المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صورة قبيحة .. قصة قصيرة



فاطمة المزروعي
03-01-2005, 08:01 AM
صورة قبيحة..


المرآة..
تجعلني أشعر وكأني
سأظل حبيسا فيها إلى الأبد



دوماً.. أمامكَ؛ في الحمَّام، في الغرفة والصالة، في عملك، خصوصاً عندما ترى وجه مسؤوليك..
كلما نظرتَ إليها، تشعر وكأنها تُجردّك من مظهرك الخارجي، ذلك المظهر الذي اعتدت عليه زمناً، واعتاد الناس أن يعرفونك به، وجهاً مصبوغا بالمشاعر المتلونة، وجسداً ضخماً يتحرك في تململ. تركب سيارتك منذ الصباح الباكر، تحشر نفسك فيها، تنطلق بسرعة، تقف أمام الإشارة منتظراً، تلتفت يمنة ويسرة، تتثاءب، ترفع وجهك ناحية المرآة، تعدل غترتك، تمسح بقايا الرﱠمَصِ المتجمع في مُؤَقِ عينيك، تشتري الجريدة، تقرأ العناوين الكبيرة لَمْحَاً بعينين صامتتين، تحرك يداً على مقود السيارة، ويداً ترمي بالجريدة على المقعد المجاور بعصبية روتينية..


***

المرآة الجانبية، تنعكس فيها صُور السيارات المارّة محاولةً تجاوز سيارتك الحمراء الصغيرة. تنظر إلى ساعتك..
- آه، لقد تأخرت..
أول مرة في حياتك تتأخر، هل تتذكر كيف كانوا يمتدحونك في المكان التي تعمل بها؟ كنت نشيطاً، مجتهداً، تعمل كعقارب الساعة، تؤدي كل ما يُطلب منك دون أن تتكلم أو تتفوه بشيء أو حتى تعترض. وحتى مع عائلتك، تضع قناعك البارد، وكأنهم ملفات تنجز معاملتها بآلية.

***

تعود للنظر إلى صورتك في المرآة الأمامية، وجهك الكبير، شارباك، أنفك، الشامة التي تعلو حاجبك الأيمن، شعيرات أنفك، أسنانك، رموشك القصيرة، مسام جلد وجهك المتغضن، كل شيء فيك، وعيناك، عيناك التي ترى كل هذا. لكنك تعلم بأن مرآتك في هذا الصباح المشبع برائحة الضباب ستُجردك من قسوتك وعنفوانك مع نفسك، وستُظهر لك ضعفك..

السيارات تتجاوزك، تعبر سيارتك في سرعة..

سوف يوبخك مديرك على تأخرك، وسيعلن ذلك على الملأ، سيخبر رفاقك، سوف يمر على مكتبك، ومكاتب أخرى، سوف ينتشر الخبر في المكان كله، سيعلقه على زجاج المدخل ليراه حتى المراجعون، وحينها لن تضطر إلى إخفاء شخصيتك، أو التقمص بأخرى.
توقف سيارتك في ذلك المكان الذي هجرته منذ فترة طويلة، وتمر أمامك غيمة، تتجاوز بك روحكَ وعقلك. وجهها المدور ينظر إليك من شباك غرفتها، تستمع إلى ثرثرتها الطفولية وهي تتحدث مع زميلاتها، فتضحك في سرّكَ، وأنت تعلم أنها تفعل ذلك، لتجعلك تهتم بها. كنت تتوقع نفسك أكبر من أن تكون محطة لأحلامها. على كلٍّ ليس هذا هو هاجسك الآن.َ
**
تتحرك ببطء، صوت الهاتف يصل لمسامعك، شاطئ الكورنيش الخالي من الناس يفتح ذراعيه لك، تقترب غير آبه بعامل النظافة الذي ينظر إليك باستغراب، يرن صوت الهاتف مرة أخرى في جيبك، تتجاهله، تتذكر كيف كنت تتناوله على عجالة إذا ما أتاك أي اتصال.

صورة قبيحة، متناقضة، لروحين في جسد واحد، بل أرواح عدة تتصارع في هذا الجسد الذي هو أنتَ، فتجرك لتشتتٍ وذوبان في لا شيء.

سور الكورنيش يقترب، وجسدك يقترب منه أكثر رغماً عنك، تلمح المرآة في المياه، ..تتابع نفسكَ - على سطحها اللامع - كشريط سينمائي قديم، غير آبه برنين الهاتف الذي يسكن جيبك..

د. محمد الشناوي
03-01-2005, 03:03 PM
:NJ::NJ::NJ:

توغلتِ إلى ما وراء الأقنعة فسبرتِ أغوار النفس

هنيئا لي بهكذا قصة رائعة

بانتظار رائعة أخرى أيتها القاصة الأريبة

لكن "هل تتذكر كيف كانوا يمتدحونك في المكان التي تعمل بها؟"
تراك قصدت الأماكن التي تعمل بها أم المكان الذي تعمل به


دمت راضية مرضية

د.جمال مرسي
10-01-2005, 06:51 AM
ما شاء الله اخيتي فاطمة المزروعي
من إبداع إلى إبداع
و من قصة إلى قصة يأخذني قلمك الساحر من البداية للنهاية
تقبلي الود
و تثبت القصة لجمالها

د. جمال

محمد المنصور الشقحاء
18-01-2005, 12:16 PM
الأستاذة فاطمة المزروعي
تحية طيبه
لمذا تأتي الصورة قبيحة ، عندما نتحدث عن ذواتنا0
مؤكد نجاحك في التعامل النفسي والآجتماعي مع شخصية النص وتغلبك00! في ذات الوقت على سلطة الكاتب حتى تحقق شخصية البطل ذاتها بعدم الرد على الهاتف،
وان كان احساسة بان زميلته في العمل ترفع صوتها حتى تلفت نظره ( وهذا انطباع ذكوري) لم اتوقع من كاتبه متمرسة الوقوع فيه
النص جميل، سور الكورنيش والبحر تناسق جميل لوفرة المكان في اطار المرءاة الصغير00!
تخياتي

د. سمير العمري
04-11-2007, 09:29 PM
جده نصا فلسفيا نفسيا يرسم الملامح في مرآة الروح بدون أقنعة ولا مساحيق تجميل.

لا أجمل من أن نطالع أنفسنا كل يوم في مرآة الروح الصادقة لا لنبحث عن محاسن ظاهرنا بل لنبحث عن قصور ذواتنا وقبح خواطرنا فنتخلص منها بما يليق بنا كبشر وكمسلمين.


أحييك على هذا النص.



تحياتي

سحر الليالي
04-11-2007, 10:33 PM
ما أجمل ما قرأت..!
قصة رائع ــة بــحق ...!!

"فاطمة"
أنتظر المزيد من قصصك...

كوني بخير دوما

جوتيار تمر
05-11-2007, 06:02 PM
العزيزة فاطمة...
صورة قبيحة / نص ذا حبكة عالية / ورؤية عميقة / وتحكم جميل في البناء السردي / النص جاء وفق معايير ذاتية / تثير الجدلية القديمة الحديثة حول الذات / من حيث كونها فاعلة ضمن اطار داخلي وخارجي /
ولقد طرات تحولات جميلة على الرؤية الشخصية التي اتخذت المرآة كصورة معاكسة لها في السرد / ومن هذه التحولات ان الذات نفسها فقدت عنصر القوة في السرد وكانها صارت غير متفاعلة مع الوعي ومفارقاته / النص كتجربة اجده يبحث تجريب مفهوم خاص للشخصية .

دمت بخير
محبتي لك
جوتيار