عبد الرحيم صادقي
25-10-2012, 02:10 AM
حصريا لملتقى رابطة الواحة الثقافية
بمناسبة عشرة أعوام من الإبداع
حدث يحيى بن جعفر قال: حضرتُ بالكوفة مجلس علم، يستنزل الرحمة ويمحو الإثم. فقلتُ قِدْحةُ نور وفَهْم، ليكنْ لي فيه سَهم. كيف وفيه حنظلة الأحنف، العالم الأشرف؟ ثم إني ألقيتُ التحية وجلست قُبالته، أبتغي حكمته وبلاغته. ثم قلت: ائتِنا يا حنظلة ببلاغة، وذُرَّ كما تُذَرُّ النُّبَاغة! ولا تَعْدُ القرآن، إذ هو البيان. واحذر الزيادة والنقصان، عفا الله عن سهوك والنسيان.
قال حنظلة: أمَا إنه المعجزُ كلُّه، ومَن وعاهُ لا يملُّه. آية البيان، ودرّة الجمان. ومُقوّم اللسان، ومُصلح الإلحان. جاوز الزمان، وأضاء المكان. له حلاوة، وعليه طلاوة. وبه شهد العدو، ومَن مازَ الحوَّ من اللَّو. قال القوم: فهاتِ بلاغته، واذكر لنا فصاحته!
قال حنظلة: فيه الموازنة، وخُصَّت المماثلة. ومنها القلب، يشرح القلب. ولزوم ما لا يلزم، ولْيَسأل من لا يعلم. وفيه الترديد، كذا التعديد. والترتيب والاختراع، كأحسن ما يكون الإبداع. أليس الفصل ليس بالهزل؟ ثم التخييل والاستطراد والإحالة والائتلاف، لو كان من عند غير الله لكان فيه اختلاف. ومراجعة وسجع، وتسهيم وجمع. وفرصة وتجريد ومطابقة، وتخلّص وتهكم وموافقة. وتورية ومُشاكلة، وتفريق ومقابلة. وإيراد حُجّةٍ على مذهب أهل الكلام، حتى يتَّسق القولُ ويبلغ التّمام. ومبالغة وجناس، به يحصل الإيناس. ومنه تام وغير تام، والنظم أبدا في انتظام.
قالوا: فهات الشاهد، ودعِ الزوائد! قال حنظلة: أما الموازنة فقوله تعالى: "ونمارق مصفوفة، وزرابيُّ مبثوثة". وأما المماثلة فقول القوي المتين: "وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم". والقلبُ لا أبا لك، قولُ من مَلَك: "كل في فلك". و"ربَّك فكبر"، التي في المدثر. وأما لزوم ما لا يلزم، فقول الماجد الأكرم: "فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر". قالوا: فالترديد والتعديد، يا ذا الرأي السديد؟ قال حنظلة: أما الترديد، فقول الحميد: "حتى نؤتى مثل ما أوتي رُسُل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالاته". وأما التعديدُ، فقول المجيد: "التائبون العابدون، الحامدون السائحون". والترتيب، قول الرقيب: "وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح". والاختراع لا حُرِمْتم الانتفاع، قوله: "ولما سُقِط في أيديهم". وهو نظمٌ لم تعرفه العرب، ولا سُمِع قبْلَ القرآن ممّن في الأرض سَرَب. أما التخييل، فقول الجليل: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه". والاستطراد بَعدهُ الارتداد، قوله في طه: "وهل أتاك حديث موسى". وقوله في الأعراف، أيها الأشراف: "يا بني آدمَ قد أنزلنا عليكم لباسا يُواري سَوْءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير". وفي الإسراء، أهل النَّعماء: "أقم الصلاة لدُلوكِ الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا. ومن الليل فتهجَّد به نافلة لك". وأما الإحالة فقوله تعالى: "وقد نزّل عليكم في الكتاب". إحالة على قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا". وهذه لعمرك جليّة، أما الإحالة الخفيّة، فقوله تعالى: "وآتينا داود زبورا"، وقيل إحالة على قوله: "ولقد كتبنا في الزبور". والائتلاف جمعٌ بين متناسبين، والقولُ المبين بلا مَين: "الشمس والقمر بحسبان". أما المراجعة فحكاية التقاول، كقول عزَّ من قائل: "قال فرعون وما رب العالمين"، إلى قوله: "من الصادقين". وذا في "الشعراء"، أيها البلغاء. والسجع في الذِّكْرِ كثير، وله أضرب كقول الخبير: "ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا". ومنه المتوازي نحو: "فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة". وفي السجع تمايُز، ليس فيه تناجُز، كقوله تعالى: "في سدر مخضود وطلح منضود". كذا: "والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى". وقول الحكيم، اللطيف الحليم: "خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه".
قالوا: نِعمّا ونعمّا، زادك الله علما! فالتسهيم والجمع؟ قال: أما التسهيم، فقول السميع العليم: "وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". وأما الجمع، أهلَ السمع، فقوله تعالى، جلّ وعلا: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". والفرصةُ مثل: "قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم". والتجريد قول الرشيد: "لا يسألون الناس إلحافا". والمطابقة: "وتحسبهم أيقاظا وهم رقود". وقول المحيي المميت: "يحيي ويميت". وقوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت". وطباق الأول اسمان، وطباق الثاني فعلان، وطباق الثالث حرفان. وما سلف طباق إيجاب، أما السلب أيها الأحباب، فنحو: "ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا". كذا: "فلا تخشوا الناس واخشون". ومن الطباق تشابه الأطراف، ومنه: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. وهو اللطيف الخبير". وحُسنُ تخلصٍ يجري، بسلَسٍ فلا تدري، متى كان الانتقال، وكيف حدث الاستقبال. ومنه في "النور"، غشيكم النور: "الله نور السموات والأرض". وفي "ص": "هذا وإن للطاغين لشر مآب". والتهكم وَيحَكُم: "ذق إنك أنت العزيز الكريم". والموافقة أو مراعاة النظير، فمنه قول العليّ الكبير: "الشمس والقمر بحسبان". والتورية أو الإيهام، كقول القدوس السلام: "الرحمن على العرش استوى". وهذه مجردة، ومثال المرشحة: "والسماء بنيناها بأييد". وأما المشاكلة فمنها التحقيق، كقوله تعالى: "ومكروا ومكر الله". ومنها التقدير، كقول البصير: "صبغة الله". والتفريق على التحقيق، نحو قوله تعالى: "هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج". والمقابلة نحو: "فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا". ومنه: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى". وأما الحجة على مذهب أهل الكلام، فنحو قول البارئ العَلام: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا". وقوله: "وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض". والمبالغة أهل البلاغة، نحو: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار". وأما الجناس، أيها الناس، فنحو: "ويوم تقوم الساعة يُقْسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة". وهذا تام والناقص أضرُب، ما اختلف بحرف في الأول نحو: "والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق". وما اختلف بحرفين متقاربين سُمي المضارع، نحو قول الغني المغني المانع: "وهم ينهون عنه وينئون عنه". وهو حرف في الوسط، أعوذ بالله من الشطط. وغير المتقارب لاحق، نحو القول الصادق: "ويل لكل همزة لمزة". وهذا في الأول، وأما في الوسط: "ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون". وفي الآخِر، نحو قول الأوّل الآخِر: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف". وتتالي المتجانسين مزدوج، نحو: "وجئتك من سبإ بنبإ يقين". وقد يَجمع اللفظين اشتقاق، نحو: "فأقم وجهك للدين القيّم". أو تجمعُهما المشابهة، نحو: "قال إني لعملكم من القالِين".
ثم قال: ذلكم بعض من بديع القرآن، وتلكم شواهد البيان. نسأل الله الغفران، ورُواء الجنان. قالوا: فهل لك أن تدلنا على ما في الفرقان من بيان، أعجز الإنسَ والجان، وحار فيه الثقلان، جُزيتَ الخير والإحسان، ووُهبتَ الخيرات الحِسان؟ قال: وربِّ العزة الديّان، إن فيه الياقوت والمرجان. وبعضٌ من نُتف، تدل من عَرَف، على ما لم يُكشَف، وليس الرِّيُّ عن التّشاف. ولم يُحرَمْ مَن فُصْد له، والمحروم أخو الجهالة الأبله. ولا أردّكم بأفْوَق ناصل، وعلى الله اتكالي لستُ بالمتواكل. أقول في كتاب الله تشبيه، يفقهُه النَّبيه. خذْ من بابه وجهَ الشبه العقلي: "مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا". وقد يلي المشبهُ به الأداةَ تقديرا، نحو: "أو كصيب من السماء". وقد يليها غيرُه كقوله تعالى: "واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا كماء".
وفيه مجاز مرسل، يُدرَك ويُعقل. منه ما حوى كُلاًّ في جزء، نحو: "يجعلون أصابعهم في آذانهم". ومما اجتمع فيه إطلاقُ الحالّ على المحل وعكسُه قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد". واستُعمِل المظروف في الظرف، فاكتحلْ ببهاء الحرف: "وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله". واستُعمِل اللسانُ في الذِّكْر، فتنسَّمْ أرَجَ الذِّكْر: "واجعل لي لسان صدق في الآخرين". ومنه اعتبار ما كان، فليدرك النَّبْهان : "وآتوا اليتامى أموالهم". واعتبار ما يكون: "إني أرانيَ أعصر خمرا". ومن باب الاستعارة دونك الوفاقية، نحو: "أوَمَن كان ميتا فأحييناه". وإليك ما طرفا استعارته حِسيّان والجامعُ حسّي: "فأخرجَ لهم عجلا جسدا له خوار". وأما الجامع العقلي فاقرأْ: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار". ومتى كان الطرفان عقليين فالجامع لا يكون إلا عقليا، ومن ذلك قوله تعالى: "مَن بعثَنا من مرقدنا". وإذا كان المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا، فالجامع عقلي، نحو: "فاصدع بما تؤمر". وعكسه: "إنا لما طغى الماء".
ومن المجاز ما إعرابُه تغيّر، مَن بصر لم يتحيّر، كقوله تعالى: "وجاء ربك". والمراد أمرُه، فلا يفُتْك فهمُه. وما زاد فيه لفظ: "أدخِلوا آل فرعون أشد العذاب". وما نقص فيه حرف: "تالله تفتأ تذكر يوسف". وزيادته: "ليس كمثله شيء".
وفي الكتاب كناية، يفقهُها أهل العناية. مِن أغراضها السَّتر، كقول من بيده الأمر: "فالآن باشروهن". وهذا غيض من فيض، ونزرٌ من بحر، ومن البيان سحر. ثم قال: أفرأيتم ثمانيَ مِيمات، في آية متواليات، وما ثقل اللسان، ولا كسَف البيان؟ قالوا: فأين ذلك؟ قال: "وعلى أممٍ مِّمَّن مَّعَك". قالوا: صدقتَ لا أبا لك. ثم قال: ولقد عَلمتُم أن الخطاب يجري على مقتضى المخاطَب. قالوا: علِمناه أحسنَ الله إليك. قال: فما توجيه "ولا تخاطبني في الذين ظلموا"، وما كان نوح من الذين علِموا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، والإقرار أسلم. قال: لُوِّحَ إليه بالخبر، فربما طلب ما لم يظهر. والنهي مُشوِّفٌ إلى الطلب، وتعرُّفِ السبب. فصار المقامُ مقامَ تَردُّد، أيُغرَقون أم يُعفى عن اللُّد؟ فكان الجواب، فصلَ الخطاب: "إنهم مغرقون". فسبِّحوا مَن يقول كنْ فيكون! قالوا: سبحان ربّنا العظيم، وتبارك وجهُه الكريم. قالوا: فما لديك في العدول عن مقتضى ظاهر الحال؟ أصلح الله ظاهرك وباطنك والحال. قال: لِنُكتةٍ يفيء، وعلى صُورٍ يجيء. فمنها وضعُ المضمر موضع المظهر، نحو: "كلُّ من عليها فان". ومنها التخويف، كقول اللطيف: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها". ومنها إجابة السائل بغير ما سأل، فانظر قوله تعالى وتأمل: "يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس والحج". ومنها الالتفات وهو سِتّة أقسام، يدركها أولو الأفهام. فالأوّل انتقال من التكلم إلى الخطاب، كمثل قوله في هذا الباب: "وما ليَ لا أعبدُ الذي فطرني وإليه تُرجعون". وأوْجهٌ أُخَر، من تدبّرها بصر. كقوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر، فصلِّ لربك وانحر". وقوله: "حتى إذا كنتم في الفُلك وجرين بهم". كذا: "مَلِك يوم الدين إياك نعبد". وقول العظيم: "وهو الذي يرسل الرياح نُشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلَّت سحابا ثقالا سُقناه لبلد ميت". ونكتة الالتفات استجلاب نفس السامع، والنفس راغبة في المتجدِّد ما لها دافع.
قالوا: فماذا في كتاب الله من مساواة وإيجاز وإطناب؟ قُلْ وأفِدْ رعاك مُسبّب الأسباب. قال: أما المساواة فنحو: "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله". وأما الإيجاز كقوله تعالى: "ولكم في القِصاص حياة". وقوله: "واسأل القرية". فالأول قَصْر، والثاني حذف، وعلى هذا عطف. فالمحذوف إما جزءُ جملةٍ كالذي سبق، وإما جملةٌ نحو: "أن اضرب بعصاك البحر فانفلق". وأما الإطناب، أيها الأحباب، فنحو: "اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون". ونكتةُ ذا الإيغال، والترغيب في الحال. ثم إطناب بتذييل، كقول الوكيل: "وقل جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا". وهو قسمان ما جرى مجرى المثل، وتعقيب جملة بجملة ما استقل. فالأول قد ورد، والثاني كقول الأحد: "ذلك جزيناهم بما كفروا. وهل يُجازى إلا الكفور". وإطنابٌ بتكرير، كقول الخبير: "كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون". وإطناب بتكميل، كقول الجليل: "أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين". وإطناب بتتميم، كقول البَّر الرحيم: "ويُطعِمون الطعام على حبّه مسكينا". ومن نُكت عطف الخاص على العام، حضٌّ وترغيب ومزيد اهتمام. نحو قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى".
ثم قال: تلك آيات الكتاب المبين، نزل بها الروح الأمين، على خير الخلق، ومعدن الصدق. أدَّيتُها كما بلَغتْ، ولكل نفس ما كسبت. على يسيرٍ من نظر، فيما أجرى الله وقدّر. والفضل لمن فطر، وعقل وبصر. أولئك أهل السبق، والفهم والحذق. فعسى نهتدي لما اهتدَوا، ونؤدي كما أدَّوا. ورُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع، أدركَ ما فات المجامِع. ورُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه. فيا أنْباهَ العلماء، ومجمعَ الفضلاء! "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون".
قال يحيى بن جعفر: ثم مضى حنظلة وترَكَنا نعجب من سعة حفظه، ورجاحة عقله. وما أوتي من نباهة، وجوابٍ على البداهة. وحُسن عارضة، وقدرة على تأليف الكلام، وإجرائه على مقتضى المقام. وردِّ الأعجاز على الصدور، حوى إعجازاً بين السطور. فعلمنا أن للرجل بدائه، وأن نجما علا في سمائه. وأن الله قد أكرمه، بما علّمه وأفهمَه.
بمناسبة عشرة أعوام من الإبداع
حدث يحيى بن جعفر قال: حضرتُ بالكوفة مجلس علم، يستنزل الرحمة ويمحو الإثم. فقلتُ قِدْحةُ نور وفَهْم، ليكنْ لي فيه سَهم. كيف وفيه حنظلة الأحنف، العالم الأشرف؟ ثم إني ألقيتُ التحية وجلست قُبالته، أبتغي حكمته وبلاغته. ثم قلت: ائتِنا يا حنظلة ببلاغة، وذُرَّ كما تُذَرُّ النُّبَاغة! ولا تَعْدُ القرآن، إذ هو البيان. واحذر الزيادة والنقصان، عفا الله عن سهوك والنسيان.
قال حنظلة: أمَا إنه المعجزُ كلُّه، ومَن وعاهُ لا يملُّه. آية البيان، ودرّة الجمان. ومُقوّم اللسان، ومُصلح الإلحان. جاوز الزمان، وأضاء المكان. له حلاوة، وعليه طلاوة. وبه شهد العدو، ومَن مازَ الحوَّ من اللَّو. قال القوم: فهاتِ بلاغته، واذكر لنا فصاحته!
قال حنظلة: فيه الموازنة، وخُصَّت المماثلة. ومنها القلب، يشرح القلب. ولزوم ما لا يلزم، ولْيَسأل من لا يعلم. وفيه الترديد، كذا التعديد. والترتيب والاختراع، كأحسن ما يكون الإبداع. أليس الفصل ليس بالهزل؟ ثم التخييل والاستطراد والإحالة والائتلاف، لو كان من عند غير الله لكان فيه اختلاف. ومراجعة وسجع، وتسهيم وجمع. وفرصة وتجريد ومطابقة، وتخلّص وتهكم وموافقة. وتورية ومُشاكلة، وتفريق ومقابلة. وإيراد حُجّةٍ على مذهب أهل الكلام، حتى يتَّسق القولُ ويبلغ التّمام. ومبالغة وجناس، به يحصل الإيناس. ومنه تام وغير تام، والنظم أبدا في انتظام.
قالوا: فهات الشاهد، ودعِ الزوائد! قال حنظلة: أما الموازنة فقوله تعالى: "ونمارق مصفوفة، وزرابيُّ مبثوثة". وأما المماثلة فقول القوي المتين: "وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم". والقلبُ لا أبا لك، قولُ من مَلَك: "كل في فلك". و"ربَّك فكبر"، التي في المدثر. وأما لزوم ما لا يلزم، فقول الماجد الأكرم: "فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر". قالوا: فالترديد والتعديد، يا ذا الرأي السديد؟ قال حنظلة: أما الترديد، فقول الحميد: "حتى نؤتى مثل ما أوتي رُسُل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالاته". وأما التعديدُ، فقول المجيد: "التائبون العابدون، الحامدون السائحون". والترتيب، قول الرقيب: "وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح". والاختراع لا حُرِمْتم الانتفاع، قوله: "ولما سُقِط في أيديهم". وهو نظمٌ لم تعرفه العرب، ولا سُمِع قبْلَ القرآن ممّن في الأرض سَرَب. أما التخييل، فقول الجليل: "والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه". والاستطراد بَعدهُ الارتداد، قوله في طه: "وهل أتاك حديث موسى". وقوله في الأعراف، أيها الأشراف: "يا بني آدمَ قد أنزلنا عليكم لباسا يُواري سَوْءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير". وفي الإسراء، أهل النَّعماء: "أقم الصلاة لدُلوكِ الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا. ومن الليل فتهجَّد به نافلة لك". وأما الإحالة فقوله تعالى: "وقد نزّل عليكم في الكتاب". إحالة على قوله: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا". وهذه لعمرك جليّة، أما الإحالة الخفيّة، فقوله تعالى: "وآتينا داود زبورا"، وقيل إحالة على قوله: "ولقد كتبنا في الزبور". والائتلاف جمعٌ بين متناسبين، والقولُ المبين بلا مَين: "الشمس والقمر بحسبان". أما المراجعة فحكاية التقاول، كقول عزَّ من قائل: "قال فرعون وما رب العالمين"، إلى قوله: "من الصادقين". وذا في "الشعراء"، أيها البلغاء. والسجع في الذِّكْرِ كثير، وله أضرب كقول الخبير: "ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا". ومنه المتوازي نحو: "فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة". وفي السجع تمايُز، ليس فيه تناجُز، كقوله تعالى: "في سدر مخضود وطلح منضود". كذا: "والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى". وقول الحكيم، اللطيف الحليم: "خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه".
قالوا: نِعمّا ونعمّا، زادك الله علما! فالتسهيم والجمع؟ قال: أما التسهيم، فقول السميع العليم: "وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". وأما الجمع، أهلَ السمع، فقوله تعالى، جلّ وعلا: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". والفرصةُ مثل: "قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم". والتجريد قول الرشيد: "لا يسألون الناس إلحافا". والمطابقة: "وتحسبهم أيقاظا وهم رقود". وقول المحيي المميت: "يحيي ويميت". وقوله: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت". وطباق الأول اسمان، وطباق الثاني فعلان، وطباق الثالث حرفان. وما سلف طباق إيجاب، أما السلب أيها الأحباب، فنحو: "ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا". كذا: "فلا تخشوا الناس واخشون". ومن الطباق تشابه الأطراف، ومنه: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. وهو اللطيف الخبير". وحُسنُ تخلصٍ يجري، بسلَسٍ فلا تدري، متى كان الانتقال، وكيف حدث الاستقبال. ومنه في "النور"، غشيكم النور: "الله نور السموات والأرض". وفي "ص": "هذا وإن للطاغين لشر مآب". والتهكم وَيحَكُم: "ذق إنك أنت العزيز الكريم". والموافقة أو مراعاة النظير، فمنه قول العليّ الكبير: "الشمس والقمر بحسبان". والتورية أو الإيهام، كقول القدوس السلام: "الرحمن على العرش استوى". وهذه مجردة، ومثال المرشحة: "والسماء بنيناها بأييد". وأما المشاكلة فمنها التحقيق، كقوله تعالى: "ومكروا ومكر الله". ومنها التقدير، كقول البصير: "صبغة الله". والتفريق على التحقيق، نحو قوله تعالى: "هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج". والمقابلة نحو: "فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا". ومنه: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى". وأما الحجة على مذهب أهل الكلام، فنحو قول البارئ العَلام: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا". وقوله: "وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض". والمبالغة أهل البلاغة، نحو: "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار". وأما الجناس، أيها الناس، فنحو: "ويوم تقوم الساعة يُقْسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة". وهذا تام والناقص أضرُب، ما اختلف بحرف في الأول نحو: "والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق". وما اختلف بحرفين متقاربين سُمي المضارع، نحو قول الغني المغني المانع: "وهم ينهون عنه وينئون عنه". وهو حرف في الوسط، أعوذ بالله من الشطط. وغير المتقارب لاحق، نحو القول الصادق: "ويل لكل همزة لمزة". وهذا في الأول، وأما في الوسط: "ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون". وفي الآخِر، نحو قول الأوّل الآخِر: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف". وتتالي المتجانسين مزدوج، نحو: "وجئتك من سبإ بنبإ يقين". وقد يَجمع اللفظين اشتقاق، نحو: "فأقم وجهك للدين القيّم". أو تجمعُهما المشابهة، نحو: "قال إني لعملكم من القالِين".
ثم قال: ذلكم بعض من بديع القرآن، وتلكم شواهد البيان. نسأل الله الغفران، ورُواء الجنان. قالوا: فهل لك أن تدلنا على ما في الفرقان من بيان، أعجز الإنسَ والجان، وحار فيه الثقلان، جُزيتَ الخير والإحسان، ووُهبتَ الخيرات الحِسان؟ قال: وربِّ العزة الديّان، إن فيه الياقوت والمرجان. وبعضٌ من نُتف، تدل من عَرَف، على ما لم يُكشَف، وليس الرِّيُّ عن التّشاف. ولم يُحرَمْ مَن فُصْد له، والمحروم أخو الجهالة الأبله. ولا أردّكم بأفْوَق ناصل، وعلى الله اتكالي لستُ بالمتواكل. أقول في كتاب الله تشبيه، يفقهُه النَّبيه. خذْ من بابه وجهَ الشبه العقلي: "مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا". وقد يلي المشبهُ به الأداةَ تقديرا، نحو: "أو كصيب من السماء". وقد يليها غيرُه كقوله تعالى: "واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا كماء".
وفيه مجاز مرسل، يُدرَك ويُعقل. منه ما حوى كُلاًّ في جزء، نحو: "يجعلون أصابعهم في آذانهم". ومما اجتمع فيه إطلاقُ الحالّ على المحل وعكسُه قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد". واستُعمِل المظروف في الظرف، فاكتحلْ ببهاء الحرف: "وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله". واستُعمِل اللسانُ في الذِّكْر، فتنسَّمْ أرَجَ الذِّكْر: "واجعل لي لسان صدق في الآخرين". ومنه اعتبار ما كان، فليدرك النَّبْهان : "وآتوا اليتامى أموالهم". واعتبار ما يكون: "إني أرانيَ أعصر خمرا". ومن باب الاستعارة دونك الوفاقية، نحو: "أوَمَن كان ميتا فأحييناه". وإليك ما طرفا استعارته حِسيّان والجامعُ حسّي: "فأخرجَ لهم عجلا جسدا له خوار". وأما الجامع العقلي فاقرأْ: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار". ومتى كان الطرفان عقليين فالجامع لا يكون إلا عقليا، ومن ذلك قوله تعالى: "مَن بعثَنا من مرقدنا". وإذا كان المستعار منه حسيا والمستعار له عقليا، فالجامع عقلي، نحو: "فاصدع بما تؤمر". وعكسه: "إنا لما طغى الماء".
ومن المجاز ما إعرابُه تغيّر، مَن بصر لم يتحيّر، كقوله تعالى: "وجاء ربك". والمراد أمرُه، فلا يفُتْك فهمُه. وما زاد فيه لفظ: "أدخِلوا آل فرعون أشد العذاب". وما نقص فيه حرف: "تالله تفتأ تذكر يوسف". وزيادته: "ليس كمثله شيء".
وفي الكتاب كناية، يفقهُها أهل العناية. مِن أغراضها السَّتر، كقول من بيده الأمر: "فالآن باشروهن". وهذا غيض من فيض، ونزرٌ من بحر، ومن البيان سحر. ثم قال: أفرأيتم ثمانيَ مِيمات، في آية متواليات، وما ثقل اللسان، ولا كسَف البيان؟ قالوا: فأين ذلك؟ قال: "وعلى أممٍ مِّمَّن مَّعَك". قالوا: صدقتَ لا أبا لك. ثم قال: ولقد عَلمتُم أن الخطاب يجري على مقتضى المخاطَب. قالوا: علِمناه أحسنَ الله إليك. قال: فما توجيه "ولا تخاطبني في الذين ظلموا"، وما كان نوح من الذين علِموا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، والإقرار أسلم. قال: لُوِّحَ إليه بالخبر، فربما طلب ما لم يظهر. والنهي مُشوِّفٌ إلى الطلب، وتعرُّفِ السبب. فصار المقامُ مقامَ تَردُّد، أيُغرَقون أم يُعفى عن اللُّد؟ فكان الجواب، فصلَ الخطاب: "إنهم مغرقون". فسبِّحوا مَن يقول كنْ فيكون! قالوا: سبحان ربّنا العظيم، وتبارك وجهُه الكريم. قالوا: فما لديك في العدول عن مقتضى ظاهر الحال؟ أصلح الله ظاهرك وباطنك والحال. قال: لِنُكتةٍ يفيء، وعلى صُورٍ يجيء. فمنها وضعُ المضمر موضع المظهر، نحو: "كلُّ من عليها فان". ومنها التخويف، كقول اللطيف: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها". ومنها إجابة السائل بغير ما سأل، فانظر قوله تعالى وتأمل: "يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس والحج". ومنها الالتفات وهو سِتّة أقسام، يدركها أولو الأفهام. فالأوّل انتقال من التكلم إلى الخطاب، كمثل قوله في هذا الباب: "وما ليَ لا أعبدُ الذي فطرني وإليه تُرجعون". وأوْجهٌ أُخَر، من تدبّرها بصر. كقوله تعالى: "إنا أعطيناك الكوثر، فصلِّ لربك وانحر". وقوله: "حتى إذا كنتم في الفُلك وجرين بهم". كذا: "مَلِك يوم الدين إياك نعبد". وقول العظيم: "وهو الذي يرسل الرياح نُشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلَّت سحابا ثقالا سُقناه لبلد ميت". ونكتة الالتفات استجلاب نفس السامع، والنفس راغبة في المتجدِّد ما لها دافع.
قالوا: فماذا في كتاب الله من مساواة وإيجاز وإطناب؟ قُلْ وأفِدْ رعاك مُسبّب الأسباب. قال: أما المساواة فنحو: "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله". وأما الإيجاز كقوله تعالى: "ولكم في القِصاص حياة". وقوله: "واسأل القرية". فالأول قَصْر، والثاني حذف، وعلى هذا عطف. فالمحذوف إما جزءُ جملةٍ كالذي سبق، وإما جملةٌ نحو: "أن اضرب بعصاك البحر فانفلق". وأما الإطناب، أيها الأحباب، فنحو: "اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون". ونكتةُ ذا الإيغال، والترغيب في الحال. ثم إطناب بتذييل، كقول الوكيل: "وقل جاء الحق وزهق الباطل. إن الباطل كان زهوقا". وهو قسمان ما جرى مجرى المثل، وتعقيب جملة بجملة ما استقل. فالأول قد ورد، والثاني كقول الأحد: "ذلك جزيناهم بما كفروا. وهل يُجازى إلا الكفور". وإطنابٌ بتكرير، كقول الخبير: "كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون". وإطناب بتكميل، كقول الجليل: "أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين". وإطناب بتتميم، كقول البَّر الرحيم: "ويُطعِمون الطعام على حبّه مسكينا". ومن نُكت عطف الخاص على العام، حضٌّ وترغيب ومزيد اهتمام. نحو قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى".
ثم قال: تلك آيات الكتاب المبين، نزل بها الروح الأمين، على خير الخلق، ومعدن الصدق. أدَّيتُها كما بلَغتْ، ولكل نفس ما كسبت. على يسيرٍ من نظر، فيما أجرى الله وقدّر. والفضل لمن فطر، وعقل وبصر. أولئك أهل السبق، والفهم والحذق. فعسى نهتدي لما اهتدَوا، ونؤدي كما أدَّوا. ورُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع، أدركَ ما فات المجامِع. ورُبَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه. فيا أنْباهَ العلماء، ومجمعَ الفضلاء! "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون".
قال يحيى بن جعفر: ثم مضى حنظلة وترَكَنا نعجب من سعة حفظه، ورجاحة عقله. وما أوتي من نباهة، وجوابٍ على البداهة. وحُسن عارضة، وقدرة على تأليف الكلام، وإجرائه على مقتضى المقام. وردِّ الأعجاز على الصدور، حوى إعجازاً بين السطور. فعلمنا أن للرجل بدائه، وأن نجما علا في سمائه. وأن الله قد أكرمه، بما علّمه وأفهمَه.