المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صور قديمة .



ناديه محمد الجابي
15-12-2012, 08:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
صور قديمة
فى خطوات ثابتة , متزنة , تملأها الثقة.. خطوات من تعود أن يسير على القمة , أن يلمس بيديه النجوم
دخلت إلى قاعة المحاضرات . كالعادة .. المدرج يضج بالطلبة ــ انتشيت بصوت ضجيجهم وهمهمتهم
رفعت عينى إليهم .. صمتت الشفاه , وشدت إلى الأبصار .. إنتابنى ذات الشعور الذي أشعر به كلما
دخلت إلى هذه القاعة .. شعور الملكة وسط رعيتها , محاطة بالابتسام على الوجوه , والترحيب فى
العيون .
بدأت أحلق فى سماء مملكتي.. لم أكن أبحث عما سأقوله .. كانت الكلمات تعرف طريقها وحدها فتخرج
طيعة لينة ـ ألقى بها كما يلقى الصياد الماهر بشبكته فإذا بها تحوى كل العقول والآذان والعيون ..
أمسك بأطرافها بإحكام , ولكن ليس من أجل أن أشدهم إلى الشاطئ , ولكن لأسبح بهم ومعهم فى بحور
واسعة من العلم والمعرفة .. لا أميز فيهم ملامح أو أرى أشخاصا ــ لا أراهم إلا من خلال تكتلهم ,
واجتماعهم على المدرجات .
بعد انتهاء المحاضرة تحلق الطلبة حولي .. بدأوا في مناقشتي ــ جذب انتباهى أسئلة ذكية تدل على
نبوغ لإحدى الفتيات .
تأملتها .. راعتنى جدية وصرامة لوجه مستدير فى رقة , يحتضنه شعر قصير جدا , وعينين سوداوين
ذات نظرات نافذة , لكنها جريحة , محزونة . شعرت بألفة تربطني بهذا الوجه , وكأني أعرفه منذ
زمن طويل .
قلت صادقة : أتوقع لك تفوقا .
قالت ( فى إصرار وبصوت هامس وكأنها تخاطب نفسها ) : يجب أن أنجح , وأن أتفوق ــ
لابد أن أصبح شيئا عظيما .
أصابني دوار مفاجئ, وخفق قلبي بعنف .
في طريق العودة كنت أهرول , وكأني أحاول الهرب من شىء ما, والكلمات تدور فى رأسي المصدوع
( يجب أن أصبح شيئا عظيما ) ــ الكلمات مفتاح فتح نافذة أغلقتها منذ زمن , فهبت رياح قوية على
أعماقي , تبعث بالماضي , وتطير أوراقه , وتعيد شريط الذكريات , وتجعله يلف من جديد
تبعثر الصور المخزونة فى الأعماق
تطفو فوق السطح صورة غائمة .. تتضح الصورة
والصورة لطفلة وقفت تسأل : أمى .. أين أبى ــ أريد أن أراه ؟
تحتضن الأم الطفلة , تحكى :
كان المخاض يدق دقات الألم , جدران بطنى المتكور , فجاء صوته أكثر إيلاما : يكفينى ثلاثة بنات
إذا جاءت الرابعة , فأنت طالق .
لم أكن أجسر على مخالفة أوامره .. لو بيدى ما خالفته , ولكن إرادة الله كانت أقوى ــ فأتيت , بصراخ
متواصل أثبت وجودك , وتحديته .
وبهدوء وبساطة رحل ــ ترك الأسرة , ذهب يبحث عن الولد فى بيت آخر, ومع زوجة أخرى .
للحيرة والضياع ترك أم مكبلة بعجزها ترعى أسرة , وأفواه صغيرة جائعة .
تهتز الصورة .. ترتعد .. والدمعة الساخنة تنزل على خدي ــ تلسعه ..
تطفو صورة أخرى .. الطفلة تغدو فتاة يانعة , تتفجر أنوثتها , ولأنها كانت أنثى ــ رحل الأب بعيدا
شتت أسرتها , يبحث عن الولد المنشود . وتكفيرا عن ذنب لم يكن لها فيه يد .. كرهت أنوثتها ..
رفضتها , أخفتها .
اقتربت الفتاة من أمها , احتضنتها , وعدتها : لن أجعلك تندمين على إنك لم تنجبي ولدا .
( سأصبح شيئا عظيما تفتخرين به , وتعتزين ) .
تغيم الصورة , وتبتعد..
وبفكر مضطرب , وأنفاس لاهثة .. دخلت إلى منزلي .. ضربات قلبي تدوي بين أضلعي كبندول
ساعة .. يتصبب العرق باردا من منبت شعري , ويتركني أرتعد .
نظرت حولي .. سرت فى جسمي قشعريرة ــ شعرت بجدران المنزل حولي تطول , وتطول ..
تصبح وكأنها سور سجن يحيط بى .. تشع برودة ثقيلة تلفني .. خيل إلى أنى سمعت صوتا ..
أنصتت .. لم أسمع سوى صوت أنفاسي اللاهثة , تردد صداها الجدران الخالية .
أتذكر أخواتي الثلاث وقد رحلن الواحدة تلو الأخرى ــ صورة من الأم المقهورة فتحن بيوتا , وأنجبن
أطفالا . وصورة أخرى تطفو من ملف الذاكرة :
( أصبحت الفتاة امرأة ناضجة ) .. تقول لها الأم :
أرجوك .. اقبليه زوجا . أنا أمك , أعرف مصلحتك , وهو إنسان ممتاز , والعمر ياابنتى يجرى .
تقول الابنة في إصرار : لن أكون صورة منهن , آلة تفريخ لرجل يأمر فيطاع .أرفض .. أرفض .
وكمن يستيقظ فجأة بعد يوم ثقيل ــ أو تفتح عيناه بعد عمى طويل ..
أشعر فجأة بالوحدة ــ بالغربة تجتاح روحي
بالجدران تشع برودة ــ تتغلغل في أعماقي .. أبحث عن غطاء .. أتدثر ..
والصورة فى هذه المرة قاتمة :
الأم مريضة على فراش الموت , والأبنة باكية بجانبها ــ تنظر الأم لإبنتها ــ تترقرق دموع فى
عينيها .. تقول : كم كنت أتمنى أن أطمئن عليك قبل أن أرحل
تثور الإبنة .. تغضب : ألم تطمأنى بعد كل هذا ..
شهاداتي تملأ كل جدران الغرفة .. بكالوريوس , ماجستير , دكتوراه , شهادات تقدير , ومركز
مرموق .. واحترام فى كل مكان ... ماذا بعد يجعلك تخافين ؟؟
_ تمنيت للساق القوية أن يصبح لها فروع .. وغصون .. وأوراق..
أخشى أن تظل شجرتك ياابنتى عارية
أخشى أن تلفح رياح شتاء العمر الشجرة الجرداء ..
أخش عليك برد الشيخوخة أخش ألا تجدى من يؤنس وحشتك .
_ لا تخش شيئا .. تؤنسني أوراقي , أبحاثي , تلامذتي سيملؤن على المكان ..
تظلم الصورة ــ يغلف المكان بالسواد , وتلفني ظلمة ثقيلة ..
ودموع ساخنة على وجنتي ــ والعرق يتصبب من كل خلايا جسدي ..
والبرودة تسرى فى أعماقي ــ تسحق عظامي
ألتف فى الغطاء .. أتدثر .. أتكور ..
تمس يدى جدران بطنى ..
أحلم .. أتخيل .. أن البطن يكبر , ويتكور
فى الداخل يرقد طفل يدق الجدران بقدميه ..
أحلم .. أتخيل .. يكبر .. أسمعه .. يضحك .. يبكى
يتفجر الحنان فى جسدي
أتمنى أن ألقمه ثدي .. أمد يدي لأحتضنه
ترتطم اليد بجدران البطن الخاوي
ينفجر الدمع .. أبكى .. أبكى
تهتف صرخة فى أعماقي
( من سرق عمري ) ؟؟؟؟؟؟

رياض شلال المحمدي
15-12-2012, 09:06 PM
**(( وما بين التوازنِ والإتزان تأرجحت هاتيك الصور القديمة الحديثة في
مسافات الزمن تقصّ علينا من قُصاصاته ما عاشته وتعيشه وتعتاش منه
الكثير الكثير مما نعلم ونسمع من حكايا الدهر الغريب ، جميلٌ ما قرأنا لكِ
أخيتي هنا ، وتقبّلوا هذا المرور الخجول مع فائق التقدير ))**

عبد السلام هلالي
15-12-2012, 11:16 PM
نص جميل متسارع الأنفاس ، متلاطم الإحساس.
كثيرة هي الصور اليومية التي تجر علينا سيلا من صور الأمس حتى تنعدم المسافة بين الحاضر والذكرى.
راقتني فكرة النص وهذه الحيرة بين مصير الأم التي قرنت حياتها بزوج تخلى عنها لذنب لم ترتكبه وبنت قرنت سنينها بعلم لم يغنها عن فطرة المرأة فيها.
تحيتي وتقديري.

همسة : تملؤها - ولكن ليس من أجل .... بل لأنسج - ملامحا - بدؤوا - ترك أما - أفواها - أنصت - لا تخشي - سيملؤون.

آمال المصري
16-12-2012, 07:31 AM
كتمت أنفاسي وأنا أقرأ لك هنا أديبتنا الفاضلة
تصاعد رائع للأحداث واسترجاع الذاكرة التي فجرتها جملة ( يجب أن أصبح شيئا عظيما ) لتنكأ مابداخلها من صور قديمة كانت سببا في سرقة عمرها
سرد رائع بأسلوب سلس ماتع
دام ألقك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

كاملة بدارنه
17-12-2012, 01:51 PM
صور رائعة... ووراء كلّ صورة عبرة مرفقة بدمعة
استمتعت بالقراءة
بوركت
تقديري وتحيّتي

ناديه محمد الجابي
17-12-2012, 02:04 PM
**(( وما بين التوازنِ والإتزان تأرجحت هاتيك الصور القديمة الحديثة في
مسافات الزمن تقصّ علينا من قُصاصاته ما عاشته وتعيشه وتعتاش منه
الكثير الكثير مما نعلم ونسمع من حكايا الدهر الغريب ، جميلٌ ما قرأنا لكِ
أخيتي هنا ، وتقبّلوا هذا المرور الخجول مع فائق التقدير ))**

بل هو مرور له ألق مميز
ترك أثرا طيبا على نفسى
شكرا على قراءة راقية وعميقة
وحضور باذخ جميل
تقديرى وإمتنانى .

ناديه محمد الجابي
17-12-2012, 02:07 PM
نص جميل متسارع الأنفاس ، متلاطم الإحساس.
كثيرة هي الصور اليومية التي تجر علينا سيلا من صور الأمس حتى تنعدم المسافة بين الحاضر والذكرى.
راقتني فكرة النص وهذه الحيرة بين مصير الأم التي قرنت حياتها بزوج تخلى عنها لذنب لم ترتكبه وبنت قرنت سنينها بعلم لم يغنها عن فطرة المرأة فيها.
تحيتي وتقديري.

همسة : تملؤها - ولكن ليس من أجل .... بل لأنسج - ملامحا - بدؤوا - ترك أما - أفواها - أنصت - لا تخشي - سيملؤون.

أسعدنى تواجدك هنا
وأن نال حرفى استحسانك
تشرفت بقراءتك النيرة وعبق مرورك
كما أشكر لك الهمسة والتصحيح
كل الود والأمتنان .

ناديه محمد الجابي
17-12-2012, 02:11 PM
كتمت أنفاسي وأنا أقرأ لك هنا أديبتنا الفاضلة
تصاعد رائع للأحداث واسترجاع الذاكرة التي فجرتها جملة ( يجب أن أصبح شيئا عظيما ) لتنكأ مابداخلها من صور قديمة كانت سببا في سرقة عمرها
سرد رائع بأسلوب سلس ماتع
دام ألقك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

تحية منداة بكل الحب والتقدير لهذا الحضور الجميل
لا حرمنى الله من تجدد إشراقك , وجمال حضورك
دوما أترقب مرورك .. فلكلماتك عبق ينعش القلب إمتنانا
دام دفعك .

ناديه محمد الجابي
17-12-2012, 02:15 PM
صور رائعة... ووراء كلّ صورة عبرة مرفقة بدمعة
استمتعت بالقراءة
بوركت
تقديري وتحيّتي

أغدقت على بفيض عبورك فاستطاب الحرف عطرا
شكرى وتقديرى .

عناية الجابي
23-12-2012, 09:51 PM
راقني ما قرأت ...فقد نثرت أمام حسنا قصة تتأرجح بين الفطرة والطموح
... كثيرة هي المتشابهات من أمثال هذه القصة ...ولكنها الذكرى جاءت ناقوسا قويا يقرع
واقعنا يعيد شطحات الطموح الى الفطرة القوية التي لا يمكن تغافلها.
دمت أختي القاصة ودام قلمك نابضا بالحياة..
ومرة أخرى أرحب بك أختا إن لم يجمعنا النسب فيجمعنا الأقوى فرابطة الدين أقوى من أي رابطة أخرى .. فلنبق في الخير على صلة.

ناديه محمد الجابي
24-12-2012, 04:53 AM
راقني ما قرأت ...فقد نثرت أمام حسنا قصة تتأرجح بين الفطرة والطموح
... كثيرة هي المتشابهات من أمثال هذه القصة ...ولكنها الذكرى جاءت ناقوسا قويا يقرع
واقعنا يعيد شطحات الطموح الى الفطرة القوية التي لا يمكن تغافلها.
دمت أختي القاصة ودام قلمك نابضا بالحياة..
ومرة أخرى أرحب بك أختا إن لم يجمعنا النسب فيجمعنا الأقوى فرابطة الدين أقوى من أي رابطة أخرى .. فلنبق في الخير على صلة.


أحرفك عناية ورود إنغرست فى متصفحى
شكرى وإمتنانى لتشريفك وإثرائك للمتصفح بعبق العبور
سعدت بك أختا وصديقة
أحبك فى الله
تحياتى وودى .

مازن لبابيدي
27-12-2012, 01:18 PM
ما أروعك أيتها القاصة المبدعة

وأنا أقول من سرقني في هذه القصة فلم أدر ما حولي حتى أتممتها وأنا أسابق الكلمات بعيني من سطر إلى سطر حتى اصطدمت بعلامات الاستفهام ؟

حقا تمتلكين موهبة فذة في القص والحبكة تستحق التقدير والإعجاب

أخذتني الحبكة الذكية في الشطر الأول من القصة إلى تصور بدأ يتلاشى مع ارتسام خيوط القصة بالصور القديمة المتتالية التي تواردت إلى ذاكرة البطلة .

تقديري لك أختي الكريمة

وتحيتي

ناديه محمد الجابي
28-12-2012, 02:04 AM
ما أروعك أيتها القاصة المبدعة

وأنا أقول من سرقني في هذه القصة فلم أدر ما حولي حتى أتممتها وأنا أسابق الكلمات بعيني من سطر إلى سطر حتى اصطدمت بعلامات الاستفهام ؟

حقا تمتلكين موهبة فذة في القص والحبكة تستحق التقدير والإعجاب

أخذتني الحبكة الذكية في الشطر الأول من القصة إلى تصور بدأ يتلاشى مع ارتسام خيوط القصة بالصور القديمة المتتالية التي تواردت إلى ذاكرة البطلة .

تقديري لك أختي الكريمة

وتحيتي

أسعدنى حضورك القيم , وكلماتك الرقيقة
أكرمتنى بثناء أتمنى أن أستحقه
مرورك زان ببهائه النص وأكرم الحرف وصاحبته .

نداء غريب صبري
29-01-2013, 04:32 PM
صورة واستعادة صور وعمر ضاع لتحقيق هدف غبي
أنا قرأته غبيا وربما يقرأه غيري عظيما

شكرا لك اختي

بوركت

ناديه محمد الجابي
29-01-2013, 05:51 PM
صورة واستعادة صور وعمر ضاع لتحقيق هدف غبي
أنا قرأته غبيا وربما يقرأه غيري عظيما

شكرا لك اختي

بوركت

إنما هى الحياة وأقدار كتبت علينا
سعدت بوجودك ومرورك عزيزتى نداء
سلم نبض قلمك الرقيق
تحياتى والورود .

لانا عبد الستار
21-02-2013, 05:58 PM
وراء كل مأساة هناك رجل
رجل جاء فلوث الدنيا بحضوره
أو رجل لم يأت فلوثها بغيابه
قصة رائعة نادية
اشكرك

ناديه محمد الجابي
21-02-2013, 08:30 PM
وراء كل مأساة هناك رجل
رجل جاء فلوث الدنيا بحضوره
أو رجل لم يأت فلوثها بغيابه
قصة رائعة نادية
اشكرك

الروعة فى قراءة واعية متبصرة وحس أدبى
الشكر موصول لك لانا على مرورك الهاطل بروعتك .

محمد الشرادي
21-02-2013, 10:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
صور قديمة
فى خطوات ثابتة , متزنة , تملأها الثقة.. خطوات من تعود أن يسير على القمة , أن يلمس بيديه النجوم
دخلت إلى قاعة المحاضرات . كالعادة .. المدرج يضج بالطلبة ــ انتشيت بصوت ضجيجهم وهمهمتهم
رفعت عينى إليهم .. صمتت الشفاه , وشدت إلى الأبصار .. إنتابنى ذات الشعور الذي أشعر به كلما
دخلت إلى هذه القاعة .. شعور الملكة وسط رعيتها , محاطة بالابتسام على الوجوه , والترحيب فى
العيون .
بدأت أحلق فى سماء مملكتي.. لم أكن أبحث عما سأقوله .. كانت الكلمات تعرف طريقها وحدها فتخرج
طيعة لينة ـ ألقى بها كما يلقى الصياد الماهر بشبكته فإذا بها تحوى كل العقول والآذان والعيون ..
أمسك بأطرافها بإحكام , ولكن ليس من أجل أن أشدهم إلى الشاطئ , ولكن لأسبح بهم ومعهم فى بحور
واسعة من العلم والمعرفة .. لا أميز فيهم ملامح أو أرى أشخاصا ــ لا أراهم إلا من خلال تكتلهم ,
واجتماعهم على المدرجات .
بعد انتهاء المحاضرة تحلق الطلبة حولي .. بدأوا في مناقشتي ــ جذب انتباهى أسئلة ذكية تدل على
نبوغ لإحدى الفتيات .
تأملتها .. راعتنى جدية وصرامة لوجه مستدير فى رقة , يحتضنه شعر قصير جدا , وعينين سوداوين
ذات نظرات نافذة , لكنها جريحة , محزونة . شعرت بألفة تربطني بهذا الوجه , وكأني أعرفه منذ
زمن طويل .
قلت صادقة : أتوقع لك تفوقا .
قالت ( فى إصرار وبصوت هامس وكأنها تخاطب نفسها ) : يجب أن أنجح , وأن أتفوق ــ
لابد أن أصبح شيئا عظيما .
أصابني دوار مفاجئ, وخفق قلبي بعنف .
في طريق العودة كنت أهرول , وكأني أحاول الهرب من شىء ما, والكلمات تدور فى رأسي المصدوع
( يجب أن أصبح شيئا عظيما ) ــ الكلمات مفتاح فتح نافذة أغلقتها منذ زمن , فهبت رياح قوية على
أعماقي , تبعث بالماضي , وتطير أوراقه , وتعيد شريط الذكريات , وتجعله يلف من جديد
تبعثر الصور المخزونة فى الأعماق
تطفو فوق السطح صورة غائمة .. تتضح الصورة
والصورة لطفلة وقفت تسأل : أمى .. أين أبى ــ أريد أن أراه ؟
تحتضن الأم الطفلة , تحكى :
كان المخاض يدق دقات الألم , جدران بطنى المتكور , فجاء صوته أكثر إيلاما : يكفينى ثلاثة بنات
إذا جاءت الرابعة , فأنت طالق .
لم أكن أجسر على مخالفة أوامره .. لو بيدى ما خالفته , ولكن إرادة الله كانت أقوى ــ فأتيت , بصراخ
متواصل أثبت وجودك , وتحديته .
وبهدوء وبساطة رحل ــ ترك الأسرة , ذهب يبحث عن الولد فى بيت آخر, ومع زوجة أخرى .
للحيرة والضياع ترك أم مكبلة بعجزها ترعى أسرة , وأفواه صغيرة جائعة .
تهتز الصورة .. ترتعد .. والدمعة الساخنة تنزل على خدي ــ تلسعه ..
تطفو صورة أخرى .. الطفلة تغدو فتاة يانعة , تتفجر أنوثتها , ولأنها كانت أنثى ــ رحل الأب بعيدا
شتت أسرتها , يبحث عن الولد المنشود . وتكفيرا عن ذنب لم يكن لها فيه يد .. كرهت أنوثتها ..
رفضتها , أخفتها .
اقتربت الفتاة من أمها , احتضنتها , وعدتها : لن أجعلك تندمين على إنك لم تنجبي ولدا .
( سأصبح شيئا عظيما تفتخرين به , وتعتزين ) .
تغيم الصورة , وتبتعد..
وبفكر مضطرب , وأنفاس لاهثة .. دخلت إلى منزلي .. ضربات قلبي تدوي بين أضلعي كبندول
ساعة .. يتصبب العرق باردا من منبت شعري , ويتركني أرتعد .
نظرت حولي .. سرت فى جسمي قشعريرة ــ شعرت بجدران المنزل حولي تطول , وتطول ..
تصبح وكأنها سور سجن يحيط بى .. تشع برودة ثقيلة تلفني .. خيل إلى أنى سمعت صوتا ..
أنصتت .. لم أسمع سوى صوت أنفاسي اللاهثة , تردد صداها الجدران الخالية .
أتذكر أخواتي الثلاث وقد رحلن الواحدة تلو الأخرى ــ صورة من الأم المقهورة فتحن بيوتا , وأنجبن
أطفالا . وصورة أخرى تطفو من ملف الذاكرة :
( أصبحت الفتاة امرأة ناضجة ) .. تقول لها الأم :
أرجوك .. اقبليه زوجا . أنا أمك , أعرف مصلحتك , وهو إنسان ممتاز , والعمر ياابنتى يجرى .
تقول الابنة في إصرار : لن أكون صورة منهن , آلة تفريخ لرجل يأمر فيطاع .أرفض .. أرفض .
وكمن يستيقظ فجأة بعد يوم ثقيل ــ أو تفتح عيناه بعد عمى طويل ..
أشعر فجأة بالوحدة ــ بالغربة تجتاح روحي
بالجدران تشع برودة ــ تتغلغل في أعماقي .. أبحث عن غطاء .. أتدثر ..
والصورة فى هذه المرة قاتمة :
الأم مريضة على فراش الموت , والأبنة باكية بجانبها ــ تنظر الأم لإبنتها ــ تترقرق دموع فى
عينيها .. تقول : كم كنت أتمنى أن أطمئن عليك قبل أن أرحل
تثور الإبنة .. تغضب : ألم تطمأنى بعد كل هذا ..
شهاداتي تملأ كل جدران الغرفة .. بكالوريوس , ماجستير , دكتوراه , شهادات تقدير , ومركز
مرموق .. واحترام فى كل مكان ... ماذا بعد يجعلك تخافين ؟؟
_ تمنيت للساق القوية أن يصبح لها فروع .. وغصون .. وأوراق..
أخشى أن تظل شجرتك ياابنتى عارية
أخشى أن تلفح رياح شتاء العمر الشجرة الجرداء ..
أخش عليك برد الشيخوخة أخش ألا تجدى من يؤنس وحشتك .
_ لا تخش شيئا .. تؤنسني أوراقي , أبحاثي , تلامذتي سيملؤن على المكان ..
تظلم الصورة ــ يغلف المكان بالسواد , وتلفني ظلمة ثقيلة ..
ودموع ساخنة على وجنتي ــ والعرق يتصبب من كل خلايا جسدي ..
والبرودة تسرى فى أعماقي ــ تسحق عظامي
ألتف فى الغطاء .. أتدثر .. أتكور ..
تمس يدى جدران بطنى ..
أحلم .. أتخيل .. أن البطن يكبر , ويتكور
فى الداخل يرقد طفل يدق الجدران بقدميه ..
أحلم .. أتخيل .. يكبر .. أسمعه .. يضحك .. يبكى
يتفجر الحنان فى جسدي
أتمنى أن ألقمه ثدي .. أمد يدي لأحتضنه
ترتطم اليد بجدران البطن الخاوي
ينفجر الدمع .. أبكى .. أبكى
تهتف صرخة فى أعماقي
( من سرق عمري ) ؟؟؟؟؟؟

أخت نادية
طوبى لقلمك المبدع. كيف أستطاع أن يخلق من جرح صغير أفقا واسعا للحكي الماتع...من طموح تلميذة صغيرة نصا تدفق كشلال من العواطف المسربلة بالحزن، نمت أحداثه ومعها نمت عواطفنا و ارتفعت صدورنا فواكب نبضنا دمع عينيك.
يرفض الانسان أن يسلم أنه يعيش وحيدا معزولا...لأن العزلة جحيم...لذلك نراه يعرف انشطارا ذاتيا و تظهر فيه التثنية، و في قولة نيتشيه ( و ما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث) ما يبين أن المرء في عزلته يخلق الأنس إما عن طريق مجادلة ذاته و محاورتها باستمرار...أو عن طريق استحضار أناس أحبهم ليبدد وحشته...و يخرج نفسه من كآبة العزلة و خوائها القاتل.
لقد تعلمت مدفوعة بطموحها الكبير...أرادت لنجاحها أن يكون عقابا لأبيها الذي تخلى عنها...تحديا لأسطورة الذكورة التي تحظى بكل الامتيازات في مجتمعاتنا، لذلك جاء تعلمها ناقصا، لأن الغاية السامية من كل تعلم ليس الوظيفة بل الغاية هي الاستعداد لكي نحيى...لكي نجري في مروج الحياة كغزلان حرة من كل قيود المغالاة في الطموح...في معاداة الآخرين...
لذلك جاء نجاحها ناقصا، كان يجب أن يكون مدعوما بحكمة أمها، ليكون لها امتداد في هذا الكون، الامتداد الذي تصبو له الكائنات جميعها..
دام الألق لقلمك أختي.

ناديه محمد الجابي
22-02-2013, 06:01 AM
أخت نادية
طوبى لقلمك المبدع. كيف أستطاع أن يخلق من جرح صغير أفقا واسعا للحكي الماتع...من طموح تلميذة صغيرة نصا تدفق كشلال من العواطف المسربلة بالحزن، نمت أحداثه ومعها نمت عواطفنا و ارتفعت صدورنا فواكب نبضنا دمع عينيك.
يرفض الانسان أن يسلم أنه يعيش وحيدا معزولا...لأن العزلة جحيم...لذلك نراه يعرف انشطارا ذاتيا و تظهر فيه التثنية، و في قولة نيتشيه ( و ما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث) ما يبين أن المرء في عزلته يخلق الأنس إما عن طريق مجادلة ذاته و محاورتها باستمرار...أو عن طريق استحضار أناس أحبهم ليبدد وحشته...و يخرج نفسه من كآبة العزلة و خوائها القاتل.
لقد تعلمت مدفوعة بطموحها الكبير...أرادت لنجاحها أن يكون عقابا لأبيها الذي تخلى عنها...تحديا لأسطورة الذكورة التي تحظى بكل الامتيازات في مجتمعاتنا، لذلك جاء تعلمها ناقصا، لأن الغاية السامية من كل تعلم ليس الوظيفة بل الغاية هي الاستعداد لكي نحيى...لكي نجري في مروج الحياة كغزلان حرة من كل قيود المغالاة في الطموح...في معاداة الآخرين...
لذلك جاء نجاحها ناقصا، كان يجب أن يكون مدعوما بحكمة أمها، ليكون لها امتداد في هذا الكون، الامتداد الذي تصبو له الكائنات جميعها..
دام الألق لقلمك أختي.

شكرا لك من الأعماق ( محمد شرادى ) على قراءة عميقة
رصينة واعية ... شرف نصى بهذا الحضور القيم وتقلدت
بهذا الرد وسام أفخر به وأباهى .
دمت بديع الحضور حيثما حللت .

ربيحة الرفاعي
02-04-2013, 02:01 PM
تشويق سردي يقيد القارئ للنص حتى الحرف الأخير ودمعة الحزن المريرة تضعه أمام التساؤل الكبير
هل يفترض لنجاح المرأة مهنيا أن تفقد حقها بأنوثتها وأمومتها!

صور بديعة ومشاهد رسمت بمهارة ومنولوج داخلي آسر في قصة إنسانية رائعة

استمتعت بقراءتها

دمت بالق أديبتنا

ناديه محمد الجابي
04-04-2013, 09:49 PM
تشويق سردي يقيد القارئ للنص حتى الحرف الأخير ودمعة الحزن المريرة تضعه أمام التساؤل الكبير
هل يفترض لنجاح المرأة مهنيا أن تفقد حقها بأنوثتها وأمومتها!

صور بديعة ومشاهد رسمت بمهارة ومنولوج داخلي آسر في قصة إنسانية رائعة

استمتعت بقراءتها

دمت بالق أديبتنا

لا يكتمل البهاء لصفحتي دون أن تزينها تعابيرك المغدقة
دام دفعك وتشجيعك أستاذتنا العزيزة ربيحة.

حسام القاضي
19-06-2013, 01:01 PM
الأديبة الكريمة / نادية محمد الجابي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قرأت هنا عملا رائعا يشير إلى قاصة متمكنة جدا من أدواتها
والحقيقة ان الزملاء الأعزاء لم يتركوا لي الكثير مما يقال
ولكن هناك ما اود أن أشير إليه
كان استخدامك لـ" صور قديمة " كمعادل للذاكرة او الماضي رائعا ومبتكرا
لذا جاء تنقلك بين الحاضر والماضي من خلالها سلسا وهذا مما يحسب للنص ولك
قليل هم من يجيدون التنقل بينهما بهذه الصورة..


تطفو فوق السطح صورة غائمة .. تتضح الصورة
والصورة لطفلة وقفت تسأل : أمى .. أين أبى ــ أريد أن أراه ؟
تحتضن الأم الطفلة , تحكى



تهتز الصورة .. ترتعد .. والدمعة الساخنة تنزل على خدي ــ تلسعه ..
تطفو صورة أخرى .. الطفلة تغدو فتاة يانعة , تتفجر أنوثتها , ولأنها كانت أنثى ــ رحل الأب بعيدا


تغيم الصورة , وتبتعد..
وبفكر مضطرب , وأنفاس لاهثة .. دخلت إلى منزلي .. ضربات قلبي تدوي بين أضلعي كبندول




بالجدران تشع برودة ــ تتغلغل في أعماقي .. أبحث عن غطاء .. أتدثر ..
والصورة فى هذه المرة قاتمة :
الأم مريضة على فراش الموت , والأبنة باكية بجانبها ــ تنظر الأم لإبنتها ــ


تظلم الصورة ــ يغلف المكان بالسواد , وتلفني ظلمة ثقيلة ..
ودموع ساخنة على وجنتي ــ والعرق يتصبب من كل خلايا جسدي ..
والبرودة تسرى فى أعماقي ــ تسحق عظامي
ألتف فى الغطاء .. أتدثر .. أتكور

من خلال تنقلك بين هذه الصور المعبرة كانت قصتك
لتطرح السؤال المدوي
هل يغني الطموح العملي عن الحياة الأسرية ؟
هل يمكن أن ندفن مشاعرنا أو نؤجلها لسبب ما؟
ومن الرابح أخيرا؟؟!!

أرجو أن تتقبلي رؤيتي المتواضعة هذه لعملك الرائع الكبير

مع خالص تقديري واحترامي

ناديه محمد الجابي
22-06-2013, 09:04 AM
الأديبة الكريمة / نادية محمد الجابي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قرأت هنا عملا رائعا يشير إلى قاصة متمكنة جدا من أدواتها
والحقيقة ان الزملاء الأعزاء لم يتركوا لي الكثير مما يقال
ولكن هناك ما اود أن أشير إليه
كان استخدامك لـ" صور قديمة " كمعادل للذاكرة او الماضي رائعا ومبتكرا
لذا جاء تنقلك بين الحاضر والماضي من خلالها سلسا وهذا مما يحسب للنص ولك
قليل هم من يجيدون التنقل بينهما بهذه الصورة..











من خلال تنقلك بين هذه الصور المعبرة كانت قصتك
لتطرح السؤال المدوي
هل يغني الطموح العملي عن الحياة الأسرية ؟
هل يمكن أن ندفن مشاعرنا أو نؤجلها لسبب ما؟
ومن الرابح أخيرا؟؟!!

أرجو أن تتقبلي رؤيتي المتواضعة هذه لعملك الرائع الكبير

مع خالص تقديري واحترامي

كم رأيتها حلوة قصتي بعد هذا التحليل الرائع
شرف لي مرورك الجميل الأثير ـ قراءة دقيقة
وغوص عميق في أغواره وكشف أبعاده بشكل رائع
رأيك شهادة كبيرة أعتز بها
أشكرك لهذا الحضور الكريم المتميز الذي شرفني
وأسعدني للغاية . لك إمتناني وإحترامي وتقديري.

د. سمير العمري
19-09-2013, 11:06 PM
هو صراع الرغبة في التمرد وإثبات الذات وبين الأمومة ومشاعر الأنثى والثمن دوما سنين عمر وأيام حرمان.
نص قصصي مميز وبقليل من التكثيف يصبح أجمل.

تقديري

ناديه محمد الجابي
23-09-2013, 07:53 PM
هو صراع الرغبة في التمرد وإثبات الذات وبين الأمومة ومشاعر الأنثى والثمن دوما سنين عمر وأيام حرمان.
نص قصصي مميز وبقليل من التكثيف يصبح أجمل.

تقديري

قراءة تسعدني بألقها وتميزها وغوصها في
أعماق النص تسبر ما وراء الفكرة.
متصفحي يزدان بإطلالتك ويتشرف بحضورك.
دمت بألق وروعة.

عباس العكري
11-07-2016, 12:57 AM
https://3.bp.blogspot.com/-YwZWFvEl-0o/V4LYvkJGUQI/AAAAAAAADIk/B8t62psjMTEG349lX1OhvHHqgCawwLmjwCLcB/s1600/%25D8%25B5%25D9%2588%25D8%25B1%2B%25D9%2582%25D8%2 5AF%25D9%258A%25D9%2585%25D8%25A9.png

فاتن دراوشة
13-07-2016, 11:46 AM
نادية الرّائعة أسلوبك يبتزّ عقلي وذائقتي كلّما ولجت لك نصّا أشعر بأنّي أتلاشى بين أحداثه وتفاصيله

فكرة رائعة وتصوير مبهر واسترجاع يسلب الألباب

دمت مبدعة كأنت

ناديه محمد الجابي
13-07-2016, 09:37 PM
https://3.bp.blogspot.com/-YwZWFvEl-0o/V4LYvkJGUQI/AAAAAAAADIk/B8t62psjMTEG349lX1OhvHHqgCawwLmjwCLcB/s1600/%25D8%25B5%25D9%2588%25D8%25B1%2B%25D9%2582%25D8%2 5AF%25D9%258A%25D9%2585%25D8%25A9.png


انتشلت (صور قديمة) من تحت الأنقاض لتضعها في إطار جديد وتضع لمساتك عليها
فالشكر لك أيها الرائع ـ يبقى أني أتوق لمعرفة رأيك فيما اكتب.
تحياتي ـ ولك باقة من الياسمين. :nj::0014::vio:

ناديه محمد الجابي
14-07-2016, 08:42 PM
نادية الرّائعة أسلوبك يبتزّ عقلي وذائقتي كلّما ولجت لك نصّا أشعر بأنّي أتلاشى بين أحداثه وتفاصيله

فكرة رائعة وتصوير مبهر واسترجاع يسلب الألباب

دمت مبدعة كأنت


الله .. ما أجمل تعليقك فاتن ـ أكرمت النص بمغدق ردك وسامق حضورك
وصببت من عطر حروفك على أوراقي فزهت حروفي
فشكرا من الأعماق على تواصلك
ولك من القلب تحية وكل الود. :014::0014::hat: