تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العائد (قصة قصيرة)



بوزيد مولود الغلى
31-05-2013, 12:53 AM
كانت الريح تعوي والشمس تخفي وجهها الذهبي شيئا فشيئا خلف التلّة القريبة ، وطّئت له الفراش ودثّرته بقطيفة ثم خرجت . قالت في نفسها : لن يستفيق حتى أعود !. عاجت على حطبٍ تلملمه ، والبرد الشديد يلسع وجهها الأسمر الذي حفر الزمن على ناصيته أخاديد لا تخطؤها العين .
نهض من غفوته ، تحسس ما حوله . "مهراز ُ" ، لوح خشبي ، قطيفة ، و أشياء أُخَر . صرخ في وجه الليل المنسدل قطعا تغشى وجهه : أين أنا ، أين أنا ؟ أينكم ؟ أينكم؟. لم تجبه سوى بنت الجبل : أي ن ك م !
هام على وجهه ، تارة يبكي وتارة يصرخ باسمها علّها تسمعه عن بُعد .
أطبق الليل حلكته . حزمت حطَبها. ألقته على ظهرها . انطلقت تحثُّ الخطى كأن أحدا يتعقبها . وصلت إلى باب الخباء . ألقت حِملها قرب الموقد الطيني . ولجت إلى حيث تركته راقدا . لم تسمع غطيطه المعهود . ارتعشت يداها الرقيقتان وهي تنزع عنه الغطاء . أطلقت صرخة تردد صداها في المكان .
صاحت وهي تندب حظها : زيد ! اينك ؟ زيد !.اينَك ! لقد ضيعتك ! ، ليتني لم أتركك وحيدا ! .
أدخلت رجليها في العين القريبة غير آبهة ببرودة مائها ، قلبّت ، فتشت بيديها ورجليها .بلل الماء ملحفها المنسدل إلى ما دون كعبيها واختلط بالطين اللزج المترسب في قعر العين . أطرقت قليلا وأصاخت بأذنيها جيدا علّها تسمع غرغرة غريق ! .
ظل الصمت المريب مطبقا . دارت في رأسها فكرة ثم سالت على لسانها : زيد ، إذا مشى أسرع وهو آمن ، فكيف به وهو جزع هلِع مستوحش في جوف هذا الليل البهيم .
انطلقت إلى أقرب مدشر . وافته بعد صلاة العشاء . سألت كل من ألفته في طريقها الى " ثكنة" العسكر حيث يعمل عمه . نودي عليه . جاء متلثما بعمامته التي لا تفارق صلعته . بادرها بالسؤال : أين زوجك ؟ من تركت خلفك. أجابت : غائب في " العزيب" ، جئتك مستغيثة : زيد خرج ، ولم يعد . أجاب بصوت حزين يملؤه الأسى : تاه في الصحراء؟ أوه! أوه!.
تأبط قربة ماء . سار في اتجاه القبلة وهي تتبعه . نادى على رجلين من القبيلة . انطلقوا في الفلاة متفرقين . قضوا ليلتهم باحثين كمن يبحث عن إبرة في نهر هادر موّار.
ضربوا في البيداء ما وسعتهم حالهم وما أسعفتهم أقدامهم. استبد بهم العياء . قرروا عند مطلع الشمس أن يفيئوا إلى الخباء . كأنما أصبحوا على قنوط من نجدته! .
أطفئوا نار الجوع بكسرة خبز و كأس شاي . امتشقت قربة ماء ودهن ماعز قليل . تفرقوا كالسهام مسرعين في كل الجهات ، بالكاد يبصر الواحد منهم صاحبه. بدأ سويلم الحرّ يعلّم كل طريق سلكوه بصُوّة أو ركام من الحجر . ناداها من بعيد . أثلج صدرها نداؤه . ظنّته قد عثر عليه . جاءته مسرعة . كشّر حتى بدت رباعيته المفقودة وقال : لقد أمسى حيّا ، وأصبح حيّا بفضل الله .
كيف عرفت ؟ قالت وقد خالط أساها بعضُ الفرح.أشار بعصاه إلى أثر هوام الليل المرتسمة على الرمل و قال : هذه البطحاء خبّرتني . هنا أثره . لقد فقَد فردة نعله وبقي منتعلا الفردة الأخرى . هاهنا يظهر موطئ قدمه قد علا أثر هوام الليل! .
سارت على الخطى التي علّمها الرجل الماهر . و على مرمى بصر ، حث الآخرون خطاهم و أشعةُ الشمس تلسعهم . لم يظفروا بشيء وقد أصابهم رهَق وعطش . نفذ ما تأبطوه من ماء قليل . استعطفها العم أن تطفئ ظمأه بقطرة ماء . نهرته قائلة : ويلي ! إن سقيتك ووجدته على شفا الموت ، بم استنقذه من الهلَكة !. تصبّرْ قليلا ، فان لم تستطع فارجع.
همّ بالنكوص على عقبه . تذكر قوانين القبيلة . غمغم :" السالف يسبق اللحية" في الخير والشر. امتشق ما تبقى من صبر في صدره . تلمّظ . لحس ما تبقى من ريق لم ينشف على شفتيه . تابع سيره و قد تثاقلت خطاه !. أمّا هي فقد ضمت إلى صدرها بحنو ما ضنّت به عليه من جرعة . ولّت وجهها شطر الوادي الناشف . خبّت خببا غير مسبوق . نظرت بلهفة إلى آثار آدمي تمرّغ في الرمل الذي يغزو جنبات الوادي القاحل . قبضتْ قبضة من الرمل و اشتمت رائحتها . كأنما تحسست روْحه.
سارت قليلا على جانب العدوة اليسرى للوادي و قلبُها يعزف مقطوعة الأسف . أحست بنوبة بكاء و بحاجة غريبة لترديد أغنية عبد الحليم حافظ : يا ولدي قد مات شهيدا !. قمعت مشاعرها اليائسة البائسة ، و تململت شفتاها : ربك كريم! .
مدّت بصرها إلى العدوة القصوى للوادي . لاح لها " خيالُه " . هرولت . لم تصدق رؤيته . قالت : مات !. سمع صوتها فحرّك حاجبه الأيمن .صاحت بأعلى صوتها : وليْدي حي! . وليْدي حي! . تلقفته بين ذراعيها و ضمته إلى صدرها . قطرةً قطرةً بدأت تبلّ حلقه.

د. محمد حسن السمان
31-05-2013, 07:24 AM
الأخ الفاضل الأديب القاص بوزيد مولود الغلى
كنت هنا قارئا متابعا , وأسجّل إعجابي بقوة , أعجبت جدا بتقنية الدخول للحدث , وفتح التفكير والخيال
على كل الاحتمالات والرؤى , وحتى النسج التفصيلي , كرّس التوتر بترقب كل الاحتمالات , مع حركات
نفسية وزركشات مجتمعية , والنهاية موفقة جدا , ومما أثار إعجابي اللغة الراقية التي جاء بها العمل .
تقبل تقديري واحترامي .

د. محمد حسن السمان

بوزيد مولود الغلى
31-05-2013, 11:14 AM
د. محمد حسن السمان . سعيد جدا بقراءتك للنص وباطرائك الجميل . حيّاك و بياّاك وأسعد أيامك.

ناديه محمد الجابي
31-05-2013, 06:28 PM
الصحراء .. فضاء رحب واسع يتسع للحكاية الأسطورية, فالصحراء عالم جذاب
ولها صور تخيلية خصبة, فهي بحر من التيه.. تلعب فيه الطبيعة الصعبة من رياح
وصخور ومطر وسيول وشمس حارقة وسقيع مميت, وضباب وحرارة وندرة في الماء
إنه الصراع بين بين الإنسان والطبيعة ـ والكتابة عن كل هذا يكون خليطا من الخيال والواقع.
و( العائد) نموذج للكتابة عن الصحراء وأهلها , بأسلوب رائع وسرد جذاب مشوق ولغة متينة
أنيقة ووصف لحياة أهل الصحراء .. فنجد في قطرات الماء .. الحياة ـ وفي كسرة الخبز وكأس
الشاي الطعام ـ وفي الآثار على الرمال علامات تنبئ فراستهم بتحركات من يبحثون عنه
وفي النهاية كان العثور على ولدها الضائع مسك لختام لقصة ممتعة بكل المقاييس.
فقط ملحوظة بسيطة .. بدت أغنية عبد الحليم حافظ هنا نغمة نشاز وسط سيمفونية
الصحراء الرائعة التي كتبت.
الأخ/ بو زيد مولود الغلي
نص رائع وقصة أدبية متميزة ومعالجة ذكية
استمتعت بكل كلمة فيها فشكرا لك ولقلمك .

براءة الجودي
31-05-2013, 11:16 PM
لاأعلم لماذا عندما قرأتُ هذه القصة تخيلتُ امامي المسلسلات البدوية
قصة اسلوبها جميل حقًّا , وسبحان الله أهل البادية لديهم شجاعة نادرة وشهامة رائعة ومهارة حاذقة في الدقة ودليل الأماكن , أليس الصحراء تعلمنا الصبر ؟
والأم هي مثال التضيحة صبرت واحتاطت لابنها بأن احتفظت له قطرات ماء لعله يكون حيًّا فتستطيع إنقاذه إن شاءالله
تحاياي

ربيحة الرفاعي
13-08-2013, 01:43 AM
بيئة قاسية وظروف معيشية تداني المستحيل، وحادثة في الصحراء ميدانها أوسع من حدود الصورة، لكن الكاتب نجح في تجميعها داخل إطارها في سرد قصي بالغ التشويق وبلغة رائعة ماتعة وأداء توصيفي للتفاصيل بديع

جميل ما قرأت هنا أديبنا
لا حرمك البهاء

تحاياي

نداء غريب صبري
31-08-2013, 03:20 PM
الأمومة محور القصة الأول
والبادية مكانها
والخوف والقلق عنوانها
قصة من البادية تصف ظروفا قاسية وحياة صعبة بأسلوب جميل جدا

شكرا لك أخي

بوركت

عمر الحجار
31-08-2013, 04:06 PM
قصة رائعة السرد واللغة

كحكاية الطارقي الذي يبحث عن وطن وام وحبيب في الصحراء المقفرة فيجد نفسه بنفسه


جميل ورائع

سلوى سعد
31-08-2013, 07:37 PM
قصة ممتعة جدا ورائعة
شكرا لك أخي

د. سمير العمري
21-09-2013, 04:20 PM
قصة إنسانية مميزة الطرح بلغة راقية وأسلوب متين وهوامل قص متاحة ومتقنة ولعة تستحق الإشادة.
باختصار ... وجدت هنا قصة أدبية ووجدت قاصا متمكنا.

تقديري

آمال المصري
15-02-2015, 11:34 PM
وصف دقيق لحياة البادية وأجواء الصحراء بكل تفاصيلها وصفات ساكنيها
ولغة أنيقة ملكت بها جذب المتلقي حد الانبهار .. وتصوير دقيق لحالة أمومة لم تمل البحث عن وليدها وادخار سر الحياة أملا في عودته كما جاء في النهاية التي جعلتنا نتنفس معها الصعداء
عمل قصصي أدبي مائز أديبنا الفاضل
بوركت واليراع المبدعة
تحاياي

خلود محمد جمعة
18-02-2015, 08:13 AM
بصور وتراكيب ووصف جميل غزلت قصتك بمهارة وبإسلوب متسارع ومشوق من البداية ثم الحبكة الى نهاية ايجابية
اسجل اعجابي
بوركت وكل التقدير

كاملة بدارنه
19-02-2015, 08:45 PM
بحالة من التّرقب يبقى القارئ ممسكا بخيوط السّرد حتّى النّهاية المؤثّرة جدّا
لغة جاذبة وحبكة قويّة، وتصوير للمكان بكاميرا فنّان
بوركت
تقديري وتحيّتي

سحر أحمد سمير
12-03-2015, 05:44 PM
رائع و أكثر أستاذ بوزيد ..

دمت بهذا الألق..

تحاياي