كاملة بدارنه
07-04-2013, 01:39 PM
يغضبون...
لا يدرِي كم مرّ من الوقت، وهو يركض حتّى وصل أعلى التّلّة بعد أن شتمه أبوه ولعنه ونعته بالفاشل، بعدما ظهرت نتائج امتحانات إنهاء المرحلة الثّانويّة التي لا تؤهّله لدخول الجامعة، وتحقيق أمنيّة أبيه بأن يصبح محاميا، في حين حصل أخوه على التّفوّق في دراسة موضوع الطّب، وفاز بمنحة التّعليم على حساب الدّولة!.
جلس مسندا ظهره إلى جذع إحدى شجيرات السّنديان البريّة، يحرّك تراب وحجارة المكان برجليه اللّتين لم تتوقّفا عن المدّ والثّني، ، ويده ترمي بالحصى، وكأنّه يرجم ماضيه، وينبش بقدميه عمقا أفضل من سطح حياته...
لم تغادر صورُ طفولته مخيّلتَه، وهو يدخل إلى البيت حاملا نتائجه، بعد انتهاء كلّ فصل تعليميّ، ورجلاه اللّتان أعلنتا الآن التّمرّد والحرب، قد كانتا ترتجفان تحته، وأحيانا لم تقويا على حمله حين يتخيّل انعقاد حاجبيّ والده على الجبين النّحاسيّ الذي لفحته الشّمس لكثرة وقوفه ساعات طويلة؛ لتوفير الحياة الرّغيدة، وتحقيق الأمانيّ السّعيدة التي يرغب فيها أولاده...
كان يضع حقيبته في غرفة استراحة العائلة؛ لئلّا يُتّهم بإخفاء نتائج تحصيله، ويذهب إلى غرفة نومه مرتعد الفرائص خوفا من صراخ أبيه في وجهه، متذكّرا كلام زملائه بسخرية: اليوم يوم العصيّ فاستعدّ... وكان يغيظه أنّ والدته لم تكن تتعاطف معه كباقي الأمهّات، بل كانت تساند زوجها بطريقة غير مباشرة قائلة:
لو بذلت جهدا مثل أخيك لحصلت على علامات أفضل، ونجوت من الإهانة وحرمانك من الرّحلة الصّيفيّة. هداك الله يا بنيّ!.
ظلّ طويلا يلقي بنفسه في جبّ الذّكريات، ويخرجها منه أكثر تألّما وزيادة لمشاعر السّخط والحقد على أبيه، بل على جميع أفراد العائلة. فهو لم يجد في البيت سوى قطّته التي كانت تموء كلّما أحسّت بحزنه، واقتربت منه مصرّة على أن يلحق بها؛ لتخرجه إلى حديقة المنزل. عند تذكّرها استطاعت ذكراها شحنه بشعور بعَثَ فيه بعض فرح خفّف عنه ثقل أرطال الغضب التي أثقلت على صدره وكيانه.
شارفت الشّمس على المغيب، ولم يرغب بالعودة إلى البيت. وبالأحرى لا يجرؤ؛ لتأكّده بأنّ أباه ستزداد سورة غضبه، حيث لا يعقل أن يتغيّب ساعات طويلة دون إذن منه.
لم يراوح مكانه، وحجارة وتراب الحيرة اللذين نبشهما غضبُه، يتجاذبانه تارة بتشجيعه بملازمة المكان، وأخرى بإغرائه بالعودة إلى البيت. ففيه - على الأقلّ يجد طعامه وشرابه ومأواه- خاصّة وأنّ أمعاءه قد بدأ يعتصرها الجوع، وأعلنت قرقرتها احتجاجا ونداء لملئها.
وفيما الحيرة تنهش عقله وروحه، وإذ بصدى قهقهات يقترب رويدًا رويدًا...لتقف أمامه مجموعة من الشّبان، فاجأهم وجوده في المكان وحيدا، وقد مالت الشّمس للغروب. لم يعرهم اهتماما - مع أنّ أحد الوجوه بدا مألوفا له وتذكّر أنّهما كانا في المدرسة نفسها – وحاول أن يبدو طبيعيّا. لكن المساحة التّرابيّة تحت قدميه توحي أنّها شهدت معركة برجليه، وأنّ الأمر جلل، وحال الشّاب لا يسرّ!. فأشفقوا عليه.. ودعاه أحدهم- بعد أخذ موافقة (الشّلِّة) – إلى مرافقتهم. فَهُم قد جاءوا ليحتفلوا الليلة؛ فرحا بإنهاء المرحلة الثّانويّة، والتّخلّص من مآسي الامتحانات!.
أظهر بعض تردّد، ولكنّ إلحاحهم وتودّدهم شجّعاه على مرافقتهم.
ساروا بضع دقائق، وقد سطر الصّمت حروفه عليهم، وكأنّهم أرادوا إمتاع آذانهم بأصوات الطّيور التي تبحث هي الأخرى عن مبيت لها.
كُسر حاجز الصّمت لدى رؤية باب المغارة بإعلانهم عن الوصول حيث يريدون. انقبضت أسارير وجهه، وازداد خفقان قلبه حين تخيّل ظلمة المغارة. فهو يخاف من الأماكن المظلمة!.
انتبه أحدهم لتباطؤ مشيته، فاقترب منه داعيا إيّاه للدخول معا إلى البيت الجديد. أشعلوا الشّموع، وأخرجوا ما جلبوه لتحضير وليمة احتفاليّة... ثمّ همّوا بخلع ثيابهم، وارتداء ملابس خاصّة ظهرت عليها رسومات غريبة وعجيبة، زادت من خوفه لمّا تساقطت الأضواء عليها. ألقي عليه ثوب وطُلِب منه ارتداؤه، وخوفا من أن يتّهم بالجبن، أجبر نفسه على الرّضوخ لطلبهم.
تحلّقوا حول شموع الشّمعدان الذي نصبوه في وسط الأرضيّة، وبدأوا بالرّقص والدّوران مردّدين بعض الكلمات، في طقس أشبه بطقوس الجنّ التي شاهدها في بعض الأفلام المرعبة... ثمّ دعوه أثناء دورانهم ليدور معهم.
بدَوا منهكين بعدما تراموا على بعضهم كالسّكارى، ولكنّهم سرعان ما قاموا لتحضير وجبة العشاء.
بعد ملء بطونهم، استأذن أضخمهم؛ ليُحضر لهم الشّراب الذي ينعشهم. وأثناء نهوضه وضع كفّه مربّتا على كتف الضّيف، داعيا إيّاه لحديث جانبيّ قبل أن يتركهم لإحضار مشروبهم المفضّل.
كاد يصعق لهول ما سمع... أحسّ بثقل الطّعام في معدته التي ملأها بعد خواء... وها هو رأسه يكاد ينفجر، وعيناه تبحلقان، ويزيد من اتّساع حدقتيهما الضّوء الخافت.
شَعَرَ محدّثه بحاله، فسارع لاحتضانه قبل أن يقع أرضا، وأبعده قليلا عن مرأى العيون؛ مستفسرا عن سبب وجوده حيث صادفوه، فهو مكان خاصّ بالمجموعة، ونادرا ما يمرّ أحدّ من هذا المكان.
اضطر لإخباره بحقيقة الأمر، وما يعانيه من ظلم وقهر وتقييد لحرّيّته!...فتضاحك في سرّه وهمس له مُطَمْئِنا:
وصلتَ للعنوان الصّحيح. هنا الحريّة والتّخلّص من كلّ عبوديّة قد أوجدها بشر منذ الأزل... ابقَ معنا، وستنال ما تحبّ وتريد... نحن عائلتك الجديدة! وإذ انضممت إلينا، فلا مجال للابتعاد قبل الإدلاء بيمين القسم على حفظ السّرّ وصون العهد، وسيكون ذلك اللّيلة. وأمسك بيده ليعودا إلى الرّفاق.
تراءت أمامه صورة أبيه، وبركان غضبه ينفجر في وجهه بأقسى الكلام. تُرى ماذا سيصيبه لو رآني هنا؟! وتمنّى وفي أعماقه أن يعود للبيت قبل حدوث هذا.
جلس حيث أقعده مضيفه السّاقي، وقلبه يكاد يقفز من بين الضّلوع!
عاد السّاقي يحمل بإحدى يديه ديك دجاج أسود الرّيش، وبالأخرى سكّينا. ففرح الأصدقاء وهاجوا وماجوا ... الليلة سنقدّم أضحية احتفاء بالعضو الجديد. ذُبِح الدّيك أمام ناظريه، وقدّمت له كأس من الشّراب الأحمر، خمر الأضحية!.
شعر بالغثيان، ونهض من مكانه يريد أن يتقيّأ تقزّزا وقرفا ممّا رآه، لكنّهم أمسكوا به وطلبوا منه التّريّث، والبقاء ضيفا متّزنا؛ لأنّه سيغدو صديقا وعضوا جديدا في المجموعة، ولا بدّ من التّصبّر وإظهار القبول والرّضا.
طرق مسامعه صوت يقول: لا تجبروه على الشّرب، فغدًا سيطلب ذلك بنفسه. دعونا نكمل احتفالنا...
علا الصّخب، وأُخرجت بعض الأوراق التي مرّرت على الجميع لتقبيلها، وكأنّها وثيقة مقدّسة. وهتفوا بصوت واحد مردّدين كلمات فهمَ عددا يسيرا منها، تعكس مبادئ تنافي كلّ القوانين التي يسير حسبها البشر. ولم يخفَ عليه أنّهم كانوا حريصين على ألّا يفهم كلّ ما يهتفون به؛ كي لا يذهل ويزداد وضعه سوءا...
أوشك الحفل على الانتهاء، فدعي إلى الاقتراب من الدّيك المذبوح المعلّق، وطلب منه أن يقسم على حفظ السّرّ والولاء قبل مغادرة المغارة. وأخبروه أنّه لا يجوز له أن يخون هذا القسم مستقبلا، وإلّا سوف لا يعلم أحد باختفاء جثّته.
وقف وأعضاء جسده أكثر رجيفا ممّا كان أثناء وقفته أمام والده موبّخا وشاتما.
ازداد ارتعاد يده، واصطكت أسنانه حين وضعت يده فوق كأس الدّم ليقسم، وتلعثم لسانه أثناء تكرار ما ألقي على مسامعه، ولم يع معظم ما نطق به كالببغاء!. ووجد نفسه محاطا بالأعضاء يقبّلونه ويهنّئونه، ويقسمون على حمايته طالما التزم بقسمه.
حان موعد الرّجوع إلى البيوت، ففطن بحاله، وهاله سوء العاقبة الذي سيضحي به لرجوعه المتأخّر ... ولكن، في الطّريق استرجعت ذاكرته بعض كلمات القسم التي تقول:"أقسم أن أصون إخوتي الجدد، مثلما أصون دمي، وأحارب لأجل حرّيّتي..."
الحريّة! أجل سأصبح حرّا، ولن أخاف لدى دخولي البيت. وسأواجه أبي!
فتح الباب، ودخل متجهّم الوجه، تعتريه رغبة بأن يصرخ ويقول إنّه رجل، ولم يعد صغيرا. ومن الآن فصاعدا لن ينصاع لأحد! ويشعر أنّه ارتشف جرعة من الجرأة، وربّما الوقاحة للمواجهة، بعد ما مرّ به خلال السّاعات الماضية!.
انتهره والده لدى دخوله مستغربا تأخّره، فيما والدته تفرك بيديها، وتنظر إليه نظرات أحسّ – لأوّل مرّة – أنّها تنبض محبّة وقلقا... لكنّه استطاع تخليص نفسه من المأزق، حين قال إنّه كان في احتفال دعي إليه بمناسبة إنهاء المرحلة الثّانويّة؛ لتوجيه الطّلاب وإرشادهم في اختيار المواضيع للدّراسة الجامعيّة، ونسي إبلاغهم بذلك... انفرجت أسارير وجه الأب الغاضب؛ لإحساسه بأنّ ابنه قد بدأ يفكّر صوابا.
اتّفق أثناء عودته مع الرّفاق الجدد أن يشاركهم في اجتماعات النّهار فقط؛ كي لا يثير الشّكوك حوله، فوافقوا .
بدأ سلوكه يتغيّر. فقد لاحظ أفراد عائلته اعتكافه في غرفته التي غطّى جدرانها بملصقات صور مرعبة أقرب إلى الشّياطين منها إلى بني البشر. وإن غادر البيت، يكون ذلك في ساعات معيّنة، بحجّة أنّه يذهب إلى بعض أصحابه المتفوّقين؛ ليدرسوا لامتحان القبول في الجامعة، ويعود بعدها للاعتكاف.. وبدأ يهتم بسخافات في مظهره الخارجيّ، حيث بدت بعض أثار الجروح على معصمه، أخفاها بأساور جلديّة وصوفيّة وغيرها... وتقلّد سلسلة تتدلّى منها جمجمة .
لم يشعر الأب بالرّاحة لمثل هذا الأمر، وأحسّ أنّ هناك شيئا غامضا، فقرّر مراقبته. مشى خلفه عندما كان يغادر البيت. كان يدخل بيوتا لا تربطهم بهم أيّة صلة، ولم يكن أحد منهم زميلَ دراسة لابنه. فاستمرّ في المراقبة...
ليلة الأحد موعده مع الرّفاق للّقاء الشّهريّ في المغارة، ولا يقبل أيّ عذر . فكّر طويلا قبل المشاركة، لكنّه قرّر في النّهاية الذّهاب.. فقد أقنعوه بأنّهم سيعودون مبكرين.
دخلوا المغارة، وبدأوا بممارسة طقوسهم الشّيطانيّة، وشارك في الرّقص فقط. فجأة، أحسّ أنّه يريد الهرب. لقد رأى قطّا أسود بيد أحدهم، فظنّ أنّه سيذبح مثل الدّيك. تذكّر قطّته "ميسو" وصرخ يناديها.. وهمّ بالخروج، إلّا أنّه مُنِع من ذلك وأعيد مقبوضا على عنقه بشدّة، مذكّرين إيّاه بالقسم. أُجلس أمام النّار الموقدة؛ ليقيموا احتفالا للقطّ العظيم!... والقطّ رابض أمامه مصوّبا نظراته نحوه...
وفيما هُم في هرج ومرج، وإذ بصوت عال يدوّي، ويطلب منهم التّوقّف. نظروا فرأوا العضو الجديد يهبّ واقفا مسمّرا عينيه في الشّخص الذي يشبهه شكلا، فاقتربوا منه لتهدئة روعه وحمايته إن لزم الأمر.
اقترب منه، وكأنّه يبغى تسويته بالأرض، ثمّ وجم في مكانه حين خطف نظره ما رُسم على الجدران ممّا يدب الخوف والفزع في القلوب، وما تكوّم من أوعية معدنيّة في إحدى الزّوايا، والأدهى ذاك الكتاب بعنوان: (عَبَدة الشّيطان). فجنّ جنونه وصرخ في وجه ابنه:
الآن عرفت أيّها الفاشل الأحمق سبب فشلك!... وفي اللّحظة ذاتها – ورغم هول ما يرى – تذكّر أنّ ابنه لا يخرج في اللّيالي أبدا إلّا برفقة العائلة . ومع جحيم الفكر والشّعور هذا، سمع صراخا قطع عليه كلّ شيء:
أين كنت يا أبي ؟ أين أنت؟ لماذا تأخّرت؟! ...
فتنبّه أنّ شيطانيّة المكان جذبت إليه شيطانيّة الأفكار، وانطلق مستجيبا لاستغاثة ابنه...
لا يدرِي كم مرّ من الوقت، وهو يركض حتّى وصل أعلى التّلّة بعد أن شتمه أبوه ولعنه ونعته بالفاشل، بعدما ظهرت نتائج امتحانات إنهاء المرحلة الثّانويّة التي لا تؤهّله لدخول الجامعة، وتحقيق أمنيّة أبيه بأن يصبح محاميا، في حين حصل أخوه على التّفوّق في دراسة موضوع الطّب، وفاز بمنحة التّعليم على حساب الدّولة!.
جلس مسندا ظهره إلى جذع إحدى شجيرات السّنديان البريّة، يحرّك تراب وحجارة المكان برجليه اللّتين لم تتوقّفا عن المدّ والثّني، ، ويده ترمي بالحصى، وكأنّه يرجم ماضيه، وينبش بقدميه عمقا أفضل من سطح حياته...
لم تغادر صورُ طفولته مخيّلتَه، وهو يدخل إلى البيت حاملا نتائجه، بعد انتهاء كلّ فصل تعليميّ، ورجلاه اللّتان أعلنتا الآن التّمرّد والحرب، قد كانتا ترتجفان تحته، وأحيانا لم تقويا على حمله حين يتخيّل انعقاد حاجبيّ والده على الجبين النّحاسيّ الذي لفحته الشّمس لكثرة وقوفه ساعات طويلة؛ لتوفير الحياة الرّغيدة، وتحقيق الأمانيّ السّعيدة التي يرغب فيها أولاده...
كان يضع حقيبته في غرفة استراحة العائلة؛ لئلّا يُتّهم بإخفاء نتائج تحصيله، ويذهب إلى غرفة نومه مرتعد الفرائص خوفا من صراخ أبيه في وجهه، متذكّرا كلام زملائه بسخرية: اليوم يوم العصيّ فاستعدّ... وكان يغيظه أنّ والدته لم تكن تتعاطف معه كباقي الأمهّات، بل كانت تساند زوجها بطريقة غير مباشرة قائلة:
لو بذلت جهدا مثل أخيك لحصلت على علامات أفضل، ونجوت من الإهانة وحرمانك من الرّحلة الصّيفيّة. هداك الله يا بنيّ!.
ظلّ طويلا يلقي بنفسه في جبّ الذّكريات، ويخرجها منه أكثر تألّما وزيادة لمشاعر السّخط والحقد على أبيه، بل على جميع أفراد العائلة. فهو لم يجد في البيت سوى قطّته التي كانت تموء كلّما أحسّت بحزنه، واقتربت منه مصرّة على أن يلحق بها؛ لتخرجه إلى حديقة المنزل. عند تذكّرها استطاعت ذكراها شحنه بشعور بعَثَ فيه بعض فرح خفّف عنه ثقل أرطال الغضب التي أثقلت على صدره وكيانه.
شارفت الشّمس على المغيب، ولم يرغب بالعودة إلى البيت. وبالأحرى لا يجرؤ؛ لتأكّده بأنّ أباه ستزداد سورة غضبه، حيث لا يعقل أن يتغيّب ساعات طويلة دون إذن منه.
لم يراوح مكانه، وحجارة وتراب الحيرة اللذين نبشهما غضبُه، يتجاذبانه تارة بتشجيعه بملازمة المكان، وأخرى بإغرائه بالعودة إلى البيت. ففيه - على الأقلّ يجد طعامه وشرابه ومأواه- خاصّة وأنّ أمعاءه قد بدأ يعتصرها الجوع، وأعلنت قرقرتها احتجاجا ونداء لملئها.
وفيما الحيرة تنهش عقله وروحه، وإذ بصدى قهقهات يقترب رويدًا رويدًا...لتقف أمامه مجموعة من الشّبان، فاجأهم وجوده في المكان وحيدا، وقد مالت الشّمس للغروب. لم يعرهم اهتماما - مع أنّ أحد الوجوه بدا مألوفا له وتذكّر أنّهما كانا في المدرسة نفسها – وحاول أن يبدو طبيعيّا. لكن المساحة التّرابيّة تحت قدميه توحي أنّها شهدت معركة برجليه، وأنّ الأمر جلل، وحال الشّاب لا يسرّ!. فأشفقوا عليه.. ودعاه أحدهم- بعد أخذ موافقة (الشّلِّة) – إلى مرافقتهم. فَهُم قد جاءوا ليحتفلوا الليلة؛ فرحا بإنهاء المرحلة الثّانويّة، والتّخلّص من مآسي الامتحانات!.
أظهر بعض تردّد، ولكنّ إلحاحهم وتودّدهم شجّعاه على مرافقتهم.
ساروا بضع دقائق، وقد سطر الصّمت حروفه عليهم، وكأنّهم أرادوا إمتاع آذانهم بأصوات الطّيور التي تبحث هي الأخرى عن مبيت لها.
كُسر حاجز الصّمت لدى رؤية باب المغارة بإعلانهم عن الوصول حيث يريدون. انقبضت أسارير وجهه، وازداد خفقان قلبه حين تخيّل ظلمة المغارة. فهو يخاف من الأماكن المظلمة!.
انتبه أحدهم لتباطؤ مشيته، فاقترب منه داعيا إيّاه للدخول معا إلى البيت الجديد. أشعلوا الشّموع، وأخرجوا ما جلبوه لتحضير وليمة احتفاليّة... ثمّ همّوا بخلع ثيابهم، وارتداء ملابس خاصّة ظهرت عليها رسومات غريبة وعجيبة، زادت من خوفه لمّا تساقطت الأضواء عليها. ألقي عليه ثوب وطُلِب منه ارتداؤه، وخوفا من أن يتّهم بالجبن، أجبر نفسه على الرّضوخ لطلبهم.
تحلّقوا حول شموع الشّمعدان الذي نصبوه في وسط الأرضيّة، وبدأوا بالرّقص والدّوران مردّدين بعض الكلمات، في طقس أشبه بطقوس الجنّ التي شاهدها في بعض الأفلام المرعبة... ثمّ دعوه أثناء دورانهم ليدور معهم.
بدَوا منهكين بعدما تراموا على بعضهم كالسّكارى، ولكنّهم سرعان ما قاموا لتحضير وجبة العشاء.
بعد ملء بطونهم، استأذن أضخمهم؛ ليُحضر لهم الشّراب الذي ينعشهم. وأثناء نهوضه وضع كفّه مربّتا على كتف الضّيف، داعيا إيّاه لحديث جانبيّ قبل أن يتركهم لإحضار مشروبهم المفضّل.
كاد يصعق لهول ما سمع... أحسّ بثقل الطّعام في معدته التي ملأها بعد خواء... وها هو رأسه يكاد ينفجر، وعيناه تبحلقان، ويزيد من اتّساع حدقتيهما الضّوء الخافت.
شَعَرَ محدّثه بحاله، فسارع لاحتضانه قبل أن يقع أرضا، وأبعده قليلا عن مرأى العيون؛ مستفسرا عن سبب وجوده حيث صادفوه، فهو مكان خاصّ بالمجموعة، ونادرا ما يمرّ أحدّ من هذا المكان.
اضطر لإخباره بحقيقة الأمر، وما يعانيه من ظلم وقهر وتقييد لحرّيّته!...فتضاحك في سرّه وهمس له مُطَمْئِنا:
وصلتَ للعنوان الصّحيح. هنا الحريّة والتّخلّص من كلّ عبوديّة قد أوجدها بشر منذ الأزل... ابقَ معنا، وستنال ما تحبّ وتريد... نحن عائلتك الجديدة! وإذ انضممت إلينا، فلا مجال للابتعاد قبل الإدلاء بيمين القسم على حفظ السّرّ وصون العهد، وسيكون ذلك اللّيلة. وأمسك بيده ليعودا إلى الرّفاق.
تراءت أمامه صورة أبيه، وبركان غضبه ينفجر في وجهه بأقسى الكلام. تُرى ماذا سيصيبه لو رآني هنا؟! وتمنّى وفي أعماقه أن يعود للبيت قبل حدوث هذا.
جلس حيث أقعده مضيفه السّاقي، وقلبه يكاد يقفز من بين الضّلوع!
عاد السّاقي يحمل بإحدى يديه ديك دجاج أسود الرّيش، وبالأخرى سكّينا. ففرح الأصدقاء وهاجوا وماجوا ... الليلة سنقدّم أضحية احتفاء بالعضو الجديد. ذُبِح الدّيك أمام ناظريه، وقدّمت له كأس من الشّراب الأحمر، خمر الأضحية!.
شعر بالغثيان، ونهض من مكانه يريد أن يتقيّأ تقزّزا وقرفا ممّا رآه، لكنّهم أمسكوا به وطلبوا منه التّريّث، والبقاء ضيفا متّزنا؛ لأنّه سيغدو صديقا وعضوا جديدا في المجموعة، ولا بدّ من التّصبّر وإظهار القبول والرّضا.
طرق مسامعه صوت يقول: لا تجبروه على الشّرب، فغدًا سيطلب ذلك بنفسه. دعونا نكمل احتفالنا...
علا الصّخب، وأُخرجت بعض الأوراق التي مرّرت على الجميع لتقبيلها، وكأنّها وثيقة مقدّسة. وهتفوا بصوت واحد مردّدين كلمات فهمَ عددا يسيرا منها، تعكس مبادئ تنافي كلّ القوانين التي يسير حسبها البشر. ولم يخفَ عليه أنّهم كانوا حريصين على ألّا يفهم كلّ ما يهتفون به؛ كي لا يذهل ويزداد وضعه سوءا...
أوشك الحفل على الانتهاء، فدعي إلى الاقتراب من الدّيك المذبوح المعلّق، وطلب منه أن يقسم على حفظ السّرّ والولاء قبل مغادرة المغارة. وأخبروه أنّه لا يجوز له أن يخون هذا القسم مستقبلا، وإلّا سوف لا يعلم أحد باختفاء جثّته.
وقف وأعضاء جسده أكثر رجيفا ممّا كان أثناء وقفته أمام والده موبّخا وشاتما.
ازداد ارتعاد يده، واصطكت أسنانه حين وضعت يده فوق كأس الدّم ليقسم، وتلعثم لسانه أثناء تكرار ما ألقي على مسامعه، ولم يع معظم ما نطق به كالببغاء!. ووجد نفسه محاطا بالأعضاء يقبّلونه ويهنّئونه، ويقسمون على حمايته طالما التزم بقسمه.
حان موعد الرّجوع إلى البيوت، ففطن بحاله، وهاله سوء العاقبة الذي سيضحي به لرجوعه المتأخّر ... ولكن، في الطّريق استرجعت ذاكرته بعض كلمات القسم التي تقول:"أقسم أن أصون إخوتي الجدد، مثلما أصون دمي، وأحارب لأجل حرّيّتي..."
الحريّة! أجل سأصبح حرّا، ولن أخاف لدى دخولي البيت. وسأواجه أبي!
فتح الباب، ودخل متجهّم الوجه، تعتريه رغبة بأن يصرخ ويقول إنّه رجل، ولم يعد صغيرا. ومن الآن فصاعدا لن ينصاع لأحد! ويشعر أنّه ارتشف جرعة من الجرأة، وربّما الوقاحة للمواجهة، بعد ما مرّ به خلال السّاعات الماضية!.
انتهره والده لدى دخوله مستغربا تأخّره، فيما والدته تفرك بيديها، وتنظر إليه نظرات أحسّ – لأوّل مرّة – أنّها تنبض محبّة وقلقا... لكنّه استطاع تخليص نفسه من المأزق، حين قال إنّه كان في احتفال دعي إليه بمناسبة إنهاء المرحلة الثّانويّة؛ لتوجيه الطّلاب وإرشادهم في اختيار المواضيع للدّراسة الجامعيّة، ونسي إبلاغهم بذلك... انفرجت أسارير وجه الأب الغاضب؛ لإحساسه بأنّ ابنه قد بدأ يفكّر صوابا.
اتّفق أثناء عودته مع الرّفاق الجدد أن يشاركهم في اجتماعات النّهار فقط؛ كي لا يثير الشّكوك حوله، فوافقوا .
بدأ سلوكه يتغيّر. فقد لاحظ أفراد عائلته اعتكافه في غرفته التي غطّى جدرانها بملصقات صور مرعبة أقرب إلى الشّياطين منها إلى بني البشر. وإن غادر البيت، يكون ذلك في ساعات معيّنة، بحجّة أنّه يذهب إلى بعض أصحابه المتفوّقين؛ ليدرسوا لامتحان القبول في الجامعة، ويعود بعدها للاعتكاف.. وبدأ يهتم بسخافات في مظهره الخارجيّ، حيث بدت بعض أثار الجروح على معصمه، أخفاها بأساور جلديّة وصوفيّة وغيرها... وتقلّد سلسلة تتدلّى منها جمجمة .
لم يشعر الأب بالرّاحة لمثل هذا الأمر، وأحسّ أنّ هناك شيئا غامضا، فقرّر مراقبته. مشى خلفه عندما كان يغادر البيت. كان يدخل بيوتا لا تربطهم بهم أيّة صلة، ولم يكن أحد منهم زميلَ دراسة لابنه. فاستمرّ في المراقبة...
ليلة الأحد موعده مع الرّفاق للّقاء الشّهريّ في المغارة، ولا يقبل أيّ عذر . فكّر طويلا قبل المشاركة، لكنّه قرّر في النّهاية الذّهاب.. فقد أقنعوه بأنّهم سيعودون مبكرين.
دخلوا المغارة، وبدأوا بممارسة طقوسهم الشّيطانيّة، وشارك في الرّقص فقط. فجأة، أحسّ أنّه يريد الهرب. لقد رأى قطّا أسود بيد أحدهم، فظنّ أنّه سيذبح مثل الدّيك. تذكّر قطّته "ميسو" وصرخ يناديها.. وهمّ بالخروج، إلّا أنّه مُنِع من ذلك وأعيد مقبوضا على عنقه بشدّة، مذكّرين إيّاه بالقسم. أُجلس أمام النّار الموقدة؛ ليقيموا احتفالا للقطّ العظيم!... والقطّ رابض أمامه مصوّبا نظراته نحوه...
وفيما هُم في هرج ومرج، وإذ بصوت عال يدوّي، ويطلب منهم التّوقّف. نظروا فرأوا العضو الجديد يهبّ واقفا مسمّرا عينيه في الشّخص الذي يشبهه شكلا، فاقتربوا منه لتهدئة روعه وحمايته إن لزم الأمر.
اقترب منه، وكأنّه يبغى تسويته بالأرض، ثمّ وجم في مكانه حين خطف نظره ما رُسم على الجدران ممّا يدب الخوف والفزع في القلوب، وما تكوّم من أوعية معدنيّة في إحدى الزّوايا، والأدهى ذاك الكتاب بعنوان: (عَبَدة الشّيطان). فجنّ جنونه وصرخ في وجه ابنه:
الآن عرفت أيّها الفاشل الأحمق سبب فشلك!... وفي اللّحظة ذاتها – ورغم هول ما يرى – تذكّر أنّ ابنه لا يخرج في اللّيالي أبدا إلّا برفقة العائلة . ومع جحيم الفكر والشّعور هذا، سمع صراخا قطع عليه كلّ شيء:
أين كنت يا أبي ؟ أين أنت؟ لماذا تأخّرت؟! ...
فتنبّه أنّ شيطانيّة المكان جذبت إليه شيطانيّة الأفكار، وانطلق مستجيبا لاستغاثة ابنه...