محمد عبد المجيد الصاوي
22-05-2013, 12:11 AM
أبو إسماعيل
قصة قصيرة
محمد عبد المجيد الصاوي ـ غزة / فلسطين
يوم الجمعة ، استيقظ على صوت الساحرة ندى :
ـ أبتي : قم طعام الإفطار جاهز والكل ينتظرك .
نظر إليها كأنه لم يرها منذ أمد ، كانت بالفعل ساحرة بعذوبة صوتها ، وبطفولتها التي يشفق عليها من مدلهمات زمانه .
عادت به رحى العمر إلى مرارات طالما كان فيها ( جبل المحامل ) إلى طفولته حيث مخيم الشاطئ وسنوات الكفاح منذ سن العاشرة ، إلى شبابه وقد انتقل بأسرته التي كانت حينها مكونة من زوجته وبكره إسماعيل ، إلى حي الشيخ رضوان ، حيث رحلة العمل في الداخل المحتل ، وإنشاء البيت الذي أخذ منه أشواطا ، وبدء انتفاضة الحجارة ، ثم تفرع شجرته إلى أغصانها العشرة ، لم يهنأ خلال أربعين عاما بغير لذة العمل والمثابرة عليه ، اتخذ مهنة القصارة حرفة له ، رغم شقائها وخطرها المستقبلي ، لكنها كانت تدر عليه دخلا وفيرا ، استطاع بحرص زوجته ( أم إسماعيل ) وبتدبيرها ووفائها وحبها الخالد له أن يكون شامخ الرأس في عائلته ومحيطه ، فقد عمل مقاولا لحسابه الخاص ، كان المال يتدفق بين يديه ، ولم يكن كغيره من عمال الداخل ( يشعتر ويبعتر ) بل كان هناك جدول صارم للمدخولات والمدفوعات .
اشترى قطعة أرض ارتفع ثمنها لضعفين ، وامتلك سيارة خاصة ، وبنى طابقين ، وازدهرت الأيام ..
توقف العمل في الداخل وأجدبت سنوات الغيث المنهمر ، وكان الأبناء قد كبروا ، ووصل أربعة منهم إلى مرحلة التعليم العالي ، لم يركن ليوم يقضيه هملا بلا عمل ، باع السيارة الخاصة واشترى سيارة أجرة ، وعمل سائقا ..
لم يضيِّعْ فرصة عمل طارئة ( بطالة ) إلا واغتنم ريعها الزهيد ، عمل صانعا في مهنته بعد أن كان مقاولا ..
مرضت ابنته ( مها ) بمرض عضال وهي في سن الخامسة عشر ، باع السيارة ، ثم قطعة الأرض ، ولم يدع مستشفى ولا بلدا إلا وحاول علاجها فيه ، رافقها في القدس المحتلة ، وفي القاهرة ، وفي استنبول ، وفي مدريد ، وهناك ..
أفاقت من غيبوبة طويلة بعد حقنة كيميائية ، لم تكن تتألم ، كانت تبتسم ابتسامة طير آن له أن يحلق .. وكزهرة برية ضاع شذاها :
ـ بابا .. أنا كنت أحلم أن أكون كوفاء إدريس وريم الرياشي .. إنهن ينتظرنني ، فلا تبكِ يا حبيبة العمر ..
ونطقت بالشهادتين .. أسبل الجفنين الناعسين ، ولم يستطع أن يفي بوعده بألا يبكي ، بكى دموع عمر بأكمله ، التف حوله الأطباء الألمان ، يقدمون ما استطاعوا ..
كان قد حلت في البيت خيمة حزن ، برحت به طويلا ..
بعد شهرين ، أعلن أن الحزن قد دفعت ضريبته ، وأصدر أوامره :
ـ بإذن الله لن نقضي العمر حزنا ..
ـ هيثم ستتقدم لامتحانات الثانوية العامة بعد ثلاثة شهور .
ـ إسماعيل .. لن تؤجل الفصل النهائي الذي تبقى لك ، وسنحتفل بتخرجك في الصيف .
ـ هدى سيتم زواجك وستنهين الدبلوم ..
ـ وأنا سأعمل سائقا على سيارة ( أبو محمد ) .
ـ محمود ستحصل على رخصة السواقة التي تأخرت في إتمامها ، وسنتناوب العمل على السيارة .
مضت الخطة بحذافيرها ، وابتسموا كي يبتسم الزمن ، وكي تقر ( مها ) عينا .
لم يضع حركة العمران النشطة في القطاع هدرا ، عاد ليعمل مقاولا في القصارة ، وهذه المرة كان أبناؤه هم سواعده ، فإسماعيل لم يركن لوظيفة يقضي العمر في الحصول عليها ، وهيثم ومحمود لن يبيتا كالتوافه من أبناء الجيل ، كانوا جميعا ، وكما عُودوا رجالا شدادا .
عملوا وكان باسل وأحمد في الإجازات يشدون الأزر معهم ويتشربون الصنعة ، أنهى إسماعيل وهيثم تجهيز شقتيهما ، وتزوجا في عرس غسل عن البيت والأصدقاء والعائلة والأحباب والجيران أتراحا ثقالا ، وهموما راسيات .
كانت ديمة قد حضرت لتعيد مع ندى ترتيب الغرفة ، وكان ( أبو إسماعيل ) قد عاد من رحلته وأزاح السيارة ، ليشاهد زخات المطر وقد صاحبها صخب طالما هامت به الروح .
هتفت ديمة بصوت أنثوي يشق طريقه ..
أبتي : ماما تنادي ، هيا ..
رمقهما بنظرة غاضبة حاول تصنعها :
ـ قادم ، حتى في يوم الإجازة تحرمونني من ساعة نوم ، أمر إلى الله أوكلته .
إسماعيل فاق على صوت زوجته التي عودته أن تفجر قنابلها الاستفزازية بمجرد أن تبصر عيناه الدنيا :
ـ قم يا مدلل والديك ، الأسرة الملكية تنتظر ولي العهد كي يتقاسم معها طعامها الملوكي .
جحدها بنظرة فيها بقايا من صبر .
تحلقوا حول المائدة ، يلتهمون ما كدت الأم وبناتها وزوجتا أبنيها طوال ساعة في إعداده ، والكل ينتظر الأب ليعطيهم شرارة الحديث ، وفجأة تغيرت ملامح محمود فقد وصلته رسالة على جواله من إحدى وكالات الأنباء :
مصرع عائلة مكونة من سبعة أفراد ، قضت حرقا ، وقد تفحمت جثثهم .. والمعلومات الأولية تؤكد أن سبب الحريق شمعة اشتعلت ..
توقفت اللقيمات في أفواههم ..
علاهم حزن ..
امتلأت نفوسهم حنقا وغيظا ..
تفجرت أعماقهم لعنة وغضبا ..
بدأوا حديثا تعسر ..
ـ دماؤهم في رقاب الشعب الساكت الصامت العابث ..
ـ وماذا تريد من الناس أن يخرجوا بثورة ..
ـ شعبنا أجبن من أن يقول للحاكم : يا سلطان عيبك بان ..
ـ ستمر كغيرها من الكوارث والمصائب ، وسيظل الريح يعبث في نوافذنا
وحده ظل صامتا ، وقد تذكر مها وقد ذاب جسدها ونحل شعرها ، وغادرت العينين دمعاتٌ من لهب .. أحرقتهم جميعا ..
قصة قصيرة
محمد عبد المجيد الصاوي ـ غزة / فلسطين
يوم الجمعة ، استيقظ على صوت الساحرة ندى :
ـ أبتي : قم طعام الإفطار جاهز والكل ينتظرك .
نظر إليها كأنه لم يرها منذ أمد ، كانت بالفعل ساحرة بعذوبة صوتها ، وبطفولتها التي يشفق عليها من مدلهمات زمانه .
عادت به رحى العمر إلى مرارات طالما كان فيها ( جبل المحامل ) إلى طفولته حيث مخيم الشاطئ وسنوات الكفاح منذ سن العاشرة ، إلى شبابه وقد انتقل بأسرته التي كانت حينها مكونة من زوجته وبكره إسماعيل ، إلى حي الشيخ رضوان ، حيث رحلة العمل في الداخل المحتل ، وإنشاء البيت الذي أخذ منه أشواطا ، وبدء انتفاضة الحجارة ، ثم تفرع شجرته إلى أغصانها العشرة ، لم يهنأ خلال أربعين عاما بغير لذة العمل والمثابرة عليه ، اتخذ مهنة القصارة حرفة له ، رغم شقائها وخطرها المستقبلي ، لكنها كانت تدر عليه دخلا وفيرا ، استطاع بحرص زوجته ( أم إسماعيل ) وبتدبيرها ووفائها وحبها الخالد له أن يكون شامخ الرأس في عائلته ومحيطه ، فقد عمل مقاولا لحسابه الخاص ، كان المال يتدفق بين يديه ، ولم يكن كغيره من عمال الداخل ( يشعتر ويبعتر ) بل كان هناك جدول صارم للمدخولات والمدفوعات .
اشترى قطعة أرض ارتفع ثمنها لضعفين ، وامتلك سيارة خاصة ، وبنى طابقين ، وازدهرت الأيام ..
توقف العمل في الداخل وأجدبت سنوات الغيث المنهمر ، وكان الأبناء قد كبروا ، ووصل أربعة منهم إلى مرحلة التعليم العالي ، لم يركن ليوم يقضيه هملا بلا عمل ، باع السيارة الخاصة واشترى سيارة أجرة ، وعمل سائقا ..
لم يضيِّعْ فرصة عمل طارئة ( بطالة ) إلا واغتنم ريعها الزهيد ، عمل صانعا في مهنته بعد أن كان مقاولا ..
مرضت ابنته ( مها ) بمرض عضال وهي في سن الخامسة عشر ، باع السيارة ، ثم قطعة الأرض ، ولم يدع مستشفى ولا بلدا إلا وحاول علاجها فيه ، رافقها في القدس المحتلة ، وفي القاهرة ، وفي استنبول ، وفي مدريد ، وهناك ..
أفاقت من غيبوبة طويلة بعد حقنة كيميائية ، لم تكن تتألم ، كانت تبتسم ابتسامة طير آن له أن يحلق .. وكزهرة برية ضاع شذاها :
ـ بابا .. أنا كنت أحلم أن أكون كوفاء إدريس وريم الرياشي .. إنهن ينتظرنني ، فلا تبكِ يا حبيبة العمر ..
ونطقت بالشهادتين .. أسبل الجفنين الناعسين ، ولم يستطع أن يفي بوعده بألا يبكي ، بكى دموع عمر بأكمله ، التف حوله الأطباء الألمان ، يقدمون ما استطاعوا ..
كان قد حلت في البيت خيمة حزن ، برحت به طويلا ..
بعد شهرين ، أعلن أن الحزن قد دفعت ضريبته ، وأصدر أوامره :
ـ بإذن الله لن نقضي العمر حزنا ..
ـ هيثم ستتقدم لامتحانات الثانوية العامة بعد ثلاثة شهور .
ـ إسماعيل .. لن تؤجل الفصل النهائي الذي تبقى لك ، وسنحتفل بتخرجك في الصيف .
ـ هدى سيتم زواجك وستنهين الدبلوم ..
ـ وأنا سأعمل سائقا على سيارة ( أبو محمد ) .
ـ محمود ستحصل على رخصة السواقة التي تأخرت في إتمامها ، وسنتناوب العمل على السيارة .
مضت الخطة بحذافيرها ، وابتسموا كي يبتسم الزمن ، وكي تقر ( مها ) عينا .
لم يضع حركة العمران النشطة في القطاع هدرا ، عاد ليعمل مقاولا في القصارة ، وهذه المرة كان أبناؤه هم سواعده ، فإسماعيل لم يركن لوظيفة يقضي العمر في الحصول عليها ، وهيثم ومحمود لن يبيتا كالتوافه من أبناء الجيل ، كانوا جميعا ، وكما عُودوا رجالا شدادا .
عملوا وكان باسل وأحمد في الإجازات يشدون الأزر معهم ويتشربون الصنعة ، أنهى إسماعيل وهيثم تجهيز شقتيهما ، وتزوجا في عرس غسل عن البيت والأصدقاء والعائلة والأحباب والجيران أتراحا ثقالا ، وهموما راسيات .
كانت ديمة قد حضرت لتعيد مع ندى ترتيب الغرفة ، وكان ( أبو إسماعيل ) قد عاد من رحلته وأزاح السيارة ، ليشاهد زخات المطر وقد صاحبها صخب طالما هامت به الروح .
هتفت ديمة بصوت أنثوي يشق طريقه ..
أبتي : ماما تنادي ، هيا ..
رمقهما بنظرة غاضبة حاول تصنعها :
ـ قادم ، حتى في يوم الإجازة تحرمونني من ساعة نوم ، أمر إلى الله أوكلته .
إسماعيل فاق على صوت زوجته التي عودته أن تفجر قنابلها الاستفزازية بمجرد أن تبصر عيناه الدنيا :
ـ قم يا مدلل والديك ، الأسرة الملكية تنتظر ولي العهد كي يتقاسم معها طعامها الملوكي .
جحدها بنظرة فيها بقايا من صبر .
تحلقوا حول المائدة ، يلتهمون ما كدت الأم وبناتها وزوجتا أبنيها طوال ساعة في إعداده ، والكل ينتظر الأب ليعطيهم شرارة الحديث ، وفجأة تغيرت ملامح محمود فقد وصلته رسالة على جواله من إحدى وكالات الأنباء :
مصرع عائلة مكونة من سبعة أفراد ، قضت حرقا ، وقد تفحمت جثثهم .. والمعلومات الأولية تؤكد أن سبب الحريق شمعة اشتعلت ..
توقفت اللقيمات في أفواههم ..
علاهم حزن ..
امتلأت نفوسهم حنقا وغيظا ..
تفجرت أعماقهم لعنة وغضبا ..
بدأوا حديثا تعسر ..
ـ دماؤهم في رقاب الشعب الساكت الصامت العابث ..
ـ وماذا تريد من الناس أن يخرجوا بثورة ..
ـ شعبنا أجبن من أن يقول للحاكم : يا سلطان عيبك بان ..
ـ ستمر كغيرها من الكوارث والمصائب ، وسيظل الريح يعبث في نوافذنا
وحده ظل صامتا ، وقد تذكر مها وقد ذاب جسدها ونحل شعرها ، وغادرت العينين دمعاتٌ من لهب .. أحرقتهم جميعا ..