المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دستور يا سيدي ... دستور



أحمد عيسى
04-12-2012, 11:32 AM
دستور يا سيدي ... دستور

الى المؤيد والمعارض : أرجوكم ... لا تضيِّعوا مصرْ


عبده بالجلابية ، الجلابية التي شربت عرقه كله حتى فاض ، ولم تستوعبه إلا الأرض التي يسقيها كل يوم ،دون استجابة منها، وكأنها تعانده ..
أعطاها ماءها وغذاءها وعرقه ، فما ازدادت إلا جحوداً
عبده بالجلابية الممزقة ، ينظر إلى بضع بصلات خرجت على استحياء ، مسح وجهه بأكمامه ، وهرع إلى بيته ، يبشر مرزوقة – دون اقتناع منه – بما حملت به الأرض .
مصمصت مرزوقة شفتيها ، وقالت : أهذا كل ما لديك يا عبده ، بصلات يتيمات ، مصفرة وكأنها جاءت ميتة ؟
عبده وهو يجلس متهالكاً على الأرض ، ينزع " الشبشب " وينظر إلى أصابع قدميه المتشققة :
أخبرتك مراراً ، هذا ليس كاري ، أنا خلقت لأكون تاجرا ، أبيع وأشتري ويشير لي الناس ، ومن يدري ربما أصبحت غنياً ، فأبتاع سراي ضخمة ، وأشتري أرض القرية كلها ، ويصبح كل من فيها عمالاً عندي ، ربما أرشح نفسي لمجلس الشعب ، ربما منحت أيضاً لقب بيه .
تنظر له مرزوقة في بلادة : لم أفهم شيئاً ، لا أعرف كيف ستصبح تاجراً وأنت مفلس ، لكن ربما تصبح بيه بعدما تم إلغاء الألقاب ، ألم تسمع عن الثورة ؟
عبده متمتماً : أي ثورة ؟ لم أسمع أن ثورة يناير ألغت الألقاب !
مرزوقة : ربما .. من يدري ؟ بماذا تفكر يا عبده بيه ؟
عبده : نبيع بقراتنا الثلاث ، ينظر في شراهة إلى يديها : وهاته الذهبات في يديك ، ستنفعنا بالتأكيد .
مرزوقة : ثم ؟
عبده : لا شيء ، لا أولاد ولا التزامات تلزمنا بالبقاء هنا ، شقة صغيرة في القاهرة ، محل صغير لبيع الأشياء المستعملة ، ثم ..
ويفرقع بإصبعه : هوب .. نصبح مليونيرات .
مرزوقة : هل تعتقد أنك عبده حقاً ؟
عبده : أي عبده تقصدين ؟
مرزوقة : عبده من مسلسل جلباب أبي ، كان يلبس جلباباً يشبه جلبابك تماماً ، لكنه أصبح غنياً ، وببيع بعض المسامير القديمة فقط .
عبده : لم أشاهد المسلسل قط ، لكنها فكرة جيدة ، وأنت تخبريني أنها مجربة وناجحة .
مرزوقة وهي تنظر إلى الأساور التي تحيط بمعصميها في حسرة : لا بأس ، ربما يكون حظك أفضل من البصل هذه المرة .
***
عبده يصل إلى فندق رخيص من الدرجة الثانية ، ملاءاته رخيصة وبالية ، ورائحته نتنة ، لكنها بأي حال أفضل من رائحة منزله ، تنقصها رائحة البقرات الثلاث ، تمتم وهو يتذكرها ، يضحك : على الأقل جئنا مجاناً .
تضحك مرزوقة : لماذا حملتنا الحافلات بدون فلوس ؟
عبده : لا أعلم .. كانوا ينادون تحرير تحرير ، ومجاناً .. يبدو أن الريس حل مشكلة المواصلات تماماً في القاهرة .. لا عزاء للمحافظات الأخرى .
اغتسل عبده ، وحده بعد أن فشل في إقناع مرزوقة أن تشاركه نفس الدش ، ثم تبعته هي ولبست جلابيتها الجديدة ، التي لم تلبسها إلا عدة مرات فقط .
في بهو الفندق الصغير جلسا ، طلبا كأس شاي فجاءهما خفيفاً ماسخاً لا يشبه الشاي الذي يعرفونه في" البلد "، شربه عبده على مضض ، رأى بعض الشباب يتناقشون وقف أمامهم ، أخذ يستمع لهم ، فلم يفهم شيئاً ، يتحدثون عن الثورات والانقلابات ، عن الشرعية وعدمها ، عن الدستور والقضاء والمليونيات ، قال أحد الشباب متحمساً أمام كاميرا فيديو تنقل حديثهم : انظروا إلى هذا الفلاح ، لقد جاء من الريف بجلابيته الأصيلة ليعبر عن غضبه وحنقه .
الكاميرا تواجه عبده ، وفجأة يجد ميكروفونا أمامه ، العيون تحدق به في انتظار أن يتحدث ، ينظر حوله مشدوهاً : نعم .. لقد بعت بقراتي الثلاث كي آتي هنا .
الشاب : أنت الوجه الأصيل للثورة ، نحيي بطولتك ووفاءك ، لا شك أنت رافض للدستور ومن حمله لنا ، صوِّت بلا ، وان غلب حمارك فقاطع .
عبده مرتبكاً : لكني لم أبع حماري ، لقد أبقيت عليه اتقاءً لعثرات الزمن .
ويبتسم : كما أنه يجلب الحظ الحسن .
يضحكون ، ويهرول عبده مدارياً حرجه وارتباكه ، تتلقفه مرزوقة :
صورتك الكاميرا يا عبده ، هه ، ظهرت في التلفزيون والفضائيات ، كلهم كانوا ينظرون لك ، حتى أنك كنت أنصح واحد فيهم .
ينظر إلى كرشه : بالفعل .. هلمي لنبع أساورك فهي تساوي هنا ما هو أكثر بكثير ..
***
يا له من نصاب كبير ..
عبده يقوم بعد نقوده الكثيرة ، ألف ، ألفان ، ثلاثة آلاف ، خمسة
لكن قيمة الذهب تساوي أكثر بالتأكيد .
مرزوقة : لا تنسى أنك اشتريتها ببضعة قروش فقط .
عبده : كان الزمن غير الزمن ، اليوم كل شيء أغلى وأفضل .
مرزوقة ترى مجموعة أخرى من الشباب ، لا تختلف كثيراً عن مجموعة الفندق ، ملابس مماثلة ، ربما بعض اللحى الصغيرة ، نفس الحماس واللهجة .
مرزوقة : ها هم أصدقاءك من الفندق .
عبده يتأملهم : لا ليسوا هم ..
يقترب منهم بفضوله المعتاد ، نفس النقاش السابق ، الحدة ، الحماس الزائد عن الحد ،
أحد الشباب يمسكه من يده :
الفلاح المصري الأصيل يرفض أن يبقى في قريته ، ترك أرضه وجاء ليقول كلمته .
عبده وهو ينتزع يده انتزاعا : بالفعل تركت أرضي وجئت لأقول كلمتي .. حتى أنني بعت أساور مرزوقة
الشباب يضج بالتكبير ، يحيونه بصوت جفل له ، حتى كاد أحد المتحمسين أن يرفعه على كتفيه ، فتراجع قليلاً للوراء .
الشاب : أنت بالتأكيد مع الدستور ، سوف تصوت بنعم
عبده وهو يمد يده إلى جلابيته : نعم
ويصرخ وهو يلتفت إلى صبي ارتطم به وواصل طريقه على دراجة مسرعة : فلوسي يا ولاد الكلب
ينظر له الشباب باستغراب ، تهرول له مرزوقة وهي تلطم خديها ، تصرخ بأعلى صوتها : حرااامي
فلا تجد أحداً يهرع لنجدتها . في أحد أفلام إسماعيل ياسين كانت صرخة واحدة تجعل الشارع كله يجري ليمسك السارق ..
عبده يرفع جلابيته حتى يظهر سرواله ، يكاد يلطم خديه وهو يتفقد جيوبه الفارغة :
- راحت الفلوس ، راحت البقرات ، ولم يبق إلا الحمار .
عاد إلى الفندق ، شاهد مجموعة أخرى ، قبل أن يتحدث أحدهم صرخ فيهم :
- يلا يا ولاد ال... الفلاح الأصيل اتسرق وحيبيع جلابيته لو تسوى ، ودستور يا سيدي دستور .

***

سهى رشدان
04-12-2012, 11:41 AM
الأستاذ أحمد عيسى
نص ممتع
كل تقديري

كاملة بدارنه
04-12-2012, 03:46 PM
الفلاح الأصيل اتسرق وحيبيع جلابيته لو تسوى ، ودستور يا سيدي دستور .
هنا يظهر الأصيل المستعدّ لبيع أهمّ ما يملكه ... فيما يتغنّى الآخرون بالدّستور ولا يطبقون ...

حرااامي
فلا تجد أحداً يهرع لنجدتها . في أحد أفلام إسماعيل ياسين كانت صرخة واحدة تجعل الشارع كله يجري ليمسك السارق ..
يبدو أنّ زمن الاهتمام بالغير قد ولّى ...
قصّة بسرد جاذب
بوركت
تقديري وتحيّتي

ناديه محمد الجابي
04-12-2012, 04:21 PM
بقلم ثرى وقالب قصصى فكاهى رائع , قدمت لنا قصة من ألطف ما يكون
إن هذا الفلاح الذى يشبه (الأطرش فى الزفة ) هو مثال للكثير ممن نراهم
على الشاشات فى المظاهرات المؤيدة , أو المعارضة وهم لا يكادون يفقهون شيئا .
حتى أنا .. ربما لأنى لست مقيمة بمصر , والإعلام يتلاعب بنا كيفما شاء
أشعر أن رأسى يؤلمنى من كثرة التفكير , أسمع المؤيدين فيطيع قلبى , وأسمع
المعارضين فيستجيب عقلى .. ولا أعرف الحق من الباطل ــ كل ما أستطيع
تأكيده إنى مثلى مثل كل مصرى أعشق كل ذرة من تراب مصر , وأدعو لها
من كل قلبىأن تجتاز هذة الأزمة بسلام وأن ترسى على بر الأمان .
ودستور يااسيادنا دستور
شكرا لك ولقلمك المبدع .

ربيحة الرفاعي
07-12-2012, 11:06 PM
قصة بديعة رسمت المشهد الخارجي للحدث الخطير على الساحة والمصرية بمهارة
وحملت وعيا وفهما للمشهد فرغ " الملاينية " من المعنى الذي يزعمون
وبتمكن قصّي جاء السرد شائقا والخاتمة بديعة صارخة مؤنبة لكل ذي ضمير فهل يسمعون

أزعم أن هذه من أجمل ما قرأت لك نص وفكرة
دام لحرفك بهاؤه
واهلا بك في واحتك

تحاياي

ربيحة الرفاعي
07-12-2012, 11:06 PM
قصة بديعة رسمت المشهد الخارجي للحدث الخطير على الساحة المصرية بمهارة
وحملت وعيا وفهما للمشهد فرغ " الملاينية " من المعنى الذي يزعمون
وبتمكن قصّي جاء السرد شائقا والخاتمة بديعة صارخة مؤنبة لكل ذي ضمير فهل يسمعون

أزعم أن هذه من أجمل ما قرأت لك نصا وفكرة
دام لحرفك بهاؤه
واهلا بك في واحتك

تحاياي

أحمد عيسى
09-12-2012, 08:38 PM
الأستاذ أحمد عيسى
نص ممتع
كل تقديري

\
الزميلة الفاضلة : سهى رشدان

سعدت بمرورك

وأتمنى كل الخير لمصر

خالص الود والتقدير

نداء غريب صبري
20-12-2012, 08:36 PM
يا الله
ما أجمل القصة مع أن مقدمتها جاءت طويلة جدا

شكرا لك اخي

بوركت