المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صدق الكلمة



عبد الرحيم صادقي
03-06-2013, 10:16 PM
كانت كلمات الشيخ إمام تلامس شَغاف قلبه. كان يضع شريطا متهالكا في مسجّلة متهالكة وقد أحكم إغلاق الباب والنافذة، ثم يخفض الصوت ويترنم مع الشيخ وهو يشدو:
غابة كْلابها ذيابَه
نازلين في الناس هَم
غابة وناسها غَلابه
خِيخه لا نابْ ولا فم
وتزلزله كلماته وهو يصدح:
شيّدْ قصورك عَ المزارع
مِن كدّنا وعمل إيدينا
والخمارات جنب المصانع
والسجن مطرح الجنينة
كان إمام عيسى الفارسَ المحبوب في دنيا الناس تلك، وما زاده الحظر غير حُبّ، ولا التضييق غير رفعة. ومَن ذا لا يَذكر "حطّه يا بطّه" و"مرمر زماني" و"أنا الأديب وأنتم أدرى" و"مسافر.. مسافر" و"بقرة حاحا" و"أنا الشعب ماشي" و"وهبت عمري للأمل"؟ آه يا سليمان، لقد كدتُ أنساك! باءَ بدمِك الغَدور، ودمُك وحده يُنزِل القصاص بمن صرّح كما يصرِّح الحقّ عن مَحْضه حين بلَغتْه شهامتُك "أنه في غاية الخجل". لكن هيهات! فماذا حين يحاكِم اللّكعُ اللكع؟ لكِ الله يا مصر! وكان بعض العزاء في سماع الرثاء، وأبدع محمود الطويل، فلله درّ الشاعر! ثم صدح الشادي:
وآخر كتابي أيا مُهجتي
أمانة ما يمشي وَرا جُثتي
سوى المتهمين بالوطن تهمتي
فداك بدماي اللي شاغلة الخواطر بطول الزمان.
وقُتل سليمان وهو يقول لأجنادِ الكنانة بثقة أولي العزم: "اذهبوا واحرسوا سيناء! سليمان لا يريد حراسة".
ولقد كنتَ تطلب نسخةَ شريطٍ رديء التسجيل بثمنٍ غالٍ ولا تجده، وكوكبُ الشرق تباع بثمن بخس. ولم يكن يضاهي الشيخَ حينها إلا شيخ آخر، ذلك هو عبد الحميد كشك رحمة الله عليه. ومع أن الأول فنان والآخر عالم دين، فقد اجتمعا على قول الحق بلا لفّ ولا دوران. ربما لم يكن يعلم أكثر المحبين أن المغناطيس الذي يملكانه ليس سوى الصدق. الله! ما أجمل الصدق! وما أروع الوضوح! ما أعظم أن يقال للأبيض أبيض، وللأسود أسود! وَلْيَهِمْ بالرّمادي عُشّاقه حبا! الصدق هو ما يفتقده سياسيّونا وعلماؤنا وكُتابنا وأدباؤنا وشعراؤنا وحكامنا وصحافيونا... لقد استمرأ هؤلاء النفاق وغرقوا في وحَل الميْن والزور. كنتَ حين تسمع الشيخ يصدح: "هنا مدرسة محمد" ينتصب شعر رأسك وأنت لا تدري لِم. لكنه الصدق وفعلُه في الأنفس. ثم أتى على الناس حين من الدهر أصبحتَ ترى فيه أشرطة الشيخ تباع على الأرصفة والناس فيها من الزاهدين. ولو استمعوا إليها لما حركت فيهم ساكنا ولا رفعت همّة، لأن صدق الملقي خانه صدق المتلقي. وأنّى للغيث أن يُنتفع به وقد أصاب الجلاميد؟
يَذكر اليوم دخولَ المعلم قاعةَ الدرس ذات شتاء، وكانت القاعدة أن يقف التلاميذ للداخل احتراما، فوقفوا جميعهم ولم يقف. وكان قد قرأ حديثا -الله أعلم بصحته- في اليومية العصرية "لبوعياد"، يوم كانت اليومية مصدر ثقافة، فلا إنترنيت ولا فيس بوك، وعلى الكتاب هالة قداسة. يقول الحديث: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتوكِّئًا على عصًا فقُمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعظِّمُ بعضُها بعضا". كان حينها ابن عشرة أعوام. سأله معلم الفرنسية: "tu es fatigué Mr Marwan?!"، فأجابه:
"non Mr, je suis malade".
لم يعلم حينها أن سبب المرض انفصامٌ بين الحلم والواقع. لكنه أقنع نفسه بالوقوف احتراما للمعلم لا تعظيما حين درس المفعول لأجله. وبقي في النفس شيء من أنفة وعزة. يَذكر الآن وقد اشتعل الرأس شيبا ذلك الطفلَ وعزّته الطفولية، متأمّلا تلكم الخشب المسندة وهي تقبّل يد الحاكم بهواه، وتهوي راكعة أمام جسد من طين. ثم بدا لرُوح هائمة أن تسأل: أرُكوع احترام هو أم تعظيم؟!
:002:

فاطمه عبد القادر
04-06-2013, 12:39 PM
ربما لم يكن يعلم أكثر المحبين أن المغناطيس الذي يملكانه ليس سوى الصدق. الله! ما أجمل الصدق! وما أروع الوضوح! ما أعظم أن يقال للأبيض أبيض، وللأسود أسود! وَلْيَهِمْ بالرّمادي عُشّاقه حبا! الصدق هو ما يفتقده سياسيّونا وعلماؤنا وكُتابنا وأدباؤنا وشعراؤنا

السلام عليكم
كان النص رائعا ممتعا متين المتن
واللغة قوية جميلة
طبعا أخي الصدق هو الأروع, والوضوح دائما مريح
ورغم هذا الإعلام الهائل ما زلنا نفتقد لهذا الصدق والوضوح
شكرا لك
ماسة

ربيحة الرفاعي
23-06-2013, 11:15 AM
ثم أتى على الناس حين من الدهر أصبحتَ ترى فيه أشرطة الشيخ تباع على الأرصفة والناس فيها من الزاهدين. ولو استمعوا إليها لما حركت فيهم ساكنا ولا رفعت همّة، لأن صدق الملقي خانه صدق المتلقي. وأنّى للغيث أن يُنتفع به وقد أصاب الجلاميد؟
***
لم يعلم حينها أن سبب المرض انفصامٌ بين الحلم والواقع. لكنه أقنع نفسه بالوقوف احتراما للمعلم لا تعظيما حين درس المفعول لأجله.

لم تثن الفتى ابن العاشرة عزّته الطفولية عن أن يقدم لمدرسه تبريرا بـــ " انا مريض" ، لكنها حثته على البحث عن تبرير يقدمه لنفسه لينخرط في الواقع، فأقنعها مستعينا بدرس المفعول لأجله أن الوقوف للمدرس احترام، ولم يسألها " أما كان سيد الخلق جديرا بالاحترام يوم نهاهم عن الوقوف؟"

تنقضي اعمارنا في دوامة من الأسئلة والتبريرات لنتمكن من المواصلة، فطوبى لحرف يغوص بكل هذا الذكاء في أعماق قسوة ذلك، مخففا عن القلب ثقل الهزيمة فيه
نص بديع حسبي منه ما ارتشفت من شهد عمق الفكرة في جميل الحرف

تحاياي

عبد الرحيم صادقي
23-06-2013, 08:09 PM
السلام عليكم

طبعا أخي الصدق هو الأروع, والوضوح دائما مريح
ورغم هذا الإعلام الهائل ما زلنا نفتقد لهذا الصدق والوضوح
شكرا لك
ماسة

وعليكم السلام ورحمة الله ماسة
كما كان للإعلام في بيان الحقائق فضل
فإنه رتع في الكذب والتزوير أيضا
بوركت أيتها الكريمة
تحياتي

عبد الرحيم صادقي
23-06-2013, 08:15 PM
لم تثن الفتى ابن العاشرة عزّته الطفولية عن أن يقدم لمدرسه تبريرا بـــ " انا مريض" ، لكنها حثته على البحث عن تبرير يقدمه لنفسه لينخرط في الواقع، فأقنعها مستعينا بدرس المفعول لأجله أن الوقوف للمدرس احترام، ولم يسألها " أما كان سيد الخلق جديرا بالاحترام يوم نهاهم عن الوقوف؟"
تنقضي اعمارنا في دوامة من الأسئلة والتبريرات لنتمكن من المواصلة، فطوبى لحرف يغوص بكل هذا الذكاء في أعماق قسوة ذلك، مخففا عن القلب ثقل الهزيمة فيه
تحاياي

وما أجمله من غوص ونقد
لا يقوم به إلا أهله
وأنتِ له لا ريب.
كل التحية والتقدير

كاملة بدارنه
24-06-2013, 06:03 PM
ربما لم يكن يعلم أكثر المحبين أن المغناطيس الذي يملكانه ليس سوى الصدق. الله! ما أجمل الصدق! وما أروع الوضوح! ما أعظم أن يقال للأبيض أبيض، وللأسود أسود! وَلْيَهِمْ بالرّمادي عُشّاقه حبا!
الصّدق أضواء تبدّد عتمة الكذب، وتنير فوانيس الأمان
بوركت الكلمة الصّادقة الهادفة
تقديري وتحيّتي

عبد الرحيم صادقي
25-06-2013, 02:04 AM
الصّدق أضواء تبدّد عتمة الكذب، وتنير فوانيس الأمان


بورك الحرف البهيّ
والقول الحكيم.

خليل حلاوجي
25-06-2013, 07:42 AM
تلكم الخشب المسندة وهي تقبّل يد الحاكم بهواه، وتهوي راكعة أمام جسد من طين.





هنا تبدأ اللحظة الحاسمة للتخلص من عبودية وصنمية لم تزل تتحكم في قرارنا المستقبلي ..







لك الورد عاطرًا ...

نسرين بن لكحل
25-06-2013, 01:02 PM
كم نحن فقراء للصدق مع أنفسنا قبل غيرنا في زمننا الحالي ..صدق الملقي و المتلّقي و صدق الرسالة ..حين نصطدم بما لم يوافق ما جبلنا عليه،نضطر لتزييف أفكارنا كي نلبسها ثويا يليق بواقعنا،مسايرة لا انسجاما ..فنبرّر كثيرا من الأمور حفاظا على اتزاننا النفسي و تماشيا مع غيرنا..غير أنّ الصدق مع النفس أنجى .
نصك رائع لغة و مضمونا،وهادف الفكرة و بديع الحرف .
تحيّتي ..

نداء غريب صبري
16-07-2013, 06:11 PM
أخي الكاتب الكبير عبد الرحيم الصادقي

شهادتي في أدبك مجروحة
ولكني لا أستطيع أن أمر دون تصفيق

شكرا لك

بوركت

فاتن دراوشة
18-07-2013, 09:05 AM
ما نراه من وقوف وانحناء أمّام الطّغاة أسهل وطأة يا أخي

فالمشكلة الفعليّة تقع في ذلك السّجود والإيمان الفكريّ بإله يقبع في صومعة الفكر الأمريكيّ والغربيّ

ليتنا نحرّر أفكار أبناء أمّتنا من تلك الوثنيّة الفكريّة

كلمات أصابت العمق

دام ألق حرفك مبدعنا

مودّتي

عبد الرحيم صادقي
13-09-2013, 03:30 AM
هنا تبدأ اللحظة الحاسمة للتخلص من عبودية وصنمية لم تزل تتحكم في قرارنا المستقبلي ..
لك الورد عاطرًا ...

ما أجمل وردك أيها الكريم!
بارك الله فيك
وهدية بهدية
:0014:

عبد الرحيم صادقي
13-09-2013, 03:34 AM
نبرّر كثيرا من الأمور حفاظا على اتزاننا النفسي و تماشيا مع غيرنا..غير أنّ الصدق مع النفس أنجى .

[/SIZE]
الصدق مع النفس أنجى
وأسلم وأحكم
بوركت نسرين ودامت لك المسرات

عبد الرحيم صادقي
13-09-2013, 03:38 AM
شهادتي في أدبك مجروحة
ولكني لا أستطيع أن أمر دون تصفيق


بل هي أصالتك ودماثة خلقك
وأنا أصفق لهذه الروح
:nj:

عبد الرحيم صادقي
13-09-2013, 03:41 AM
ليتنا نحرّر أفكار أبناء أمّتنا من تلك الوثنيّة الفكريّة



نحتاج ثقة بالنفس وكفّا عن التشكيك في كل جميل لدينا.
فعلا، ليتنا نفعل.
كوني بخير وعافية أختي فاتن

د. سمير العمري
15-09-2013, 07:26 PM
نص عميق الدلالة حكيم الرؤية والوعي بما أصبح عليه الحال من سوء مآل.
ر اق لي من النص الكثير من الطرح اللغوي والفلسفي ، ولعل مضمون ما جاء هو ما يحدونا لحمل رسالتنا الناهضة في إحياء موات الأمة بثورة أخلاقية.
لا فض فوك!

تقديري

عبد الرحيم صادقي
22-09-2013, 01:16 AM
ر اق لي من النص الكثير من الطرح اللغوي والفلسفي ، ولعل مضمون ما جاء هو ما يحدونا لحمل رسالتنا الناهضة في إحياء موات الأمة بثورة أخلاقية.
لا فض فوك!
تقديري

هو ذاك أيها الشاعر المفلق
لا بد من المضي على مشقة الطريق وبعد السفر
لكن العاقبة للعظماء.
دمت ودام دفعك!
لك أطيب التحيات.

ناديه محمد الجابي
08-02-2022, 07:53 PM
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ}

الصدق هو قارب النجاة في الدنيا والآخرة لأنّ الصدق طريق الخير، ويُساعد في إحقاق الحق وعدم ضياعه،
وهو الطريق المؤدّي للانتصار على الشرـ الصدق مفتاح جميع الأخلاق وأساسها،
ولا يُمكن للإنسان أن يكون كامل الأخلاق دون أن يكون صادقًا.
قلم يسافر في وجدان القارئ بكل الصدق والفن والجمال.
تحياتي وتقديري.
:010::0014::wow: