المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رغبةٌ أخيرة . الى أطفال غزة



أحمد عيسى
22-11-2012, 12:03 PM
رغبةٌ أخيرة

الى الشهيد الطفل : عبدالرحمن وأطفال غزة الشهداء

تقهقرت الشمس قليلا ، بدت كأنها تسقط بغتة ، ببعض نور لم يزل بعد تظهر الأشياء دون وضوح تام ، أجسامٌ صغيرةٌ محمولةٌ على الأكف ، أرواح تتداعى ، ونجومٌ تخفت وأخرى تضاء ، حركة لا تنتهي في مكان ضيق ، واسعٌ جداً بما يحويه من أرواح ، أكثر رحابة من الحياة ذاتها !
يتراجع د. مجدي من هول المشاهد ، يفرك عينيه المتعبتين ، يذهب ليغسل وجهه المرهق ، المشفى يهتز بعنفٍ من وقع الضربات التي لا تتوقف ، مشاهد الأطفال لا تفارق مخيلته ، كم أشتاقك يا عب الرحمن !
عائلات بأكملها ممددة على الأسرة ، بين قتيل وجريح ، صراخٌ لا ينتهي ، زغاريد خفية ، يرقص شبح الموت على أنغام الطبول ، وصوت الرصاص ، ووقع القصف الذي لا ينتهي أبداً ..
أمام مكتبه يجلس ، يتساقط فوق كرسيه متعباً ، لحظة انهيار بعد أيام لم يذق فيها طعم الراحة ..
يزعجه أن يرى الأشياء واضحة هكذا ، دون زيف أو تصنع ، الصورة واضحة غير مقلوبة ، هؤلاء يتصرفون على طبيعتهم ، لأنهم لا يجدوا وقتاً لرفاهية التصنع ، لقد ولد هؤلاء .. ليموتوا ..
تعود دائماً أن يتأمل سخرية الحياة ، أن يتعلم درساً من اختلافها ، واختلاف طرائق الموت في مباغتة ضحاياه ، وفاة داهمة بسكتة قلبية \ حادث سير\ مشاجرة عائلية \ غرق \ حريق منزلي ، وسائل وأشياء تتصنعها الحياة لكي تغتال أحداً ، قدرٌ ولا شك ، يجعل الاختلاف بين الناس في الحياة والموت ، طبيعة .
الأجساد المسجاة أمامه اليوم ، تعلن توحداً في الموت ، كما كان في الحياة .
انه المصير الواحد ، بذات الوسيلة والكيفية وبنفس الأداة .
كم يلزمك من الشجاعة ، يقولها محدثاً نفسه المتعبة . لتشيع حبيباً ؟
وماذا يلزمك ؟ من انفعالات لتعبر بها عن ذاتك ، وأنت تحفر قبراً ، وتضع رخاماً ، لتدفن أعز الناس إلى قلبك ؟
يستفيق من غفوته ، على وقع انفجار عاشر بعد الألف ، ينتفض قليلاً وقد تعود هذا الصوت ، حتى أصبح يتساءل ، عندما تمضي دقيقة دون انفجار ، ماذا هناك ؟ وأي أمرٍ طارئ مخيف ، جعل القصف على غزة يتوقف ؟
استر يا رب .
يقف ، يغسل وجهه ، ومن خلفه استغاثة أحد الممرضين ، موجة جديدة من الشهداء ، وبينهم –كالعادة – أطفالاً في عمر الزهور ، الزهور التي ذبلت خوفاً ..
***
- لا تخرج يا والدي
يتمسك به عبد الرحمن ، يتشبث به بقوة غريبة ..
يزيحه والده برفق ، انه واجبي يا صغيري ، وهو استدعاء طارئ ولا شك ، ربما ليلة واحدة وأعود إليك .
يبتسم ، مرغماً ، وتتراخى قبضته حول ذراع والده ..
- ماذا تحب أن أحضر لك ؟
تتلاشى الابتسامة ، يجفل مع وقع الانفجار الثاني ، ويقول بصوت متهدج :
- فقط أريدك أنت .. أن تعود لي .

***
غرفة الطوارئ مكتظة ، عن آخرها ، والأجساد متلاصقة ، يصعب أن تميز بين الجرحى والشهداء ، فكلهم هناك ، كلهم تشع أجسادهم عبيرا ، كلهم ينزفون ، بدماءٍ من لونٍ .. واحدْ .
وهو يهرول ، ليتفقد أحد الشهداء الصغار ، تصلب شعر رأسه بغتة ، شعورٌ غريب يعتريه أن ثمة مصيبة .. قادمة .
الجسد أمامه ملقى على ظهره ، وجهه مغطى بالغبار بع انتشاله من ركام منزله ، قميصه الأزرق ممزق ، قميصه الأزرق !
" فقط أريك أنت .. أن تعود لي "
الدموع تتجمد في مقلتيه ، يفحص صدر الطفل ، لا نبض
يمسح بكفيه وجهه الصغير ، يزيح الغبار عنه ، تتبدى رويداً رويداً ، ملامح طفلٍ تركه منذ ثمانية أيامٍ وحيداً ، مع زوجته الصابرة ، في منزلٍ بعيدٍ عن كل بؤر التوتر ، منزلٍ لم يعد اليوم ، كما كان .
يحاول أن ينعشه ، أن يعطيه دفقة حياة ، يصرخ بما أوتي من قوة ، يتجمد المشهد في قاعة الطوارئ ، حتى المصابين ، يرقبوا المشهد في دهشة ، وزملائه من الأطباء ، والممرضين ، يهرعون ليواسوه ، يتساقط أمام جثة الصغير ، يحمله بين يديه ، يبكيه ، ترتعد فرائصه وهو يتخيل لحظة كان يخشاها ، حين يواريه التراب ، ويتركه هناك ، وحيدا ..
يقبله في جبينه ، ويصرخ :
- وداعاً يا عبدالرحمن .
وبصوتٍ كالذهول يقول :
- ليتني أهديك عمري
ويرد الطفل ذات حياة :
" فقط أريك أنت .. أن تعود لي "

***

غزة
22 نوفمبر
معركة حجارة السجيل

لانا عبد الستار
22-11-2012, 03:28 PM
عبد الرحمن وأبوه
مشهد رأيناه كل يوم مرات ومرات
بكينا
وصرخنا
وشتمنا
وتناولنا العشاء

وهم وحدهم انتصروا
وهزمونا

عبد السلام هلالي
22-11-2012, 03:54 PM
والله يا أخي أحمد إني لأتساءل وأنا قرأ هنا ابداعك وروعة قلمك : لما ذا يقترن الابداع غالبا بالألم القاتل؟ لماذا لا نبدع في الكتابة إلا ونحن نتجرع الجمر؟
أهو صدق الاحساس من ينثر الروعة على الأحرف المنبثقة من رحم المعاناة؟
رائع ما كتبت أدابا وقاس واقعا. فطعم الدم يبقلى دائما أمر من حلاوة الكلام.
شكرا لك ودمت بخير أيها المبدع.

أحمد عيسى
23-11-2012, 12:36 AM
عبد الرحمن وأبوه
مشهد رأيناه كل يوم مرات ومرات
بكينا
وصرخنا
وشتمنا
وتناولنا العشاء

وهم وحدهم انتصروا
وهزمونا

الأخت الفاضلة : لانا عبد الستار

في معركة الكرامة والحرية ، معركة تحدي الاحتلال : حجارة السجيل
كانت لنا دروس وعبر
وبين أصوات القصف المتتالية كانت هناك مئات القصص
التي تستحق أن تروى
وأن تبقى خالدة
قصص بطولة وتحدي
وقصص وفاء وتضحية
وقصص استشهاد وفقد

تقديري لك
وتحية للمقاومة الباسلة



للأخوة المشرفين
امكانية التعديل اختفت لدي بعد ساعة فقط من نشر الموضوع
وأعتقد أن هذا أمر يحتاج الى مراجعة
على الأقل يجب أن تظل امكانية التعديل ليوم أو يومين
فكلنا نتسرع حين النشر ونقع في أخطاء بسيطة نحتاج لتداركها

أرجو منكم أيضاً أن تعدلوا الكلمة التالية : فقط أريك أنت
الى فقط أريدك أنت

تقديري

فاطمه عبد القادر
23-11-2012, 12:36 AM
عائلات بأكملها ممددة على الأسرة ، بين قتيل وجريح ، صراخٌ لا ينتهي ، زغاريد خفية ، يرقص شبح الموت على أنغام الطبول ، وصوت الرصاص ، ووقع القصف الذي لا ينتهي أبداً

السلام عليكم
هذة بالضبط حال حروبنا ,,كان الله بعون من يقع في براثنها ,ويا ليت أحد في الدنيا يشعر أو يستشعر ,
لا يشعر بهم سوى أمثالهم ممن ذاق طعم هذة الحروب المقيتة غير المتكافئة .
لكنه قدر هذة الشعوب التعيسة ,فماذا نفعل إزاء القدر ؟؟
أطفال صغار كالعصافير البريئة الضعيفة تتحمل وقع أحدث وأعتى الصواريخ في العالم !
قصة مؤئرة مبكية
شكرا لك أخي أحمد , ولكل من يستشعر الحال
كن بخير
ماسة

زهرة السفياني
25-11-2012, 11:18 AM
رائعة وقاسية.
أعجبني وأدماني ما قرأت هنا أخي شكرا لك.
كان الله في عون إخواننا في فلسطين العزة وسوريا. دمت بخير

ربيحة الرفاعي
29-11-2012, 02:32 AM
مشهد موجع وناطق بالحقيقة التي نتعامى عنها لنتمكن من مواصلة الحياة بينما يواجه أهلنا الموت ليمنحوا حياتنا معنى وقيمة
قاص مبدع متمكن من حرفك مالك لأدواتك القصية بارع في سردك
جملتنا معك عبر مواطن الألم لنقف بحرقة على وجيعة الفقد تصنع غدنا

أهلا بك ايها الكريم في واحتك

تحاياي

أحمد عيسى
29-11-2012, 08:43 AM
والله يا أخي أحمد إني لأتساءل وأنا قرأ هنا ابداعك وروعة قلمك : لما ذا يقترن الابداع غالبا بالألم القاتل؟ لماذا لا نبدع في الكتابة إلا ونحن نتجرع الجمر؟
أهو صدق الاحساس من ينثر الروعة على الأحرف المنبثقة من رحم المعاناة؟
رائع ما كتبت أدابا وقاس واقعا. فطعم الدم يبقلى دائما أمر من حلاوة الكلام.
شكرا لك ودمت بخير أيها المبدع.


الفاضل عبد السلام هلالي

أشكرك لرقيك وجمال مرورك على نصي الواقعي
هو الواقع أيها الزميل
كما هو تقريباً
وفي حرب غزة الكثير
وفي غزة الكثير مما يحتاج أن يروى
ودائماً الواقع مؤلم أكثر من الخيال
ولكن بجوار كل هذا الألم
والتضحية
كان هناك قصص تحمل الأمل
والبطولة
والفداء

وتستحق أيضاً
أن تروى


تقديري أستاذي

سامية الحربي
29-11-2012, 10:46 AM
حقا هو الموت و أطيافه ما يوحد مشهدنا. قصة إليمة حد البكاء ليتها كانت خيال . تحياتي وتقديري.

كاملة بدارنه
29-11-2012, 03:50 PM
كتبت فأبدعت في وصف لمواقف موجعة مؤلمة
حين ينشر الموت رائحته تجف أحيانا دموع الأقلام لهول المشاهد، ولكن قد تجدّد ماءها بعد امتصاص الصّدمة...
بوركت
تقديري وتحيّتي

د. سمير العمري
03-12-2012, 05:29 PM
تدوين أدبي لقصة واقعية ترددت كصدى عابر في أسماع الأمة التي يبدو أنها قررت أن تنساها وغيرها قبل أن تسمعها.

وهنا أبدعت ببراعة في نقل الحدث بتصاعد درامي مؤثر ومميز بنقلة فلاش باك مهمة ، والسرد كان مميزا وبأداء تصاعدي احتداما وصولا لذروة الحدث المؤثر برؤية الطبيب لابنه بين يديه شهيدا. ولكني رأيت أنك أسهبت نوعا في المقدمة بما اصاب النص ببعض ترهل في تقديري على الأقل.

نسأل الله أن يثبت القلوب وأن يديم حالة النصر لنا والهزيمة لعدونا إنه على ذلك لقدير.

دمت بخير وعافية!

وأهلا ومرحبا بك دوما في أفياء واحة الخير.


تحياتي

أحمد عيسى
03-12-2012, 07:26 PM
عائلات بأكملها ممددة على الأسرة ، بين قتيل وجريح ، صراخٌ لا ينتهي ، زغاريد خفية ، يرقص شبح الموت على أنغام الطبول ، وصوت الرصاص ، ووقع القصف الذي لا ينتهي أبداً

السلام عليكم
هذة بالضبط حال حروبنا ,,كان الله بعون من يقع في براثنها ,ويا ليت أحد في الدنيا يشعر أو يستشعر ,
لا يشعر بهم سوى أمثالهم ممن ذاق طعم هذة الحروب المقيتة غير المتكافئة .
لكنه قدر هذة الشعوب التعيسة ,فماذا نفعل إزاء القدر ؟؟
أطفال صغار كالعصافير البريئة الضعيفة تتحمل وقع أحدث وأعتى الصواريخ في العالم !
قصة مؤئرة مبكية
شكرا لك أخي أحمد , ولكل من يستشعر الحال
كن بخير
ماسة


الفاضلة : فاطمة

ما أكثر ما يبكي في أوقات الحروب !
ما أكثر ما يبكينا ، وما أقل ما يثلج صدورنا وسط هذا المشهد الصاخب

أحييك
وشكراً على مرورك الراق

نداء غريب صبري
09-12-2012, 10:42 PM
قصة رائعة ومعبرة ومحزنة
وفلسطينية جدا
أحب قراءة قصصك أخي أحمد

شكرا لك
بوركت

ناديه محمد الجابي
08-08-2017, 07:38 PM
نص صادق وحاد ومؤلم ..
هل لعابر بهذا القص المؤثر الصادق ، وهذا العمق، وهذا الحس
الإنساني المرتقي عنان السماء إلا الصمت خجلا وحزنا..
حرف صرخ بيراع جف حلقه ألما ووجعا.
هل تعلم شيئا أخي أحمد .. تعامينا عما يحدث في غزة ـ حتى أصبحت
بلداننا كلها تعيش حروبا كغزة ـ يبقى لغزة شرف الجهاد ضد العدو الصهيوني
اما نحن فللأسف نقاتل بعضنا بعضا.
دام الألق لقلم تشتاقه الواحة.
:009::009: