تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ليلة (البيضا) الأخيرة



أحمد عيسى
08-05-2013, 12:34 PM
ليلة (البيضا) الأخيرة
قال الشاعر الألماني شيلر : الأرواح العظيمة تعاني في صمت
وأقول : الأقلام العظيمة تلتزم الصمت ، حين يكون الموقف أعظم
فأي كلام يقال يا بيضاء ، حين تصبح الأجساد طريقاً للحفاظ على ابتسامتك ، وصرختك ، وأغنيتك .
.
.
.
حواجزٌ لا نهائية أمامه ، ارتفاعاتٌ وانخفاضات ، شمسٌ حارقةٌ في بداية مايو ، شمسٌ أبت أن تكون باردة على الأجساد ، أو لطيفة كما يجب لها أن تكون في مثل هذا الوقت من العام .
لكنه كان يلبس قميصاً بأكمام ، يرتجف جسده كأنه في سيبيريا ، ويتقي أمطاراً وهمية ليس لها أي أثرٍ في المكان ، يسمع صوت الرعد وحده ، فيجفل ، ويرى البرق خاطفاً فيغمض عينيه ألماً ، يمضي في طريقه متسلقاً ، يبحث عن غايته ، رأى نفسه بروميثيوس يواجه غضب الآلهة ، سمع عن عقابه لأنه يحب أن يقرأ ، لطالما رأى في الأساطير اليونانية فرصة ليطير معهم ، ويرى جبروت أبطالهم ، قال لنفسه يوماً : حتى آلهتهم تموت ، وتمتم في أعماقه ما لم يسمعه غيره : فلمِ آلهتنا لا تموت ؟ وتذكر قاتله.
قالت له أمه –ذات حياة – أما يكفينا ما حدث ؟
فقال رغم طفولته : أما كفى بسطام جرح عنترة !
لم ترد ، ولم تمنعه من الخروج ، ولم تمنع عنه فطور الصباح أو كأس الشاي ، ما كان أصلاً يملك غير حنجرته ، عرفه الحي كله بصوته ، قالوا له : ربما لو كان الظرف يختلف لأصبحت مطرباً .
فقال : لو كان الظرف يختلف لما غنيت .
كان يغني كل يوم ، وهم يهتفون وراءه ، ويبكون . حتى عندما جاء أحد المخبرين ، قال لوالده همساً :
احفظ لسان ابنك قبل أن ..
ولم يكمل .. لكن قاووش لم يفارق ذاكرة الوالد ، فرد بصوت كالمبحوح ، سأفعل .
ولم يفعل ، ذاك أن طفولة أحمد كانت تخترق الحواجز كلها ، لتفرض على الكون رجولة لا تعترف بسن البلوغ ، ووقفة لا تعرف قوانين الانحناء ، وصلابة تكسر كل فيزياء الكون .
جرب أهل الحي أن يصمتوا ، أن يتوقفوا عن الغناء لليلة ، كانت الليلة بالصدفة ليلة زفاف (منى) ، غنت لها صديقتها : "يا عروس ريتها مباركة الحنة "
وسمعت صوت انفجارٍ فأكملت :" يلي سبيتي الحواري الساكنة الحنة " أو الجنة .. لم تدرِ أيهما أقرب ..
صرخت نساء البلدة فيها : اصمتي يا أنتِ ، خلّي الليلة تمضي على خير
قالت العروس : لن يسمعوا هتافنا ، ثم أنه موال عرسٍ لا أكثر .
ردت الجدران : سيسمعون .
وصمَّت الجدران أذنيها حين سمعت صراخ الحضور ، ثم تكسر كبرياؤها حين دوت القذائف في الأجساد الحية ، ثم انهارت خجلاً حين رأت عذرية منى تسقط أمام قاتليها ، قال الجدار للجدار :
ليتهم قتلوها .
فقال الجدار : بل ليتهم قتلوه قبل أن يراها هكذا .
ولم يخيبوا ظنهما ، فقتلوهما ..
ومن يومها ، لم يعد يُسمع صوت الغناء في القرية وما عاد أحمد يبتسم .
بعد دقائق طويلة ظنها دهراً ، وصل أحمد إلى قمة التلة ، نظر حوله حتى رأى أمه .
كانت هناك ، في نهاية تلٍ كبير صنع من الأجساد المسجاة ، عن يمينها جارته أم وائل ، وعن يسارها يد زوجها وشيء من بقاياه ، والسماء كانت تمطر رصاصاً ، والأرض تقطر دماً ، والبلدة تنضح صمتاً ، والأشياءُ ، والأشلاءُ ، والترابُ امتزجوا ، لتصبح الأرض أكبر ، والتربة أقسى ، والبيضا تحمل الألوان كلها إلا اسمها .
لم يعانق والدته ، ولم يحتضن الجسد المسجى ، لأن الرأس وحدها كانت بارزة بين الأجساد ، جلس ورأسها بين ذراعيه ، ألقى نظرة طويلة إلى الأفق الأحمر ، وصدح بالغناء وحده ، كما لم يفعل من قبل أبدا ..


***

آمال المصري
10-05-2013, 05:13 AM
تصوير بشع لجرم الحرب ومايخلفه من دمار في النفوس والديار والأرض بلغة سامقة وسرد متين
سررت بأن أكون أول المعانقين للنص رغم أن القلم بئن أمام بشاعة التصوير
شكرا لك أديبنا الفاضل
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

كريمة سعيد
10-05-2013, 03:11 PM
" أي كلام يقال يا بيضاء، حين تصبح الأجساد طريقاً للحفاظ على ابتسامتك، وصرختك، وأغنيتك ..."
وأي تعليق أو رد يليق بهذه القصة المدهشة في براعة أسلوبها وتصويرها وثقل واقعيتها وما ينجم عنه من ألم وجراح ...
أدميت فلبي أيها المبدع السامق وخانني التعبير
لذلك سأصمت كي لا أمتص الغضب على هذا الواقع المرير الذي يزيده الإحساس بالعجز مرارة ... ةهذا الشعور لدى القارئ دليل على مهارة الكاتب وامتلاكه زمام القص والإبداع
دمت بهذا الحس النبيل ونصر الله الإسلام وفرج كرب إخواننا وأخواتنا أينما كانوا .....
تقديري

وليد عارف الرشيد
11-05-2013, 07:06 AM
أوافق الأخت الأديبة كريمة : لارد يليق وقد يكون الصمت أبلغ وأقدر على إيصال وجعي وإعجابي بقصتك المدهشة لغة وسردا ومشاعرا
رائعة أخي المبدع الجميل .. وحسبنا الله ونعم الوكيل
محبتي وكثير تقديري

نافذ الجعبري
17-05-2013, 04:58 PM
أشكر لك هديتك الغالية الموجعة ايها الحبيب
عايشت صورها صورة صورة
شلت أيدي البغاة وباءوا باللعنة في الدارين
كل الود والتقدير
أخوكم: أبو معاذ

براءة الجودي
18-05-2013, 01:06 AM
لم يعانق والدته ، ولم يحتضن الجسد المسجى ، لأن الرأس وحدها كانت بارزة بين الأجساد ، جلس ورأسها بين ذراعيه ، ألقى نظرة طويلة إلى الأفق الأحمر ، وصدح بالغناء وحده ، كما لم يفعل من قبل أبدا ..
بحق الله ..
أي تصويرٍ نبهر أقرأه هنا , ارى الاشخاص يتحركون في هذا المشهد أمامي , رى ضحكة العروس , فرحة الزفاف , ثم بشاعة القتل الجماعي والتدمير من قلوب لاتعرف الإيمان فهي اقسى من الحجر
غصة خنقتني من هذه النهاية المؤلمة ودمعة تحجرت في المقل , ولسوف أصدح بإصرار بالغناء معه رغم الألم فالأمل لايندمل هذا مافسرته لي النهاية
تقديري لقلمك الكبير

كاملة بدارنه
18-05-2013, 02:25 PM
تجعلنا نعيش الحدث وننسى أنّنا نقرأ كلمات
وصف مدهش وسرد رائع رغم الأسى واللّوعة
بوركت
تقديري وتحيّتي

أحمد عيسى
19-05-2013, 02:52 PM
تصوير بشع لجرم الحرب ومايخلفه من دمار في النفوس والديار والأرض بلغة سامقة وسرد متين
سررت بأن أكون أول المعانقين للنص رغم أن القلم بئن أمام بشاعة التصوير
شكرا لك أديبنا الفاضل
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

الزميلة القديرة : آمال المصري

أعتقد أن التصوير ليس بشعاً _^^_ / ربما قصدتِ أنه كان دقيقاً ، لكن البشاعة في الفعل نفسه والجريمة نفسها
سعدت بك وبمرورك السباق لهذا النص ، الذي آلمني وأنا أكتبه ، كما آلمتني الصورة الحقيقية لتل الجثث في البيضا ، تلك الصورة التي استلهمت منها أحداث القصة

تقبلي تحيتي وباقات الورد

محمد ذيب سليمان
19-05-2013, 05:59 PM
" أي كلام يقال يا بيضاء، حين تصبح الأجساد طريقاً للحفاظ على ابتسامتك، وصرختك، وأغنيتك ..."
وأي تعليق أو رد يليق بهذه القصة المدهشة في براعة أسلوبها وتصويرها وثقل واقعيتها وما ينجم عنه من ألم وجراح ...
أدميت فلبي أيها المبدع السامق وخانني التعبير
لذلك سأصمت كي لا أمتص الغضب على هذا الواقع المرير الذي يزيده الإحساس بالعجز مرارة ... ةهذا الشعور لدى القارئ دليل على مهارة الكاتب وامتلاكه زمام القص والإبداع
دمت بهذا الحس النبيل ونصر الله الإسلام وفرج كرب إخواننا وأخواتنا أينما كانوا .....
تقديري


عذرا اخي .. احمد
عذرا اختي .. كريمة

جينما لا اجد ما اقول
وحينما تعجز المفردات عن انقاذي
اقتبس ما هزني من ردود واعيده
مودتي لك ايها الفنان في رسم المشهد
مودتي

نور اسماعيل
19-05-2013, 06:46 PM
أدميت قلوبنا ... وأعيننا ..
وصفت الجريمة وصفا دقيقا كأنك هناك وصفت بشاعة الجريمة بكل دقة بكل جمال
مبدعٌ أنت حقاً ..
تحاياي ..

ربيحة الرفاعي
04-06-2013, 10:11 PM
أحمد عيسى
أيها القاص الرائع
بسرد مدهش وتمكن من فكرتك وأدواتك أمسكت بتلابيب القارئ وتحكمت بانفعاله محدثا التأثير المطلوب

قصه بديعة وسرد ناضج

دمت بألق

تحاياي

ناديه محمد الجابي
14-06-2013, 09:50 PM
رائعة الفكرة والسرد ـ رائعة اللفظ والحرف
بالغة التأثير من خلال ذلك الوصف الدقيق لبشاعة الحرب
وقد أجدت التصوير بلغة قوية موجعة..
مبهرة قصتك ـ بديعة لغتك
تحية لهذا القلم الناضج المسكون بالروعة

مُنتظر السوادي
15-06-2013, 10:26 AM
بورك حرفك الذي ينقل لنا الواقع عبر فن إبداعي

لك التحية ونحن ما نزال نعيش هذه المعاناة وأنت لست ببعيد

سعاد محمود الامين
17-06-2013, 05:34 AM
الأخ الأديب عيسى
تحية مباركة من عند الله
لقد كتبت ناقلا لنا مشهدا تعجز الكمرة عنه..سردك المتواصل يجعلنى داخل النص أركض للنهاية.. قصتك صادقة الطرح والمشاعر...بورك قلمك المبدع ودمت بخير

نداء غريب صبري
07-07-2013, 01:34 AM
يا الله
سأخرج من قذه القصة الرائعة بدموعي وصمتي واعجابي الكبير بك

شكرا لك أخي

بوركت

د. سمير العمري
19-01-2014, 05:12 PM
رصدت بإحساس الإنسان وصورت بكاميرا الأدب هذه المأساة بتوصيف دقيق دون فقدان للحس الأدبي وخرفة الحرف.

أنت قاص مبدع كبير يا أحمد وهذا مبعث فخر شخصي لي.


تقديري

خلود محمد جمعة
26-02-2015, 09:28 AM
تدخلنا الى قلب الحدث وتتلاعب بمشاعرنا بمهارة
لعزف حرفك شجن يجعلني ابكي الى الداخل
انت فاص محترف ورائئئئئئئئئئئع
كل التقدير
بوركت

رويدة القحطاني
29-05-2015, 12:30 AM
من يقول أن القصة تكون أقوة بلا مقدمة توضيحية مخطئ، لأن مقدمة ذكية تجعل من القصة كنزا
أنت قاص قوي