المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شارع الزمن الجميل



سعاد محمود الامين
16-11-2012, 12:03 PM
شارع الزمن الجميلِ
كان ذلك فى الصباح، حينما أرسلت الشمس أشعتها الذهبية، ولونت معالم ذلك الحى بلون الذهب. تعالت أصوات قاطنى الحى، ينشدون تحية الصباح. بنات الجدة حنونة أتين من بيوتهن، يصبحن عليها ويحتسين قهوة الصباح معها، ويثرثرن بالأخبار، التى حجبها الليل بسواده والناس نياما. كما علت أصوات الصبية وهم يتدافعون، صوب الشارع كعصافير فك أسرها. ضج الشارع بالمشاة كل صوب هدفه. خرج الرجال قبل شروق الشمس لأماكن عملهم، فهم عمال سكك حديد . الشارع يتسع ويضيق بالعابرين. لاحظ المارة هناك كومة أسمال وبطاطين متخذة شكل البقجة على حصيرة، قرب مبنى يسمى الزّاوية يمارس فيه جميع أهل الحى الصلاة، وطقوس العزاء والزواج ومناقشة أمور الحى. ولكنهم لم يعيروا الكومة إهتماما فمواعيد العمل قد أزفت ولا وقت لأشباع الفضول.
هذا الحى الذى شيدت منازله من الطين اللبن. بخارطة واحدة غرفتين ومطبخ وفناء، شجرة نيم ظليلة أمام الباب، أو داخل الفناء وزريبة للأغنام . ومنافع الحمّام، وفوق سطحه برج الحمام. كان السكان متحابون متساوون لم تدخل المادة والترف إلى حياتهم البسيطة. وكان الشارع فى ذلك الحى، جزء من فناء المنزل يحظى كل صباح بالكنس، والتقاط قاذورات الحيونات ورش المياه، حتى لاتثير أقدام المارة الغبار. حى متفرد... يصحوا سكانه مبكرا ،الكل يعرف ماذا يريد أن يفعل بشروقه الجديد. فى شروق هذا اليوم أتى وافد أكتشفه الحاج ابراهيم أمام الزاوية، عندما ذهب إلى حظيرة الأغنام ليطعمها ويراه كيف امضت الليل، فالحيونات فى هذا الحى تحظى بالعناية مثل اللأطفال. فهى مراقبة فى فى مأكلها ومشربها وصحتها، لذلك يحظى المساعد البيطرى عُمارة، بكل الإحترام وينادونه بالدكتورشأنه شأن الطبيب البشرى. دلف الحاج إبراهيم الإما م صوب الزاوية . فرأى كومة الاسمال المكومة فجاءة تحركت فجفل ولكنه إنتبه إلى اصطفاف الصبية خلفه، بفضول ظهر جليا فى معالم وجوههم، التى كساها وجل وخوف ممزوج بدهشة. وسؤال حائر، يكاد يخرج من شفاه الجميع دفعة واحدة، كنشيد العلم فى طابور الصباح: من هو؟ الذى يفترش الأرض ويلتحف بطانية سوداء من الصوف القديم،وملابس متسخه فى البقجة الملقاة بإهمال أمامه. كشف الوافد وجهه عندما دنا منه الحاج ابراهيم. ووخزة بعصاة كانت معه يتوكأ عليها وتساعده فى هش الحيوانات التى تمرح فى الشوارع. فرك الوافد عينيه، ليمعن النظر فى هذا الجمع الذى إلتف حوله، أزال بطانيته وإعتدل فى جلسته ورفع رأسه قائلا: صباح الخير ياأهل الحى وضحك دون سبب مقهقها بضحكة متميزة ذات جرس. فبدأ وجهه طيبا متعبا، فسرعان ماتجاوب معه أهل الحى. هرع الصبية إلى البيوت وجاءوا يحملون الشاى واللقيمات المخبوزة بدقيق القمح، التى هى طقس ثابت كل صباح. ومازالوا ينظرون إليه فهو يكبرهم قليلا، ولكنه متسخ الجسد ومشعث وأغبر. سأله أحد الصبية بماذا نناديك ؟... ضحك ثانيا وقال: نادونى بما تريدون نادونى ب.. .وبدأ عليه كأنه يتذكر، ولكنه لايريد الكشف عن هويته. فصاح أحدهم لينقذ الموقف فلنناديه عبد الختم. فصار له اسما، ألفه سكان الحى وصار يبنى لنفسه حياة بينهم. لاتختلف عن نمط حياتهم المسطرة بالمحبةواحترام الكل وحفظ المسا فات العمرية والمقامات . كان يتجول فى سوق الحى الصغيّر الذى يقضى فيه أهل الحى منافعهم، وأغلب ملاك المحلات من أهل الحى. فيعطونه نقودا قليلة نظير تحميل بضائع أو نظافة متجر. وكان صاحب المطعم الوحيد عم محفوظى يمنحه وجبة الأفطار مجانا نظير لاشئ. عندما يأتى المساء يضّجع متهالكا ، على حصيرته قرب الزاوية آمنا كبقية أهل الحى وحيواناتهم. لاشئ يهدد الأحياء فى هذا الحى الجميل بقاطنيه، فالسلام موسيقى لحن خفى ينبعث من دواخلهم فينامون هانئين ينتظرون ما يأتى به الغد.
اتفق الرجال فى الزاوية بعد آداء صلاة الجماعة بعد أن عددوا مآثر الوافد الجديد، بأن يسمحوا له بدخول المنازل، للمساعدة النساء فى الغسيل والنظافة والمراسيل ، نظير نقود تحفظ له كرامته. فلديه طاقة يتجول بها فى شوارع الحى ويهدرها مع الصبية ضحكا ولعبا.
عندما دعته ست عواطف لنظافة بيتها المميز بالمفروشات،و السجاجيد . وذهبت للمدرسة. عادت كاد أن يتوقف قلبها فقد غسل عبد الختم السجاد بالماء والصابون، فاختلطت الألوان وأنكمش السجاد. وهو فرح بأنه قدم للست عواطف خدمة جليلة. كتمت غضبها وأعطته نقوده. لامت نفسها، وشرحت له كيف ينظف. وهكذا صار يدور فى المنازل. بت أبوحجل لديها بنت لاتخرج من المنزل. وتخاف من الشارع ولكنها عندما يأتى عبد الختم تجلس إلى جواره. وهو يحرك الملابس داخل طست الغسيل ، وهى تجلب له الماء وتجلس تحدق فيه. سألته ذات يوم عن أهله أوقف حركة يديه ، ونظر إليها صامتا ثم واصل حركة الغسيل.كانت هى الوحيدة التى تكرر عليه السؤال كلما جاء. نمت بينهم إلفة غير مفهومة ،هى لاتخرج، وتريد أن تعرف عنه كل شى. وهو فتى الشوارع لم يسأله أحد ولايريد أحد أن يعرف من أين أتى؟ هذا الشارع المتفرد بمعياره الأخلاقى مِلك الجميع الذين يمشون فوق أرضه لاحتاج لجواز مرور لتعبره.مرت الأيام بدأت تنمو لدي الوافد مشاعر من نوع غريب لم يألفها من قبل، تجاه تلك الفتاة، اسمها حمامة لجمالها وخفتها أطلقت عليها أمهاالاسم. جاء ذات يوم فى غير موعده، وجلس من الصباح الباكر أمام منزلها، ينتظر أن تطلب منه أمها الغسيل، ولكن الباب ظل مغلقا وقد ضج الشارع بالمارة من صبية وعمال وآخرين. جاءت الجارة هذه المرأة معروفة فى الحى لاتفوتها شاردة أو واردة. فقد استشعرت اهتمام عبد الختم الوافد بحمامة فقالت: لامها هامسه لاتتركيها تجلس معه وحدها، فهو رجل كبقية الرجال يروم النساء إذا إنفرد بهن وصارت تحذرها وتحكى لها. فبهتت أم حمامة وتوجست خيفة. وحرّمت خدماته. ومنذ ذلك اليوم طارت حمامته وبدأ عليه شى من الضيق، وكبر حبه الذى غذاه الخيال والبعد. وماكان يدرى إن بداخله كل هذا العشق. فنحل جسده، وتوارت ضحكاته العالية المميزة ، وكان أهل الحى يهتمون به يسألونه دائما مايضايقه، لا يدرون أن العشق طرق قلبه.
مرضت حمامة وجعلت أمها فى حيرة من أمرها. كان عبد الختم ابن الشارع ،هو الفتى الوحيد الذى تحدثت إليه فهى خجولة ومريضة فى نفسها، تهاب الخروج من البيت، لذلك تركت مقاعد الدراسة مبكرا، لاتخرج أبدا . وأرادت أن تسبر غوره فإختفى. فكرت حمامة كثيرا. وخططت ودبرت وانتظرت أمها خرجت لتعاود الرضية التى مات زوجها وتقضى اليوم معها. فما كان من حمامة إلا أن أرسلت فى طلب عبد الختم لغسل الملابس. لم يصدق فقد سمع دقات قلبه لاول مرة. عندما جلس للغسيل وجلست قبالته ،فى صمت تنظر إليه حتى بادرها قائلا: أريدالتحدث معك لدى سر دفين يؤرقنى.ففرحت ودفعته للكلام فقال لها:أنا ولد شوارع لاأعرف عائلتى ولكنى أتذكر أمى وقال هامسا :كانت تبيع الخمور فى بيت مشيد فى حى عشوائى خارج المدينة. بيت يأتيه الرجال من كل صوب وحدب. وكان زوج أمى عندما تلعب الخمر بعقله وتغيبه ،يأتينى فى فراشى .وأنا ابن العاشرة،فاقاومه فيضربنى، ويخبرو الدتى الأكاذيب. فتنهال على بحذائها ذى الكعب المصنوع من الخشب على ركبتىّ وساقىّ. وكشف لها عن ساقه لترى الندوب. وكان زوج أمى كثير الشجار. فجاء أحدهم ذات ليلة حالكة الظلام، وغرس سكينا فى رقبته فصرخ وخر سريعا. وحدث هرج ومرج وتسللت خفية وهربت، ولم أرى أمى منذ ذلك اليوم، ولم يسألنى أحد من أنا .؟همت فى الشوارع. واتقنت قوانين الشارع وحفظتها. وجدت أن العنف ليس من خصالى، ربما أورثنى أبى المجهول جيناته. فأنا مسالم. ووجدت فى شارع حيّكم الجميل، دروس أخرى المحبة والمحبة ..لذلك القيت عصى التجوال. عندما أنهى كلماته الأخيرة طفرت دمعة سخينة على خد حمامة. مشاركة له هذا الضياع وظلت صامته وهمست له: لاترحل من شارعنا لقد ألفناك. شعر بقشعريرة تسرى فى جسدة لم يحدث أن شعر بالإنتماء كما اللحظة.
منذ الخامسة مساء اختفى سكان الحى داخل بيوتهم. يرومون الدفء. فقد جاء الشتاء هذه السنة مبكرا . زمهرير، ورياح، الصمت يخيم. إلا من أصوات بعض الحيونات والأطفال، وتنبعث رائحة الشاى والشواء لإسكات الجوع الذى خلفه هذا البرد القارص . الشارع خال تماما إلا من صفير الرياح وعصف أوراق الأشجار، وهناك قبالة الزاوية يحاول عبد الختم أن يتدثر ببطاطينه، التى جلبها له أهل الحى، ليقاوم غوائل الشتاء. والرياح تعوى وسيلا رمليا يحط فوق جسده ويدفنه حيا. وهو يجمع شتات أفكاره، وقد ألمت به جائحة فصار يسعل سعالا مريعا. حتى سمعه كل سكان الحى . أصيب بعدوى أمراض الشتاء أتوا له بالدواء ولكن هذه الليلة قد إشتدت عليه الحمى،وصار يهزئ وينادى أمه، وتارة صبية الشارع الذين ألفهم .تداخلت الرؤى و إشتد هذيانه وأهل الحى نياما .
عندما بعثت الشمس، اشعتها الشتوية الخاملة،هرع الصبية لايقاظه لشرب الشاى مثل كل شروق مضى، وجدوه مكورا كما فى رحم أمه وقد تصلب جسده ومات فكان النبأ الكارثة.إنتقل بين جنبات الحى. والصبية يهرولون هنا وهناك. يتسابقون لنقل الحدث الى أمهاتهم، وكذلك وصل النبأ الى عم محفوظى بائع الفلافل ،الذى نقله بسرعة لأصحاب المحلات فى السوق الصغيّر. كما وصل الحدث الى الحكيم البيطرى. وقبل كل هؤلاء كان قد وصل الخبر الى حمامة. ولم تستطيع الخروج لتلقى عليه نظرة الوداع،.سارسكان الحى خلف جثمانه، وجعلوا له جنازة مهيبة ، وحملوه إلى مثواه. والنسوة إجتمعن أمام الزاوية ينتحبن. وحمامة تبكى تحت ظل النيمة التى كان يستظل بظلها فى فناء منزلهم . فقد الشارع الجميل إنسانا جميلا ليس له قيمة بمعايير البشرولكن قهقهاته العالية ، مازال الشارع يردد صداها.

عبد السلام هلالي
16-11-2012, 12:48 PM
هي قصة ذلك الغريب الذي يسكننا على حين غرة وتخالطنا أحاسيسه حتى إذا تآلفت القلوب رحل غفلة كمى أتى دون أن نأخذ له صورا تذكارية فلا يبقى منه غير تاريخ قصير مقطوع وأثر طيب يستحيل حديثا مؤنسا بعد حين.
راقتني كثيرا الحياة في هذا الحي الفاضل الحالم الذي افتقدنا حتى أصبحنا غرباء في عقر الدار. الوصف الجميل والوافي جعلني في قلب الصورة دون عناء.
أعتقد (وهذا مجرد رأي ) أن القصة تحتمل بعض التكثيف وهناك بعض المشاهد المكررة.
شكرلك مع التحية والتقدير.
كان السكان متحابين متساويين - كان الشارع جزءا.

سهى رشدان
16-11-2012, 01:21 PM
أسجل اعجابي
باقات نرجس

محمد الشرادي
16-11-2012, 07:00 PM
شارع الزمن الجميلِ
كان ذلك فى الصباح، حينما أرسلت الشمس أشعتها الذهبية، ولونت معالم ذلك الحى بلون الذهب. تعالت أصوات قاطنى الحى، ينشدون تحية الصباح. بنات الجدة حنونة أتين من بيوتهن، يصبحن عليها ويحتسين قهوة الصباح معها، ويثرثرن بالأخبار، التى حجبها الليل بسواده والناس نياما. كما علت أصوات الصبية وهم يتدافعون، صوب الشارع كعصافير فك أسرها. ضج الشارع بالمشاة كل صوب هدفه. خرج الرجال قبل شروق الشمس لأماكن عملهم، فهم عمال سكك حديد . الشارع يتسع ويضيق بالعابرين. لاحظ المارة هناك كومة أسمال وبطاطين متخذة شكل البقجة على حصيرة، قرب مبنى يسمى الزّاوية يمارس فيه جميع أهل الحى الصلاة، وطقوس العزاء والزواج ومناقشة أمور الحى. ولكنهم لم يعيروا الكومة إهتماما فمواعيد العمل قد أزفت ولا وقت لأشباع الفضول.
هذا الحى الذى شيدت منازله من الطين اللبن. بخارطة واحدة غرفتين ومطبخ وفناء، شجرة نيم ظليلة أمام الباب، أو داخل الفناء وزريبة للأغنام . ومنافع الحمّام، وفوق سطحه برج الحمام. كان السكان متحابون متساوون لم تدخل المادة والترف إلى حياتهم البسيطة. وكان الشارع فى ذلك الحى، جزء من فناء المنزل يحظى كل صباح بالكنس، والتقاط قاذورات الحيونات ورش المياه، حتى لاتثير أقدام المارة الغبار. حى متفرد... يصحوا سكانه مبكرا ،الكل يعرف ماذا يريد أن يفعل بشروقه الجديد. فى شروق هذا اليوم أتى وافد أكتشفه الحاج ابراهيم أمام الزاوية، عندما ذهب إلى حظيرة الأغنام ليطعمها ويراه كيف امضت الليل، فالحيونات فى هذا الحى تحظى بالعناية مثل اللأطفال. فهى مراقبة فى فى مأكلها ومشربها وصحتها، لذلك يحظى المساعد البيطرى عُمارة، بكل الإحترام وينادونه بالدكتورشأنه شأن الطبيب البشرى. دلف الحاج إبراهيم الإما م صوب الزاوية . فرأى كومة الاسمال المكومة فجاءة تحركت فجفل ولكنه إنتبه إلى اصطفاف الصبية خلفه، بفضول ظهر جليا فى معالم وجوههم، التى كساها وجل وخوف ممزوج بدهشة. وسؤال حائر، يكاد يخرج من شفاه الجميع دفعة واحدة، كنشيد العلم فى طابور الصباح: من هو؟ الذى يفترش الأرض ويلتحف بطانية سوداء من الصوف القديم،وملابس متسخه فى البقجة الملقاة بإهمال أمامه. كشف الوافد وجهه عندما دنا منه الحاج ابراهيم. ووخزة بعصاة كانت معه يتوكأ عليها وتساعده فى هش الحيوانات التى تمرح فى الشوارع. فرك الوافد عينيه، ليمعن النظر فى هذا الجمع الذى إلتف حوله، أزال بطانيته وإعتدل فى جلسته ورفع رأسه قائلا: صباح الخير ياأهل الحى وضحك دون سبب مقهقها بضحكة متميزة ذات جرس. فبدأ وجهه طيبا متعبا، فسرعان ماتجاوب معه أهل الحى. هرع الصبية إلى البيوت وجاءوا يحملون الشاى واللقيمات المخبوزة بدقيق القمح، التى هى طقس ثابت كل صباح. ومازالوا ينظرون إليه فهو يكبرهم قليلا، ولكنه متسخ الجسد ومشعث وأغبر. سأله أحد الصبية بماذا نناديك ؟... ضحك ثانيا وقال: نادونى بما تريدون نادونى ب.. .وبدأ عليه كأنه يتذكر، ولكنه لايريد الكشف عن هويته. فصاح أحدهم لينقذ الموقف فلنناديه عبد الختم. فصار له اسما، ألفه سكان الحى وصار يبنى لنفسه حياة بينهم. لاتختلف عن نمط حياتهم المسطرة بالمحبةواحترام الكل وحفظ المسا فات العمرية والمقامات . كان يتجول فى سوق الحى الصغيّر الذى يقضى فيه أهل الحى منافعهم، وأغلب ملاك المحلات من أهل الحى. فيعطونه نقودا قليلة نظير تحميل بضائع أو نظافة متجر. وكان صاحب المطعم الوحيد عم محفوظى يمنحه وجبة الأفطار مجانا نظير لاشئ. عندما يأتى المساء يضّجع متهالكا ، على حصيرته قرب الزاوية آمنا كبقية أهل الحى وحيواناتهم. لاشئ يهدد الأحياء فى هذا الحى الجميل بقاطنيه، فالسلام موسيقى لحن خفى ينبعث من دواخلهم فينامون هانئين ينتظرون ما يأتى به الغد.
اتفق الرجال فى الزاوية بعد آداء صلاة الجماعة بعد أن عددوا مآثر الوافد الجديد، بأن يسمحوا له بدخول المنازل، للمساعدة النساء فى الغسيل والنظافة والمراسيل ، نظير نقود تحفظ له كرامته. فلديه طاقة يتجول بها فى شوارع الحى ويهدرها مع الصبية ضحكا ولعبا.
عندما دعته ست عواطف لنظافة بيتها المميز بالمفروشات،و السجاجيد . وذهبت للمدرسة. عادت كاد أن يتوقف قلبها فقد غسل عبد الختم السجاد بالماء والصابون، فاختلطت الألوان وأنكمش السجاد. وهو فرح بأنه قدم للست عواطف خدمة جليلة. كتمت غضبها وأعطته نقوده. لامت نفسها، وشرحت له كيف ينظف. وهكذا صار يدور فى المنازل. بت أبوحجل لديها بنت لاتخرج من المنزل. وتخاف من الشارع ولكنها عندما يأتى عبد الختم تجلس إلى جواره. وهو يحرك الملابس داخل طست الغسيل ، وهى تجلب له الماء وتجلس تحدق فيه. سألته ذات يوم عن أهله أوقف حركة يديه ، ونظر إليها صامتا ثم واصل حركة الغسيل.كانت هى الوحيدة التى تكرر عليه السؤال كلما جاء. نمت بينهم إلفة غير مفهومة ،هى لاتخرج، وتريد أن تعرف عنه كل شى. وهو فتى الشوارع لم يسأله أحد ولايريد أحد أن يعرف من أين أتى؟ هذا الشارع المتفرد بمعياره الأخلاقى مِلك الجميع الذين يمشون فوق أرضه لاحتاج لجواز مرور لتعبره.مرت الأيام بدأت تنمو لدي الوافد مشاعر من نوع غريب لم يألفها من قبل، تجاه تلك الفتاة، اسمها حمامة لجمالها وخفتها أطلقت عليها أمهاالاسم. جاء ذات يوم فى غير موعده، وجلس من الصباح الباكر أمام منزلها، ينتظر أن تطلب منه أمها الغسيل، ولكن الباب ظل مغلقا وقد ضج الشارع بالمارة من صبية وعمال وآخرين. جاءت الجارة هذه المرأة معروفة فى الحى لاتفوتها شاردة أو واردة. فقد استشعرت اهتمام عبد الختم الوافد بحمامة فقالت: لامها هامسه لاتتركيها تجلس معه وحدها، فهو رجل كبقية الرجال يروم النساء إذا إنفرد بهن وصارت تحذرها وتحكى لها. فبهتت أم حمامة وتوجست خيفة. وحرّمت خدماته. ومنذ ذلك اليوم طارت حمامته وبدأ عليه شى من الضيق، وكبر حبه الذى غذاه الخيال والبعد. وماكان يدرى إن بداخله كل هذا العشق. فنحل جسده، وتوارت ضحكاته العالية المميزة ، وكان أهل الحى يهتمون به يسألونه دائما مايضايقه، لا يدرون أن العشق طرق قلبه.
مرضت حمامة وجعلت أمها فى حيرة من أمرها. كان عبد الختم ابن الشارع ،هو الفتى الوحيد الذى تحدثت إليه فهى خجولة ومريضة فى نفسها، تهاب الخروج من البيت، لذلك تركت مقاعد الدراسة مبكرا، لاتخرج أبدا . وأرادت أن تسبر غوره فإختفى. فكرت حمامة كثيرا. وخططت ودبرت وانتظرت أمها خرجت لتعاود الرضية التى مات زوجها وتقضى اليوم معها. فما كان من حمامة إلا أن أرسلت فى طلب عبد الختم لغسل الملابس. لم يصدق فقد سمع دقات قلبه لاول مرة. عندما جلس للغسيل وجلست قبالته ،فى صمت تنظر إليه حتى بادرها قائلا: أريدالتحدث معك لدى سر دفين يؤرقنى.ففرحت ودفعته للكلام فقال لها:أنا ولد شوارع لاأعرف عائلتى ولكنى أتذكر أمى وقال هامسا :كانت تبيع الخمور فى بيت مشيد فى حى عشوائى خارج المدينة. بيت يأتيه الرجال من كل صوب وحدب. وكان زوج أمى عندما تلعب الخمر بعقله وتغيبه ،يأتينى فى فراشى .وأنا ابن العاشرة،فاقاومه فيضربنى، ويخبرو الدتى الأكاذيب. فتنهال على بحذائها ذى الكعب المصنوع من الخشب على ركبتىّ وساقىّ. وكشف لها عن ساقه لترى الندوب. وكان زوج أمى كثير الشجار. فجاء أحدهم ذات ليلة حالكة الظلام، وغرس سكينا فى رقبته فصرخ وخر سريعا. وحدث هرج ومرج وتسللت خفية وهربت، ولم أرى أمى منذ ذلك اليوم، ولم يسألنى أحد من أنا .؟همت فى الشوارع. واتقنت قوانين الشارع وحفظتها. وجدت أن العنف ليس من خصالى، ربما أورثنى أبى المجهول جيناته. فأنا مسالم. ووجدت فى شارع حيّكم الجميل، دروس أخرى المحبة والمحبة ..لذلك القيت عصى التجوال. عندما أنهى كلماته الأخيرة طفرت دمعة سخينة على خد حمامة. مشاركة له هذا الضياع وظلت صامته وهمست له: لاترحل من شارعنا لقد ألفناك. شعر بقشعريرة تسرى فى جسدة لم يحدث أن شعر بالإنتماء كما اللحظة.
منذ الخامسة مساء اختفى سكان الحى داخل بيوتهم. يرومون الدفء. فقد جاء الشتاء هذه السنة مبكرا . زمهرير، ورياح، الصمت يخيم. إلا من أصوات بعض الحيونات والأطفال، وتنبعث رائحة الشاى والشواء لإسكات الجوع الذى خلفه هذا البرد القارص . الشارع خال تماما إلا من صفير الرياح وعصف أوراق الأشجار، وهناك قبالة الزاوية يحاول عبد الختم أن يتدثر ببطاطينه، التى جلبها له أهل الحى، ليقاوم غوائل الشتاء. والرياح تعوى وسيلا رمليا يحط فوق جسده ويدفنه حيا. وهو يجمع شتات أفكاره، وقد ألمت به جائحة فصار يسعل سعالا مريعا. حتى سمعه كل سكان الحى . أصيب بعدوى أمراض الشتاء أتوا له بالدواء ولكن هذه الليلة قد إشتدت عليه الحمى،وصار يهزئ وينادى أمه، وتارة صبية الشارع الذين ألفهم .تداخلت الرؤى و إشتد هذيانه وأهل الحى نياما .
عندما بعثت الشمس، اشعتها الشتوية الخاملة،هرع الصبية لايقاظه لشرب الشاى مثل كل شروق مضى، وجدوه مكورا كما فى رحم أمه وقد تصلب جسده ومات فكان النبأ الكارثة.إنتقل بين جنبات الحى. والصبية يهرولون هنا وهناك. يتسابقون لنقل الحدث الى أمهاتهم، وكذلك وصل النبأ الى عم محفوظى بائع الفلافل ،الذى نقله بسرعة لأصحاب المحلات فى السوق الصغيّر. كما وصل الحدث الى الحكيم البيطرى. وقبل كل هؤلاء كان قد وصل الخبر الى حمامة. ولم تستطيع الخروج لتلقى عليه نظرة الوداع،.سارسكان الحى خلف جثمانه، وجعلوا له جنازة مهيبة ، وحملوه إلى مثواه. والنسوة إجتمعن أمام الزاوية ينتحبن. وحمامة تبكى تحت ظل النيمة التى كان يستظل بظلها فى فناء منزلهم . فقد الشارع الجميل إنسانا جميلا ليس له قيمة بمعايير البشرولكن قهقهاته العالية ، مازال الشارع يردد صداها.


ظاهرة أطفال الشوارع تؤرق مجتمعاتنا. لكل واحد منهم حكايات مؤلمة...و مصير موجع.
الموت أرحم من أناس لا يبكون على المرء حتى يموت. على الأقل وجد لنفسه سريرا ينام علية و يدفئ عظامه. على الأقل سيرتاح من تعب الدنيا و من قضاء حوائج الآخرين. على الأقل سينجو من نزوة الزوج و قسوة الأم...
نص موجع
مودتي

سعاد محمود الامين
17-11-2012, 04:42 PM
الاخ عبد السلام
كل الشكر والتقدير على المرور والتعليق والتصحيح والأرشاد ساقوم بما طلبت محاولة التكثيف متجنبة الأخطاء النحوية عميق امتنانى.

سعاد محمود الامين
17-11-2012, 04:43 PM
الاخت الشاعرة سهى
اهلا وسهلا نورت المتصفح شكرا على المرور والأعجاب مودتى.

سعاد محمود الامين
17-11-2012, 04:45 PM
الاخ محمد
احى مشاعرك النبيلة تجاه المشردين فى الأرض كان الله فى عونهم أشكرك على المرور.

زهرة السفياني
21-11-2012, 10:48 AM
أختي سعاد ، ذكرتني قصتك في بعض مقاطعها بالأديب الكبير نجيب محفوظ حين يتوغل في تفاصيل الحارة ووجوه أصحابها حتي يخيل إلينا أننا نعايشهم أمدا بعيدا. لقد أجدت العزف على وتر الوصف ونقلت المشاهد حية ناطقة.
لو أعدت الاشتغال على على القفلة لتكون أقوى تحقق المباغثة وتكون أكثر ايحاءا. ستكون قصتك حتما أكثر تميزا وروعة.
تحيتي أختي ودمت بخير.

سعاد محمود الامين
22-11-2012, 02:31 PM
الاخت زهرة لعلك لاتدرى وقع تعليقك على نفسى فانا اسعد عندما يذكر أسم الاديب الرائع نجيب محفوظ الذى جعلنى اعشق الكتابة فقد اثرى مخيلتى زمنا طويلا ساعمل ما اقترحت بقفلة قوية اشكرك كثيرا وفى انتظارك دائما ليزدان متصفحى.

لانا عبد الستار
22-11-2012, 03:21 PM
القصة جميلة
والموضوع مهم
والوصف تفصيلي جعلنا ندخل القصة ونعيش فيها
هذه قصة ناجحة
أشكرك

سعاد محمود الامين
22-11-2012, 05:53 PM
الاخت لانا أشكرك على المرور اعجابك بالنص وسام أتمنى أن أراك دوما على متصفحى بتعليقاتك المشجعة مودتى

ربيحة الرفاعي
29-11-2012, 01:48 AM
قصة قوية الفكرة ثقيلة المحمول الاجتماعي والإنساني بسرد جميل شائق تمكنت فيه من انتباه المتلقي وأسرت اهتمامه بدقيق الوصف وملفت التفاصيل
بعض تكثيف كان ليضفي على النص ألقا إضافيا ويعين -ربما- على الانتهاء بقفلة اقوى قليلا
يبقى اني كنت هنا في حضرة أداء قصي ماتع

أهلا بك غاليتي في واحتك

تحاياي

سعاد محمود الامين
29-11-2012, 06:13 AM
ااخت الاستاذة ربيحة تحية
لا تدرى كم يسعدنى مرورك على متصفحى وكأنك زرتنى فى منزلى..شاكرة لك التوجيه والأعجاب ومنك دائما استفيد بوركت.دمت بخير

ناصر أبو الحارث
04-12-2012, 01:05 PM
القصة جميلة والموضوع جميل والأداء رائع

سعيد أني قر أتها

مودتي وتقديري

سعاد محمود الامين
04-12-2012, 01:57 PM
الأخ الشاعر ناصر أناسعيددة بمرورك البهى أتمنى ان أراك دوما معلقا على نصوصى وشكرا لك على الثناء دمت بخير

نداء غريب صبري
10-12-2012, 11:08 PM
قصتك جميلة ووصفك للحي والناس رائع
شعرت بنفسي بينهم
أختي الكاتبة الرائعة سعاد
شكرا لك
بوركت

سعاد محمود الامين
11-12-2012, 05:04 AM
الاخت نداء
تحية عطرة
لقد جار الزمن علينا وافتقدنا الاماكن التى تتجمع فيها الألفة والمودة والانسانية قبل ان حقوق الانسان كمنظمات حبر على ورق كانت الانسانيةشعور متعمق فى النفوس وليس مصطنع المادة يأختى افسدت علينا حياتناوضاعت شوارعنا الجميلة.. شكرا لك على المشاعر الرقيقةوفى دواخل الانسان دائما جمال.

آمال المصري
13-04-2013, 04:24 AM
أطفال الشوارع وحكاية من واقع أحدهم
ربما وجد من يرثيه ويشيعه ويذرف الدمع من أجله
ظاهرة مؤلمة وضحية من ضحايا التفكك الأسري والظروف الاجتماعية القاسية
تعجبني نصوصك أديبتنا القديرة والتي تتطرق للعديد من القضايا الهامة وخاصة الاجتماعية منها
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

سعاد محمود الامين
13-04-2013, 06:18 AM
الاخت العزيزة آ مال
تحية عطرة
مرورك بشارعنا الجميل عطر شخوصه بمشاعرك الرقيقه تجاة من خلفه أبواه وتركاه يمضى الحياة ذليلا.. عندما كانت البساطة والتواصل والتراحم أصل الحياة.. ما كان المتشرد يسمى متشردا لان الشارع أيضا منزلا يلقى الاهتمام من عابريه ولكن أختل ميزان الحياة وصار الشارع ممر للمجرمين شكرا لك على التعليق الثر ودمت بخيرز

ناديه محمد الجابي
13-04-2013, 12:33 PM
عزيزتي سعاد ..
أحب في كتاباتك هذه المقدرة على بعث الحياة في السطور فتستحيل عالما
نلجه ونعيشه ونتفاعل معه.. من خلال سرد رائع متدفق ووصف دقيق موحي
تتمعين بمهارة قصية عالية, وقدرة على رسم المشهد محملا بالأحساس , في نص
موجع يعرض قضية هامة.
سلم قلمك ودام أبداعك.

سعاد محمود الامين
13-04-2013, 08:11 PM
العزيزة نادية
تحية عطرة
اشكرك على هذا الثناء الذى يجعل قلمى يحلق بعيدا فى سماء القص.. أختى لا أخفى عليك سراً فقصى جميعه من شخوص واقعية رايتها تأملتها تحدثت معها مررت بها منذ الطفولة الباكرة. خزنتهم ذاكرتى استدعيهم فياتوا بمشاعرهم فاسطرها قصة هذا المتشرد كان فى شارعنا الجميل يوما راينا اهلنا يعطفون عليه فلم نشعر به غريبا مات ذات شتاء من البرد.. أشكرك أيضا على رهافة الحس والتذوق دمت بالف خير

خلود محمد جمعة
06-10-2014, 06:25 PM
قرية الزمن الجميل بما تحمله من صور للسلام والبساطة والحب وكيف احتضنت الغريب غير عابئة بماضيه فنقلت السلام الى قلبه فبات من إحدى معالم شوارعها بضحكته التي أضفت مزيدا من الحب بينهم
الى أن جاء القدر الذي لازمه منذ طفولته ليكتب نهايته بألم ليس اقل ألمًا من بدايته ، تاركًا سراب ضحكته سرًا يداعب خيال الأطفال ويلون ذكراه عند حمامة
قصة جميلة احتاجت بعض عناية بيراع متجدد الألق
بوركت
تقديري وكل المودة