يتحفنا بصوت مرتفع لـ "سدّوم" دون إذن من أحد.. قد لا يروف ذلك الطّرب لضيفنا، أمّا الخليل فلا يحبّذ الموسيقى الصّاخبة مهما كانت.. لطالما بادر اسويلم من تلقاء نفسه إلى أفعال كهذه.. كنتُ أتمنّى لو أبقى على صوت التّلفاز..
لطالما حاول أن يفرض ما يحلو لذائقته.. أذكر ذات يوم أنّه رفض أن يُسْمِعنا أغنية من التّراث الشعبي المصري كان قد اقترحها خالد، قبل أن أغمزه بعيني.. أحيانا أشعر أنّه في حاجة لمراقبة، فهو يشعر بخطئه بسرعة إذا نُبّه إليه، لكنّه لا يلبث أن يعود لنفس الخطإ من جديد..
هل علينا أن نعجب بتراث الآخرين حتّى نستمع إليه أو نشاهده، أو حتّى نتأمّله لنكتشف جماله قبل أن نرفض الاطّلاع عليه؟.. وما جدوى قدومنا إلى هنا إن لم نعرف هذا التراث؟
كلّنا خطّاء.. وقد لا يَحْمِل التّراث -في أي مكان- ذاتَ الجاذبية التي نجدها في مستجدّات اليوم من أغان وفنون وغيرها، لكنّني شخصيا لم أتردّد لحظة في مجاملة خالد بإبداء قدر من الإعجاب بتراثه العريق.. بل أنّني أُعجبتُ فعلا بمشاهد فلكلورية كـ"رقصة الحُمّص" التي حضرتها في مسرح بمدينة طانطا، عندما استدعيتُ لحضور الاحتفال بالذكرى الأولى للثورة هناك.. ومن الأكيد أنّ بعض هذا الترلث يحمل نكهته الخاصة.. من منّا لم يسمع في أعياد الميلاد مثلا الأنشودة الجميلة "يالا حالا بالا حيو أبو الفصاد"..

(يُتبع...)

ناصر أبو الحارث
23-07-2013, 10:05 PM
صفحات جميلة من أدب الرحلات عشنا معك فيها الرحلة بمواقفها

د. سمير العمري
19-08-2013, 10:09 PM
أنت أديب شامل ومبدع. قرأت لك هنا ما راق لي وتابعته بلا ملل.

لا فض فوك مبدعا!

تقديري

محمد النعمة بيروك
23-08-2013, 03:17 PM
صفحات جميلة من أدب الرحلات عشنا معك فيها الرحلة بمواقفها

حين يحلّ الشعر في السرد تكمل الصورة أيها الشاعر الجميل ناصر، أسعدني رأيك، فشكرا جزيلا لك.

محمد النعمة بيروك
27-08-2013, 03:24 PM
أنت أديب شامل ومبدع. قرأت لك هنا ما راق لي وتابعته بلا ملل.

لا فض فوك مبدعا!

تقديري

شهادة ستصحب هذا العمل أينما حل وارتحل أيها المؤسس الأديب..

شكرا يليق بمقامك الرفيع.

محمد النعمة بيروك
15-11-2013, 02:49 PM
البحر لا يضحك كثيرا (من أدب الرحلات)
(الحلقة الثانية والثلاثون)
محمد النعمة بيروك

ثمّ إن الجذور العربية لهذا التراث لا تشعرك بغربة عنه، فمن الوارد جدا أن تسمع حِكما وأمثالا ذات صياغة قريبة من لهجتك..
لطالما تطرّقت مع خالد لهذا الأمر، حين تلفتُ انتباهه كلمة أقولها، أو العكس.. توقّفنا يوما عند المثل القائل "الجار قبل الدّار"، ذي الصياغة القريبة جدا من المثل الحساني "أشري الجار سابك الدّار".. ووجدنا نفس الكلمات، مع اختلاف اللكنة في المثل القائل "اللي فات مات".. تأمّلنا التّشابه: هل هو محض صدفة تكفل اقتراب اللهجتين ذوي الأصل العربي الواحد ببلورتهما على هذا النّحو؟.. لكنّنا –وقبل أن نصل لشيء- فوجئنا بمثل من نفس الكلمات تقريبا، ونفس التشبيه، ونفس الصورة، ونفس الفكرة، وهو المثل الذي يقول باللهجة المصرية "اقلب القدرة على فمّها، تطلع البنت لأمّها"، والذي نجد له شبيها لحدّ مدهش في التراث الحساني في قولهم "اكلب الكدرة على فمّها، تتبع الطفلة لمّها".. وهو المثل الذي كنتُ أسمع جدّتي تردّده كثيرا..
عندما أثرنا هذا الموضوع مع أستاذ اللغة العربية، شرح لنا كيف أن التراث العربي المشترك كفيل بإيجاد تقاطعات في كلّ شيء، وقد يطال حتّى بعض العادات والتقاليد، قبل أن يحيلنا إلى بحث بعنوان "التراث العربي حلقة وصل".. للكاتب الفلسطيني يحيى جبر..
كلّ هذا يجعلني أفهم لماذا أشعر بالدفء في بلد مثل مصر، وكيف أملك الشجاعة للخروج وحيدا في وقت متأخر من الليل إلى المقهى دون شعور بالخوف من أي شيء، حتّى إبّان الفراغ السلطوي عقب الثورة..
وهذا بالتّحديد أيضا ما يفسّر ردّة فعلي، عندما يرفض اسويلم أن "يجامل" خالد حتّى بالاستماع لأنشودة من تراثه الموغل في الأصالة..

محمد النعمة بيروك
05-03-2014, 11:52 PM
البحر لا يضحك كثيرا
(من أدب الرّحلة)
الحلقة الثالثة والثلاثون
محمد النعمة بيروك

لكنّني أتغاضى عن الأمر هذه المرّة، ليستمرّ سدّوم في الترنّم بكلمات نزار قباني..

داعبي كل مساء رقمي
واصدحي مثل عصافير الكروم
كلمة منك ولو كاذبة
عمّرت لي منزلا.. فوق النجوم
.... لا إله إلّا الله... لا إله إلّا الله...

وعندما يأتي الضيوف، يتفهّم اسويلم أخيرا الوضع، ويكفّ حاسوبه المحمول عن الطّرب..
لكنّ الجماعة تستعيض عنه بصخب أشدّ، حين نقضي الليل في تناول كلّ شيء تقريبا، بدءا بالأكل وانتهاءً بجملة من المواضيع..
الوضع السياسي في مصر، أقباط المهجر والفيلم المسيء، الأزمة السورية، الدجاج البلدي، صعوبة الفرنسية على الصحراويين... إلخ
وفي كل موضوع هناك اختلاف في الآراء..
وفيما يرى الخليل أنّ على الحكم الاسلامي حديث العهد بالسلطة أن يجاري العالمَ، وأن لا يبادر للتصعيد مع "اسرائيل" الآن، لكي لا ينقلب العالم ضدّه، ويرى أن مطالبة الرئيس بإطلاق صراح عمر عبد الرّحمن كان خطأ فادحا..
يرى خالد أن الهجوم على السفارة الأمريكية في القاهرة كان مبرّرا، فهو في النّهاية رد فعل شعبي تلقائي، لا تتحمّل الحكومة مسؤوليته.. وأنّ الغرب يجب أن يشعر أنّ مصالحه مهدّدة في بلداننا، إذا وفّر الجوّ للّذين يتطاولون على ثوابتنا
ولكنّي أدلي بدلوي في موضوع مختلف حين أذكر أسماء عشرة مدرّسين للغة الفرنسية من أصدقائي، بعد أن قال اسويلم أنها لغة عسيرة على الصحراويين..
بعد ذلك يدافع كابر، عشير سعيد، عن الرئيس السوري، ويقول أن الذين يقولون أنّه عميل يغالطون أنفسهم، ويعطي دليلا على ممانعته بالاحتواء الذي وفّره لفصائل المقاومة الفلسطينية على مدى عقود..
أمّا عشيرهما الثالث، فلا يأكل الدّجاج الرّومي لأنه يعتقد أنّه يسبّب السرطان لوجود إشعاعات على اثر فقس بيضه بالأشعة..
وطبعا لكلّ رأي من هذه المواضيع رأي مضاد، يزيد من حدّة النّقاش، ويطيله، كما يزيد من صخبه أحيانا..
من حسن الحظ أن لا أحد في الشقة المقابلة.. لذلك يعلّق اسويلم
"الحمد لله غندورْ ماهو هوْنْ"..
نخرج مع جماعة سعيد لنتمشّى قليلا، ولنظفر ربّما بنسمة هواء عليل، إن جاد بها حرّ أيلول.. ورغم أنها الثالثة صباحا، فلا يزال في أزقة الحي وشارعه بعض العابرين، ولاتزال بعض المتاجر مفتوحة الأبواب، ولا زال بعض الشباب يتسامرون، ويتنابزون بالألقاب، ويتعاركون أحيانا..
لكن ما لا أفهمه هو وجود صبية صغار في وقت متأخّر كهذا خارج بيوتهم! ..

(يُتبع...)

خلود محمد جمعة
10-03-2014, 10:53 AM
نسافر معك بين السطور بمتعة طفل يلعب بطائرته الورقية للمرة الاولى
دمت بخير
مودتي وتقديري

محمد النعمة بيروك
10-03-2014, 09:00 PM
البحر لا يضحك كثيرا (34)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


لكن ما لا أفهمه هو وجود صبية صغار في وقت متأخّر كهذا خارج بيوتهم! .. تتأكّد من لبسهم أنّهم ليسوا أطفال شوارع، فمن بينهم حفيد الحاج امحمّد، وابن المُعلّمة التي تقيم في نفس عمارتنا..

أنشغل بهذا الأمر، لكنّ موضوعا آخر يأخذني لأشعر بالارتياح لمرور كلّ شيء بخير هذه الليلة.. وبالرّضى عن مستوى الوليمة.. إنّها مسألة نادرة هنا.. قد نقوم بدورنا بزيارة لسعيد ورفيقيه، لكنّنا لا نطيل المكوث، وندرس توقيت الزيارة جيّدا، خصوصا حينما نأتي مجموعين، لكن من المقبول أن يقبل أحدنا البقاء إذا فُرض عليه الجلوس للغذاء أو العشاء أحيانا.. أمّا الليلة فهي حالة خاصة مكّنت من أن نجتمع جميعا في مأدبة أقمناها لشرفهم عرفانا منّا بالجميل، وهي المأدبة التي سهّرتني على غير عادتي حتى هذا الوقت..
أعجب لـ "اسويلم" الذي يعود لحاسوبه المحمول في هذا الوقت، ثم يخبرني بكلّ سعادة أنه يكاتب "خولة" التي حدّثني عنها كثيرا.. لا أفهم كيف يسهران كلّ ليلة تقريبا في تلك المحادثات..
لم يبق سوى يوميْن وتبدأ الامتحانات بالنسبة لي واسويلم.. ورغم ذلك، ورغم تعب السّهر، فقد وافقتُ على دعوة اقترحها الخليل لنذهبَ إلى النّيل.. أمّا اسويلم فأعلنها صراحة "أصّبحْ ما يْوَعِّيني حَدْ"..
سننام بدورنا بُعيد الفجر حتى العاشرة، ويتكفّل الخليل بإيقاظي لنذهب.. لطالما أحبّ الخروج إلى الطّبيعة، ولطالما كرّر أنّ الإنسان في حاجة لفسحة راحة غير النّوم بعد كلّ فترة، حتّى يمتلك من جديد قدرة الاستعاب.. في الحقيقة لم أكن مقتنعا، وكنتُ أشعر بالرّهبة حين أتذكّر أنّني مُقبل على امتحان لم أعدّ له الكثير.. لذلك قرّرت حمل كتاب معي..

لم تسمح لنا الشمس كثيرا بالاستمتاع بنهر النّيل، رغم أنّنا سرنا قليلا على "كوبري قصر النيل" المدهش.. إنّه جسر يبدو النّيل منه كالبحر.. بحر مصر الذي لا يمنحها الملوحة ضدا عن كلّ بحار الدّنيا.. بحر مصر الضاحك البشوش، والذي كان ليضحك أكثر، لولا مشهد الأزبال المؤسف على جانبه.. لكنّه يسحرني بمشهده الممتدّ في الأفق.. المشهد الذي يجعلني أفكّر بصوت مرتفع.. ربّما ليسمعني الخليل الذي يبدو كمن يتعلّق بقشّة وهو يضع كتابي على مقدّمة رأسه اتقاءَ الشمس..
هذا هو النيل إذن.. بعظمته، وشموخه، بسمعته، وكبريائه.. بوجوده الضارب في تاريخ الأرض..
لكم رأينا صوره، وما هبّ علينا نسيمُه.. ولكم شعّ ماؤه في أعيننا حتى من الصّور التي كنّا نراها في كتب المدرسة والموسوعات، ولم نتذوقه..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
12-03-2014, 09:02 PM
البحر لا يضحك كثيرا (35)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


حتّى مشهد العبّارات الكبيرة على جانبيْه يغريني بالتأّمّل.. تلك العباّرات التي تبدو وكأنها صغاره الرضّع..
حتى العمارات التي تلوح من هنا وهناك جَمُلتْ به..
كنتُ أحاول أن أستوعب اللحظة، وأحيانا أسأل ولا أجيب..
سبحان الله.. لمَ لا ينضب؟ كيف يأتي؟، من أين؟ لماذا لا يخطىء طريقه؟
حتى وجدتني أسأل
"أهو كائن حي؟"..
...
أعرف أنّ هناك إجابات جغرافية لبعض هذه الأسئلة، ومع ذلك كنتُ أحب أن أردّدها، لأنّها تشعرني بحالة حلول معه.. وبما أنّي كنتُ أفكّر بصوت مرتفع، فقد أجاب الخليل عن سؤال من تلك الأسئلة..

"لن يتركوه بذات القوّة.. سيحاولون إضعافه من خلال تقاسمه.. سيشوّهه التّلوّث والسّرقات المائية، والسّدود، وسيُحْرَمُ من مزاولة فطرته التي جُبل عليها منذ آلاف السّنين"
أحسّ أنّ الخليل سينعرج بنا إلى الأزمة الحاليّة بين دول المنبع التي تقف أثيوبيا على رأسها، ودولتيْ المصب: مصر والسّودان.. وحتّى لا تهرب منّي اللحظة، أجدني أردّد بترنّم أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي

من أي عهد في القرى تتدفّقُ
وبأي كفّ في المدائن تغدقُ

ومن السّماء نزلتَ أم فجّرتَ من
عليا الجنان جداولا تترقرقُ

وبأي عين أم بأيّة مزنةٍ
أم أيّ طوفان تفيض وتفهقُ

وبأي نول أنت ناسج بردةٍ
للضفّتيْن جديدُها لا يَخلقُ

كلّ شيء يعطيه هذا النّهر رائع.. منظره.. تاريخه.. جماله.. مصر نفسها "هبة النّيل".. حتى جسره يحمل تاريخا عريقا منذ أن أسّس لبنائه الخدّيوي اسماعيل في القرن التاسع عشر.. يا روعة بنائه وشموخه وضخامته، ويا لجمال الأسود البرونزية الواقفة على مدخليْه وكأنّها تعبّر عن عظمته وعنفوانه وقوّته..
ترفعه الأعمدة إلى الأعلى، وينساب الماء من تحته كبساط أزرق.. أي دلال ينعم به هذا الجسر..
كم يحلو لي أن أغازل جسرا مثله.. لكنّ الخليل بدوره له تأمّله الخاص..
"هل تصدّق أنك على ذات الجسر الذي شهد أهم "معركة" وأشهرها، بين المتظاهرين السّلميين وقوات الأمن يوم 28 يناير.. هل تصدّق أنّك تقف بذات المكان الذي بُثّت منه تلك المشاهد واللقطات الرّهيبة لجموع المتظاهرين الغفيرة، وهو يُرَشّون بالماء، ويُقذفون بالغازات، ويُدعسون بالسيّارات.. من هنا ذهب المتظاهرون إلى ميدان التحرير هناك بالقرب.. ومن هنا كانت بداية نهاية التواجد الأمني في القاهرة بأسرها.. ومن هنا بدأ العدّ العكسي لسقوط النّظام.

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
14-03-2014, 04:25 PM
البحر لا يضحك كثيرا (36)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك



تبدو المدينة على جانبيّ النّهر غارقة في سُحب من الأدخنة، وكأنّها تشتعل، كيف لا والإحصاءات تتحدّث عن أكثر من مليون سيارة في القاهرة وحدها، أي ثلث إجمالي عدد سيّارات مصر كلِّها.. وللمرء أن يتصوّر عدد السيّارات التي تحتاج إلى إعادة صيانة وترميم في بلد يتنغّش بالفقراء ،وذوي الدّخل المحدود، وعدد الدّرّجات النّارية التي تلوّث الأجواء والأسماع على حدّ سواء، وعدد المصانع والشّركات التي بقدر ما تلوّث، بقدر ما تملأ جيوب الممعنين في الثراء..
تلك هي المفارقة.. حين يلتقي منبع الصّفاء، مع مصدر التلوّث.. النّيل الذي جعل الله منه كلّ شيء حي، والمدينة التي تمنح الموت بالتّقسيط..
من ينتصر؟
قد تنتصر الحياة بالفطرة.. بدافع حبّ البقاء.. لكنّ الجانب المرئي من النّيل الآن يشكو بعض الإهمال.. كيس واحد من البلاستيك قد يقتل أسماكا ونباتات، وقد يبقى عشرات السنين قبل أن يتحلّل.. إنّه أقلّ ما يمكن أن يُتصوّر ضررُه.. فماذا عن علب السّردين التي تصدأ؟.. وماذا عن حفّاظات الأطفال؟؟ وماذا عن السّوائل التي قد تتسرّب من العبّارات..
وماذا عن التوعية بكلّ ذلك.. حدّثنا سعيد ذات يوم أن مرشدا في العبّارة التي كانوا يركبونها، رمى بكيس مليئ بالفضلات في النّهر.. ولمّا أنكروا عليه قال لهم

"ما كلّ يرمي الزبالة هنا.. إيش معنى احنا.. يعني هيبقى النّيل فل إزا ما راميناش"

لطالما استثارتني الأشياء المرمية هنا وهناك، حتى في بلدي، لكن من موقعنا هذا نرى التّلوّث الجوي والأرضي والمائي..

إنّها ليست آفة مصر، إنّها آفة أغلب البلدان العربية التي تُغيّب ثقافة النّظافة، فيكبر الاعتقاد مع المرء بأن رمي ورقة "الكلينيكس" شيء عادي وبسيط، لا يستدعي حتى أن نفكّر فيه.. لكن ماذا لو رمى كل فرد ورقة واحدة في مدينة من مليون نسمة مثلا..
الوضع محبط للغاية، وإن كانت تومض بعض اللمحات التفاؤلية في نفسي أحيانا، عندما أرى في أزقة القاهرة وشوارعها لوحات و إعلانات خطّتها نفوس غيورة على هذا الوطن

"مصر بلدك العظيم.. ما توسّخهاش"
"أنا مصري.. أنا نظيف"
"نظّفها.. ما تقولشي أنا الوحدي مش كفاية"

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
17-03-2014, 11:22 PM
البحر لا يضحك كثيرا (37)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


-إن تغييب الوعي بخطورة الظاهرة، هو أحد أخطاء النّطام السّابق، وهو نفس الخطإ في أغلب البلدان العربية.. والأفراد الذين يملكون الوعي بخطورة الموقف يعجزون عن فعل أي شيء.. إذ يمكنك أن تجمع فضلات بيتك في كيس، وتُحكم عقدته، وتضعه بكلّ مسؤولية في المكان المخصص للقمامة.. لكن ماذا بعد؟ لن يجد ذلك الكيس من يحمله من هناك، وسيتكفّل المتسكّعون ،والكلاب، والقطط، بنثره وتشتيته.

-بعض الأنظمة تصطاد في الماء "العكر"..

-حين تمتلك تلك الأنظمة القدرة والإرادة يمكنها أنذاك أن توجّه الفرد..

-لكنّي شاهدتُ بأمّ عيني الباعة في "الرّْحيبة" بمدينة العيون يتركون الفضلات والنّفايات عن عمد مع سبق اصرار وترصّد.. فيذروها كعصف مأكول..

-لأنهم يحتاجون لتوعية تحرّك فطرتهم، فالفرد نظبف بالفطرة، أنظر إلى أحوالنا الخاصّة.. أنظر لهؤلاء المصريّين في منازلهم ومساجدهم كم هي نقيّة ونظيفة..

-نعم.. لكن حتّى أولئك المارقين والرّعاع في الوطن العربي، يمكن زجرهم عن طريق أسلوب التّرهيب، كما في بعض التجارب الرّائدة مثل "سنغافورة" التي تُغرِّم من يبصق العلك في الشّارع.. أو عن طريقة التّرغيب كما في تجارب بعض الدّول التي تشتري القمامة من المواطنين.

-يمكن أيضا استحضار البعد الدّيني المهمّ، في أمّة يَعتبر دينُها النّظافة شعبة من شعب الإيمان..

-أجل، ولهذا السّبب أقول لك أنّ الصّورة ليست بهذه القتامة في بلداننا العربية والمسلمة.. أنظر لتجربة سنغافورة وماليزيا.. ومن العرب أنظر لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي بدأت في ابتكار طرق لإعادة تدوير المواد خصوصا البلاستيكية الأخطر على البيئة، بالإضافة إلى الألومنبوم والزجاج، والمواد العضوية التي بدأوا في تحويلها إلى سماد..

هكذا يطول الحوار بيني وبين الخليل الذي يتناسى حرّ الشمس، فيما تنعشني من الدّاخل معلومة أوردها في معرض الحوار عن التّجربة الإماراتية، التي يفكر المخطّطون فيها، ليس فقط بإيجاد وسائل للتخلّص من النّفايات، بل بخطّة تنقص معدَّلها الصّادر عن كلّ فرد.. كأنّها محاولة لاحتواء الظاهرة من المصدر..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
22-03-2014, 02:43 PM
البحر لا يضحك كثيرا (38)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك



-"ثرثرة على النّيل" على رأي نجيب محفوظ..
...

هكذا يُعلّق الخليل على هذا الحوار، ثمّ يُنشد بصوته الشّجي، وأنا أردّد معه، وكأنّه يهرب من همّ الأمّة..

"تَمْبَرْمَه زَيْنَه يَا اللّيْلَا
وَانَا يَا اللّالِي.. تَمْبَرْمَه
يَشَيْخْ التُّورَادْ
يَا بُوهْ وُجَدُّو..."

ثمّ نَشرُع في ترك المكان على إيقاع الأغنية..
ربّما كان ذلك الإنشاد انعطافا بدرجة حادّة عن هموم الأمّة، ولربّما نجح الخليل في ذلك، لكنّه لم يفصلني عن روعة اللحظة.. فوجدتُني أخطو بتثاقل على "الكوبري" في اتجاه المدينة، كأنّي لا أريد العودة إلى برّها..
ما أجمل رؤية الماء.. لطالما سمعتُ بحب الناس شقّة على النّيل، فندق على النّيل، وقفةٌ على النّيل، لكنّني لم أستوعب روعة اللحظات إلّا عندما وقفتُ عليه بنفسي..
قد لا يكون النِّيل بعيدا عنك كماء في القاهرة، فأنت تشربه كلّ يوم، لكنّه بعيد عنك كمشهد طبيعي متدفق بكلّ أريحية رغم كلّ شيء، كأنّه لا يعبأ بأحد.. كأنه يقول "أنا موجود، وسأبقى".. كأنّه قدرٌ من أقدار مصر..
يا لهذا النّهر العظيم..
النّيل..
أحد أطول الأنهار في العالم.. النّهر الذي يسقي عشر دول إقريقية.. ولا ينضب أبدا.. تمنّيْتُ لو كان في الإمكان تخليد لحظة اللقاء به، لأنّني كنتُ أدركُ أنّني ربّما لن أراه ثانية.. ربّما سيساعد هذا اللقاء المباشر مخيّلتي للاحتفاظ بصورة أوضح من الصّورة التقليدية التي كنتُ أجمعها عنه من الكتب والأفلام والموسوعات حين كنتُ بعيدا..

نعم.. إلتقط لي الخليل صوّرا وأنا أصافح النيل من خلال لمس مائه، واحتضان هوائه.. لكنّ الشعور باللحظات لا يُمكن تصويره.. ولا كتابته.. لكن يمكن للمرء الاحتفاظ بطعم الذكرى لنفسه، وإذا استطاع تبليغ نسبة من الإحساس بروعة اللقاء فذلك من أقوى الإيمان.. قد أستطيع أن أجعلك تحبّ أن تذهب إلى النّيل، لكنّني لن أستطيع أن أجعلك تعشقَه، كما عشقتُه..

(يُتبع...)

ناديه محمد الجابي
22-03-2014, 05:22 PM
منبهرة أنا بحكيك الشيق وبكل ما ورد في قصتك من أراء وأفكار
وأحب أن أذكرك بإني كنت متابعة معك من أول حلقة كتبتها ومازلت
في استمتاع بكل سطر كتبته.
عشقك للنيل وسعادتك بملامسته ، ومصافحته .. أعتقد أن هذا الشعور
مر بكل من زار مصر .. وأيضا بكل مصري موجود في مصر ..
أو كل مصري موجود خارج مصر .. ذلك الشعور بالتبجيل لعظمة
ذلك النهر العظيم ـ وأيضا الشعور بالتأذي من كل ما يمكن أن يشوه
النيل من فضلات ونفايات.
سعيدة أنا جداً بقصتك وأراءك التي تعتبر تسجيلا لأحداث هامة حدثت في مصر
ومازلت متابعة معك بكل شوق وشغف لكل ما تكتب.
تحياتي وتقديري.

محمد النعمة بيروك
24-03-2014, 10:41 AM
نسافر معك بين السطور بمتعة طفل يلعب بطائرته الورقية للمرة الاولى
دمت بخير
مودتي وتقديري

سفركم معي يؤنسني أختي الأديبة خلود..

شكرا جزيلا لكِ.

محمد النعمة بيروك
24-03-2014, 10:44 AM
منبهرة أنا بحكيك الشيق وبكل ما ورد في قصتك من أراء وأفكار
وأحب أن أذكرك بإني كنت متابعة معك من أول حلقة كتبتها ومازلت
في استمتاع بكل سطر كتبته.
عشقك للنيل وسعادتك بملامسته ، ومصافحته .. أعتقد أن هذا الشعور
مر بكل من زار مصر .. وأيضا بكل مصري موجود في مصر ..
أو كل مصري موجود خارج مصر .. ذلك الشعور بالتبجيل لعظمة
ذلك النهر العظيم ـ وأيضا الشعور بالتأذي من كل ما يمكن أن يشوه
النيل من فضلات ونفايات.
سعيدة أنا جداً بقصتك وأراءك التي تعتبر تسجيلا لأحداث هامة حدثت في مصر
ومازلت متابعة معك بكل شوق وشغف لكل ما تكتب.
تحياتي وتقديري.

كم هو رائع أن يشعر كاتب مغمور مثلي باهتمام أديبة من حجمكِ وقارئة حصيفة مثلكِ أختي نادية..

شكرا لرأيك في هذا العمل، ومتابعتك المشرّفة التي أسعدتني للغاية..

ممتن لحضوركِ الجميل..

تقبلي فائق تقديري واحترامي.

محمد النعمة بيروك
24-03-2014, 10:46 AM
--------------------------------------------------------------------------------



البحر لا يضحك كثيرا (39)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


أقترح على الخليل أن نجلس لشرب فنجانَيْ قهوة، وبالفعل تلوح من هناك مقهي جميلة كفاتن تستجم على ضفاف النّيل، لكنه يستقبل مكالمة قبل أن نصل إليها..

-ألو.. نعم
-.......
-على الدّرج! ؟
-.......
...
-هناك اسويلم، دقّ جيّدا!
-.......
-طيّب أنا قادم

ثمّ يخبرني أنّها مكالمة من زميله وصديقه الموريتاني (أحمد محمود)الذي ينتظره أمام عتبة الشّقة..

-ألديك موعد مسبق معه؟
-لا.. ولكنّي في حاجة للقائه

ورغم أنّي أعرف الطالب (أحمد محمود) منذ السّنة الماضية انسانا جميلا، شعبيا، ومحبوبا، إلّا أن
الخليل يستغلّ الطّريق ليمدحه أكثر.. ربّما لتبرير قطع خرجتنا هذه..

"لن تصدّق "خُويَ" محمّد.. إنّه طالب منتسب، لكنّك تجد عنده كلّ الدّروس.. كلّ المستجدّات.. تجد عنده ما لا تجده عند المنتظمين.."

ثم يضيف ضاحكا:

" أشعر أحيانا أنّه يخطّط لخطبة أختي.. يفعل الكثير من أجلي.. تصوّر أنّه عرّفني على الطّالب العراقي المنتظم والطيّب جدّا عمّار خصّيصا ليسجّل لي أهمّ المحاضرات، ثمّ يبثّها إليّ عبر الانترنيت.. وأيضا ليحتفظ لي بالمطبوعات والامتحانات وما شابه، ويخبرني بالمستجدّات أوّلا بأوّل عندما لا يكون أحمد محمود هنا"

ثمّ ينعرج إلى عشيرنا..

"أي نؤوم هو اسويلم.. كيف لا يسمع طرْق (أحمد محمود) على الباب؟؟.. كيف يجعله يجلس على الدّرج كالمتشرّدين؟؟"

ونحن في طريقنا إلى الميترو، أحاول أن أشغل ذهنه عن الأمر بمواضيع أخرى قبل أن يتعكّر مزاجه أكثر..

-دعنا من هذا الآن.. وأجبني عن أمر يشغلني..هل تفهم لماذا طالب الرئيس مرسي بزيارة المفاعلات الإيرانية على هامش مؤتمر دول عدم الانحياز في طهران؟

وكأنّه كان يعلم بنيّة الرئيس، يردّ..

-طبعا لأنّه يفكّر في استنساخ التجربة الإيرانيّة في مصر.. ودائما تحت شعار "الأغراض السلمية"..

من جوابه، بدا سؤالي ساذجا وبسيطا، وقبل أن أفكّر في موضوع آخر، كنّا قد وصنا المحطّة التي تبدو لي في كلّ مرّة وكأنّ ناسها يتجمهرون على مشاجرة ما..
"قطّعنا" تذكرتيْن، وصعدنا -لفرط الخشية من انطلاق القطار- مقصورة خاصة بالنّساء، لتخبرنا إحداهنّ بأنّنا في المكان الخطأ.. حاولنا النّزول بسرعة، لكنّ الباب سُدّ في وجهيْنا.. فانتابني حرج شديد.. هو ذات الحرج الذي لمسته في وجه الخليل، إذ كان لابدّ من البقاء في تلك المقصورة بين النّساء حتّى المحطة القادمة..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
28-03-2014, 01:38 PM
البحر لا يضحك كثيرا (40)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


وعلى الرغم من أنّ المدّة إلى المحطّة التالية أقلّ من خمس دقائق، فقد أحسستها دهرا، وكنتُ متقوقعا مع الخليل في زاوية المقصورة وكأنّنا طفلان يتيمان.. وكان العرق يجتاحني رغم المروحات المشغّلة في كلّ اتجاه.. لم ننبس ببنت شفة، كنتُ –ولربّما كان صاحبي- منشغلا فقط بتأمّل هذا الوضع المحرج..
"ماذا سيقول الذين سيروْنا ونحن ننزل من مقصورة للسيدات، وماذا تقول السيّدات أنفسهنّ"
لم نملك حتّى الجرأة لمعرفة ما إذا كانت واحدة تهتمّ لوجودنا أم لا.. كنّا نتمثّل أمام عينينا فقط موقعنا في المكان الخطأ..
نفس الشعور يجتاحنا، كما سيؤكد لي الخليل فيما بعد..
ما عجبتُ له في تلك اللحظات أن امرأة في الخمسين تقريبا وجهّت لنا كلمات مواسية، وكأنّها تفهّمت أيّ وضع نحن فيه..
"معليش يا ولادي.. الخطأ وارد بردو"
شعرت بالرّاحة لكلامها الذي ستسمعه الأخريات أو بعضهن، عسى أن يلتمسن لنا عذرا.. أيضا أشعرني بقليل من الاطمئنان انهماك بعضهن في الحديث في أمور أخرى، ممّا يعني أن الأعين ليست مركّزّة علينا بالكامل..
عندما وصلنا المحطّة، بدا وكأن القطار يرفض التوقّف.. وكدنا نقفز قفزا عندما فعل، وقد تطابق تصرّفنا دون اتفاق مسبق، عندما طأطأنا رأسيْنا دون الالتفات إلى أحد، خوفا حتّى من قراءة امتعاض في وجه رجل أو امرأة.. وقد تمكنّا بسرعة من صعود مقصورة عادية من نفس القطار.. حيث انتابني شخصيا شعور بارتياح كبير لذوباننا وسط الجموع الغفيرة من الرّجال.
لم تكن الفرصة متاحة حتّى بين الرجال للحديث عن الواقعة، لحساسية الحدث.. لكن ما إن نزلنا في "حدائق المعادي" حتّى انفجرنا ضحكا، قبل أن نقف لتأمّل الصّورة..
أذكر من أول لمحة أن كلّ الموجودات في تلك المقصورة كنّ متستّرات.. بهذا أخبر الخليل..
-ألاحظت ؟
هكذا يسأل..
ويضيف..
-أنظر إليهن يا محمد.. انظر إلى تلك التي تقف هناك.. أنظر إلى تلك التي تعبر الشارع.. أنظر إلى تلك تحمل سَلّة.. أنظر إلى تلك.. أنظر إلى تلك.. أترى تبرّجا؟.. أترى سفورا؟ من قال أنّ نساء مصر متبرّجات؟!
وبسرعة أجدني أردّ..
- سأقول لك من قال ذلك!

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
01-04-2014, 10:03 AM
--------------------------------------------------------------------------------



البحر لا يضحك كثيرا (41)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


أترى سفورا؟ من قال أنّ نساء مصر متبرّجات؟!
وبسرعة أجدني أردّ..
- سأقول لك من قال ذلك.. إنّهم المصريون أنفسهم، من خلال مسلسلاتهم، وأفلامهم، ومسرحيّاتهم.. من سيُصدّقنا إذا عُدنا إلى أهلينا وأخبرناهم أنّ نساء مصر بهذا الكمّ من التّستر، هل سيصدّقوننا، أم سيصدقون أعينهم وهم يشاهدون شريطا مصريا على التلفاز؟!..
ينعرج الخليل إلى جزئية أخرى من الموضوع..
-حتّى أحداث التّحرّش التي تتداولها الأنباء ومقاطع الفيديوهات على الانترنيت يصعب تخيّل أنّها تحدث في مصر.. من يصدّق أن شقيّا ستسوّل له نفسه مغازلة امرأة عابرة من هؤلاء النّسوة، دون أن يكون فعله بمثابة عمليّة انتحارية مُؤكّدة.. إنّ الأيْدي التّي تمتدّ للأخذ بأيدي العجزة، لا يمكن أن تمتدّ لملامسة أجساد النساء في الشوارع..
لكنّني أجد ذاكرتي تسترجع ما عرضته وسائل الانباء ذات يوم..
-التّحرّش موجود "خوي" الخليل.. لايمكن أن نغفل كلّ الحقائق التي تشير إليه..
فيردّ بسرعة..
-نعم.. ولكن هل رأيتَ على مدى تواجدك هنا تحرّشا في الشارع.. في السّوق.. في الميترو.. أبدا.. أعتقد أن الإعلام يسلّط الضوء على فئة قليلة من المراهقين في حالات نادرة، خصوصا في الأعياد والمناسبات..
ثمّ يسكتُ قليلاويضيف..
-ثلاثة أمور قد تُكلّفك حياتك هنا.. .. إذا صدمتْك سيّارة.. إذا أشار إليك أحدهم وقال "حرامي".. إذا صرختْ امرأة "ده بيعاكسني يا ناس"..
ثمّ يضحك..
-عليك أن تنطق الشّهادتيْن قبل أن تفكّر في الحديث إلى إحداهن..
حتّى النّساء اللواتي يجاورننا في الحي لا نكاد نراهن.. تشعر أنّهن يختبئن منك.. لذلك اكتسبنا من المصريين "احم" و"دستور" عندما نكون على سلّم ونشعر أن أحدا في منعرج ما.. لم نر يوما عائلة "الحاج غندور" ولا غيره ممّن قطن معنا في نفس العمارة..
إنّ المرء حين يُعايش المصريين سيفهم جيّدا لماذا يحلو لهم أن يسمّوا نساءهم بالحريم.

(يُتبع...)

ناديه محمد الجابي
02-04-2014, 10:08 AM
أشكر لك عينيك التي ترى الجمال وتسلط عليه
وتبعد عن القبيح ولا تراه. وأوافقك بأن المصريين
هم من يقدموا دعاية سيئة لأنفسهم في المسلسلات
والأفلام المصرية. وبرامج التوك شو المختلفة تصور
مصر دائما وكأنها على شفا حفرة من نار..
اللهم احفظ مصر وأهلها وارجع لها أمنها وآمانها
وآلف بين القلوب.
مازلت معك متابعة ..

محمد النعمة بيروك
29-04-2014, 03:02 AM
أشكر لك عينيك التي ترى الجمال وتسلط عليه
وتبعد عن القبيح ولا تراه. وأوافقك بأن المصريين
هم من يقدموا دعاية سيئة لأنفسهم في المسلسلات
والأفلام المصرية. وبرامج التوك شو المختلفة تصور
مصر دائما وكأنها على شفا حفرة من نار..
اللهم احفظ مصر وأهلها وارجع لها أمنها وآمانها
وآلف بين القلوب.
مازلت معك متابعة ..

أهلا بكِ أختي المبدعة نادية..

متابعتكِ شرف كبير لي، ولو لم تكن لديّ قارئة غيركِ لكتبتُ وكتبتُ، فلقد خبِرْتُكِ كاتبة، وهأنذا أكتشف القارئة الحصيفة التي تسكنكِ.

شكرا جزيلا لكِ.

محمد النعمة بيروك
21-05-2014, 01:03 AM
البحر لا يضحك كثيرا (42)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


إنّ المرء حين يُعايش المصريين سيفهم جيّدا لماذا يحلو لهم أن يسمّوا نساءهم بـ"الحريم"..

ثمّ يتوقف الخليل للبحث عن شيء في هاتفه.. ربّما يشغله وضع أحمد محمود..
لكنّني أرفض أن ينتهي الحوار، على الأقلّ داخلي، فأجدني في تأمّل أعمق لصورة المرأة في القاهرة..

إنّ الحديث عن السّتر لا يعني طبعا أنهنّ لا يُشاهَدنَ في الشارع والمتاجر عابرات، وبائعات، وزبونات، ومتسوّلات، كما لا يعني أنهنّ لا يستقبلننا في الإدارات موظّفات، ولايعني أنهنّ لا يدرّسننا بعض مواد المعهد، ولا يعني أنّ منهنّ عالمات وكاتبات وشاعرات، لأن التستّر ليس نقيض الحياة.. وفي المقابل لا يعني ذلك أيضا أن شواطىء مصر تعرف عُريا في الصيف، وقد تعرف الملاهي الليلية أشدّ من ذلك وأنكى، إذ لا يمكن نفي الجانب الآخر في الانسان، مثل كلّ العالم الذي ستظلّ تلازمه ثنائية الخير والشر.. إنّنا بالحديث عن تستّر نساء مصر لا نزعم أنّنا أمام مجتمع مثالي، أو ملائكي.. نعم.. قد يكون في معظمه مجتمعا متديّنا، لكن يُحسبُ له أنّه عرف جيّدا كيف يتقن "لعبة السّتر" وكيف استطاع أن يبدو لنا مجتمعا خلوقا ومؤدّبا..
في مثل حالة مصر يفهم المرء لماذا يركّز الإسلام على "السّتر"، ولماذا يقول الحديث النّبوي: "كلّ أمّتي مُعافى إلّا المجاهرين"..

إنّك لستَ بمنأى عن التعامل مع النّساء في القاهرة، قد تكون الشقّة التي تقطنها في ملك امرأة، تدقّ بابك كلّ شهر لتسلّم ثمن الإيجار، قد تقصدك هنا مُحتاجة تشعر بمجرّد النظر إليها بعفّتها.. وكأنّها لا تريد أن تتسوّل بشكل مباشر، تعرض عليك كُتيّبا صغيرا جدا من الورق الدّقيق..

"والنّبي لنتَ مشتري منّي أزكار سيدنا النّبي بجنيه واحد بس.. والنّبي ما تكسفنيش"

وفي المترو قد تضع إحداهنّ سلعتها البسيطة بين يديك بدون استشارة.. قد تكون "ولّاعة" أو قلّامة أظافر، أو قلم، أو مفكّرة، أو كُتيّب، ثم تعود لتأخذه، أو تأخذ ثمنه..
وقد تجدها بائعة في متجر، عادة ما تكون كبيرة نسبيا في السّن، غير نحيفة، ذات نور وطيبة..

"خد اللي انت عاوزو يا بني.."

"ده يستة اجنيه.. بس ليك بخمسة بس"

وعندما تتأخّر لحظة في البحث عن محفظتك، تبادرك بقولها..

"ما تخلّي عنّك يا ابني"

ولمّا تهم بالانصراف تلاحقك عبارات من قبيل..

"المحل محلّك يا بني.. أنست أُ شرّفت"..

(يُتبع...)

محمد النعمة بيروك
06-11-2014, 12:08 PM
البحر لا يضحك كثيرا (43)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


لكن يبقى تعاملك مع الرّجل في كل المعاملات أكثر وأشد..

قبل أن أسترسل في استرجاع العديد من المواقف، يخبرني الخليل أنّ أحمد محمود لا يزال ينتظر على الدّرَج..

وبالفعل نجده هناك في حالة مزريّة، يبدو وكأنّه خارج من معركة للتو، حتى لونه الأسمر المائل إلى الصّفرة يبدو داكنا.. وقبل أن أصبّ جامّ غضبي على اسويلم، وجدتُ الخليل يهدّئني بطريقته المعهودة، وكأنّه يبلغني أن الوقت ليس مناسبا للتذمر في وجود الرّجُل:

“رُفع القلم عن الناّئم يا أخي”

ثمّ يفتح الباب على وقع السّلام، وفيما كنتُ أعتذر بصفة عامّة عمّا حدث للضّيف المُنهك، وجدتُه يتجه مباشرة إلى الأريكة ويتمدّد عليها.. ثمّ يفجّر سبب مجيئه بجملة قصيرة..

“لقد سُرقت”..

وفي ما ننظر إليه مشدوهيْن، وقبل أن ننبس ببنت شفة، يضيف..

“من حسن الحظ أن أبقوا على جواز السفر..”

وفيما كنتُ مأخوذا لمعرفة التّفاصيل، وجدتُ الخليل، يُهدّئه وينصحه أن يستريح أوّلا.. ربّما إشفاقا على حالته، وربّما لاستغلال الوقت في إعداد جلسة يمكن خلالها معرفة التّفاصيل..

شعرتُ للحظات ببعض الكسل عن القيام بدوري، خصوصا أنّ هناك بقية من وليمة البارحة، حيث من المنوط بي أنّ أفعل كلّ شيء هذا اليوم، وبدلا من ذلك فتحتُ التّلفاز على محطّة مصريّة..

“برنامج عن الفن والأدب في ظل حكم الإخوان في مصر”

انتقلتُ إلى محطّة أخرى..

“الجيش الحرّ يسيطر على ثكنات عسكريّة نظامية.. ومزيد من القتلى المدنيين إثر القصف الجوّي النّظامي”

ألتفتُّ إلى أحمد محمود لأسأله عمّا يفضّل مشاهدته، فأجده يغطّ في نوم عميق..

وقبل أن أبرح مكاني إلى الطبخ، كان الخليل يُعدّ أواني الشّاي، مع قدح من اللبن، لكنّني استقبلتُ بفرح القدح أكثر، وكان عليّ أن أنتظر حتى يوقظ الخليلُ الضّيفَ ليشرب أوّلا..

خلال جلسة شرب الشاي الذي “يقيمه” اسويلم المستيقظ للتّو، يحكي لنا أحمد محمود حكايته بكثير من الأسى والمرارة..

أحمد محود ليس طالبا تقليديا أتى ليدرس سنتين أو ثلاثا ويمضي مثلنا، إنّه موظّف في الجامعة العربية منذ ستّ سنين، لكنّه قرّر الدّراسة في المعهد الذي يتبع لجهة عمله منذ سنة ونيف.. لذلك نعتمد عليه كصديق للخليل في قضاء الكثير من الأغراض الدّراسية والإدارية.. يبدو أحمد محمود منصهرا مع المجتمع المصري أكثر مناّ جميعا، فقد حصل على الجنسية المصرية، وبدا وكأنّه يتنكّر لجنسيته الأصلية، يكاد أصدقاؤه يتوزّعون على كلّ الجنسيات العربية، وجميع معارفه وزملائه –تقريبا- في العمل أو في الدّراسة يدخلون شقّته.. وهو باختصار لا يشكّ بأحد بعينه، لكنّه لا يبرّيء أحدا أيضا.. وحتّى المدّة الزمنية التي قد تسمح له بحصر بعضهم في بوتقة شكّه لا يعرفها، فربّما تكون محفظته الموضوعة ببساطة في الدّولاب –حسب قوله- قد سُرقت منذ أيام..

يُتبع...

رويدة القحطاني
30-11-2014, 03:12 AM
قرأت الحلقات الأولى وسأتابعها حتى النهاية
فأدب الرحلات جميل ومشوق عندما يكتب بقلم كفؤ

محمد النعمة بيروك
01-12-2014, 03:01 PM
تشرّفني متابعتكِ أختي الكريمة رويدة..

شكرا جزيلا لكِ

محمد النعمة بيروك
07-12-2014, 03:56 AM
البحر لا يضحك كثيرا (44)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


بدا لي أن الحادث ليس بمستوى الحالة التي وجدناه عليها أنا والخليل… ثلاثة آلاف جنيه، ليس مبلغا يمكن أن يحطّم إنسانا يشتغل في مصر.. لربّما شعر بالاحتقار، أو ربّما صُدِم في الّذين كان يثق فيهم، خصوصا أنّه أحد المؤمنين بقوّة بالوحدة العربية، والمصير العربي الواحد.. لذلك يداعبه اسويلم، لكسر حدّة الكآبة التي خيّمت على الجميع أثناء حديث أحمد محمود على ما يبدو..

“أرجو ألّا يؤثّر ذلك في توجّهك النّاصري”

فيتحامل على نفسه ويبتسم ابتسامة منتزعة من عمق أسى عميق بادٍ في عينيْه..

وبما أنّ الخليل هو صديقه الأقرب، فقد كان يوجّه إليه بعض اللوم والعَتَب من حين لآخر..

مرّة بالملاحظة..

“أنت تُكثر من الأصحاب “خوي” أحمد محمود..”

ومرّة بالتساؤل..

“أ تضع مبلغا كهذا في دولابك؟”

ولأني كنتُ أشعر أن كلمات الخليل تضغط على نفسيّته أكثر، فقد كنتُ أتصنّع الدّفاع عنه..

ذات يوم حكى لنا زملاؤنا الذين سبقونا إلى القاهرة أن طالبا زعم أن محفظته سُرقت، فقام بعض الطّلبة الصحراويين بجمع المال له، فيما أكدّ البعض الآخر أنه معروف بالاحتيال.. واتّضح فيما بعد، أن الفريق الثاني كان مُصيبا..

لكنْ من المستبعد أن يقترح أحدهم أن نجمع مالا لـ أحمد محمود، بالنظر إلى حالته كموظف يسحب أجرته من المصرف بالقاهرة، وبالنّظر إلى شعبيّته بين النّاس هنا، وبالنّظر إلى حالتنا نحن ذاوتنا.. ربّما كان ذلك ليحدث لو تعرضتُ أنا، أو الخليل، أو اسويلم لما تعرّض له..

كنتُ أفكّر في هذا الأمر بعد الغدَاء، عندما كنتُ في غرفتي على وشك أخذ قيلولة تسمح لي بالسّهر ليلا للمراجعة..

ارتحتُ قليلا لحالة أحمد محمود عندما سمعته من هناك يقهقه مع الخليل وهما يستمعان إلى اسويلم وهو يقلّد أحد البرامج الشهيرة بصوت مرتفع..

“-هل يكفر أحمد محمود بالقومية العربيّة، بعد أن فتح شقّته للعرب فغدروا به؟

-أمْ أنّ أواصر العروبة بينه وبين خلّانه أكبر من ثلاثين ألف جنيهٍ؟

-هل هو مخطط صهيوني، ومؤامرة غربية دنيئة، للإيقاع بين أحمد محمود وأشقائه العرب؟

للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، معي على الهواء مباشرة، أحمد محمود نفسه، وفي الاتجاه الآخر معنا زعيم عشرة الخليل، الخليل نفسه أيضا.. نبدأ النقاش بعد الفاصل..”

أجدني أضحك وحيدا حتّى تدمع عيناي، وأسرّ في نفسي..

“يبدو أن إحدى هرطقات اسويلم قد آتت أكلها هذه المرّة..”

يُتبع...

محمد النعمة بيروك
29-06-2015, 04:16 PM
البحر لا يضحك كثيرا (45)
(من أدب الرّحلة)
محمد النعمة بيروك


استيقظت على صوت باب يُقفل وأنا أشعر أنّني نمت طويلا..

لا صوت ولاحركة في الشقة.. فتحتُ النافذة الكبرى في الصّالة، فشعرتُ بهبّة نادرة لنسيم منعش في هذه الأيّام الحارّة..

ربّما خرجوا جميعا في رفقة واحدة، لكن الأرجح أن الخليل خرج مع صديقه، وأن اسويلم في ميدان الاتحاد يكاتب صاحبته “خولة” عبر حاسوبه المحمول..

لطالما حدّثني عنها، لكنّي أتعجّب كيف يقبل أن يستمرّ في علاقة مع فتاة يرفضه أهلُها، ولا تُحرّك ساكنا مع أنّها تعلم أنّ لا ذنب له في تطليق أختها من أخيه الأكبر، هكذا يرى أبوها أن يزر اسويلم وزر أخيه، وهكذا يقول اسويلم نفسه..

لكن الخليل يقول أن أسبابا خاصّة جدّاً هي التي أدّت إلى زواج أخيه من أختها التي ضغط أبوها بإيعاز من القبيلة لانفصالهما، وأنّ اسويلم يحلم بزواج مستحيل، رغم أنّ الفتاة تريده..

“عندما تملك خولة الشجاعة لتقول لا للقبيلة سيتزوّجان، وعليهما بعد الزّواج أن يملكا قوّة التحمّل، وألّا تستسلم هي، كما استسلمتْ أختُها”

لكنّ الخليل لا يقول هذا الكلام أمام اسويلم.. ولا أنا أفعل..

أحيانا يأسرني المجتمع المصري إعجابا.. لا حديث من أيّ نوع عن القبليّة.. ربّما في أماكن أخرى كالصّعيد نعم.. لكن في المدن، من المستبعد جدّا أن ترفض عائلة خاطبا لأسباب قبليّة..

“ألسنا من جذور عربية نحن والمصريون وغيرهم من العرب؟ إذن لماذا تفرِّق القبليّة عندنا مثلا ولا تفعل عندهم؟

هكذا أسأل الخليل، فيجيب:

“القبلية في المجتمعات الأقلّ مدنية.. لذلك تجدها عندنا، وفي موريتانيا، ودول الخليج.. لكنّها تنقرض أو تضمحلّ كلّما تمدّن المجتمع.. حيث ستحلّ أولويات أخرى في الزّواج مثلا.. أولويات ماديّة في أغلب الأحوال”

يُتبع...