تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة إلى تعيس



مصطفى حمزة
11-03-2013, 08:21 PM
أنا دائم النبش في أوراقي القديمة ، حتى لَتستغيثُ منّي ! هي عادة أستمتع بها ، تُرجعني إلى الماضي بحلوه ومُرّه ، والغريب أنّ المُرّ من أيّامنا يُمسي حُلْواً متى صار من الماضي ! هل لأن الذكريات تُعيد لنا من سنوات عمرنا ما لا يعود ؟ ربما .
هذه رسالة حقيقية – تصوّروا – كتبتُها في آخر أيام خدمتي في الجيش ، إلى صديق حِمصيّ التحق بالخدمة حديثاً ، كان خريج كلية الفنون الجميلة فناناً فذّاً مُرهف الإحساس جداً ، وكان إلى ذلك دقيقَ الجسم ضئيل الحجم لو اتّكأتَ عليه لانْهَدَمَ ! وجد نفسه في خيمة وسط غُبار وطين ورياضة وتدريب وأوامر و... فكَرِهَ عُمُرَهُ ووصل إلى حافّة اليأس ! أحببتُهُ جداً وأشفقتُ عليه ، وأنا بالمناسبة أحب أهلَ حمص وأجدهم من أكثر الناس حلاوة معشر ، وألفة ، وطيبة .. وذكاء ، وهم – إلى ذلك – أعظم الناس رجولة وإباءً وكرامة . فأرسلتُ إليه هذه الرسالة ، أسلّيه بها ، وأروّح عنه بعض ما هو فيه ، أرجو أن تقعوا منها على فكرة تستحقّ التأمّل ، أو تجدوا فيها ما يُضحك سِنّكم .


رسالة إلى تَعيس !


صديقي العزيز أبا ماهر ، تحيّة تعيسٍ إلى أتعس ، وبعد :
فإنّي قد سبقتُكَ في البلوى ، وعشتُ شقاءكَ قبلَ أن تعيشه ، وذقتُ المرّ الذي تذوقه ، وتكدّرتُ وتعذّبتُ ويئستُ ما شاء لي اليأسُ ! وأنا الآن – بعدَ أن منّ الله علي ووصلتُ إلى برّ الراحة أو أوشكتُ – أخبرُكَ بِما يُفيدكَ في عيشتِكَ التعيسةِ هذه ، فخذها من طبيبٍ عانى هو من مرض مريضِه ، فعرف طبيعته وموطنَ الضعفِ فيه .. وهذه وصفتي إليك :
صديقي الأتعس :
الخيالَ الخيالَ ..فهو خيرُ دواءٍ لكلِّ ذي علّةٍ تُشبه عِلّتكَ ، وكلّ ذي نفسٍ شفيفةٍ مُرهفة كنفسِكَ تعيش في الأشواك . الخيالُ يا صاحبي ليس لأحدٍ عليه سُلطان ، فاغتنم هذا الطائرَ المُجنّح وطِرْ به إلى حيثُ تشاء ! إلى العالَم الذي تبغي .. اهرب به من كلّ أوساخ الواقع وأكداره وأتراحه .. وإذا أنتَ أحسنتَ ركوب خيالك لا تجد أحداً يستطيع أن يُثقلك بأمر ، أو يجرحكَ بحرف ..
فيا صديقي الأتعس :
حين تنظر إلى ما حولَكَ في الليل ، فترى هذه الخيمة المَقيتة : قطع قماش صفيق يلفّك من جهاتك الأربع كالقبر إلا قليلاً ! ويزيدها شبهاً به لونُها الذي يُشبه لونَ التراب ، وذلك العمود الذي يُشبه سيّدنا عزرائيل !! تخيّلْ نفسَكَ في بيتٍ أنتَ بنيتَهُ على عينك : بابه من خشب الأبنوس ، وقد حُفرت عليه مناظرُ تسرّ الناظرين وحُلّي بقبضةٍ أنيقةٍ من المرمر ، وينفتح على صالةٍ بهيّةٍ فسيحةٍ واسعةِ الأرجاء ، كلُّها بياض في بياض ، وعلى سقفها صُوّرت كل الملائكة ساجدةً بينَ يدي الله الجالسِ بكلّ هيبةٍ وجلال وبكلّ رأفة ورحمة وهو يُومي ببنانه للخليقةِ أن كُوني .. وعلى جُدرانها الأربعة عُلقت صور جميع القدّيسين والأنبياء وكلهم ينظرون بإعجابٍ وإكبارٍ وتقديسٍ إلى مريم العذراء تحنو على وليدها بوداعةٍ ورقّةٍ ساحرتين .. وأثّثتْ هذه الصالةُ بثريّا تتدلّى من سقفِها تُمثّل انبعاثَ الأمل الذي يهبط من السماء ! وبأرائكَ وثيرةٍ وطنافسَ ناعمةٍ إن جلسَ أحدٌ فوقها لم يشعر بها .. تلك هي الصالة . وغرفة النوم : حمراء الأجواء عابقة الأنفاس ، تضمّ جدرانها سريراً عريضاً رهوَ الفِراش ..! وخزانةً فيها ما غلا من ثياب النساء وخفّ ونَعُمَ وشَفّ ، وفيها من آنق الملابس الرجاليّة وأجملها . وفي الزاوية مشجبٌ رشيقُ القوام وإلى جانبه مرآةٌ بشكل قلب الحبيب ، بطاولة مُذهّبة عليها أنواع المساحيق اللطيفة الناعمة ..روائحها تشق القلوب لتستريحَ فيها !
والمطبخُ قد حوى ما لذّ وطاب من الطعام والفواكه والأفاويه ، وصنابيره كلّها من الفضّة الناصعة وتتسلل إليه بعضُ خيوطٍ من الشمس الساطعة ، وأرضه من الرخام الناعم اللماع الذي تشتهي المشيَ فوقه الأقدام الحافيات ..
صديقي الأتعس :
وإذا أفزعكَ من هذا الحلم المُخمليّ زوبعةٌ من رمال هذه الصحراء التي تخنقنا فلا تهتمّ ولا تغتمّ .. وتخيّلْ نفسَكَ جالساً عندَ شاطئ البحر الساجي ، وقتَ الغروب . تخيل البحرَ مُشتاقاً إلى الشمس ، وهي كذلك وأكثر .. هو يُباعد ذراعيه ليضمّها ، وهي تقتربُ منه خَجِلَةً محمرّةَ الوجنتين ، حتى إنّ احمرارها انعكسَ شَفقاً رائعاً بديعاً ، ثمّ لم يلبثا بعدَ قليلٍ أن غابا معاً وراءَ الأفق مخلّفين احمرار الخجل ، وحرارة اللقاء !
وأمّا إذا عكّرَ صفوكَ كلامٌ من هنا وهناك ، من أناسٍ لا يُقيمون وزناً لِما يقولون ، مع أن مقالهم أثقل من الجبال الراسيات ! فتخيّل أنك بين يديْ أمك الرؤوم ، تضمك بحنان ، وتقبّلك في جبينك فتطبع على قلبك الأمان !
عزيزي أبا ماهر :
الخيالُ كُنهٌ رقيق ناعم ، لكنه أقوى من الواقع ، والخيالُ حبيسُ الرأس ، لكنه أوسعُ من الحياة ، الخيالُ أعندُ من الأيّام ، هي تأبى الرجوع ، وهو يستطيع الرجوع إلى حيثُ يُريد ومتى شاء ! هي لا تستطيع أن أن تسبقَ دقّاتِ السّاعة دقّةً واحدة ، وهو يعدو أمام الزمن عَدْواً ! الخيالُ يا عزيزي يسخر من كل حقيرٍ وَضيع ، ويعلو على كلّ سافلٍ مُنحَطٍّ ، ليبلغَ بصاحبه أعلى السماوات !
فهلاّ أطعتني ، وجرّبتَ هذا الدواء ؟!
مع أطيبِ التمنيات
من أخيكَ التعيس الأقدم

ناديه محمد الجابي
11-03-2013, 10:07 PM
الخيال .. ذلك الجناح الذي يحلق بنا خارج الإطار الذي نرفضه
فإذا أراد المتخيل الخروج من واقع غير مرغوب فيه, فهو يعيش
في وهم أو أحلام تفتح له أبعد الآفاق الممكنة و وتفيض على الصورة
القاتمة التي يراها صفات روحية تؤثر بالنفس إيجابا .
إن الخيال موهبة ثمينة وإن الألهام أقصى درجاته.
لقد ذكرتني رسالتك الظريفة إلى صديقك بقصة المريضين الهرميين في
المستشفى فكان أحدهما يؤنس الآخر الغير قادر على الحركة بقصص
وحكايات عن العالم الذي يشاهده من النافذة التي بجوار سريره , فلما
توفى هذا القاص أكتشف المريض الآخر أن النافذة تطل على جدار أصم
وأن الأغرب أن صاحبه كان أعمى .
رسالتك جميلة لطيفة بأسلوب متميز , متهكم
أسلوب راق, ولغة جميلة, وخيال خصب
تحاياي والورود لقلم امتطى البهاء .

آمال محمود كحيل
14-03-2013, 12:01 AM
رسالة ولا أروع بقلم شاعر مبدع أتقن الوصف فأمتع
فقد جاد بالدواء الأنجع لكل أمر قد يضيق به الصدر وكل هم موجع
شكرًا من صميم القلب لإمتاعنا بهذا الجمال
مع تمنياتي لك بالمزيد من التألق والإبداع
آمال

مصطفى حمزة
16-03-2013, 09:43 AM
الخيال .. ذلك الجناح الذي يحلق بنا خارج الإطار الذي نرفضه
فإذا أراد المتخيل الخروج من واقع غير مرغوب فيه, فهو يعيش
في وهم أو أحلام تفتح له أبعد الآفاق الممكنة و وتفيض على الصورة
القاتمة التي يراها صفات روحية تؤثر بالنفس إيجابا .
إن الخيال موهبة ثمينة وإن الألهام أقصى درجاته.
لقد ذكرتني رسالتك الظريفة إلى صديقك بقصة المريضين الهرميين في
المستشفى فكان أحدهما يؤنس الآخر الغير قادر على الحركة بقصص
وحكايات عن العالم الذي يشاهده من النافذة التي بجوار سريره , فلما
توفى هذا القاص أكتشف المريض الآخر أن النافذة تطل على جدار أصم
وأن الأغرب أن صاحبه كان أعمى .
رسالتك جميلة لطيفة بأسلوب متميز , متهكم
أسلوب راق, ولغة جميلة, وخيال خصب
تحاياي والورود لقلم امتطى البهاء .
أسعد الله أوقاتك أختي العزيزة الأستاذة نادية
استطراد جميل ممتع . رأيتُ هذه القصّة التي رويتِها عن المريضين بحلقة من ( مرايا ) ياسر العظمة
أشكر مرورك ، وشرّفني الثناء
دمتِ بخير

مصطفى حمزة
16-03-2013, 09:47 AM
رسالة ولا أروع بقلم شاعر مبدع أتقن الوصف فأمتع
فقد جاد بالدواء الأنجع لكل أمر قد يضيق به الصدر وكل هم موجع
شكرًا من صميم القلب لإمتاعنا بهذا الجمال
مع تمنياتي لك بالمزيد من التألق والإبداع
آمال
أختي الفاضلة ، الأديبة آمال
أسعد الله أوقاتك
توقيعة أدبيّة بسجع جميل غير متكلّف ، جاءت أدباً على أدب
ولكِ مني جزيل الشكر على أدبك ، وردك الراقي ، وكريم ثنائك وتمنياتك
دمتِ بألف خير

ربيحة الرفاعي
17-03-2013, 11:47 PM
أكنت أسلمت نفسك للخيال يحملك على أجنحته بعيدا عن تلك الخيمة العسكرية حقا يوم سكنتها؟
رسمت لصاحبك عالما ساحرا تمنيت لو استطعت أن أنسلّ إليه، لكن خيالي عجز عن تخطي أسوار الواقع فألزمني مكاني

رسالة أحببت قراءتها وأعجبتني فكرتها

دمت أديبنا بألق

تحاياي

مصطفى حمزة
18-03-2013, 08:24 AM
أكنت أسلمت نفسك للخيال يحملك على أجنحته بعيدا عن تلك الخيمة العسكرية حقا يوم سكنتها؟
رسمت لصاحبك عالما ساحرا تمنيت لو استطعت أن أنسلّ إليه، لكن خيالي عجز عن تخطي أسوار الواقع فألزمني مكاني

رسالة أحببت قراءتها وأعجبتني فكرتها

دمت أديبنا بألق

تحاياي
أختي الفاضلة العزيزة ، الأستاذة ربيحة
أسعد الله أيامك ، وأيام حفيدك الجديد .. حفظه الله تعالى :
كنتُ ولم أزلْ مُسلماً نفسي للخيال والأمل ، لكنّ الخيمة اتّسعت ، وحبالها ( بكلّ مُغار الفتل شُدّت بيذبل ) ! ، وأوتادها الغائرة في قلوب الحالمين بالفجر ، تُنزع اليوم ( بكل يد مضرجة ) !
أشكر مرورك والثناء
دمتِ بألف خير

براءة الجودي
18-03-2013, 09:46 AM
أسلوبك مبهر وأنيق في الوصف وهذا ليس بمستغرب على أستاذنا القاص الشاعر ( مصطفى حمزة )
بالفعل الخيال دواء ناجع ويرفع من معنويات المحبط ومن مرت عليه ظروفا ومصاعبا عانى فيها
رسالة طريفة وتأسر القارئ برقتها وفخامتها
دمتَ فخرا لنا جميعا استاذ

مصطفى حمزة
18-03-2013, 07:57 PM
أسلوبك مبهر وأنيق في الوصف وهذا ليس بمستغرب على أستاذنا القاص الشاعر ( مصطفى حمزة )
بالفعل الخيال دواء ناجع ويرفع من معنويات المحبط ومن مرت عليه ظروفا ومصاعبا عانى فيها
رسالة طريفة وتأسر القارئ برقتها وفخامتها
دمتَ فخرا لنا جميعا استاذ
أختي الفاضلة ، أديبتنا براءة
أسعد الله أوقاتك
بل ردُكِ أنتِ هو ( الباهـِر ) الأنيق ، الذي يجبر خاطرَ مَن مرّتْ عليه ( ظروفٌ ومصاعبُ ) منوّعة ...
أشكر مرورَكِ ، وشرّفني الثناء
دمتِ بألف خير

نداء غريب صبري
04-04-2013, 02:13 PM
رسالة رائعة كتبتها بخيال واسع وفكر وإحساس عظيمين أخي

أمتعتني جدا وأفادتني جدا قراءتها

شكرا لك

يوركت

مصطفى حمزة
04-04-2013, 06:36 PM
رسالة رائعة كتبتها بخيال واسع وفكر وإحساس عظيمين أخي
أمتعتني جدا وأفادتني جدا قراءتها
شكرا لك
يوركت

وأنا دائمًا يُمتعني ويُؤنسني المرور اللطيف ، ذو الحسّ الشفيف ، والذوق الرهيف ، كمرور أختي
الأديبة النبيلة نداء
تحياتي ودمتِ بألف خير

هَنا نور
20-04-2013, 06:44 AM
الخيالُ كُنهٌ رقيق ناعم ، لكنه أقوى من الواقع ، والخيالُ حبيسُ الرأس ، لكنه أوسعُ من الحياة ، الخيالُ أعندُ من الأيّام ، هي تأبى الرجوع ، وهو يستطيع الرجوع إلى حيثُ يُريد ومتى شاء ! هي لا تستطيع أن أن تسبقَ دقّاتِ السّاعة دقّةً واحدة ، وهو يعدو أمام الزمن عَدْواً ! الخيالُ يا عزيزي يسخر من كل حقيرٍ وَضيع ، ويعلو على كلّ سافلٍ مُنحَطٍّ ، ليبلغَ بصاحبه أعلى السماوات !



ليس كل الخيال كخيالك أستاذنا .. فكم من خيالٍ ضيعَ صاحبَه.

رسالة رائعة تنم عن صفاء نفسٍ ونقاء سريرة .
زادك الله صفاءاً ونقاءا.

مصطفى حمزة
20-04-2013, 08:47 AM
ليس كل الخيال كخيالك أستاذنا .. فكم من خيالٍ ضيعَ صاحبَه.

رسالة رائعة تنم عن صفاء نفسٍ ونقاء سريرة .
زادك الله صفاءاً ونقاءا.
أختي الفاضلة ، الأديبة هنا
أسعد الله أوقاتك
أشكرك على ردّك الأنيق الراقي الذي ليسَ كلّ من كتبَ يُتقنه ..
شرّفتِني بالردّ ، وأكرمتِني بالثناء
تحياتي

براءة الجودي
28-04-2013, 11:55 PM
أختي الفاضلة ، أديبتنا براءة
أسعد الله أوقاتك
بل ردُكِ أنتِ هو ( الباهـِر ) الأنيق ، الذي يجبر خاطرَ مَن مرّتْ عليه ( ظروفٌ ومصاعبُ ) منوّعة ...
أشكر مرورَكِ ، وشرّفني الثناء
دمتِ بألف خير
أشكرك على التصحيح أستاذ D:
رفع الله شأنك