مشاهدة النسخة كاملة : رواية أنستاسيا ..مصافحة ثانية ..
عبدالغني خلف الله
01-09-2013, 05:25 PM
سم الله الرحمن الرحيم
انستاسيا ..وردة الهزيع الأخير ..رواية
مصافحة ثانية في إهداء خاص لكل الرائعين والرائعات الذين التحقوا بنا هذا العام
عبدالغني خلف الله
أويس .... نعم؟! إسمك مرة أخري يا ولد ..إسمي أويس مرغني الفاضل .. واضح .. هيا أجلس . .بعده .. كان ذلك أول سؤال أتلقاه وأنا أخطو أولي خطواتي بالمدرسة الابتدائية .. جاري في الفصل همس في أذني بلطف لا يشبه السن التي نحن بها قائلاً .. منو السماك كده .؟. أبوي طبعاً .. وده اسم شنو ؟ .. في الواقع لم أكن أعرف الإجابة .. وعند عودتي لمنزلنا لم يكن والدي قد حضر من العمل .. فهو ضابط إداري .. فتوجهت بالسؤال لوالدتي .. ماما .. ماما.. ما معني أويس؟! أويس .. إنتظر لما بابا يرجع ..انتظرت عودة والدي بفارغ الصبر وعندما هممت بسؤاله كلفني بحزمة من المهام .. ( دخّل الرغيف.. .. تلقي الجرايد في المقعد الخلفي وأمشي نادي أستاذ عبدو عشان اتغدي معانا) وكان ثمة ضباطاً آخرين في معيته ..وهكذا ضاعت عليّ فرصة التعرف علي كنه اسمي وبت مستعداً لسخرية زملائي .. ولكن ظل الفضول مسيطراً عليّ إلي أن حانت اللحظة المناسبة .. إذ دخل علينا أستاذ اللغة العربية فتوجهت إليه بالسؤال دون تردد .. أستاذ .. أستاذ .. ممكن أسألك سؤال ؟ .. طبعاً يا ابني تفضل .. أويس معناها شنو؟ .. أغلب الظن أن المقصود هو أويس القرني وله قصة معروفه فقد أوصي الرسول صلوات الله وسلامه عليه أصحابه بأن يطلبوا من أويس هذا أن يدعو الله لهم كلما لقوه .. لأن دعوته مستجابة وهو من عباد الله الشاكرين علي الابتلاء مثل سيدنا أيوب عليه السلام .. فهمتوا المعني يا أولاد ؟ .. فهمنا .. ومن ثمّ واصل الحصة ومذ ذاك الحين وأنا أمشي مشية الخيلاء بين التلاميذ وتناقل الجميع قصة اسمي وتنازل لي الألفة طواعية عن موقعه وانهالت علي الهدايا من زملائي بالفصل .
أويس..؟ .how do you spell it كيف تتهجاه ؟ أنستاسيا .. وقد راق لها الاسم .. هل يمكن أن أكتبه (oh ..Yes? ) .. بالطبع ولم لا ..( سباسيبا ) .. لا شكر علي واجب ..
أنستاسيا ..أنستاسيا .. مهرة آسيوية من الزمن الجميل تمتلئ حيوية وسحراً ..تركض من غرفتها حتى الكافتيريا وتركض من الكافتيريا حتى قاعة المحاضرات وتركض من قاعة المحاضرات حتى نزل الطالبات ..فهي في حالة ركض مستمر ..أحياناً تركض في الميادين الفسيحة بالجامعة في زمهرير الشتاء لا تأبه بالرياح العاصفة والمطر ..لم تركضين هكذا يا قمري ودوائي في هذه البلاد الثلجية المذاق ؟.. أنستاسيا كفاك ركضاً فأنا أريدك في أمر هام .. قله لي وأنت تركض بجانبي ..أريد أن أعترف لك بأنني .. بأنني .. تكلم فأنا مصغية لك .. ( يالوبلو تيبيا) .. ماذا قلت ؟ الرياح قوية وأنا لا أسمعك جيداً ..لا بأس عندما تكملين هذا الشوط انضمي لي بالكافتيريا ..لأقول لك ..أحبك يا ( أنّا ) ..بكل لغات الدنيا ..فقط أحبك وليتك تفهمين ؟
***
براءة الجودي
01-09-2013, 08:38 PM
أعجبتني طريقتك الممتعة في سرد القصة وهي تعلم الطفل أن لايخجل من اسمه مهما كان غريبا فلربما يكون له معنى جميلا أو اسما لصاحبي او رجلا صالح كهذا , ومن الجميل أن تكون الأم تعرف معنى أسماء أولاد ها وتحكي وتربط الاسم أسماء الأبطال والصالحين والناجحين وأهل الخير من المسلمين للحث والتحفيز وهذا له أثر كبير في النفسية , النهاية لم افهم منها المراد
ولرما أرى القصة تناسب أدب الطفل والله أعلم
تقديري
عبدالغني خلف الله
02-09-2013, 07:15 AM
أعجبتني طريقتك الممتعة في سرد القصة وهي تعلم الطفل أن لايخجل من اسمه مهما كان غريبا فلربما يكون له معنى جميلا أو اسما لصاحبي او رجلا صالح كهذا , ومن الجميل أن تكون الأم تعرف معنى أسماء أولاد ها وتحكي وتربط الاسم أسماء الأبطال والصالحين والناجحين وأهل الخير من المسلمين للحث والتحفيز وهذا له أثر كبير في النفسية , النهاية لم افهم منها المراد
ولرما أرى القصة تناسب أدب الطفل والله أعلم
تقديري
صباحات الجمال والإشراق عزيزتي براءة ..هو بالفعل اسم يصعب فهمه ..والأوس لغة هو الذئب وأويس هو جرو الذئب ..واللغة العربية بحر غريق ..اسعدني وجودك هنا وإليك وإلي الأعزاء بالواحة الحلقة الثانية .
عبدالغني خلف الله
02-09-2013, 07:18 AM
الحلقة الثانية
شتاء موسكو القاسي يمزق أوصاليّ ..فأنا لم أتمكن من دفع فاتورة التدفئة فقطعوا عني الغاز ..إن المصاريف لا تأتي من السودان بانتظام والكمبيوتر المتنفذ لا يفهم أن الناس في دول العالم الثالث يعانون من البيروقراطية لدرجة الجنون .. ولم تنجح الألحفة الكثيفة في كبح جماح الرياح العاتية التي تولول في الخارج ..وهاهو الكون يطرح جانباً ستر الظلام ويتهيأ لاستقبال يوم جديد ..
ارتديت ملابسي علي عجل وتوجهت نحو أقرب مقهىً لتناول قدحاً من الشاي إذ لم يكن بمقدوري صنعه بنفسي .. فكل شيء ب(الشقة) معطل .. كنت علي موعد مع أنستاسيا لأحدثها عن تأريخ المنطقة العربية وتاريخ السودان علي وجه الخصوص وقد لاحظت اهتمامها بالتاريخ ..ولم أدرِ وأنا أقطع المسافة من علي الرصيف الخالي من المارة .. أن أكثر من مفاجأة تنتظرني داخل المقهى .. لم أكترث لها في بادئ الأمر وأنا أخلع عني الجاكتة السوداء ذات الأزرار المدببه وأسلمها للنادل .. كانت تجلس في أقصى ركن بالمقهى وأمامها قدح من القهوة وهي تدخن .. سيدة في مقتبل العمر ذات ملامح لاتينية والأرجح أنها من البرازيل أو ربما كولومبيا .. كانت ساهمة ومهمومة لا تشعر بما يدور حولها تنفث الدخان من سيجارتها فينداح دوائر غامضة ترسم أنماطاً من الصور المبهمة ..وبدا وكأنها تتابع بنظراتها كل نفثة منذ أن تغادر فمها الرقيق وحتى مصافحتها لزجاج النافذة المبلل .. جلست بالقرب منها وأنا أرتجف من شدة البرد .. قلت لها صباح الخير ..ردت بإيماءة مترددة وأشاحت بوجهها عني لتراقب عبر الحاجز الزجاجي مجموعة من الصبية يتزحلقون علي الجليد بأحذيتهم ذات العجلات .. الناس هنا يتأقلمون مع كل الأجواء في سهولة ويسر أليس كذلك ؟! .. همست بهذه الملاحظة وأنا أوجه السؤال مباشرة نحو عينيها ..عينان زرقاوان فيهما عوالم من السحر غريبة .. وزاد الموقف غموضاً صوت المغني الذي ينداح عبر جهاز التسجيل ( إنني أبحر إلي وطني مرة أخري ..إنني أبحر ..) وصوت (رود ستيوارت) المفعم بالشجن يحاصرنا ..( لن أبكي أبداً بعد اليوم .. لن أبكي أبداً ) .. هي إذن لحظة مشاركة وجدانية لهموم الغربة بعيداً عن الوطن ..فعادت هي مباشرة إلي( بوقوتا ) وعدت أنا إلي (وادمدني ) وذكريات طفولتي هناك وإلي (رزان ) .. ولماذا رزان بالذات؟! ..كنا جيراناً ووالدها يعمل معلماً بالمدرسة الوسطي .. ولمّا كانت المدرسة التي تدرس بها في جوار مدرستي فقد طُلِب مني أن أقوم بتوصيلها كل يوم وإعادتها بعد نهاية اليوم الدراسي .. كانت لطيفه ولديها مقدرة فائقة علي سرد القصص المسلية عن والدها وأمها وإخوتها الصغار .. بيد أننا افترقنا بعد حين وتفرقت بنا السبل .. نقل والدها في بادئ الأمر ونقل والدي بعد فترة قصيرة من مغادرتهم .. بكت وهي تودعني وكنا وقتها قد صرنا في الصف الخامس .
إسمي أويس وأنا من أفريقيا من السودان وأدرس الطب بجامعة الصداقة .. وأنا من كولومبيا واسمي إيزابيلا وأمارس التجارة .. سعدت بمعرفتك ..وأنا أيضاً ..قالت ذلك وهي تلملم علبة سجائرها وأشيائها ..قمت بسرعة لإرجاع مقعدها للوراء قليلاً لأمّكنها من النهوض بيسر ..هل تحضرين عادة لل(هايسندا ) ؟ ..أحياناً .. طاب يومك .
ناديه محمد الجابي
02-09-2013, 10:10 PM
بدأت ملامح روايتك تتبلور وتجذبنا بسردها الماتع
نقلة كبيرة من السودان الحارة إلى روسيا وسقيعها
سأكون هنا متابعة بأهتمام وشغف
لك تحياتي.
عبدالغني خلف الله
03-09-2013, 06:39 AM
صباحات الصحة والعافية والتوفيق في حياتكم الخاصة والمهنية وأسعد كثيراً بهذه الرفقة الرائعة ..حفظك الله ومن حولك من كل سوء .
عبدالغني خلف الله
03-09-2013, 06:43 AM
الحلقة الثالثة
.. مرحباً انستاسيا.. لم أرك منذ الأمس ..لدي خبر سار لك وآخر مزعج بعض الشيء .. مزعج ؟ كيف ومتي وماهو ؟ .. وكنت قد تلقيت اتصالاً هاتفياً من الوالد يخبرني فيه أن صحة والدتي ليست علي ما يرام ..أصابني رعب حقيقي وتلاحقت أنفاسي في صعود وهبوط لدرجة الجنون .. أمي الحبيبة يا كم أحبها ..لقد وعدتها بأن أعود ومعي (بكلاريوس) الطب ووعدتها بأن أكون طبيبها الخاص حتى آخر يوم في العمر ..بيد أن ابتسامة انستاسيا الغامضة والتي تلمّح إلي عتاب حقيقي وكأنها تقول لي لقد كشفتك أيها المخادع قد أراحتني نوعاً ما .. لنبدأ بالخبر السار .. لقد قررت إدارة الجامعة منحك غرفة بالداخلية الغربية ..غرفه ؟!!! لي أنا ؟! ما أروعك يا أنستاسيا ..إذن لن يتحتم عليّ تمضية ليلة أخري بدون تدفئه ..أما الخبر الثاني يا مكّار .. لقد كشفك أحدهم وأنت تقبّل الطالبة الكشميرية مساء البارحة ..أنا أقبّل شاهنده ؟!! هذا ليس صحيحاً ..أقسم ..لا تقسم يا أويس ..هنالك سوء فهم قد وقع وعليّ تصويبه .. صوب كما تشاء ولكن الأمر لا يعنيني في شيء .. إنهم يعولون عليك كثيراً في الحزب وأنت قد حفظت ولا ريب قوانين الجامعة ..لا أعمال فاضحة داخل الحرم الجامعي أم لعلك نسيت يا صديقي ..؟ في الحزب ؟ نعم .. سمعتهم يقولون أثناء الاجتماع الأخير أن لديك (كارزما) غير عادية وميول فطرية نحو الفكر الاشتراكي من خلال مراقبتهم لسلوكياتك طوال العامين المنصرمين ومنذ انطلاقة هذا العام .. ويتوقعون لك مستقبلاً باهراً في عالم السياسة عندما تعود لبلدك السودان ..إذن لقد كنتِ هناك ؟ .. بالطبع .. وأنتِ من أوجد لي الغرفة بالداخلية ؟ ..ماذا تظن أنت ؟..ألم أقل لك أكثر من مرة بأنك أغلي شيء أنتجته روسيا عبر قرون .. شكراً .. شكراً .. والآن دعنا نتوجه نحو شقتك وسوف أساعدك في لملمة متعلقاتك.
شاهنده ..العزيزة الكشميرية ..تسحرني منذ قدومها للجامعة هذا العام .. لعلها أيقظت في دمي كل تراكمات الإعجاب التي يكنّها كل سوداني أدمن الأفلام الهندية في السودان وأنا واحد منهم ..علمت منها بأنها مسلمة وقرأت لي سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ونحن نستدفئ في المكتبة الجامعية من زمهرير الشتاء .. اعتراني شعور طاغ بالبهجة وهي تختتم تلاوتها بعبارة ( سدق ألاهو الأزيما ) .. وكنت لا أرتوي من التحليق في سماواتها كلما أتيحت لي الفرصة ومساء أمس كانت محبطة وحزينة وبكت بدموع المطر وهي تنقل لي نبأ استشهاد شقيقها في(سرنغار).. حاولت أن أخفف عليها مصابها وأنا أضمها إلي صدري وأمسد شعرها وصدي نهنهاتها تزلزل كياني ..إنها وحيدة في هذا البلد بعكس بقية الطلاب .. وبالفعل سعيت نحو تقبيلها ولكنني حين اقتربت من شفتيها تذكرت بأن هذا الفم الممتلئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فاعتراني شعور عميق بالخوف والرهبة .. صعدت قليلاً لأقبلّها فوق جبينها فتراءت لي وهي غارقة في السجود لله .. ومن ثم ّ مكثت بقربها طوال الليل في مقعد خشبي في مواساة أخوية لا أدري كم أخذت منا من وقت وأوصلتها إلي نزل الطالبات وأوصيتها بالتشبث بالذكر حتى يطمئن قلبها وأن الشهيد حي يرزق كما أنبأنا بذلك القرآن الكريم
***
محمد ذيب سليمان
03-09-2013, 08:17 AM
أسعد الله كل صباحاتك
باحلى ما يحمله الصباح وبأجمل الذكريات
وشكرا على الجمال والمتعة
سانضم اليك هنا لأتنفس عطر حروفك
وجميل ذكريات ذاكرتك
مودتي ايها الرائع
ناديه محمد الجابي
03-09-2013, 05:18 PM
يسعدني معانقة حرفك مجددا ـ سردك رائع متدفق
وأدائك ماتع مع إجادة كبيرة في الوصف المنسجم مع الحدث
لقلمك أسلوب جميل, وحرفك ساحر
أنا هنا أتابع بإهتمام
تحياتي وودي.
عبدالغني خلف الله
03-09-2013, 05:32 PM
أقول لأحبتي محمد وناديه باللهجه السودانيه ( حبابكم عشره ..بلا كشره ) ..ولقد تمنيت لو أن هذا البوست هو بيتي لألقاكما في الواقع وليس اسفيرياً ..دمتما بألف ألف عافيه ومعكما نواصل الترحال .
عبدالغني خلف الله
03-09-2013, 05:36 PM
الحلقة الرابعة
كنت شارد الفكر طوال اليوم أفكر بتلك السيدة الغريبة .. إيزابيلا .. إيزابيلا .. لماذا هي وحدها ؟ وما الذي يدفعها للخروج في ذلك الصباح الباكر ؟ هل لاحظت الفراء الفخم الذي كانت ترتديه ؟ لا بد أنه يساوي آلاف الدولارات والقادحة المذهبة وسيماء العز والثراء التي تلون كل حركة وكل سكنة من سكناتها .. يا لأناقتها ويا لجاذبيتها .. لكأنها حقل من المغناطيس .. ولكن أنستاسيا أخرجتني من تأملاتي كعادتها في كل مرة .. ركضت نحوي فيما كنت أتهيأ للدخول إلي قاعة المحاضرات وقد منحتني ابتسامة عريضة أضاءت وجهها الجميل .. ومشكلة انستاسيا أنها لا تدرك كم هي جميله ..لا تهتم بمظهرها كبقية الطالبات .. ولا تضع شيئاً من العطر .. إنه رداء ( الجينز) المتواضع وبلوزتها البيضاء أو السوداء لا فرق ..وكأن لديها عداء مستفحل ضد البهرجة والألوان ..ولكنها تبقي جميلة بذاك السمت القوقازي الخلاب ونظرات الاعتداد بالنفس والبلد والتاريخ ..ألهذا السبب تدرسين التاريخ يا أنستاسيا ..؟
لا أملّ التردد علي ( الهاسيندا ) بحثاً عن إزابيلا .. لدرجة أنني أصبحت من الوجوه المألوفة لدي أصحاب المقهى .. وربطتني صداقة حقيقية مع (جوكي ) الموسيقي .. فصرت أساعده في انتقاء الأقراص الموسيقية التي يقدمها لرواد المقهى وكانت تستحوز عليّ أغنية بوب مارلي no woman no cry )) .. بصورة أقرب إلي الإدمان .. وذات مساء ناعس شابه هواء لطيف لا يشبه أجواء موسكو الممطرة .. أطلت علينا إزابيلا كملاك صغير أضاء المكان بحضوره القوي .. تجمدت الدماء في عروقي .. ازداد إيقاع الموسيقي عنفواناً .. واجتاحت أعصابي كيمياء اللهفة والأشواق فحولتني إلي بارود يوشك أن ينفجر .. أزاحت بعض الرزاز الذي تجمع فوق كتفيها وهي تسلم معطفها للنادلة وربطت شعرها بمنديل أحمر قبل أن تقرأ المكان وعندما التقت أعيننا هتفت دون أن تدري ( هالووا ) هل تذكرني ..؟ أراهن أنك إزابيلا أليس كذلك ؟ .. نعم بالطبع أنا هي .. لديك ذاكرة لا تضاهي .. أين كنت طوال الأسبوع الماضي ..؟ كنت في رحلة عمل إلي( ليننقراد) .. مرحباً بك .. كيف أنت ؟ ..أنا بخير وعليّ أن أعترف بأنني افتقدتك وأنك أوحشتني بشده ..أحقاً ؟ .. أنا آسفة لم أكن أتصور بأن للرومانسية مكان في ذاكرة القرن العشرين .. لو كنت أعرف أن شعورك نحوي قوي بهذه الدرجة لطلبت منك مرافقتي وهذا ما ستفعله بدون تردد كل امرأة منسية مثلي .. كانت رحلة طويلة وقاسيه .. قلت لها لا بأس ولكنني لن أفرط فيك مرة أخري .. تحت أمرك .. وهكذا أزاحت إزابيلا عن كاهلي كل تراكمات الترقب والعودة إلي الداخلية وأنا أجرجر أذيال الخيبة والألم .. راجعت كل التفاصيل الممكنة في مرايا قدها الصبي وهي تحاول استعادة لغتها الإنجليزية مع بعض الجمل الإسبانية المبعثرة أثناء حديثها هنا وهناك .. ولم أشأ الضغط عليها من الوهلة الأولي .. وتركت كل ما أود معرفته عنها لمقبل الأيام .. ثرثرنا قليلاً عن الوضع العام في الاتحاد السوفيتي والعالم بصفة عامه وتوقفنا عند ظاهرة ( البروستاريكا ) .. والانقلابات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وتبين لي أنها ثورية المزاج بصورة أخافتني وجعلتني أتردد عشرات المرات في سؤالها من تكون ولماذا هي هنا وما حقيقة الأعمال التجارية التي تقوم بها في موسكو؟ وعند منتصف الليل أصرت علي توصيلي حتى بوابة الجامعة وعانقتني بصورة متعجلة ونحن داخل العربة وهي تتمنى لي ليلة سعيدة وتابعتها بكل جوارحي وهي تدير ماكينة عربتها وتستدير لتغادر .
عبدالغني خلف الله
05-09-2013, 07:47 AM
الحلقة الخامسة
اليوم هو السبت وفي المساء ستقدم علي خشبة المسرح عروض(فولكلورية) ضمن النشاط الثقافي بالجامعة ونسبة لأن معظم الطلاب السودانيين قد تخرجوا .. وإذ لم يقبل أي طالب هذا العام من السودان بعد تدهور العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والسودان الذي انقلب علي السوفييت بمائة وثمانين درجة وتحول من حليف قوي للشيوعيين في قلب إفريقيا إلي خصم عنيد ..لذلك لم يكن أمامي سوي الاستعانة ب(شاهنده الكشميرية) و(بسام الفلسطيني) لتقديم شيئاً ما باسم السودان .. وكنت قد أحضرت معي آلة الربابة التي أتقن عزفها بشكل لافت وكانت (أنّا) كثيراً ما تطلب مني أن أغني لها وحدها بل وأن أشرح لها معاني الكلمات ..غنيت لها ذات مرة أغنية (النعام آدم) .. ( مرحبتين حبابك ) ..كانت محبطة بعد الشجار العنيف الذي وقع بينها وبين خطيبها .. وفي مساءات كتلك يكون الشجن باذخاً وموجعاً في الوقت ذاته .. بكت فشعرت بارتياح شديد .. فدموع المرأة تعني أن الأزمة في طريقها للزوال.. هل تحتفون بالأنثى في بلدكم لهذه الدرجة يا أويس ؟ بل وأكثر من ذلك يا فرحة عمري .. وكانت شاهنده هي الأخرى في حاجة لمن يخرجها من عزلتها التي فرضتها علي نفسها منذ استشهاد شقيقها في (سرنغار) في عملية فدائية استهدفت برلمان الإقليم هناك .. لذلك عكفت علي تدريب شاهنده وبسام لأداء رقصة( كسلا ) ورقصة (الشايقية) وتحصلت لهذا الغرض علي سيفين من نادي الفروسية بالجامعة .. كانت ( أنّا ) تراقب وتصحح لينسجم الرقص مع بعض الرقصات الروسية لما يمكن أن يحدثه ذلك من أثر في نفوس المسئولين فقد علمنا أن تلفزيون موسكو سينقل الحفل علي الهواء مباشرة وأن ثلة من كبار المسئولين في الدولة سيشرفون الحفل .. ُقدمت العديد من الرقصات الإفريقية الصاخبة ورقصة (السامبا البرازيلية )وتجاوب الحضور مع الرقص والغناء .. وعندما جاء دورنا لتقديم فقرة السودان تذكرت بأنني أمثل حضارة عمرها أكثر من خمسة آلاف سنه وأعظم شعب علي وجه هذه الأرض علي الإطلاق فأعطاني ذلك الشعور قدراً لا بأس به من الشجاعة الأدبية .. حييت الجمهور الغفير الذي كان حاضراً بالعربية والروسية ومن ثمّ بدأت في استعراض مهاراتي في العزف .. فوجئ الجميع بالطاقة التطريبية الهائلة التي اختزنتها تلكم الآلة الصغيرة وساد صمت رهيب أرجاء المسرح وشعرت وكأنما الجميع مشدوداً نحوي وقد جرفته مفردات الغناء الجميل ( حتى الطيف رحل خلاني ..) .. المفردة الجامحة .. وشلال من الشجن والنشوة والنغم البهيّ يدوزن المكان .. وفجأة وبدون مقدمات مررت ريشتي علي الأوتار أكاد أمزقها ووضعت آلة الربابة خلف رأسي لتدخل شاهنده بقوامها الممشوق وقفزاتها المتتالية المصحوبة بصفقة( الشايقية) وبسام الماهر بطبعه في الرقص يقفز عالياً ويتوقف هنيهة لمواصلة التصفيق ..ثم ( مرحبتين حبابك ..اليوم السعيد الليله جابك يا فريع البان) شعرت وكأنني أغني لشاهندة وحدها الكشميرية القادمة من نسج البساتين والأساطير .. ومن ثم ّ تناول كلاهما سيفيهما لتسبح شاهنده كحمامة بيضاء والغناء (البجاوي) العريض يغطي كل الناس والأشياء ليخرجهم من وقارهم .. انضم إلينا وزير الثقافة ومديرة الجامعة وأنستاسيا ..فرقص الجميع داخل وخارج المسرح مع رقصة السيف وتقافزت (أنّا) كغزالة بريه .. ولدي نهاية الفقرة فوجئت بعاصفة من التصفيق يستقبلنا بها الجمهور وقبل أن نعود لمواقعنا وفي منتصف المسافة بين المسرح والمقاعد فاجأتني (إزابيلآ) ..اخذتني بالأحضان ودارت بي وهي تهتف (فانتاستيكا..فانتاستيكا)
انتهى العرض الجميل الذي اشتمل علي رقصات من معظم دول الإتحاد السوفيتي .. رقصات أنيقة مترفة وأزياء رائعة . .رقصات من أوكرانيا ورومانيا وجورجيا ومن كل أقاليم روسيا تعكس الانتماء الرهيب للوطن والتراث والهوية وتبقّّي إعلان الفقرات الفائزة التي ستنافس بها (الأونيفيرستيت دورشبي)- وهذا هو إسم جامعة الصداقة - بقية الجامعات الروسية في حفل موسمي يقام كل عام ضمن فعاليات الاحتفال بانتصار الثورة البلشفية في العام 1917 علي خشبة (البولشوي جاتر)..المسرح القومي الكبير والتي غالباً ما يشرفها رئيس الحزب الشيوعي الرئيس (قورباتشوف) أو نائبه .
لم أكن طبعاً أنتظر الفوز ولا بالمركز العاشر ناهيك عن المراكز الثلاث التي ستذهب للمسرح الكبير بالنظر لقلة المشتركين معي وعدم إلمامهم التام برقصات الشايقية والبجا حتى وإن أبدعا أيما إبداع .. وكانت مفاجأة لا تصدق إذ فزنا بالمركز الثالث وتماوج اسم السودان في جنبات المسرح وسط عاصفة من تصفيق الأخوة العرب والأفارقة علي السواء وأخذتني شاهنده بالأحضان وهي تجهد نفسها في تأليف زغرودة علي الطريقة السودانية وتقافزت إيزابيلا وهي تصفق في حماس منقطع النظير وافتقدت في تلكم اللحظات ( أنّا) ولم أجدها .. وتقدم بسام الفلسطيني القادم من (نابلس) لاستلام الجائزة وكأنه سوداني بحق وحقيقة ..وهتف وهو يصافح مدير الجامعة ( فيفا سودان ..)
عبدالغني خلف الله
05-09-2013, 05:07 PM
الحلقة السادسة
لم أعد قادراً علي التركيز في المذاكرة وها نحن وقد تجمعنا للاستماع إلي مسئول الحزب عن دائرة موسكو ليحدثنا عن التحولات الاقتصادية التي أحدثتها ثورة (البروتاريا) في المجتمع الروسي .. وبدأ وكأنه يفند كل أطروحات الرأسمالية وينتقص من فعاليتها .. وعند ختام المحاضرة همس في أذني (بسام القادم) من نابلس بالضفة الغربية المحتلة .. إياك أن تثق في هذه الترهات يا أويس .. لقد تجولت في الريف الروسي ورأيت مدي البؤس الذي تعيشه الجماهير هناك .. حدثني أيضاً عن المزارع الجماعية التي تشبه إلي حد كبير نظام (الكميونات) بإسرائيل وكيف أن المواطن بالكاد يحصل علي ما يسد رمقه وحكي لي طرفة حول أحد المزارعين الذي اجتهد في تحقيق الربط المفروض عليه في توريد أصواف الأغنام وقد جاء إنتاجه أقل من المطلوب بأوقيات معدودات بيد أن مسئول الحزب أصّر علي أن تستكمل (الكوتة ) قبل أن يؤشر علي اسمه .. فما كان من ذلك المزارع إلا أن قص شعر رأسه وخصلات بناته الثلاث ليكمل الربط المفروض عليه .. سألته في إشفاق هل ستعود في عطلة نهاية العام إلي فلسطين وكانت عري الصداقة قد توطدت بيننا .. طبعاً سأعود ..لا بد لي من تعويض ما فاتني من الانتفاضة ..ولكنني أخاف عليك من البطش الإسرائيلي ..اعتدل في جلسته وكأنه يود الإفصاح عن شيء خطير ..لا تخف عليّ يا صديقي العزيز أويس ..أنا الآن في الخامسة والعشرين من عمري وقد وصلت إلي السقف العمري الذي يتمناه كل شاب فلسطيني وأية امتدادات أخري في الحياة بعد الخامسة والعشرين هي ملك لحركة التحرير الفلسطينية تفعل بها ما تشاء متي ما شاءت وكيفما شاءت .
كنت أحاول إعادة ترتيب الغرفة بالطريقة التي تروقني عندما سمعت قرعا خفيفاً علي الباب وصوت مدير الداخلية ينادي علي إسمي ..فتحت الباب لأستجلي الأمر فوجدته بصحبة شاب ذي ملامح أوربية ويحمل فوق كتفه حقيبة متوسطة الحجم ..أقدم لك الطالب (شوماخر) من ألمانيا الغربية وسيكون زميلك بالغرفة .. ترددت برهة وأنا أهمهم بعبارات الترحيب المعتادة ..لا تقلق مستر أوليس ..أويس وليس أوليس .. قلت وأنا أصححه ..مستر(شوماخر) يتقن الإنجليزية ولن تكون اللغة حاجزاً بينكما ..أدخلته وقدمت له كوباً من العصير وكان يبدو متعباً وحائراً .. ربما من آثار السفر .. مرحبا .. سعدت بمعرفتكم .. من أي بلد أنت ؟ أنا من السودان ..أعرف السودان لقد قرأنا عنه ونحن أطفال صغار ..أحقاً..؟ نعم ..Das land des mahades..لقد كتب عنكم (كارمايكل) كلاماً رائعاً وعن الثورة المهدية بالذات .. وكنتم تصدرون لنا الأعلاف الغنية بالدهون .. كلامك هذا أطربني يا (شوماخر) .. ولكن ماذا تعني كلمة شوماخر ؟ .. تعني صانع الأحذية ..وأنت هل يحمل اسمك مدلولاً خاصاً أم أنه مجرد اسم .. قلت له وأنا أستجمع أفكاري .. لهذا الاسم قصة عظيمة ومن ثمّ طفقت أقص عليه قصة ذلك العابد الصابر ودعوته المستجابة .. بيد أنه فاجأني بقوله ولكنني لا أؤمن بأشياء من هذا القبيل كالجنة والجحيم ويوم القيامة .. قلت له في حزم شديد .. لا أعتقد أنه قراراً صائباً وسنتجادل في هذا الأمر لاحقاً .. تركته يأخذ حمّاماً دافئاً وعوضاً عن النوم تابعته وهو يغير هندامه وكأنه يتأهب للخروج .. أتوقع مجيء (أنجلينا) ابنة عمتي التي سبقتني إلي هنا وتحضّر للماجستير في العلوم السياسية .. وبالفعل سمعنا طرقاً خفيفاً علي الباب وصوت هامس يستأذن الدخول .. تفضلي أنجي .. يسعدني أن أقدم لك المستر أوليس وهو من السودان ويدرس في كلية الطب .. أويس ..عفواً .. كانت رائعة الجمال بحق .. ربما أكثر من أنستاسيا .. قوام فارع وملابس بسيطة وقد تبعثرت خصلات شعرها فوق كتفها العاجي .. (واو..!!) .. تنهدت بارتياح بالغ وبشيء من الدهشة .. أنتم من ذبح (غردون باشا) أليس كذلك ؟ .. نعم ..[نعم ولكنها لم تكن رغبة المهدي ..لا يهم المهم أنكم نلتم من ذلك الطاغية .. يدهشني حديث فتاة جميلة مثلك عن الذبح بهذا الحماس .. ولم لا ؟.. كل تصرف جائز من أجل القضية ..القضية ؟ .. ولكنك فاتنة جداً والمفروض أن تكوني رومانسية ..لا تراهن علي جمالي فأنا قوية الشكيمة .. حاولت تغيير مجري الحديث وسألتها عن موضوع درجة الماجستير الذي تحضّره .. لينين .. لينين؟! .. كل شيء يخص لينين .. حياته أفكاره .. مؤلفاته .. كل شيء عن لينين .. وتركتهما يغادران والحيرة تعربد في دواخلي .. الذبح ؟ .. القضية ؟ أي لغز أنت يا أنجلينا ؟!
عبدالغني خلف الله
07-09-2013, 08:22 AM
الحلقة السابعة
..أذكر أن رزان قالت لي ذات مرة .. عندما يذبح خروف في منزلنا في عيد الأضحى أو في أي مناسبة عائلية أركض نحو غرفتي وأدفن وجهي في الوسادة وأضع وسادة فوق راسي حتى لا أسمع صوت الخروف وهو يتألم .. قلت لها هذا شعور طيب يا رزان .. أنت بنت حلوه ورائعة وأتمنى أن نتزوج عندما نكبر .. نتزوج ؟ صرخت في استنكار واضح .. أنت صغير ولن يكون بوسعك حملي بين ذراعيك إن أنا قبلت بك عريساً يا أويس .. تماماً كما نشاهد في المسلسل .. بل أستطيع .. لن تستطيع .. بل أستطيع .. تراهنني علي ذلك ؟ سأتظاهر بأنني مريضة وسأجلس تحت ذاك الجدار وحاول أن تحملني بين ذراعيك .. قلت لها موافق .. وبسرعة غريبة ركضت نحو الجدار وتهاوت نحو الأرض وهي تدّعي الضعف والمرض .. وضعت حقيبتي جانباً وشبكت كلتا يدي حول خصرها وعندما هممت بحملها سقطت من فوقها وتكومنا فوق بعضنا البعض كتلة واحده .. شعرت بالخذلان المرير .. أما هي فقد انفجرت في ضحك أقرب للهستريا .. ومن ثمّ نهضت مجدداً وأنا أنفض التراب عن قميصي ومددت لها يدي أساعدها علي النهوض .. وفي هذه اللحظة مرت سيدة بقربنا وسألتنا في استغراب ..( ما بكما يا أولادي ؟ ) .. قلت لها.. أبداً .. أختي مريضة ولا تقوي علي السير ..فاقترحت علينا أن نوقف عربة (كارو) سارت في محازاتنا لتنقلنا حتى منزلنا وهذا ما فعلناه بالضبط .
سألت أنستاسيا وكنا نتناول وجبة العشاء بالكافتيريا عن سر هذا التواجد الكثيف للطلبة الأفارقة بالجامعة .. طلاب من الصومال وجيبوتي وأثيوبيا وأنجولا .. وكانت في تلك اللحظة قد أنهت عشاءها وأخذت منديلاً ورقياً تجفف يديها ..هذا سؤال مهم وللإجابة عليه لا بد من إجراء تمرين صغير .. هيا انهض واقترب مني .. ماذا يدور بخلدك يا أنّا؟ .. قلت لك اقترب وستري بنفسك ماذا يعني وجود هذا الكم من الطلاب من شرق ووسط إفريقيا .. أذعنت لرغبتها واقتربت منها .. والآن ضع يديك فوق خصري وسأضع يديّ فوق كتفيك .. حسناً .. طوق خصري بصورة أقوي ..أقوي من ذلك .. وبدا وكأننا نرقص علي أنغام الموسيقي .. والآن .. اتركني ولنعد لمائدتنا ..الاتحاد السوفيتي يا أيها الطبيب الإفريقي يفعل تماماً بأفريقيا كما فعلنا نحن منذ قليل .. قلت لها لا أفهمك يا (أنّا) .. السيطرة علي الصومال وهذا يعني الوصول للمياه الدافئة وذاك حلم قديم يراودنا منذ قرون .. والسيطرة علي جيبوتي معناه تحريرها من النفوذ الفرنسي ودعم نظام (منقستو هايلي مريم) الشيوعي وكذلك دعم الثوار الأنقوليين وقيام دولة شيوعية بذاك البلد ودعم الحركات المسلحة في (لايبريا وساحل العاج ) وعزل شمال أفريقيا عن جنوبها تكون بالنهاية نهاية الحقبة الإستعمارية بأفريقيا وسيطرة الغرب الرأسمالي عليها ..إنها لعبة القط والفأر التي يمارسها الغرب معنا ويجب أن ننتصر في نهاية المطاف ..الآن فهمت ياغاليتي ( أنّا ) ..( داسفيدينا أويس ) .. مع السلامه .
انتهى حفل إختيار الفرق التي ستمثل الجامعة ونحن لم نزل في ردهات المسرح نتجاذب أطراف الحديث .. قالت لنا إزابيلا ونحن نتأهب للمغادرة: هل تقبلون دعوتي للعشاء في ال(إنريكي رستورانت) احتفاءً بهذه المناسبة .. وافق بسام وكذلك شاهنده فقلت لهم .. وفيم الانتظار إذاً ؟..وفي مرآب السيارات أشارت إزابيلا إلي سيارة مرسيدس جديدة وقالت هيا اركبوا .. سيارة فارهة لم أر مثلها في موسكو .. يا إلهي .. همست شاهنده من شدة المفاجأة إذ لم تكن تتوقع أن تكون إزابيلا بهذا القدر من الثراء .. أما أنا فقد أتاح لي لقاؤنا في ( الهاسيندا ) فرصة التعرف علي ثرائها .. أدارت مفتاح العربة لينطلق الغناء من شريط كاسيت كان موجوداً داخل جهاز التسجيل وكانت الكلمات باللغة الإسبانية وكأنه نشيد وطني أو شيء من هذا القبيل .. هذا نشيد القوات المسلحة الثورية في كولومبيا .. إزابيلا وهي تعود بالعربة إلي الخلف .. وماذا تقول كلمات النشيد ؟ ..بسام يتساءل .. ترددت برهة قبل أن تقول لنا ..معناه ( أقتل .. أقتل من أجل كولومبيا حرة وخذ موقعك في الصفوف الأمامية ولا تجبن أمام الطغاة مصاصي دماء الكادحين ..لأن النصر سيكون حليفنا في نهاية المطاف ) .. لم أعلق بكلمة وكذلك فعلت شاهنده و بسام.. حتى وصولنا المقهى الضخم والأشهر في موسكو .
عبدالغني خلف الله
08-09-2013, 07:35 PM
الحلقة الثامنة
دلفنا إلي جناح الأسر بالمطعم وحظينا بمعاملة خاصة غير متوقعة وكأننا من كبار الزوار وقادة الدولة وتقدمنا النادل ومضيفتنا توجهه باختيار طاولة متميزة في جناح الأسر أعطته رقمها تحديداً .. انحناءات وتقدير وعبارة طاب مساؤك سيدتي تشير إلي أنها من الرواد المعروفين للمطعم .. طالعنا قائمة الأسعار ونحن لا نصدق الأرقام الفلكية التي اشتملت عليها .. وكأن إزابيلا قد قرأت ما يدور بخلدنا فطلبت منا ألاّ نقلق من الأسعار وأردفت قائلة في مرح واضح .. كنت مثلكم وأنا طالبة بجامعة ( كاراكاس ) مفلسة ويتيمه قبل أن ألتقي .. المهم لا تقلقوا .. المفروض أننا نحتفل بمناسبة استثنائية مع أشخاص استثنائيين .. قالت ذلك وهي تسهب في الترحيب بنا .. تلتقي من ؟ سألت نفسي .. والنادل بانتظار نوع الشراب الذي نفضله فاخترنا عصائر الليمون والبرتقال .. أما هي فقد قالت للنادل ..هات لي زجاجة ( بيرنود ..).. معلوم سيدتي .. وكنت أسمع بهذا الاسم لأول مره .. يطلقون عليه شراب الملوك والأباطرة وهو أجمل من الويسكي والكونياك .. والفودكا أيضاً؟!..بسام وهو يشارك في الحوار .. والفودكا أيضاً؟! .. أول مرة أشرب فيها هذا النوع من الخمر كانت في ( روما ) قبل خمسة أعوام عندما كنا نقضي شهر العسل ..شاهنده ماذا تشربون في كشمير ؟ وبدا وكأنها تحول مجري الحديث للمرة الثانية حتى لا نسألها عن زوجها ولماذا تعيش وحيدة في موسكو ..لا شيء مميز .. شاهندة الرزينة ترد عليها وقد ارتسمت فوق شفاهها ابتسامة عريضة أضاءت تضاريس المكان .. الكولا والبيبسي ونادراً ما يسمح باستيراد الخمور في) مظفر أباد ) عاصمة الشطر الباكستاني من كشمير.. تناولنا عشاءنا ونحن نستمتع بمعية وأريحية إزابيلا وعزفت جوقة موسيقية بعض الألحان
. قصصت علي شاهندة ما سمعته من (شوماخر ..) ودعوته لي ولها لننضم له و(أنجلينيا) في ليلة مجون جماعية .. كان من واجبك أن تصفعه علي وجهه ..لا يا شاهنده ..يجب أن نتحاور مع هؤلاء الناس بالتي هي أحسن إذ ربما يهتدون فيقتدي بهم آخرون ..الرجل عبّر عن غريزته الحيوانية لا أكثر .. كيف يفجر الإنسان في دواخله غرائز الحيوان بهذه البساطة؟! ولكنني سعيدة لأنك رفضت العرض باسمي وبالأصالة عن نفسك ..أنت اليوم بمثابة شقيقي بعد أن أستشهد نواز في (سرنغار) .. كان جميلاً مثلك يا أويس .. جميلاً جداً ..وهاأنا أسلمك قيادي تماماً .. قوّمني إذا لاحظت أنني أوشك أن أحيد عن جادة الطريق ..عاقبني باليد واللسان كما تفعل مع شقيقاتك في السودان .. أقسم لك يا أويس بأنني جادة فيما أقول .. اعتراني إحساس عارم بالسعادة وأنا أتابع شاهندة وهي ترفعني لهذه المنزلة النبيلة في إطار العلاقات الإنسانية .. شقيقتي أنا ..؟ هذه الجميلة الأنيقة مثل أزاهير الأوركيد علي صفحة جبال كشمير .. ما أسعدني بك ..وهنا طاشت في ذاكرتي صورة الرائعة (رزان ).. لقد سبق لي معايشة نفس الإحساس عندما تحملت مسئولية الحفاظ عليها ونحن نغدو ونروح بين المدرسة والمنزل ..كنا في إحدى المرات في طريقنا نحو بيوتنا عندما اندفع نحونا شخص بدراجته في رعونة وإهمال .. تفاديناه بأعجوبة شديدة ..بيد أن الرجل سقط من دراجته واصطدم بكومة من الحجارة كانت ملقاة علي جانب الطريق ..نهض الرجل وهو ينفض التراب عن إهابه وبلا مقدمات تقدم نحو (رزان) وصفعها بقسوة علي وجهها الصغير ..ثارت الدماء في عروقي وغمرتني موجة غضب عارمه .. فوجدتني اندفع نحوه بكل ما أُوتيت من قوة أخترق بطنه أكاد أنفذ إلي داخلها ..ومن ثمّ ركضنا مبتعدين عن المكان ..سقط الرجل مرة أخر فوق دراجته وكومة الحجارة تلك ..حاول أن يمتطي دراجته للحاق بنا ..لكن الدراجة المعطوبة لم تساعده علي ذلك .. توقفنا هنيهة لنراقب الموقف فرأيناه يلوح لنا بيده متوعداً ومهدداً وكأنه يقول لنا انتظرا سوف أنال منكما في المرة القادمة ..عدت ل(شاهندة) وقد لاحظت شرودي وانشغالي عن كلامها .. فحكيت لها القصة كما عشتها .. ضحكت من أعماقها وقالت لي ..بالله عليك يا أويس ضعني مكان (رزان ) إذ لا فرق بين أخّوتي لك وأخوّتك لها .. بسم الله الرحمن الرحيم (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتّقون ) "سدق ألاهو الازيما" ..أوتحفظين كثيراً من القرآن يا (شاهندة) ؟ .. بل أحفظ ما تيسر منه ولكن هذه الآية بالذات هي مرجعية عالمية الإسلام ..لذلك أحفظها وأحاول ترجمتها إلي الواقع ما استطعت.
***
عبدالغني خلف الله
11-09-2013, 08:53 AM
الحلقة التاسعة
والآن لكي أفهمك جيداً لا بد لي أن أتعرف علي كل كبيرة وصغيرة تتعلق بنشأتك ..أين ولدت ومن هما والداك وكيف تعيش وأين كان أسلافك الأوائل قبل استقراركم بالخرطوم ؟!..هل أبدأ بوالدي ؟ ..لا بل أبعد .. بجدي ؟ ..لا بل أبعد ..بمن إذن أبدأ ؟ ..بجدك العاشر لأبيك ..أليس لديكم ما بات يعرف بشجرة العائلة ؟ .. جدي العاشر يا ( أنّا ) .. هل أنت جادة فيما تطلبين ..؟!!..نعم ..نعم ..أنا جادة وأصغي إليك جيداً ..فاجأني طلبها الغريب ..فأخذت نفساً عميقاً وبدأت أقص عليها قصصاً من نسج خيالي حتى أتفادي هذا الموقف الصعب . .كان جدي العاشر ملكاً يعيش وشعبه في منطقة نائية بالجزيرة العربية .. وكانت لديه ابنة كثيرة الجمال تدعي ( شجرة الدر )..ومن شدة جمالها وعلمها وأدبها تناقلت سيرتها القوافل الصاعدة والهابطة في وهاد وجبال جزيرة العرب ..وتقدم العشرات من أبناء الملوك والأمراء يطلبون يدها من أبيها الملك ..وحتى يتخلص جدي من هذا المأزق .. وضع شرطاً غريباً علي خاطبيها وهو القفز فوق فوهة جبل (الجلاميد) بفرسه من هذا الجانب إلي الجانب الآخر ..كان جبل (الجلاميد) بعلوه الشاهق جبلاً واحداً ..وضرب زلزال عنيف ذاك الجبل فقسّمه إلي نصفين لتقوم بينهما هوة عظيمة ..بيد أن المسافة بين النصفين لا تكاد تزيد عن العشرة أمتار ..وقبِل الأمراء والنبلاء التحدي من شدة تعلقهم بجدتي ..بالرغم من المخاطر التي تكتنف العملية بأسرها ..قام كل فارس باختيار أقوي وأصلب ما لديه من خيول ..واجتمع جمهور غفير من الناس يتقدمهم الملك والوزراء والأمراء والأعيان ..وتجمع شعراء العرب من كل حدب وصوب ليؤرخوا لذلك الحدث الجلل ..باستثناء جدتي الأميرة (شجرة الدر) ..التي لم تكن أصلاً موافقة علي هذه المغامرة الغريبة واعتكفت بجناحها الخاص بقصر أبيها تدعو الآلهة لكي ينجح أول المتسابقين فلا تراق قطرة دم واحده ..( أوو ..لا بد إنها كانت إنسانة رائعة بحق يا أويس ..(أنّا) وقد بدأت تنفعل بمجريات القصة ..وبدأ السباق الرهيب .. تقدم فارس معروف بالشجاعة والإقدام وهو يمتطي جواداً عربياً أصيلاً ..وأنشد أبياتاً من الشعر يتغزل فيها بجدتي ويصف الموت في سبيل الفوز بها بأنه شرف لا يدانيه شرف ...ومن ثمّ انطلق إلي الوراء بحصانه وتقدم بها وهو يسابق الريح نحو الفوهة الرهيبة ..حبس الجميع أنفاسهم وأشفقوا عليه بل وتمنوا لو أنهم لم يأتوا إلي هنالك أصلاً ..ولكنها مشيئة جدي الملك العنيد لم تترك لهم أي خيار آخر سوي الحضور ..ثم وبقفزة عملاقة لامس الفرس حواف الجبل بيد أنه سقط في تلك الهاوية الرهيبة مع فرسة بين صيحات وأناة الحضور ..وتساقط الفرسان الواحد تلو الآخر ..إلي أن جاء الدور علي جدي ..كان فارساً عملاقاً ..تبدو عليه سيماء النبل والأصالة وهو يقود فرسه المعروفة لدي العرب ب(النعامة) ..أوهي أنثي يا أويس ؟ نعم .. نعم يا ( أنّا ) ..وأنشد شيئاً من الشعر يصف فيها شجاعته وإقدامه ويذّكر العرب بالمعارك الكبرى التي خاضها دفاعاً عن قبيلته وأهله وعاد إلي الوراء بعيداً جداً ..وقبل أن يتقدم نحو الهوة السحيقة وصلت جدتي ( الأميرة شجرة الدر) وسط كوكبة من الجواري والقيان ..وكانت بصدد أن تتوسل لوالدها للكف عن هذا السباق السخيف الذي راح ضحيته عدد غير محدد من أنبل فرسان العرب ..ولكن الجميع كانوا مشغولين بما يمكن أن تترتب عليه القفزة التالية ..ولم يخيب جدي آمال جمهوره العريض فطارت ( النعامة ) عالياً في الفضاء لتحط بقدميها الأماميتين حيث تقف جدتي الأميرة (شجرة الدر) ..هتف القوم عالياً من شدة النشوة والحبور وتنفست الأميرة الصعداء وكذلك الحضور الكبير ..ترجل جدي من علي ظهر ( النعامة ) وانحني أمام جدتي الأميرة وهو يقّبل يدها ..وبعد أن أنشد شيئاً من الشعر معدداً مناقبها متغزلاً في جمالها تقدم نحو جدي الملك يطلب يدها ..وأقيمت الولائم والأفراح أياماً بل شهوراً وكان عرساً خرافياً لا يصدق .
ناديه محمد الجابي
15-09-2013, 11:58 AM
نفس قصصي قوى وممتع
أسلوب شيق جدا في السرد ومقدرة على التحكم في مسار الأحداث
مبدع تمزج الخيال بالسياسة بالذكريات بلغة سهلة أنيقة جاذبة
أنا هنا متابعة ومستمتعة .. دام هذا القلم وصاحبه.
ولك تحياتي.
عبدالغني خلف الله
17-09-2013, 07:24 AM
الرائعة المترفة ناديه ..لك يا عزيزتي أطيب الأمنيات ..حفظك الله ومن حولك من كل سوء ومعا ندلف للحلقة العاشرة هذا مع تحياتي .
عبدالغني خلف الله
17-09-2013, 07:29 AM
الحلقة العاشرة
أحاول الاقتراب أكثر فأكثر من( إزابيلا ) ومحاولة فهمها .. لماذا أنت غامضة ومترفة وأنيقة لهذه الدرجة يا ( إزابيلا ؟!) ..من أين جئت وكيف نشأت ثم ترعرعت ووصلت إلي هنا ؟ ..طيبة كجدتي مذعورة كالعصافير في بلادي ....دافئة في بلاد تنام وتصحو علي هسيس الثلوج المنهمرة بلا انقطاع ..وودودة كخالاتي وعماتي ..لا أسرار ولا ثراء ..كل هذه الحياة التي أحياها بشيء من الدعة تخفي وراءها مأساة وقضيه ..المأساة قضيتي أنا والقضية هي قضية شعب يناضل من أجل التحرر من ربقة الإقطاع والفساد والاستغلال ..وقصتي يا أويس تحتاج إلي فضاء أرحب من مقهى أل ( هاسيندا ) الضيق هذا .. ما رأيك لو انتقلنا إلي منزلي فأحكي لك حكايتي بكل ما فيها من تفاصيل موجعة وأخري مفرحة ..لا عليك سأدفع أنا الحساب لأن الرجل عندنا في السودان لا يسمح للمرأة بدفع الحساب بالمقاهي والمطاعم ..حقا ؟1 ليتني كنت امرأة سودانية فلا أكافح لأعيش ..علي الرحب والسعه ..ومن ثم تدحرجنا بعربتها الفارهة نحو منزلها المطّل علي نهر موسكو المنساب في هدوء وكأنه يحتفل ببزوغ القمر ربما بعد قرن من الغيوم ..أمرت ( إزابيلا ) الخادمة بإعداد مقعدين قرب المدفأة الخشبية ..ولماذا لا نجلس في الصالون الأنيق المترع بالدفء ..لا يا أويس ..التدفئة بالأخشاب فيها شيء من الرومانسية بعكس التدفئة بالغاز ..كما تشائين فأنا ضيفك الليلة والزائر في يد المضيف كما نقول .. هل يعني هذا أنك أخيراً في قبضتي يا صديقي ..؟ إذن عليك تحمل جنوني وانفعالاتي .. قد أبكي فلا تبخل علي بكتفٍ صديقةٍ وكفكف دموعي وقد أثور وأحطم الأشياء التي أمامي .. فحاول أن تحتملني ..فأنا أحتاجك بشدة ..يا إلهي كيف سمحت لنفسي بأن أقع في حبك هكذا وبلا ثمن ..أنا التي دوخت (بوقوتا ) بجامعاتها ومسارحها بل وشرطتها أيضاً .
إيه يا أويس ..لماذا أطلعك علي جميع محطات حياتي لتغادرني مثل قاطرة سريعة ..لدي إحساس عميق بأنك لست سوي غيمة أنيقة ستظلّل حياتي لساعات ثم تمضي إلي سبيلك ..كم أتمني لو كنت كولومبياً مثلي ولو أنك كنت جارنا لآماد طويلة ولو أنك تخصني وحدي لا فرق إن كنت حبيبة عينيك لأعفّرك بالقبل ولو أنك كنت أبني فأضمك بكل التحنان والأشواق ..فبأي صورة أتملكك يا أويس يا شمساً إفريقية تلهب ثلوج أوجاعي ..حياتي يا أويس بعد تعرفي عليك في (الهايسيندا ) أخذت منحيّ آخر وبعداً جديداً ..عشت طفولتي وأنا أتمرغ في الجاه والثراء في كنف عائلتي ..والدي رجل أعمال مشهور تعرفه أمريكا اللاتينية وتخشاه ..فهو رجل أمريكا القوي الذي لا يشق له غبار .. بإمكانه أن يسقط الحكومات وأن يرفع من شأن هذا الحزب أو ذاك وأن يشتري نتائج الانتخابات وتخضع له الهيئات والنقابات ..مارد اقتصادي خلط السياسة بالاقتصاد ومارس كل صنوف التآمر والخيانة ..دموي وقاسٍ ولا شيء يوقفه عند حده ..تزوج من أمي كاتبة القصة القصيرة الجميلة والقادمة من أروقة الجامعات كأستاذة للأدب الإنجليزي ..ولأنها قدمت من الطبقة الوسطي المرشحة للبرجوازية الجديدة وجدت في والدي ضالتها المنشودة فتزوجته من دون حب ..زيجة أساسها المصلحة المتبادلة ..أبي وقد امتلك كل شيء كان بحاجة للظهور بمظهر رجل الأعمال المثقف الذي يُعني بالأدب والثقافة والفنون..وأمي وقد رفضت دور النشر تبني إبداعاتها قبلت به عندما عرض عليها شراء دار للنشر جد مشهورة في (بوقوتا) وكان صاحبها الذي كم أهان والدتي مرات ومرات برفضه طباعة قصصها وتحقيرها قبل بالعرض لأنه مواجه بديون كبيرة كانت كفيلة بإيداعه السجن ..المهم تزوجا وكنت أنا نتاج تلك العاطفة البلاستيكية المصطنعة ..فدب الخلاف بينهما وعشت موزعة بين غطرسة والدي ورومانسية والدتي التي لم تعد تحتمل كل تلك الخيبات فانتحرت بعد مضي ثلاثة أعوام علي ولادتي لتكفلني عمتي .. إمبريالية أخري أشد قسوة من والدي لأعيش في سجن كبير عبارة عن قصر أسطوري اشتراه والدي لنقيم فيه وكان نادراً ما يزورنا ..بيد أنه كان يحرص علي تمضية الإجازة الصيفية معي فيأخذني في رحلات لا تنتهي ..زرنا باريس عشرات المرات ولاهاي ولندن ..هل تشعر بالملل يا أويس وأنت تسمعني ..إذا كان علّي أن أتوقف أرجوك قل لي بلا تردد ..لا ..لا ..علي العكس تماماً.. أشعر بفرح غامر وأنا أقرأُك من جديد ..أما أنا فأشعر بثقِل في أجفاني ونُعاس شديد ..أنا متعبة جداً يا أويس وسأكمل لك قصتي في فرصة أخري ..لا بأس يا إزابيلا ..سأرحل لأدعك تنامين ..لا ..لا ..قالتها برعب حقيقي ..أتوسل إليك ألاّ تتركني وحدي .. ولكن ...أفهم قصدك يا أويس .. بإمكانك أن تنام علي هذه الأريكة وسأنام هنالك في غرفة نومي ..أريد أن أخلد للراحة وأنا مطمئنة ولو لمرة واحده ..هذا المنزل الكبير يخيفني .. عواء الريح بالخارج واصطفاق النوافذ وتحليق الستائر في سماء غرفتي ..إن وجودك قربي يشعرني بالاطمئنان ..سأبقي ما دامت هذه هي رغبتك ..تصبحين علي خير ..وأنت بألف خير .
عبدالغني خلف الله
18-09-2013, 02:09 PM
الحلقة الحادية عشرة
ومن ثمّ توجهت صوب غرفتها وهي تلتفت نحوي بعد كل خطوة تخطوها وتركت الباب موارباً لتؤرقني طول الليل اشتهاءات بائسة ..بيد أنني قاومت جميع رغباتي وتظاهرت بأني أغط في نوم عميق ..ومع بزوغ فجر اليوم التالي تسللت خلسة دون أن أوقظها وسرت علي غير هدي فوق الرصيف المبلل وكانت ثمة نوارس تحلق فوق الشاطئ غير آبهة بالبرد القارص ..وصلت غرفتي ولم يكن شوماخر موجوداً بالغرفة ..لعله أمضي الليل مثلي خارج النزل ..دفنت نفسي تحت الألحفة الثقيلة وأنا أرتجف من شدة البرد الذي يطحن عظامي ونمت نوماً عميقاً جداً ..ولا أدري كم ساعة أمضيتها وأنا مستغرق في النوم وقبيل الظهر بقليل أيقظني صوت مدير النزل وهو ينادي علي إسمي ..( مستر أوليس ..مستر أوليس ..) ..أجبته وأنا أفرك أجفاني ..كم مرة يا كريموف أخبرتك بان أسمى أويس وليس أوليس ..معذرة يا صديقي العزيز ثمة ضيف بانتظارك في غرفة الاستقبال إنها الآنسة ( أنستاسيا ..) ..أنّا ..!! حسناً ..حسناً .. دعها تنتظرني قليلاً ريثما أغير ملابسي.
إلي أين يا( أنّا ؟!) ..سآخذك للتعرف علي أسرتي بمناسبة عيد ميلاد شقيقتي الصغري ( باتريشيا ) .. قلت أسرتك ؟! ..وهل تقيم بموسكو ؟! ..لا بل علي بعد مائة كيلومتر من هنا ..عظيم ..عظيم ..كم كنت أتوق للتعرف علي نمط الحياة في الريف لديكم ..الريف فقط أيها الذكي ..؟!!..وأسرتك طبعاً ..امنحيني نصف ساعة لأغيّر ملابسي ..عيد ميلاد ..؟ تري أي هدية ستختار يا أويس ؟ وقررت أن أهدي شقيقتها حقيبة اليد المصنوعة من جلد التمساح وكنت قد اشتريت بعضاً منها من شارع الجمهورية بالخرطوم ..وفي مطار موسكو استمعت من موظف الجمارك لمحاضرة في السلوك والأخلاق ..هل هذا جلد حقيقي يا رجل ..لماذا أنتم قساة القلوب لهذه الدرجة أيها الأفارقة ..؟ لا عجب إذن ..ألستم من أكلة لحوم البشر ..؟ فماذا تساوي حياة تمساح مسكين في نظركم ؟ ..حاولت إقناعه بأن هذه الحيوانات تنفق بعامل الزمن والأوبئة ..تخافون علي الحيوانات وتمطرون إخوتنا في أفغانستان ب(النابالم) يا سوفييت ..هكذا حدثت نفسي وأنا أبتلع إهاناته خوفاً من مصادرة الحقائب ..ستكون هدية مميزّة دون أدني شك ..(واو..!) هتفت (أنّا) وهي تتصفحها ..إنها جلد حقيقي ..لا بد أن تكون باهظة الثمن ..أنت إنسان رائع يا أويس ..وكم أحبك لهذا السبب .. وفي الطريق إلي قرية أنستاسيا رجعت بذاكرتي لعيد الميلادي الأول والأخير ..كنت في السابعة من العمر عندما نقل والدي للعمل بواد مدني وتشاء الظروف أن نسكن بالمنازل الحكومية قريباً من منزل المحافظ بالحي البريطاني ..هكذا يسمونه في مدني ويحاول البعض تسميته ب(الحي السوداني) دون جدوي ..وفي ذات مساء رأينا الثريات تلون بوابة منزل المحافظ ..سألنا عن المناسبة فقيل لنا أن اليوم هو عيد ميلاد أبنه الذي يزاملني بنفس الصف ..وأذكر أنني بكيت من شدة إحساسي بالقهر والغبن ورفضت تناول الغداء المتأخر كالعادة .. إذ كنا لا نتغدي إلا بعد عودة والدي من العمل ..ولم أكفف دموعي إلا بعد أن تلقيت وعداً قاطعاً بأن يقام لي حفل صغير الخميس القادم بمناسبة عيد ميلادي الذي مضي عليه وفق الأوراق الرسمية خمسة أشهر ..ولم تفّوت الرائعة رزان هذه المناسبة فأهدتني شيئاً قد لف بعناية أشبه بالمنديل وقد شاع في ذلك الزمان البعيد التطريز بالحرير الأبيض فوق المناديل البيضاء ..ترسم الفتاة قلباً صغيراً بال( عشري ) وتنصّفه بسهم قيل أنه سهم ( كيوبيد ) لعّله إله الحب لدي الإغريق أو شيء من هذا القبيل ..وعندما فضضته ثاني يوم وجدتها عباره عن ( فوطة ) بيضاء وقد ظهرت في زاوية منها تبقعات أشبه بدائرة صغيرة ..وكأن كوباً من الشاي قد وضع عليه ..وفي ظهيرة اليوم التالي اعتذرت لي (رزان) عن ذلك التصرف الأحمق قائلة ..لقد فوجئت بموعد الاحتفال بعيد ميلادك يا أويس ولم أكن أعرف حياكة المناديل لأصنع لك واحداً أهديه لك في الحفل ..فما كان مني إلا أن سطوت علي أغراض المنزل ..إنها أغلي هدية قدمت لي يا رزان من أغلي إنسان في الوجود وسأحتفظ بها ما حييت ..هنا تلألأ وجهها بفرح غامر ..وهذا ما فعلته بالضبط فلا زلت حتى الساعة وأنا هنا في موسكو أخرجها من حقيبتي من آن لآخر أشمها وأضمها إلي صدري ..رزان يا رزان .. تري أين انتهت بك الأيام وهل لا زلت تذكرينني كما أفعل علي الدوام ؟!..وكان ذلك أول وآخر عيد ميلاد ينظم لي لأن جدي أفتي بحرمة الاحتفال بعيد الميلاد وثار في وجه والدتي لما علم بما قمنا به ..مضيفاً بأن هذه إحدى بدع الشيطان ..عدت من جديد إلي أنستاسيا الغارقة وسط كم من الأغراض المقرطسة ..طلبت منها والدتها إحضارها معها ..وكانت تضج بالإشراق والابتهاج ..ولم أدر سبب هذه المعنويات العالية إلا بعد وصولنا إلي القرية ..فقد أثار وجودي بين أفراد أسرتها وجيرانهم وصديقات الصغيرة (باتريشيا) ذات العشرة ربيعاً موجة عارمة من الفضول والحماس ..وكان أكثر الحضور ترحيباً بي العمة فرانشيسكا ..والتي سبق أن عملت بالخارجية بسفارة الروس بنيروبي ..(أنّا) لم يرق لها استئثار عمتها بي طوال الحفل فطلبت مني أن نخرج لنتمشي قليلاً في حديقة المنزل غير مكترثة للبرد ..أرجوك لا تهتم بالعمة فرانشيسكا يا أويس ..إنها ( إيرما لادوس ) جديدة ولا أجد في نفسي ميلاً نحوها ..تصور إنها حامل وهي في هذه السن وبدون زواج ..إن والدي غاضب منها جداً ..وقد وبخها بشدة علي هذه الفعلة المشينة بيد أنها لم تستسلم وبادلته توبيخاً بتوبيخ ..الآن وقد أقلعت عن معاقرة الخمر وارتياد ( الخمارات ) تريد أن تصبح قديساً يا باساييف .؟!.
عبدالغني خلف الله
22-09-2013, 11:12 AM
الحلقة الثانية عشرة
عدت إلي النزل وأنا أدندن بكلمات أغنية حانية سمعتها في مكان ما ..في زمان ما ..كان الناس حينها يتبادلون فيهما اهداءات الأغاني تعبيراً عن الحب والأشواق ..تقول كلمات الأغنية ( أنّا في هواك آه جنيت أنا ..) فأين ذهب زمان الغناء الجميل ..كنت أشعر بسعادة غامرة ..فقد كنت ضيفاً علي أسرة أنستاسيا المترفة القادمة من أصول شيشانية ..وبينما أنا أخطو داخل الغرفة توقفت وقد انعقد لساني دهشة ..ذلك لأنني وجدت (شوماخر وأنجلينا) يتعانقان فوق(الصوفيا) الوحيدة بالغرفة ..عفواً لم أكن أعلم بأنكما في الداخل ..انتزعت أنجلينا وجهاً بللته الدموع من صدر شوماخر ..أوتبكين يا أنجلينا ..لماذا ؟ ماذا فعلت لها يا أخي ..؟ أسألها هي ..لماذا تبكين يا أنجي ..؟ قولي له أرجوك ..لقد كنت أواسيها فحسب ..إنها تشعر بالتعاسة وبأنها مهمشة ومهملة بسببك ..فهي تحبك يا فتيً وأنت لا توليها اهتمامك ..أنا ؟ ..أنا يا أنجلينا .أرجوك كفي عن البكاء فدموعك هذه غالية عندي ..طفقت أسّري عنها وأواسيها ..إن موقفك هذا يا أنجلينا يصيبني بالغرور والإحساس بالأهمية ..أنا لا أصدق ما أري وأظنك تبالغين يا أنجي ..دعك من كل هذا يا أويس ..فنحن بصدد البوح لك بأسرار ..أسرار ..وهنا تبادلت مع شوماخر النظرات وكأنها تقول له هل أخبره ؟ ..ثم واصلت حديثها معي ..أسرار خطيرة جداً ..أنا وشوماخر أعضاء في منظمة سرية تدعي ( بادر ماينهوف ) وقد هربنا من كولونيا بالمانيا بجوازات سفر مزوّره ..بعد أن اشتركنا في اختطاف وقتل رجل الصناعة المعروف ( شلاير ) ..تابعت حديثها وأنا أكاد أموت من هول المفاجأة ..أنتما أعضاء في منظمة إرهابية ويداكما ملوثتان بالدماء ؟ لا لسنا كذلك بالضبط ..ربما لم تكن تعلم بأن (شلاير ) هذا لا يتحرك إلا تحت حراسة مشددة ..عربة أمامه وعربة خلف العربة التي يستقلها ونصف دستة من رجال الأمن ذوي الكفاءة العالية ..وكانت الخطة تقضي بأن نعترض طريق عربته أنا وشوماخر تحت غطاء سيدة وزوجها يدفعان أمامهما عربة طفل صغير ..فنتظاهر بأن العربة الصغيرة وبداخلها الطفل قد انسربت من بين أيدينا وتدحرجت أمام عربته .. فتوقفت عربة شلاير لتندفع عربة شحن بها عدد من الزملاء المدججين بالسلاح فتفصل ( شلاير) عن حراسته وتقوم بتصفيتهم وتختطفه ..وبعد .. ماذا حدث ؟ أكملي يا أنجيلينا ..تقدمت منظمتنا بعدد من المطالب أهمها إطلاق سراح (أولريكا ماينهوف) مؤسسة المنظمة ورفيقها (بادر) من سجن (شتوتقارد) .. لكن (البندستاق) رفضها فقررت المنظمة ترحيل (شلاير) لفرنسا وهنالك قامت بتصفيته ..يا إلهي ..كيف سمحتما لنفسيكما بالانغماس في عمل إجرامي كهذا يا شوماخر ؟..لم نكن ننوي تصفيته ولكن السلطة أجبرتنا علي ذلك ..ولكن لماذا هذه المنظمة أصلاً ؟ ولماذا هي دموية بهذه الصورة المفزعة ؟ .. أنت لا تعلم حجم المعاناة التي يعانيها شعبنا ..لا تلتفت لهذه الصورة البراقة التي تشاهدها عبر أجهزة الإعلام عن ألمانيا الغربية ..إن الملايين يُستغَلون بلا هوادة داخل المصانع ..ولا وازع من ضمير أو أخلاق يثني الساسة ورجال الأعمال عن استغلال أهلنا وسحقهم حتى العظم ..لعلك لا تدري بأن العامل لدينا يعمل ثمانية عشرة ساعة متواصلة لا يمنح خلالها سوي نصف ساعة فقط ليعود في المساء وكأنه حصان عجوز وفي جيبه حفنة ماركات لا تساوي شيئاً ..ومع ذلك ممنوع عليه أن يتغيب ولو لساعة واحدة طوال الأسبوع وهو ممنوع من المرض وإذا ما مرض عليه أن يموت واقفاً في أقسام المصنع المختلفة ..أتفهّم ذلك يا أصدقائي ..صدقوني إن قضيتكم تبدو عادلة ولكن علاجها لا يجب أن يتم بهذه الصورة ..صدقوني ....فلماذا لا يكون التغيير عبر النقابات والإضرابات والاعتصامات .؟ ..لقد حاولنا كل ذلك دون جدوي ولابد من تغيير سلوك المجتمع ونمط الرأسمالية البغيضة بالقوة وبحد السيف.
ولكن لماذا تخصانني بهذا السر الرهيب ..لأننا نحبك ويريد شوماخر أن يكون نزيهاً في تعامله معك ..فلا يعقل أن تعيشا تحت سقف واحد ولا أحد منكما يعلم كنه الآخر ..لا ..لا ..يا عزيزتي أنجي ..ليس من الحكمة البوح بأسرار كهذه .. أنصحكما بأن لا تقعا في مثل هذا الخطأ الفادح مرة أخري ..إطمئن يا أويس ..نحن لا نثق بأحد غيرك ..فقط أردنا أن تعلم كم أنت غالٍ لدينا ..أو علي الأقل لديّ أنا ..قالت أنجلينا ذلك وهي تناضل كي لا تبكي ..معذرة أود شيئاً من الهواء الطلق ..مرحباً ..ومرة أخري حملت حملة شعواء علي شوماخر بعد مغادرة أنجلينا ..وحرضته علي ترك هذه المنظمة مستعيناً بكل ما أملك من حجة أو برهان .. لن تقنعني يا أويس مهما فعلت فهذه قضيتي وقضية شعب بأكمله وسأستمر في النضال من أجلها ..معذرة أريد أن ألحق بأنجي ..وأنا أيضاً أريد أن ألحق بشاهنده فقد وعدتها بأن نشكّل أنا وهي مظاهرة صغيرة أمام إحدى دور السينما بموسكو والتي تعرض هذه الأيام فلم ( الخرطوم ) الذي أنتجته هوليود وشارك به عدد كبير من كبار الممثلين ..وجدتها وقد جهزت لافتتين مكتوب عليها عبارة ( هذا تزوير للتاريخ ) فقد حمل الفلم علي المهدي والمهدية وكان لابد من التصدي له ولو بهذا الأسلوب البسيط والمسالم لا أن نفجّر دار السينما فوق رؤوس مرتاديها ..وجدتها وقد ارتدت الثوب السوداني الذي خلق منها تاجوج أخري ولبست أنا الزى السوداني التقليدي ..ولدي وصولنا إلي هناك حاول رجل الأمن المسئول عن الدار طردنا ومصادرة لافتاتنا ولكن مالكها الذي تصادف وجوده ذاك المساء سمح لنا بالوقوف قريباً جداً من المدخل وقد أضاف وقوفنا نوعاً من الإعلان والترويج للفلم عكس ما انتويناه ..وكان المارة يتوقفون ليقرءوا اللافتات ثم يتشاورون فيما بينهم لبرهة وينخرطون بالصفوف .
عبدالغني خلف الله
23-09-2013, 08:47 AM
الحلقة الثالثة عشرة
انصرفت بكلياتي إلي المذاكرة لا سيما وأن الامتحانات علي الأبواب ..وقد ساعدني في ذلك رحيل أنجلينا المفاجئ إلي جهة غير معلومة ..وقد فكرت بسؤال شوماخر عن سر غيابها ولكنني لم أفعل ..ألم تكن هذه هي نصيحتي لهما ..وكنت بصدد تجميد هذا ( السمستر ) لشعوري بأنني مشوش الفكر وضائع .. بيد أن أنستاسيا غضبت مني غضباً شديداً وتوعدتني بالقطيعة الشاملة إن أنا فعلت ذلك وتجاهلت توسلات إزابيلا عي الهاتف وأقنعتها بأنني في مشكلة حقيقية لقرب موعد الامتحانات وكثرة المواد ..وفي النهاية اقتنعت بعد أن وعدتها بأنني سأصحبها إلي (ستالينجراد) لزيارة عمتها هنالك بمجرد أن أضع القلم في آخر ورقه ..هذه المليونيرة الجميلة ماذا تريد مني ولماذا أنا بالذات ؟! وهذا الغموض الذي يحيط بكل شيء فيها ..لقد كانت علي وشك إخباري بقصتها لو لا أنها شربت كثيراً من الخمر في تلك الليلة العجيبة ..أمها انتحرت وتقيم في قصر مع عمتها ..وهي هنا في موسكو وليس في( بوغوتا) ..ما هذا الخلط المحيّر ؟
***
انتهت الامتحانات وتبقي أسبوع واحد علي إعلان النتائج وفكرت في التسكع مع بسام القادم من( نابلس) بالضفة الغربية في ( سان بطرسبرج ) ..تلك المدينة الساحرة التي تحتضن جده لأمه العالم والبروفسير في علم وظائف الأعضاء الدكتور نصيف ..استقبلتنا عائلته بترحيب شديد ولم تكن عائلة كبيرة فقط ابن واحد نجا من مذبحة (دير ياسين) بأعجوبة كبيرة وراح ضحية المذبحة ثلاثة من أطفاله وكان وقتها في رحلة خارج فلسطين ..وعلمت منه أنه حاصل علي الجنسية الأمريكية وقد زار إسرائيل لاستعادة بعض ذكريات طفولته هناك ..قال لنا وصلت (حيفا) ليلاً وفضلت الانتظار حتى صباح اليوم التالي ولمّا كان النزل الصغير قريباً جداً من دارنا وبستاننا فقد فضلت السير علي الأقدام ..كان هذا النزل قبل وصول اليهود عبارة عن مقهى الحاج عواد ..الرجل الطيب الذي طالما أدهشنا بموهبته الفذة في صناعة الشاي بالزنجبيل وبحكاياه المثيرة عن الحرب العالمية الثانية وكان قد حارب إلي جانب الحلفاء .. كل العرب حاربوا (هتلر) إلي جانب الحلفاء ..فماذا كانت النتيجة ؟! ..المهم حاولت وأنا أضرب بحذائي الثقيل أرضية الشارع الرطبة أن أعيد تشكيل الأشياء هناك ..وقرأت كل الوجوه الغائبة بفعل الموت أو الذبح أو التهجير القسري ..استعدتها الواحد تلو الآخر ..عماتي وخالاتي وأصدقائي ..حتى الأطفال الذين كانوا يدوزنون المكان بصخبهم وضحكاتهم ..استعدتهم جميعاً ..وكان ثمة بنايات جديدة قد نهضت ووجوه غريبة تذرذر الشوارع ولافتات كتبت باللغة العبرية ..كان كل شيء قاسياً علي قلبي ..كان قاسياً ..قاسياً يا بني ..مهلاً جدي ..بسام وهو يتدخل في الحديث .. كفاك ذكريات وآلام يا (بروف) ..بكي الرجل ..بكي كثيراً جداً لا أدري كم مضي علينا من الوقت وهو يبكي ..ناولته كوباً من الماء كان موضوعاً علي الطاولة بقربي ..تجرعه وهو يهمم ..استغفر الله العظيم ..استغفر الله العظيم ..شجعته علي الاستمرار في الحديث وكان بسام في تلك اللحظة قد خرج لإحضار بعض الأغراض أو هكذا خُيل إلي ّ لعلّه أيضاً قد انفعل بما يسمع وكان قد حدثني هو الآخر عن معاناتهم بسبب المستوطنين والإغلاق والحصار ومداهمات الجنود الإسرائيليين لهم تحت جنح الظلام ..إذن المأساة مستمرة بالنسبة للأجيال المهاجرة والأجيال الطالعة سيان ولا فرق بين العام 48 و88 ..أخذ نفساً عميقاً وواصل الحديث ..لم أجد صعوبة تذكر في الوصول إلي دارنا برغم الشوارع المسفلتة التي شوهت معالم الضيعة ومزقتها إرباً إرباً ..وصلت الدار وكان سوراً عملاقاً قد تم بناؤه فوق السور الأخضر المعشوشب علي زماننا الموشي بالقرميد والورود ..قرعت الجرس فجاءتني صبية صغيرة ..فتحت الباب وعندما رأتني أنكرتني في بادئ الأمر بيد أنني سألتها بإنجليزية رصينة إن كان والدها موجوداً بالداخل ..اطمأنت نوعاً ما وطلبت مني الانتظار ريثما تُعلمه بقدومي ..حضر رجل في العقد الخامس من عمره وكان أوربي الملامح ..وهو من النمسا تحديداً وقد علمت بذلك طبعاً بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث ..حدثته عن الغرض من زيارتي وقلت له أنت تسكن في منزلي .. ماذا ؟! هل جننت يا رجل ..لا بد أنك أخطأت العنوان أو ربما فقدت ذاكرتك أو ..لم أفقد ذاكرتي وأنا بكامل وعيي ..وهنا ناولته جواز سفري ..أنت أمريكي إذن ..لا بد أنك تمزح ..من أرسلك من أصدقائي في (نيوجرسي ) .. لا أمزح يا عزيزي ..نعم هذا المنزل يخص عائلتي ..صحيح أنه لم يكن بهذا التحديث ..ولكنه منزلنا وقد ولدت أنا بتلك الغرفة وولد أطفالي ..هنا كانت البئر الصغيرة التي كنا نسحب منها الماء بواسطة الدلاء قبل أن تأتوا أنتم وتغتصبوا أرضنا ..أنظر .. وكانت بعض بقايا الآجر والطوب لا تزال تتشبث بالأرض أنظر إنني أحفظ هذا المكان شبراً شبراً ..ولم يغب عن ذاكرتي أربعون عاماً ونيف ..كان الرجل لطيفاً وكذلك أفراد عائلته وكانتا صبيتان وطفل رضيع ..أنا أقدر شعورك وانتماؤك لهذا البلد ولكنني دفعت كل شقاء عمري وما أملك لشراء هذا المنزل من الدولة ولا علم لي بمالكه الحقيقي ..أنا لا ألومك ولا أنوي مقاضاتك أو إزعاجك .ولكنني كبرت وأود أن تكتحل عيناي من هذا المكان قبل أن أفارق هذه الحياة ..طبعاً ..طبعاً حضرة البروفسير ..علي الرحب والسعة ..علي الرحب والسعة وهكذا هيئوا لي غرفة مطلة علي الوادي حيث بساتين الزيتون والعنب ..بساتيننا ..وأمضيت الساعات الطويلة وأنا أحدق في الفراغ العريض مستعيداً كل لمحة وكل دقيقة أمضيتها هنالك وودعتهم علي أمل الالتقاء بهم مرة أخري وقدمت لهم دعوة لزيارة (سان بطرسبرج) ..أنظر ..وكان في هذه اللحظات قد تناول ألبوماً عملاقاً يحتوي علي مئات الصور ..هذا هو المستر (فاغنر) وهذه (هيلين) زوجته وأطفاله الرضيع الصغير ويدعي مارك والصبيتان مارلين وآندي ..وحاول تعريفي بصور قديمة بالأبيض والأسود لأطفاله وأقربائه الذين قضوا في المذبحة فسقط الألبوم من يده واستأذنني ليرتاح قليلاً ..وأصداء آهاته وأنّاته عالقة بقامته المديدة وهو يربط الروب حول خصره ويغيب في الجانب الآخر من المنزل ..التقطت الألبوم وأضجعت علي الأريكة ..أغمضت عينيّ وتصورت أن عدواً ما سيقتلعني وأهلي من جذورنا بواد مدني ويقذف بنا خارج السودان فأصابني رعب حقيقي لم يتبدد إلا بعد عودة بسام بابتسامته العريضة وهو يسأل أين جدي ؟!
عبدالغني خلف الله
30-09-2013, 07:25 PM
الحلقة الرابعة عشرة
أويس ..أخي الحبيب أويس ..ماذا بك يا شاهنده ..ولماذا أنت مضطربة هكذا ؟!..كارثة ..كارثة يا أويس ..إهدائي أرجوك واخبريني ما الأمر ؟ ألم تسمع ال( B.B.C) اليوم ..؟ لقد قالوا أن زلزالاً مروعاً ضرب المنطقة الواقعة حول (مظفر أباد ) وأن دماراً هائلاً قد لحق بالمباني وهنالك قتلي وجرحي ومشردون بلا مأوي ..آه يا أويس ليتني مت قبل أن أسمع بذلك ..لا تقولي هكذا يا شاهندة وأنت فتاة مسلمة ولن يصيبكم أذى إن شاء الله ..هل تعتقد ذلك يا أويس .. أنا لا أعتقد ولكنني أرجو الله مخلصاً أن يجنب بلادكم الكوارث والمحن ..وهنالك المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة ..الكل سيقف إلي جانبكم ..نحن لانريد المجتمع الدولي ولا منظمات الإغاثة ..إنها تظهر فقط وقت وقوع الكارثة وتصور المشاهد المرعبة لاستقطاب الدعم ثم لا نسمع عنهم شيئاً ..ما نوده هو وقوف أخوتنا في الإسلام ..المسلمون ؟!! ..وأين هم يا شاهندة أين هم ؟ ..هل تسّمين هذه الشعوب المتصارعة والمتناقضة مسلمون ..والآن ماذا أفعل يا أويس ؟ أنا خائفة جداً ..خائفة يا أخي الغالي أويس ..أرجوك دعني أتشبث بك فأنا أوشك أن أفقد الوعي ..أشعر بضعف شديد ..ومن ثم ّ تهاوت نحو الأرض وهي ترتجف بصورة مقلقة جداً ..شاهنده تماسكي ..حبيبتي خذي نفساً عميقاً ..ببطء ياشاهنده ببطء أكثر ..هيا مرة أخري ..هيا ..هكذا أفضل ..ضعي ثقلك علي كتفي ..ها ..كيف تشعرين الآن ..أشعر بشيء من التحسن .. لقد فقدت شقيقي ولا أريد أن أفقد بقية أفراد عائلتي .. يا رب ..خذ بيدهم ..يا رب ..فأنا أحبهم جداً ..اللهم آمين .. قلت لها وأنا أجلسها علي أريكة قرب النافورة الكبرى ..ارتاحي قليلاً ودعينا نراجع عيادة الجامعة والطبيب المناوب ..أنت طبيبي وأخي يا أويس ..لست بحاجة إلي الطبيب ..أحتاج فقط إلي وجودك إلي جانبي ..لكنني أفكر في ترك الجامعة والعودة إلي كشمير لأكون قريبة من أهلي أموت وأحيا بقربهم ..لا يا شاهندة ..ليس هذا رأياً صائباً ..لقد تبقت لك سنة واحدة ويجب أن تصبري قليلاً ..ثم تعودي وقد حققت طموحات أهلك وبلدك فيك ..أتمني لو أستطيع .. أتمني أيها الغالي أويس .
هاأنا ألوذ بصديقي وزميلي في الغرفة ( شوماخر ) وتعليقاته الساخرة حول كل شيء لدرجة أنه يسخر أحياناً من نفسه ومن الألمان بشكل عام .. فقد كنت حزيناً ومهموماً وتحولت في الآونة الأخيرة إلي صندوق للأحزان .. الكل يطرح همومه علي قلبي وأنا لست مؤهلاً بعد لتحمل عذابات جميع هؤلاء الأعزاء ..شاهندة من جهة والتي تتوقع أسوأ الاحتمالات بعد الزلزال الذي ضرب بلادها ليضيف بعداً جديداً للمأساة القائمة أصلاً بسبب تقسيم كشمير بين شطر هندي وآخر باكستاني تقلقني اخشي أن ترحل فجأة ولا أجدها بقربي .. كم أشعر بأنني مشدود إليها ولا أملك تفسيراً لتعلقي بها ..هل هو إحساس أخوي ؟ ..هل هو حالة من الحب ؟ لا أدري .. إييه ..وكم هي قصيرة وحلوة هذه الحياة وليت الساسة في العالم المأفون هذا يعطي حق تقرير المصير لكل شعوب الأرض لتعيد لمرة واحدة وإلي الأبد تشكيل نفسها وهويتها وترابها ..بدلاً عن هذا التشتت والقهر والطغيان وإلا فليقل لي أي عارف متنفذ إن كانت هذه الحدود القائمة الآن بين الدول قد نزل بها القرآن أو الأنجيل ..دعوا كل قومية تلتئم من جديد وأعيدوا رسم الأمم وفق رغبات شعوب الأرض .. ساعتها ستختفي هذه الصراعات المريرة وهذا القتل والتشريد والعدوان ..لم أعد احتمل كل هذه المآسي وزاد الطين بلة كما يقولون انفعالي بقصة ( البروفسير نصيف ) وداره المغتصبة في (حيفا) وبكاؤه أمامي مثل طفل صغير رغم كل ما ينطوي عليه الرجل من علم وثقافة وإنسانية ..لا .. لا ..هذا كثير جداً ..(شوماخر) يا جاري العزيز ..لماذا شعبكم جاد وعملي ومتغطرس ..متغطرس ؟! ..هل قلت متغطرس ..؟ ..إننا أطيب شعب في الوجود ونعشق النكتة والضحك والسخرية ..صحيح أن وقت العمل للعمل ..خمسة أيام من كل أسبوع عمل دؤوب ولا مجال للتراخي أو التسيب ويومان هما السبت والأحد نمارس فيهما هواياتنا المختلفة ..نركب الدراجات لعشرات الكيلومترات داخل الأدغال الكثيفة والغابات ونغني ونرقص في الأمسيات ونتناول القهوة والعصير ونحن نمضي سويعات نهار كل أحد مع الأصدقاء بالمقاهي و(الكافتريات) ..نحن نستمتع بوقتنا ونؤمن ببلدنا ألمانيا العظيمة ذات التاريخ العريق ..وهل لديكم أدغال مثلنا يا (شوماخر) ؟! ..بل غابات علي مدي البصر فقد حكم ألمانيا في القرون الوسطي قيصر مهووس بالحفاظ علي البيئة وأصدر قانوناً يقول ..أن كل من يقطع شجرة يشنق في الشجرة المجاورة لها ..أنت تمزح يا (شوماخر) ..عندنا تقطع الشجرة لأتفه الأسباب وقد تجتث من جذورها لمجرد تحويلها إلي بضعة جوالات من الفحم ..أليس لديكم غاز أو فحم حجري ؟!..هذا تصرف بشع يا أويس ..لم يتبق إلا أن تعيرونا قيصركم ذاك ليفرض علينا قوانين كهذه حتى لا نعبث بالغابات ..ولكن قل لي ..ما نوع النكات التي يتم تداولها في مجتمعاتكم ..؟ ..النكات لا تصنف وليس هناك شكل معين للنكتة أو الطرفة .. بل للنكتة مناخ وتصور معين يا (شوماخر) ..نحن مثلاً في السودان وبالنظر لتركيبتنا القبلية ..نتبادل الحكايات عن هذه القبيلة أو تلك ..خذ هذه النكتة ..كان قروي من الريف البعيد يستمع للأخبار فعلم أن الأمريكان قد صعدوا للقمر ..التفت إلي جاره وقال ..ماذا سيفعلون آخر الشهر ؟! ..لم أفهم النكتة جيدآ يا (أويس) ..بيد أننا نسخر من قبيلة في ألمانيا تدعي (أوست فريزلاند ) ..وهي منطقة رعوية وزراعية لم تتأثر بعد بالحداثة .. يقولون لك .. عندما حطت (الهلوكبتر) أول مرة في ( أوستفريزلاند) ..قدموا لها ( البرسيم ) .. ويقولون لك إذا رأيت شرطياً هنالك يضع علامة ( كتاب ) فوق كتفه الأيمن ..هذا يعني أنه يعرف القراءة والكتابة ..أما إذا رأيته وقد وضع علامة كتاب علي كتفه الأيمن وثان علي كتفه الأيسر فهذا يعني أنه يعرف شخصاً آخر يعرف القراءة والكتابة .
عبدالغني خلف الله
03-10-2013, 07:37 AM
الحلقة الخامسة عشرة
اليوم نرفع راية استقلالنا ..كما يقول المغني وقد وصلتني دعوة من سفارتنا بموسكو لحضور الحفل المقام بمبني السفارة بهذه المناسبة ..واغتنمت هذه الفرصة لأدعو أصدقائي بالجامعة لحضور الاحتفال .. كذلك دعوت ( إزابيلا ) التي تعهدت بتوصيلنا بعربتها ( الأستيشن واقن ) الجديدة .. كنت متحمساً لتلك الأمسية ولم أنس طبعاً شاهنده وأنستاسيا وبسام ونعوم الطالب الإسباني الذي حضر من إقليم (الباسك ) وهو من جذور عربية من جنوب لبنان ..وكان شوماخر قد أفقدني صوابي وهو يتأنق ويعيد ربطة عنقه أكثر من مرة ليعرف رأيي ..أيها تناسب بذلته الأنيقة وافتقدت في تلك اللحظات ( أنجلينا ) بقوامها الممشوق وضحكاتها المجلجلة ..وكأنها قرأت أفكاري لتقتحم الغرفة في نفس اللحظة التي كنت أفكر بها .. قذفت بحقيبتها العملاقة علي السرير وأخذتني بالأحضان تضمني بقوة تكاد تهشم أضلعي وهي تردد ..لقد اشتقت إليك أيها الزنجي الماكر ..اشتقت إليك يا أويس ..كان يبدو عليها التعب والشحوب وكأنها قد وصلت من السفر للتو .. لماذا لم تخبريني بموعد وصولك لآخذك من محطة القطارات ..؟ شوماخر وهو يسلم عليها ..إييه يا( شرودر ) ..شرودر ؟ .. هل إسمك شرودر يا شوماخر ؟ ..تساءلت في استغراب ..لا ..لا ..شرودر هو أسمي الأول وشوماخر هو اسم العائلة ..الاسم الرسمي ..وبما أنك صرت أعز أصدقائي بالجامعة بإمكانك مناداتي بشرودر وبدون تكلف ..الآن فهمت .. سأحضر لك زجاجة كولا بسرعة من الكانتين ..( ناين ..ناين ..إش بن كابوت ) ..لا ..لا .. فأنا مرهقة جداً ..كأنكما علي وشك الخروج لحفلٍ ما أو شيء من هذا القبيل ..نعم فاليوم هو العيد الوطني للسودان وقد دعانا أويس لحضور حفل يقام بسفارة بلادهم .. معذرة أيها الأصدقاء .. سلفوني غرفتكم لأنال قسطاً من النوم ..يا إلهي كم أنا متعبة ..وهل نلتم منه ؟! ..ليس بالضبط ..ثم ولمّا شعرا بوجودي حاولا تغيير الموضوع .. قلت لهما .. الكولا ..سأعود حالاً ..وخرجت وسط صيحاتهما ترجوني أن أبقي ..إنهما عضوان في منظمة سرية ولهما دوافعهما ومنطقهما في ذلك فلماذا أقحم نفسي بينهما .. منحتهما بعض الوقت للتحدث بحرية وحين جئت بزجاجة الكولا وجدتها قد وصلت إلي ..(جراحه خطيرة جداً وقد قتلنا سائقه ..) ..إحم ..إحم ..عفواً ..الكولا ليست مثلجة ولكنها تفي بالغرض .. وقد علمت فيما بعد أن العملية كانت تستهدف قاضياً كان قد حكم بالسجن المؤبد علي ( أولريكا ماينهوف ورفيقها بادر ) المؤسسين الحقيقيين للحركة وكانت (أنجلينا ) قد عادت إلي ألمانيا وإلي (فرانكفورت ) عبر شبكة معقدة من الطرق والتدابير الاحترازية لعلمها بأنها مدرجة في قائمة الإرهابيين المحتملين لتقود عملية الاغتيال الفاشلة تلك ..كم أشعر بأحاسيس متناقضة تجاهك يا ( أنجي ) .. معقول هذا الذي أسمع وأري .. كيف لهذه النعومة والجمال والتقاطيع المموسقة أن تقتل وتسفك الدماء .. كيف ؟!!!
( يا الله .. ) ..ومالي أنا ..؟ ..ماذا تعني ب( ومالي أنا ) ..تصادق قتّلة وسفاكي دماء وتقول ببساطه ( ومالي أنا ) ..ماذا بإمكاني فعله ولم أفعل ؟ إنها دواخلي توبخني علي هذا السلوك السلبي تجاه ما يفعله شرودودر وأنجلينا .. هل أبلغ الشرطة الروسية بأن بالجامعة ثمة إرهابيون ..؟ لا ليس هذا ما أقصده بالضبط ..عليك أن تدير معهم حواراً هادئاً ومتصلاً ..بأن القتل من أجل فكرة ما ليس عدلاً وأن الحوار والمقاومة السلمية هي الأجدى في مثل حالتهم .. إنهم لا يواجهون عدواناً من أحد وبلدهم ليست محتلة ..وحتى وإن كانت محتلة فإن بنادقهم يجب أن توجه نحو المحتل ولا يجب أن تكون المقاومة مبرراً لسقوط ضحايا خارج دائرة الصراع ..إن المدني حين يفقد حياته في خضم معارك التحرير لا يفقدها وحده بل تفقدها عائلته وربما حبيبته التي حمل صورتها في جيب قميصه وفي حنايا قلبه ..مستر أوليس ..مستر أوليس ..كريموف مرة أخري..
أصدقاؤك بالبوابة الرئيسية يستحثونك علي الخروج ومعهم عربة تقودها سيدة جميلة ..هل هي ( برجيت باردوث) يا مستر أوليس ؟ ..هل تقبل بها زوجة يا كريموف إذا خطبتها لك ؟ قلت وأنا أداعبه كعادتي منذ انتقالي للداخلية الغربية .. ؟ ..ليتك تفعل سيدي . .فهي ساحرة جداً .. وهذا الشيب الذي علي رأسك ..سأخفيه بطريقة أو بأخرى .أوأنت جاد فيما تقول يا كريموف ؟ ..( أنجلينا ) وقد صادف الموضوع هوي في نفسها .. لماذا لا تتزوجني أنا ؟! ..أنت ..؟! ..أفعل سيدتي ..أفعل بكل احترام ..وضحكنا ربما لأول مرة بعد أيام من الحزن والدموع .
عبدالغني خلف الله
07-10-2013, 11:58 AM
الحلقة السادسة عشرة
تلقفتنا المجموعة أنا وشرودر وهذا طبعاً اسمه الجديد بابتهاج شديد ما عدا ( أنستاسيا ) التي حدقت في ساعة يدها وهي تهمهم ..نصف ساعة تأخير يا أويس ..نصف ساعة أيها الإفريقي المفتري .. هل ظننت بأننا مزارعون ذاهبون لقطف الموز ؟
جلست قرب شاهنده وقد منحتني كفها أشد عليها بقوة طوال المشوار لأمنحها معنويات إضافية بعد أن تأكد لها أن أفراد أسرتها قد نجوا من الزلزال ..وهمست في وجه ( إزابيلا ) بتحية مقتضبة جاوبتها بعبارة ( هاي ) ومن ثمّ انطلقنا ..و كان الحفل أسطورياً وباذخاً عكس عظمة السودان في شتي المجالات بالإضافة إلي معرض للمصنوعات الجلدية واليدوية المختلفة وقد ازدانت جدران القاعات والممرات بالسفارة بصور تجسد الطبيعة والتاريخ والوجوه والسحنات العربية والزنجية والهجين وكأن السودان أمم متحدة مصغره .. شرب المدعوون الكركدي الساخن فطرد من عظامهم البرد القارص وكانت ثمة إيقاعات صوفية تلون المكان ..أخذ كل مدعو موقعه بالقاعة الرئيسية وبثت أفلاماً تسجيلية تعّرف الحضور بالسودان ..مناخاته وأقاليمه ورقصاته الشعبية ..وقد تفاعل الجميع مع الدفوف الإفريقية الصاخبة ورقصات القبائل النيلية والاستوائية وتعلقت عينا ( أنستاسيا ) برقصة السيف رقصة ( كسلا) وهي تتمايل يمنة ويسرة ثم وفي لحظة حبور عارمة غادرت موقعها فرقصت بنفس الطريقة أمام المسرح الصغير وكأنها قد قدمت من سفوح ( أولوس ) بجبال التاكا وشاركتها في الرقص بعض زوجات الدبلوماسيين ..وكان عرساً سودانياً رائعاً أعادني في طرفة عين إلي إستاد الأبيض عروس الرمال الساحرة وكان وقتها والدي قد انتقل من أم روابة ليعمل في بلدية الأبيض ..فقد أقيم الاحتفال الرسمي بعيد الاستقلال بالأبيض ذاك العام وتضمن مهرجاناً ضخماً أعد له إعداداً جيداً ..وكانت من ضمن الفقرات عروضاً أشرف عليها خبراء من كوريا الشمالية جُمع لها عدد ضخم من الطلبة والطالبات بمدارس الولاية المختلفة .. وكان مطلوباً مني وسبعة آخرون من الطلبة والطالبات أن نشكل حرف الألف في السودان بأجسادنا عبر حركات متفق عليها ووفق الفقرات الموسيقية المنبعثة عبر مكبرات الصوت تعزفها فرقة موسيقية تابعة للقوات المسلحة بزيهم الأحمر والأزرق ..مضت البروفة بسلام وعندما هممت بالاستلقاء علي ظهري بالقرب من الطالبة التي ترقد بجانبي التفت لأجد الآنسة المقابلة بملامحها الجميلة وقدها الفارع ليست سوي ( رزان ) .رزاااان عبدو هنا..؟!! ..أويس مرغني الفاضل ..؟!! .. شبكنا أيدينا ورحنا في ضحك أقرب للهستيريا .. وأنتقل بقية الطلاب للحركة التالية وبقينا في رقدتنا يدانا مشبوكتان والضحك الذي تحول إلي نهنهات وبكاء أدهش الذين يلوننا في العرض فارتبك الجميع وضاعت معالم (السودان) في خضم الفوضى التي عمت المكان ..أوقف المعلم المختص ( البروفة ) ..واستدعانا ليوبخنا وينذرنا بالجلد إن لم نلتزم بقواعد المهرجان وذهب لأبعد من ذلك فأسند لفتاة أخري موقع رزان وأرسلها إلي آخر درجة في أعلي الإستاد .. بيد أنني تقصيت مكانها ووجدتها بداخلية بنات الأبيض الثانوية أمام السكة حديد .. جلسنا في غرفة الاستقبال بالساعات الطويلة نستعيد ذكريات ماضينا في (واد مدني) وعلمت منها أن والدها يعمل الآن بمدرسة (سودري) حاضرة (الكبابيش) وأن كبري شقيقاتها قد تزوجت .. ومرة أخري افترقنا مع نهاية أيام المهرجان .. ودعتها عبر ثناياصندوق الباص الذي أقلهم إلي مناطقهم وكان الجميع ينشدون ..( أمتي يا أمة الأمجاد والماضي العريق ) ..ومرة أخري بكت وهي تودعني وتوصيني أن أحافظ علي نفسي وأقسمت لي بأنها لا ولن تفكر في أحد غيري وبأننا سنلتقي مجدداً طال الزمن أم قصر ..بإذنه تعالي.
عبدالغني خلف الله
20-10-2013, 09:15 PM
الحلقة السابعة عشرة
ظهرت نتيجة الامتحانات وكانت لحظات مشحونة بالترقب والتوتر ..لقد نجحت في العبور للصف الرابع بصعوبة شديدة وكان عليّ الجلوس لأكثر من ملحق في مواد فرعية لا تؤثر علي الناتج الكلي للنتيجة وقد تزامن إعلان النتائج مع وصول الطلاب الجدد للجامعة ..جامعتنا التي تشبه الأمم المتحدة ..ولو كان(لوممبا) حياً يرزق لتعجب من هذه (البانوراما) البشرية الغريبة .. وقد كلفتني إدارة الجامعة بوصفي من الطلاب ( السينيرز ) أن أكون إلي جانب (أنستاسيا) في تسجيل وإسكان هؤلاء القادمين من شتي بلدان العالم ..جلسنا في مكتب المسجل ..( أنّا ) علي الدرج وأنا إلي يسارها ..كانت متألقة جداً لدرجة كادت أن تقضي عليّ وقد وضعت شيئا من ( الروج ) الرمادي فوق شفاهها العنبية ونضحت بعض العطر .. هل فعلت كل هذا من أجلي ؟! ..ولم لا ؟!.. لا بد أنك بت مغروراً أكثر من اللازم يا أويس ..تذكر من تكون ..قروي أنتجته حقول القطن ودقيق الذرة والقديد المسحوق ولو لم توفق في الدخول إلي ( حنتوب ) الثانوية لكنت في هذه الساعة تفترش الأرض وتبيع البصل والخضروات في سوق (الملجة) ب( وادمدني ) ..أشكرك يا ضميري الغائب علي هذا النصح ..أعتقد بأنني رأيتك من قبل سيدتي ..ولكن أين يا أويس ؟! ..أين يا أويس ؟! ..قلت لها ذلك مداعباً وأنا أقف لتحيتها وكنت قد وصلت المكتب قبلها وأضع القلم الذي أحمله داخل فمي أنظر نحو أرضية المكتب وأضربها برجلي في تتابع بطيء ..وهي تنتظرني لأكمل هذا المشهد وقد ارتسمت ابتسامة غامضة علي شفتيها ..نعم ..نعم ..لقد تذكرت ..لقد شاهدت فلمك الأخير ..(ضيف علي مائدة العشاء الأخير) ..ألست الفنانة المشهورة ( مارلين مونرو ) سيدتي ..؟! ضحكت من أعماقها وهي ترجوني أن أكون جاداً ولو لمرة واحدة ..وأنا أيضاً أخالني رأيتك من قبل ..قالت وهي تقلدني بنفس الطريقة ..ألست المهرج ( أندرو ) الذي كان ضمن الإكروبات الرومانية قبل أيام ؟ ..وبالفعل ..حضرت إلينا من (بوخارست) فرقة أكروبات قدمت عروضاً رائعة بمسرح الجامعة ذكرتني فرقة الأكروبات السودانية وتلك الفتاة التي تكور نفسها مثل ورقة ( التسالي ) ..وكانت بالفرقة الرومانية فتاة أعجبتني لدرجة الجنون .. لم تكن تؤدي دوراً ما ولكنها فقط تناول اللاعبين أشيائهم أثناء تقديم الفقرات بطريقة أنيقة ومدهشة وفي رشاقة تحسدها عليها فراشات نهر ( القاش ) ثم تنحني وتتراجع إلي الوراء كأنثى ( البجع ) .. وكنت حريصاً علي العثور عليها بعد العرض والتودد لها وربما أخذ توقيعها .. بيد أنها ذابت داخل الخيمة العملاقة ولم أعثر لها علي أثر ..وكررت المحاولة صبيحة اليوم التالي بينما الفرقة تلملم أشيائها داخل الشاحنة الكبيرة وتغادر المكان ..إييه يا قلبي ليتني وجدتها ..هل كنت ستترك الجامعة وتنضم للفرقة بسببها ؟ ..لا .. ليس هذا ما أرمي إليه ..أي قلب أنت يا قلبي تجرجرني نحو الجميلات كبوصلة معطوبة ثم توبخني وكأن الأمر لا يعنيك في شيء .
إسمي (إدوين) وهذه (روزماري) ونحن من (بلفاست) من (إيرلندا) ..نعرف (إيرلندا) وطن الشعر والفنون الجميلة .. قلت له وأنا أطالع (روزماري) التي وقفت خلفة وقد حملت بيدها كوباً من الشاي وكأنها في الكافتيريا .. أعجبني قوامها الممشوق وطلتها الساحرة ولم يعجبني تصرفها غير الرسمي ذاك ..كوب من الشاي في حضرة ( إنترفيو ) محترم .. لو فعلت ذلك أمام لجنة قبول بإحدى جامعاتنا لقذفوا بها من النافذة .. لم تكترث ( أنا)ّ التي تقبلت الأمر بصدر رحب وقد بالغت الصبية حين أخرجت علبة سجائرها وأشعلت سجاره وأخذت نفساً عميقاً ونفثت الدخان في وجوهنا في تصرف أغاظني بدرجة لا توصف .. مرحباً بكما في ( الأونيفيرستيت دورشبي ) وزميلي أويس سيتكفل بإرشادكما لمكان الإقامة وقاعة الدرس .. ومن ثمّ استدارا ليغادرا ..عفوا .. لو سمحتما ..قلت وأنا أستوقفهما من جديد ..كيف حال (الجيش الجمهوري الإيرلندي) هذه الأيام ؟! ..شهقت الفتاة وسقط كوب الشاي من يدها وهي تردد أنا آسفه ..أنا آسفه ..وكأنها قد فوجئت بسؤالي .. ليس لدينا صلة بالسياسة ولا علاقة لنا بالجيش الجمهوري ..أدوين وهو يجيبني بشيء من الامتعاض ..وولاؤنا للتاج البريطاني لا أكثر ..شكراً لكما انتظراني بعد ساعة من الآن قرب مدخل المكتبة الكبرى ..سنفعل ..بالإذن ..( أنّا ) لم تعجبها مداخلتي تلك بيد أنني أراهن بأنهما أعضاء في تلك الحركة وإلا فيم كل ذلك الاضطراب الرهيب ..وتوالت قافلة الطلاب والطالبات من جديد ..طلاب من سيريلانكا ذكروني ب(نمور التاميل) ..من إيطاليا فتذكرت (الألوية الحمراء) ثم اليابان والجيش الأحمر الياباني والساندنستا .. وحزب العمال الكردستاني والخمير روج وغيرهم وغيرهم ..وهكذا تحولت جامعة الصداقة جامعتنا العريقة من صرح تعليمي إلي قلعة للمناضلين من أجل الحرية وهذا بالطبع من حقهم ولكن ..لكن ماذا ..لكن فحسب .
عبدالغني خلف الله
21-10-2013, 09:18 AM
الحلقة الثامنة عشرة
أسبوع ( تمام ) ونحن نتراكض بكل الاتجاهات لنحصل علي أماكن لسكن الطلاب الجدد أنا وأنستاسيا ..كانت تفضل إسكان الطلاب مع الأسر حتى يتعلموا اللغة الروسية بسرعة لا سيما مع وجود أطفال .. فهم ينطقون الكلمات ببطء ويمطونها أحياناً فيسهل التقاطها مع الممارسة بعكس الكبار الذين يتحدثون بسرعة ويلوكون الحروف وكأنها علكة (هنغارية) .. وبعد أن أنجزنا مهمتنا بنجاح منحتنا إدارة الجامعة مبلغاً لا بأس به كحافز وكانت فرصة جيدة بالنسبة لي اقتربت خلالها أكثر من غاليتي ( أنا ) .. وكنت قد اشترطت عليها وأنا أقبل عرضها بمساعدتها بأن لا ركض أثناء العمل ..كيف يتسنى لي مجاراة طوربيد بشري ينطلق بسرعة مائة ميل في الساعة ..حسناً .. موافقة ولكن لي أيضاً شرط أيها الإفريقي الكسول ..المشي بسرعة أكثر والالتزام بالمواعيد .. حياتكم سهلة ..تستلقون تحت ظلال الغابات الاستوائية بأفريقيا وصغار الشمبانزي تسقط لكم الثمار من فوق أعلي الشجرة لأنكم لستم بقادرين علي الصعود لأخذها ولا حتى أن تهزوا بجزع الشجرة ..والأسماك تحبو حتى موطئ أقدامكم داخل أكواخكم ..فلماذا تعملون ..؟ الآن أفهم لماذا ترفض فكرة الركض لتنشيط الدورة الدموية والإنتاج معاً .. لا تظلمينا بهذه الصورة الظالمة يا ( أّنا ) ..لو كانت لكم شمس مثلنا تذيب ألواح الألمونيوم وتحولها إلي كرات صغيرة لالتمست لنا العذر ..الشمس التي تهزجون باسمها في أغنياتكم هي التي تعوق نهضتنا .. قلت لها ذلك وأنا أعلم بأننا لا نعمل كثيراً وإسهامات معظمنا في الناتج القومي متواضعة جداً ..لم يتبق إلا أن يأتي رئيس فيفرض علي كل مواطن ربط معين من الإنتاج .. وسأفعل فيما لو أكملت دراستي وانتخبت رئيساً للسودان .. أقسم بأنني سأجعل الجميع يركضون في كل اتجاه ..ساعتها سيصبح الجلوس بالمقاهي ولعب (الطاولة) والورق والتسكع بالفرندات والجلوس في ضل الضحى أثراً من آثار الماضي.
والآن صرنا أغنياء فجأة يا أويس ..فماذا نفعل بكل هذا الثراء ..هل تسمين حفنة ال(روبيلات) هذه ثروة يا ( أنّا) ..؟علي كل حال نحمد الله كثيراً عليها ..شيءُُ خير من لا شيء ..لقد أبلينا بلاءاً حسناً ونحن نستحق هذه الملاليم وأكثر ..إذن دعنا نمضي عطلة نهاية الأسبوع مع أسرتي ..إنهم يسألون عنك بإلحاح غريب ..خاصة العمة (فرانشيسكا) ..هل تتذكرها ..طبعاً .. لا أظنك تريدين تزويجها لي ..إياك ..إياك ..سأغتالك يا ( أنّا) إن فعلت ..إطمئن يا أويس أنت كثير جداً عليها ..وعليّ أنا أيضاً ..أشكرك علي هذه المجاملة اللطيفة ..فماذا ننتظر إذن ..أوقفنا عربة أجرة .. وسألت السائق عن كلفة المشوار قبل أن نصعد إلي العربة .. أدخلت يدي في جيبي لأدفع المبلغ بيد أن ( أنّا ) استوقفتني وأصرّت علي أن تدفع هي .. وأقسمت أمامها بأنني سأدفع أو نلغي المشوار من أساسه ..أخيراً أذعنت لرغبتي وركبنا وهي تغمغم .. هذا شيء غير معقول ..عفواً سيدي .. لماذا إصرارك علي تحمل كلفة المشوار وحدك ؟ .. السائق وهو يتدخل في النقاش الدائر بيننا ..السبب بسيط جداً مستر ..ذلك لأن تقاليدنا لا تسمح للمرأة بأن تدفع بالمركبات العامة ..وقد يدفع الرجل في كل مرة قيمة التذاكر داخل الحافلات لعشرة سيدات أو أكثر .. ليس بإمكاننا أن نترك سيدة تدفع قيمة تذكرتها ما دامت تربطنا بها صلة ..أي صلة ..قرابة أو زمالة في العمل أو حتى بنت الجيران .. وهذا السلوك هو جزء من تراثنا وقيمنا التي نحرص عليها بشدة والأمر ينطبق علي المطاعم والمنتزهات ودور السينما وما إلي ذلك ..هذا شيء لا يصدق ..وأنا شخصياً أبالغ في الكرم أكثر من غيري ..لأن جدي الثامن شخص يدعي ( حاتم الطائي ) ..صحيح يا أويس ..لقد انشغلت عن سيرة أجدادك في الآونة الأخيرة ..أذكر أننا توقفنا عند جدك التاسع ..ستقص عليّ القصة أثناء العطلة أليس كذلك ..لا للا.. أرجوك سيدتي دعيه يقصها علينا أثناء المشوار .. السائق وقد راق له الموضوع .. وهكذا حدثتهما عن ( حاتم الطائي ) وكرمه الذي سارت به الركبان وأصبح مضرب الأمثال وكيف أنه كان غنياً جداً وكريماً جداً في الوقت نفسه .. يمتلك مئات القطعان من الإبل والأغنام .. ومئات الخدم والحشم .. وقلت لهما أنه كان يرسل خدمه إلي تقاطعات الطرق ومن يعود ومعه ضيوف يعتقه ويحرره من العبودية .. يعتقه لأنه أضاف له أعباءً اقتصادية جديدة ترهق الميزانية ..هذا في عرفكم أنتم يا ( أنستاسيا ) ..ولم أنس طبعاً ( السفانة ) و(مئوية ) شقيقتها الأصغر التي كان شعرها بحاجة إلي خادمة متفرغة لتحمله عنها في غدوها ورواحها ..حتى لا تجرجره خلفها علي الرمل من شدة طوله .حدثتهم عن طفولته كما روتها أمه ..قالت ..ماتت جارتها وكان لها طفل رضيع في مثل عمر حاتم فطلب منها إرضاعه مع ابنها فوافقت ..كان حاتم يرفض الرضاعة قبل أن يرضع ذاك الطفل الرضيع وكان الطفل الضيف عندما تلقمه حلمة ثديها ليرضع يضع يده فوق ثديها الآخر ظناً منه بأن شخصاً ما سيشاركه الرضاعة قبل أن يرتوي تماماً.
ومضت الرحلة والسائق يبادلنا التعليقات المرحة .. هذا فهم متقدم للاشتراكية ولو أن الرجل عندكم يكلف بما لا يطيق .. بل ما أسعد نساء السودان بكم ..( أنستاسيا ) وهي منفعلة بما تسمع.. ليتكم تحافظون علي تراثكم وتقاليدكم هذه قبل فوات الأوان فلا تصيرون إلي ما صارت إليه أوروبا ..الأسرة المترابطة ونظرة الرجل للمرأة والطهر والعفاف هذا كنز يجب المحافظة عليه ..هل سنحافظ علي هذا الكنز كما تصفه ( أنّا ) أمام كل هذا الزخم والاستلاب الذي يحاصرنا من جميع الجهات ؟! ..أشك في ذلك كثيراً وإن كنت أتمني أن ننجح .
مستر أوليس ..مستر أوليس ..يا الله يا كريموف ..أتمني لو تنطق اسمي صحيحاً ولو لمرة واحدة فقط ..السيدة ذات الفراء الثمين والعربة (المرسيدس) تطلبك علي الهاتف .. (إزابيلا) ؟؟ عربتها أنيقة وجميله ..المرسيدس ؟!..هل تشجع الصناعة الغربية علي حساب الصناعة الوطنية يا كريموف ..؟ لا..لا قطعاً سيدي ..عرباتنا أجمل وأقوي ..خذ مثلاً ال(ماسكوفتش واللادا و..) ..حسناً يا (كريموف) ..نعم سيدي .. قل معي ..عاش الإتحاد السوفيتي ..عاش الرئيس ( قورباتشوف )..أفعل بكل امتنان سيدي ..يامنافق يا جبان ..هل تخاف ( الكي .جي .بي .) ..اطمئن لا يوجد الكثير منهم بهذه الداخلية ..السيدة علي الهاتف .. مرحبا (إزابيلا) ..وأنا عند وعدي ..امنحيني ساعة فقط ألملم فيها أغراضي وسأكون بانتظارك أمام البوابة الرئيسية ..(قراسيا).
قوادري علي
21-10-2013, 11:26 AM
صفحات تستحق المتابعة
شكرا جزيلا كاتبنا عبد الغني.
عبدالغني خلف الله
21-10-2013, 08:02 PM
مساء الخير استاذ قوادري ..كل الود وعاطر التحايا ..وكل عام وأنت والأسرة الكريمة بألف خير ..شكراً جزيلاً لهذا المرور الأنيق .
معروف محمد آل جلول
21-10-2013, 08:51 PM
الأخ المحترم..عبد الغني خلف الله..
أبارك لك هذا المنجز السّردي..
وأنتظر دائما منك..ومن أمثالك هذه المفاجآت ..
تسجيل متابعة ..
بالغ تقديري..
عبدالغني خلف الله
22-10-2013, 11:14 AM
الأستاذ الموقر معروف ..السلام عليكم ورحمة الله ..
أسعدني توقفك هنا وآمل أن تواصل معي الترحال عبر هذا النص ..مع إعزازي ومودتي .
عبدالغني خلف الله
22-10-2013, 11:17 AM
الحلقة التاسعة عشرة
(لينينقراد ؟!) ..يااه كم كنت أتمني زيارة هذه المدينة الباسلة وهاهي (إزابيلا) تمنحني الفرصة لتحقيق حلمي وبعد زيارتي لها أحببتها أكثر لأكثر من سبب..إني أتذكر لحظة حضور إزابيلا لأخذي إلي هناك .. .. كانت ترتدي ملابس شبه عسكرية تظهر مفاتنها الغريبة ..وتضع علي عينيها الواسعتين نظارة سوداء .. ترجلت من العربة لتحييني .. سنأخذ أنا وأنت المقعد الخلفي وسيتولي (بريماكوف) القيادة ..ما أجمل ربيع (موسكو) بالرغم من قصره .. قلت لها ونحن نتوغل في الوديان بعيداً عن أجواء العاصمة الملبدة بالضوضاء والدخان .. أنظر يا أويس ..هاهي زهور (الأوركيد) تطرح عنها رداء الشتاء الثقيل وتتبرج للطبيعة ..نعم ..نعم ما أروعها ..أمضينا سحابة ذاك الصباح والظهر ونحن نصعد ونهبط بين الغابات والتلال المعشوشبة و(إزابيلا) تأسرني بحديثها وضحكاتها وبعطرها المسفوح .. وفي جزء من الطريق الوعرة تحولنا إلي ما يشبه اللاعبين علي حلبة المصارعة .. تارة تقذفني العربة في أحضانها وتارة أخري علي كتفيها وهي صامدة في مكانها فقد اعتمدت ربط حزام الأمان وفضلت أنا كعادة كل سوداني التحرر منه أثناء السفر ..توقف (بريماكوف) فوق هذه التلة لأننا سنمضي الليل هنا ..هنا يا إزابيلا ؟! ..والبرد والحيوانات المفترسة واللصوص ؟..لا تقلق يا (أويس) لقد أعددت لكل شيء عدته .. لدينا خيمة ومدفأة تعمل بالبطاريات وطعام يكفينا لمدة أسبوع ولدينا أيضاً (كلاكنشوف) ومسدس عيار 9 ملميمتر .
كنا متعبون جداً ولولا قوة ومتانة العربة ( الأستيشن واقن ) المصنوعة في اليابان لما أمكننا الوصول حتى تلكم النقطة ويبدو أن إزابيلا قد تعودت علي هذا الطريق الخلوي .. وفي أثناء الرحلة عدت بذاكرتي إلي طريق وعر بكردفان بالسودان .. كنت قد أخبرت والدي ووالدتي بقصة لقائي مع ( رزان ) بالمهرجان ولم يكن والدي قد علم بعد بأن صديقه الأستاذ عبدو يعمل بسودري فاقترحت عليهم تمضية جزء من إجازة عيد الأضحى ب(سودري) ..كانت تجيش في خاطري أشواق وحنين لرؤية ( رزان) مجدداً ..بيد أن والدتي اعترضت بشده بحجة أن المشوار صعب وبأنها حبلي في شهرها الخامس وأنها تود حضور زواج ابنة خالها بواد مدني .. لم يكن والدي متحمساً لحضور ذاك الزواج لأنه يري في خال والدتي شخصاً بغيضاً لا يحتمل .. يكثر من الثرثرة والقيل والقال .. فاتفقنا علي أن تأخذ والدتي إخوتي إلي ( وادمدني) ونذهب أنا ووالدي إلي سودري ..هو يشتاق الأستاذ عبدو ويشتاق رحلات الصيد التي أدمنها هو وبعض زملاؤه ..انطلقنا عبر ( بارا ) ثم واحة ( البشيري ) وفي تل يطلقون عليه ( قوز الصرّه ) عجزت عربتنا تماماً عن تسلقه فأمضينا الليل فوق أعلي التل تماماً كما نفعل الآن وكنا محظوظين إذ عبرتنا عربة بها عدد كبير من العمال الذين يعملون علي مكافحة الجراد الصحراوي .. فساعدونا في تخطي ذاك التل وبعد تخطينا لل(مزروب) ..اقترح السائق علي والدي الالتفاف علي تلال (سودري) المستعصية بطريق جانبي يمر عبر قرية تدعي ( تنه ) .. وبدا وكأن الطريق بالفعل سالكة وممهدة بيد أنا اكتشفنا بعد ساعات بأننا قد تهنا في الصحراء .. نفد الماء الذي معنا واستسلمنا لقدرنا وتذكرت في تلك اللحظات القاسية قصة ( صول ) الشرطة الذي تاه فمات وغيره كثيرون ممن يمكثون في بطن الصحراء ..ومرة تنقذنا العناية الإلهية بمرور نفس العربة ونفس العمال المتوجهين نحو دارفور وهم يقتفون أثر الجراد . .فتخلف أحدهم معنا ليعود بنا إلي المزروب لنبدأ مجدداً رحلة العذاب والصراع مع الرمال الممتدة حتى حافة الأفق .. وحين وصلنا ( سودري) ..وصافحت عيناي ( رزان ) ضاع الإحساس بالتعب وعاودني الإحساس بالحيوية والنشاط ..ها ..فيم شرودك يا أويس ..هذه التلال تذكرني بسفوح كردفان وهو إقليم ذاخر بالجمال وبالطبيعة الساحرة وبالفنون ..أنا أيضاً تذكرت ( كولومبيا ) وطني الذي أتعشقه لدرجة الإدمان .. قلت لي في آخر مرة أن والدتك قد انتحرت بعد أن فضل عليها والدك الملياردير المعروف علي نطاق أمريكا اللاتينية والعالم فتاة وضيعة من شذاذ الآفاق ففضلت الموت علي الحياة ولم تكملي بقية القصة .. لعلها كانت حساسة جداً ..لأنه من الصعب علي امرأة ..أي امرأة أن تنتحر من أجل رجل لو لم تكن تحبه حباً ملك عليها أقطار نفسها ..نعم هذا ما حدث بالضبط ..لقد تزوجا بعد قصة حب عاصفة وكانت والدتي علي وشك الزواج من ممثل سينمائي شاب ومحبوب لدي الكولومبيين لو لا تدخل والدي ..وطبعاً سئمت الإقامة مع عمتي المتغطرسة التي كانت تعيّرني بأمي علي الدوام وتقول لي إنك أخذت كل شيء عن والدتك ولم تأخذي منا شيئاً وإلا فيم اختلاطك بالعمال والخدم في قصري ..إنك تفضلين تمضية أوقات فراغك مع الخيول وداخل الإسطبلات ولا تجلسين ساعة من الوقت مع عمتك ..أنت تافهة ووضيعة كأمك ..عمتك تسمعك مثل هذه الإهانات القاسية يا ( إزابيلا ) ؟..بل وأكثر لذلك لم أعد أحتمل إهاناتها وغطرستها وذات يوم قررت الهرب والعودة إلي (بوغوتا) وكانت وقتها في رحلة عمل خارج ( كولومبيا ) .. لجأت مرة أخري إلي والدي ليجد لي حلاً وكنت أفضل الموت لألحق بوالدتي في السماء علي أن أعود لعمتي ..كان استقبال زوجته الجديدة لي فاتراً وكان والدي لم يعد بعد من العمل .. قالت لي بعنجهية واستبداد ..لا أظننا سنجد لك غرفة خالية بالدار .. وعليك تدبر أمرك لدي عودة أبيك من الشركة ..لا غرفة لي في القصر الذي ولدت فيه وأحفظ تضاريسه عن ظهر قلب ؟!!..إييه كم هي غريبة هذه الحياة ..عاد والدي ليفاجأ بي بغرفة الاستقبال الكبرى .. وطلب من زوجته أن تدعنا لوحدنا .. قلت له أفضل السكن بالجامعة .. إذ لم يتبق علي التحاقي بها سوي أسبوع واحد فقط ..اقترح عليّ أن أطير إلي باريس وأمضي بعض الوقت هناك قبل أن تبدأ الدراسة ولدي عودتي اشتري لي عربة جديدة وكان قد رتب الأمر مع إدارة الجامعة التي يتكفل بثلث نفقاتها .. وبالجامعة تعرفت علي (سيزار) .. شاب من الأقاليم الشرقية ..نشأ وعاش في بيئة فقيرة وقد أصّر علي أن يصطحبني لزيارة عائلته في أول إجازة لنا .. كانت فرحتهم بنا كبيرة وهم يشاهدون ابنهم بصحبة فتاة تقود سيارة جميلة .. وكان المنزل عباره عن ثلاث غرف بإحدى مدن الصفيح كما درجنا علي تسميتها .. وهنالك اعتنقت الشيوعية والفكر الاشتراكي .. ومع تنامي حركة القوات المسلحة الثورية بكولومبيا في أوساط الشباب .. هربت مع سيزار ومعنا ثلاثة آخرون من الزملاء وفتاة تدعي ( نورما ) .. وقبل أن نغادر بوغوتا .. قمنا بعملية سطو علي إحدى الصرافات الخاصة وكنت أنا من قام بالتمويه علي العملية باستغلال اسمي وبطاقتي الائتمانية وما هي لحظات حتى سيطرنا علي الصرافة وأخذنا كل ما نستطيع حمله من أموال وانطلقنا بعربتي بين الوديان الصخرية والغابات إلي أن تلقفتنا إحدى الفصائل التابعة للحركة .. كان وقع الخبر مدوياً علي والدي وعمتي وأركان النظام الحاكم ونشرت صورتي جميع الصحف وأنا أشهر مسدسي في وجه الصراف .. ثم .. ماذا يا إزابيلا ..هيا اخبريني ماذا فعلت داخل معسكر المتمردين ولماذا أنت هنا في روسيا .. تلك قصة أخري وأنا متعبة يا أويس .. هذه الذكريات تؤلمني جداً .. يا إلهي كم تؤلمني .. قالت ذلك وهي تبكي وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل .. و(بريماكوف) قد نام داخل السيارة .. وبقينا لوحدنا داخل الخيمة الصغيرة .. كان الجو شاعرياً ومفعماً بحميمية لا تصدق .. دفء وشموع ملونة .. كنت ظمأناً جداً للطبيعة العذراء وكذلك هي ..فشربنا حتى الثمالة ولم نرتو بعد ..وسرت النشوة في كياني حتى العظم ..ولم أرتو بعد .. تدفقت النشوة مع دمائي .. سافرت في أوردتي وشراييني ..ولم أرتو بعد .. وعندما بزغ الفجر لملمنا أشيائنا استعداداً لمواصلة المشوار وقلبي يحدثني بأنني قد أدمنت إزابيلا والطبيعة معاً ولا مهرب مذ تلك الساعة .
عبدالغني خلف الله
24-10-2013, 08:15 AM
الحلقة العشرون
ها قد وصلنا ..قالت ذلك وهي تحرر نفسها من حزام الأمان وتقذف بذراعيها خلف رأسها وتتمطي ..يااه ..كانت الرحلة متعبة جداً يا عمتي ..مرحباً بكم .. قريبتها وابنتها وقد هرعتا لدي توقف العربة قرب البوابة الرئيسية .. منزل أشبه بقلعة .. وكأن جميع أفراد عائلة إزابيلا من الأسرة المالكة .. علي رسلك ..علي رسلك العمة توصي أحد الخدم بأخذ الحذر وهو يحمل حقيبة سوداء متوسطة الحجم الجميع يوليها اهتماماً وحرصاً خاصاً من بين جميع الحقائب .. أخلدت للنوم ضحي ذلك اليوم وفي المساء أخذتنا مضيفتنا وابنتها وتدعي (سيسيليا ) في جولة نتعرف خلالها علي معالم المدينة الأسطورية ..هذه المقبرة لأبطال ( ليننقراد ) الذين دافعوا عنها باستماتة أذهلت الألمان .. خمسمائة ألف جندي من الطرفين المتحاربين سقطوا وهم يحاولون اقتحامها أو الدفاع عنها .. هنا تذكرت تلك الأفلام التسجيلية بالأسود والأبيض التي يبثها التلفزيون وهو يستعيد أحداث الحرب العالمية الثانية ..كانوا جنوداً بسطاء بشواربهم الكثة وعيونهم الضيقة يتقافزون شاهرين بنادقهم أمامهم وهم يركضون .. هؤلاء الحمقى الذين فقدوا حياتهم في ميادين القتال وهم يلّبون أشواق قادة بلهاء أكثر حماقة منهم في المجد وإثبات الذات وأحلامهم التوسعية ويعتقدون أنهم إنما حاربوا لتحيا أوطانهم وشعوبهم حرة ..وبالنهاية خمسون مليوناً ما بين قتيل وجريح ..وانتحار هنا وانتحار هناك ..والموافقة علي شروط وإملاءات كانت ستوفر تلك الأرواح الساذجة والبريئة ولكن ..لكن ماذا ؟ ..لكن فحسب .
سلكنا الطريق العام ونحن نعود أدراجنا إلي موسكو وإن كنت أفضل العودة بنفس الطريق الذي سلكناه الأسبوع الفائت بالرغم من وعورته لنستعيد ذكريات تلك الليلة التي أمضيناها معاً هنالك فوق التلال أنا و(إزابيلا) ..الليل والشموع وموسيقي ربابتي التي أحضرتها معي من السودان ..و(إزابيلا) المتدفقة بكل ما فيها من أريحية وجمال ..الآن تذكرت لماذا فاجأنا ذاك الدب الروسي المفترس .. لقد اجتذبته ولا ريب أنغام الربابة .. أصيب (بريماكوف) بالرعب لدي اقترابه منا فصاح فينا إلي العربة يا مدام إلي العربة يا مستر .. هيا أسرعا .. ولكنني رفضت التحرك وقلت لإزابيلا ..إهدائي لا يجب أن نشعره بأننا خائفون منه .. تشبثت بي وهي ترتعد من الخوف .. فلنقذف له ببعض الأرغفة ولننظر ما هو فاعل .. تقدم نحوها وشمّها وهو يرفس العشب بأرجله الخلفية في حالة من الهيجان الشديد ..وهنا طاشت في ذاكرتي ذكريات الفترة التي أمضيناها بمدينة بور بجنوب السودان ..كان والدي قد نقل كمدير تنفيذي للمجلس هنالك وكنا نقيم في دار واسعة تقع مباشرة علي النهر وفي المساء تخرج قطعان ( القرنتي ) وتعيث فساداً في شجيرات الموز بحديقة المنزل .. وكنت وقتها مفتونآ بلعب تنس الطاولة بنادي الموظفين القريب من منزلنا ومركز الشرطة .. وتعلمت حينها أن قطعان ( إبن آوي ) ..لا تحتمل الضوء ليلاً فإذا ما هاجمتك فرادي أو مجتمعة ما عليك إلا أن تصوب نحوها نور البطارية ( الطورش ) فتهرب من أمامك ..وهذا ما فعلته مع ذاك الدب الروسي العملاق .. فتراجع مذعوراً وهو يركض مبتعداً .. أنت هائل يا أويس .. ماذا فعلت يا سيدي أي فكرة لوذعية هذه .. ؟ كيف علمت أن الدب يخاف الضوء بهذه الصورة الغريبة .. شرحت لهما تجربتي مع ( بنات آوي ) وأنا أتنفس الصعداء .
هل ستنطلقين بنا مباشرة نحو الداخلية ؟! .. لا بل سنذهب إلي منزلي لتشرب كوباً من عصير التوت ( الكولمبي ) .. يقولون في بلادنا أن من يشرب عصير التوت (الكولمبي) لا يتردد في الفناء عشقاً لكل ما هو (كولمبي) .. هل تريدين مني أن أموت فيك أكثر من ذلك يا ( إزابيلا ) ؟ .. بالطبع .. يا طفلي الغالي .. ويقولون في بلادنا من يشرب من ماء ( توتيل ) لا بد أن يعود إلي كسلا ....وأين تقع كسلا هذه ..إنها أجمل مدن السودان قاطبة وتقع في أقاليمه الشرقية ....لحظة حتى تشرب آخر قطرة منه .. لقد شربتها وانتهي الأمر .. وكان مشروباً بنكهة (الكاسترد ) .. أعطاني في البداية دفعة مفاجئة من النشاط والحيوية ومن ثمّ شعرت براحة عجيبة ورغبة جامحة في الخلود للنوم ..أمرت ( بريماكوف ) بتوصيلي بعد أن ودعتني حتى البوابة الرئيسية ومر بنا زوج من الجيران رجل وزوجته ..ولم يسلما علينا وكانت نظراتهما عدائية نحو ( إزابيلا ) .. علاقتك بالجيران بحاجة إلي ترميم عاجل .. ماذا أفعل بها ؟ .. تساءلت في لامبالاة ..إنني أضرب حول نفسي طوقاً رهيباً من العزلة ولا دخل لي بهم .. وقبل أن أصعد إلي العربة .. ناولتني زجاجة عطر فاخرة بدت وكأنها قطعة من الماس بالنظر إلي الطريقة التي لفت بها ومعها مظروف لا أعلم ملا بداخله حتى تلك اللحظة ..هذا العطر هدية من ابنة عمتي ( سيسيليا ) .. أوصتني أن أسلمك له لأنها تشعر بالخجل الشديد تجاهك ..( سيسيليا ) .. ذات الخمسة عشرة ربيعاً ..والله ما أروعها بطفولتها وشقوتها الحلوة ..ثم ..؟ ..هذا مبلغ بسيط هدية من عمتي لتختار بها الهدية التي تناسبك .. فهي لم تجد في أسواق ( ليننقراد ) شيئاً يليق بك فتهديه لك ..رفضت بإلحاح شديد استلام المظروف .. وقلت لها نحن نفضل الموت جوعاً علي أخذ المال من إمراة مهما كانت عمق العلاقة التي تربطنا بها .. هذا في عرفكم أنتم أما نحن فلا وعليك أن تحترم عاداتنا وتقاليدنا .. اسمع يا عزيزي أويس .. إذا لم تأخذ هذا المظروف مني الآن سأخاصمك أبد الدهر ولن تراني بعد اليوم ..حسناً ..حسناً ..سآخذه حالاً .. فأنا لا أتصور الحياة بدونك يا ( إزابيلا ) .. قراسيا حبيبي .. جاو .. ولدي وصولي إلي غرفتي اكتشفت أن بالمظروف عشرة آلاف دولار بالتمام والكمال ..أعطيت منها كريموف علي الفور عشرة دولارات وهو يحمل عني متاعي .. فكاد يطير من الفرح .
عبدالغني خلف الله
31-10-2013, 07:03 AM
الحلقة الواحدة والعشرون
يقولون إن خير وسيلةً للدفاع هي الهجوم .. وهذا ما فعلته مع (أنستاسيا) حين التقيتها بعد رحلة ( لينينقراد ..) رسمت فوق وجهي قناعاً زائفاً من التجهم والاستياء بصورة أخافتها .. وظلت تردد عليّ في حيرة واضطراب ..أويس ما بك ..عزيزي ماذا حدث في غيابي ؟! .. ما حدث في غيابك يا امرأة .. هو غيابك .. لا أفهم ما تقصد .. حقيقة لا أفهمك يا أويس .. كيف تجرؤين يا زوجتي المثالية علي الغياب عني وعن أولادنا أسبوع بأكمله .. سأطلقك يا ( أنّأ ) .. وسأرسل خلفك أطفالنا الخمسة إن عدت لهذا مرة أخري .. ليس من تقاليدنا أن تسافر الزوجة دون إذن من زوجها .. مفهوم يا امرأة ؟! .. قلت زوجتك ؟ أنا زوجتك ولدينا خمسة أطفال ؟ .. نعم وسأطلبك في بيت الطاعة إن لم تطيعي أوامري ..سرتها هذه المسرحية الجديدة بدرجة لا توصف .. والآن اسمعني جيداً يا ( أويس ) .. أقسم بأنني سأتزوجك إن شئت أو أبيت وعليك أن تكف عن العبث بي وبمشاعري .. لأن مثل هذه الأمور لا تحتمل المزاح .. والآن سأوضح لك يا زوجي العزيز كما تدّعي أين كنت .. لقد اتصلت بك قبل سفري إلي( بكين )مع الوفد المرافق للرئيس ( قورباتشوف ) وعلمت من (كريموف) بأنه لم يكن موجوداً لدي مغادرتك الداخلية .. لقد أردت عتابك علي طريقة ( السايكودراما ) وها أنت تقسمين بأننا سنتزوج .. وعليك أن تعلمي بأنني مستعد للزواج بك الساعة إن كان هذا يناسبك .. أنت غالية جداً عندي يا ( أنّا ) .. بل أغلي شيء في حياتي .. وكان عليك أن تتمهلي لأخطبك أنا قبل أن تقوليها أنت صراحة .. أنستاسيا يا طفلتي الرائعة بل الأروع .. كنت وستظلين أعظم قصة حب في حياتي ..وكرامتك من كرامتي .. لقد كنت سخيفاً جداً إذ وضعتك في مثل هذا الموقف .. وعلم الله أنني أحبك بكل كياني .. لم تتحمل أعصابها المرهفة هذا الموقف فبكت وهي تداري وجهها بكّلتا يديها وتتأوه باطّراد فاقتربت منها وأنا أربت علي كتفها .. لا بأس يا عزيزتي .. أرجوك كفي عن البكاء ( It,s O.K. ..) والآن هيا ابتسمي ..هيا .. ومن بين الدموع التي سألت علي وجنتيها الساحرتين ..تفتحت نصف ابتسامة خجولة أضاءت وجهها الجميل .. نعود لرحلة بكين .. ماذا حدث ؟ ..كانت رحلة محبطة لنا جميعاً ..كنا نحاول الإستقواء علي الغرب وضغوطاته بحلفائنا التقليدين لكن الشعب الصيني استقبلنا بالمظاهرات العدائية .. نحن ُيفعل بنا هذا ؟! الاتحاد السوفيتي العظيم يتعرض رئيسه للإهانة ومن دولة شيوعية ..؟ .. بهذه المناسبة وددت لو ألفت انتباهكم لحدث خطير تناقلته إذاعات العالم في غيابك وهو طرد المسلمين الأتراك المقيمين لقرون بواحدة من بلدان السوفييت بعد أن خيروهم بين تغيير أسمائهم ذات الطابع الإسلامي وتغيير ديانتهم وعدم التخاطب باللغة التركية وبين البقاء بذاك البلد .. وكان منظراً مؤثراً نقله مراسل ال ( B.B.C. ) وهو ينقل النبأ..أي منظر يا أويس .. ؟ الأتراك المبعدين وقد حشروا قسراً داخل القطارات في رحلة بلا عودة من منازلهم التي ولدوا وترعرعوا بها من أول جيل للمهاجرين قبل مائة عام وحتى الجيل الرابع ..إنهم حتى لا يعلمون من أي جزء من الأراضي التركية هاجر أسلافهم .. هذه قسوة غير مبررة وستكون بداية النهاية للإتحاد السوفييتي .. إنه ليحزنني إبلاغك بوجهة نظري هذه وبكل صراحة لأن بلدكم لم تقصر معنا .. وفرت لنا ( الأونيفيرستيت دورشبي ) أعظم العلماء والأساتذة وأضخم المعامل وأجمل الُنزل ..أنتم كرماء جداً يا أنستاسيا وجامعتنا جامعة الصداقة عظيمة ومتميزة .. ولكن مثل هذه التصرفات تغضب الله سبحانه فينتقم منكم .. أرجوك توقف ولا تكمل .. سأبلغ رئاسة الحزب فوراً بما حدث وأنا متأكدة بأن وزارة الخارجية لن تسكت علي مثل هذا التصرف الذي سيغضب أصدقائنا في الشرق الأوسط وبالدول الإسلامية أيضاً.
ربيحة الرفاعي
26-11-2013, 07:38 PM
أويس وانستازيا وقصة حب بحرارة القلب الأفريقي في جليد موسكو
ما الذي يفصل بين المصافحتين أديبنا؟
استفسار للعمل
تحاياي
عبدالغني خلف الله
27-11-2013, 09:19 AM
الإبنة العزيزه ربيحة ..السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته ..عفواً ..لم أفهم السؤال جيداًً ..مع كل الود .
عبدالغني خلف الله
27-11-2013, 01:06 PM
معذرة ..لا فرق عزيزتي ..فقط وددت إعطاء لمحهة للقادمين الجدد وتوقفت منذ شهر تقريباً ..تحياتي .
خلود محمد جمعة
02-12-2013, 12:23 AM
سرد مائز
نتبع الحرف تلو الحرف لتكتمل القصة بروعة الأسلوب
دمت محلقاً
مودتي وتقديري
عبدالغني خلف الله
04-12-2013, 11:32 AM
الإبنة الغالية خلود ..السلام عليكم ورحمة الله ..فهمت من استفسار ابنتي ربيحة المديرة التنفيذية بأنني قد قمت بمخالفة اللوائح المنظمة للملتقي وذلك بعودتي مجدداً لهذه الرواية التي سبق لي نشرها بالملتقي كاملة بتاريخ 22-5-2010 وكان قصدي أن تصافحها مرة ثانية عيون كل الرائعين والرائعات ممن انضموا للواحة هذا العام ..لصعوبة العودة للكتابات القديمة ..ولأجلك عزيزتي وكل من تابعوا انستاسيا سأواصل ما لم يصلني علي بريدي من إدارتنا السامقة .. ما يفيد بغير ذلك ..مع إعزازي ومودتي .
عبدالغني خلف الله
04-12-2013, 11:35 AM
الحلقة الثانية والعشرون
لم أعد أحتمل غياب صديقي وزميلي في الغرفة شرودر وكان عليّ العثور علي أنجلينا باية وسيلة سيما وأن الجامعة مغلقة في إجازة نصف العام .. فكرت أول ما فكرت ببسام الذي توطدت علاقته مع أنجلينا بصورة لافتة وهنالك بوادر تحول دراماتيكي نحو نعوم من قبل شاهندة .. التقيته صدفة ذات مرة ..استوقفته وقلت له في حزمٍ شديد ..أيها العزيز نعوم ..شاهندة أختي وهي مسلمة وأنت مسيحي من اسبانيا .. ومظفرأباد ليست كمدريد .. عليك أن تكون مؤدباً ومهذباً معها وإلا .. لماذا تهاجمني بهذه الصورة العدائية يا أويس ..شعوري نحو شاهندة هو شعور أخوي تحتمه زمالتنا ووجودنا في كلية واحدة وأنا احرص عليها أكثر منك .. صدقني يا أويس سأحافظ عليها كما لو كانت شقيقتي .. أثق في كلامك ووعودك يا نعوم .. صحيح أنت أوربي النشأة ولكنك زرت لبنان وتدربت مع المقاومة وفيك حساً ثورياً تغذيه حزمة من القيم النبيلة ولأنك وشربت من نهر (الليطاني) .. ألستم من قال أن من يشرب من نهر الليطاني لا يعرف الحقد سبيلاً إلي قلبه .. هل بدأت تشعر بالغيرة منه يا أويس .. في الحقيقة لا ونعم .. شاهندة عزيزة علي قلبي بيد أني لا أجد الوقت الكافي لأمنحها عظيم اهتمامي وقد بت موزعاً بين ( أنّا ) و( إزابيلا ) وتبقي رزان صامدة في ثنايا الذاكرة المتعبة لا تفارقها ليل نهار ..وأخيراً عثرت علي إحدى صديقات أنجلينا التي أرشدتني إلي مكان تواجدها .. قالت لي ( أنجي ) عصبية وقلقة جداً طوال الفترة الماضية وقد تركتها للتو بإحدى الحانات وهي تشرب الكأس تلو الكأس حتى أضحت مخمورة تماماً .. وكلما أسألها عما يقلقها تنفجر باكية .. مرحبا أنجي .. أويس ؟!! قالت ذلك وقد انتفضت محدثة فوضي لا مثيل لها بالمكان .. تساقطت الأكواب و( منفضة ) السجائر وعلبة سجائرها واندلق كأسها علي الطاولة بعد أن تدحرجت فوقه زجاجة (الويسكي ) التي لم يتبق منها الكثير محدثة فرقعة هائلة كقنابل ( المولتوف ) .. ما بك يا أنجي ؟ اخبريني بربك ما بك ؟ .. احتضنتني بقوة وهي تردد ( halt mich fest.. lass mich nicht ) ..ومضي زمن طويل قبل أن أتمكن من تهدئتها .. إنها كارثة لا تصدق يا أويس .. لقد غادر شرودر إلي كينيا وهنالك التقي بعض الرفاق ومن ثمّ استقلوا طائرة اللوفتهانزا المتجهة إلي ألمانيا عن طريق القاهرة وقاموا باختطافها وأجبروها علي الهبوط بمطار مقديشو .. نعم .. نعم .. لقد سمعت بالحادثة في ال ( B.B.C. ) .. ولم أكن أتصور أن شرودر من بين الخاطفين .. هذا يفسر لي غيابه المستمر منذ ما يزيد علي الأسبوعين .. إنه من بينهم .. لقد خدعتنا السلطات الصومالية وأدخلت القوات الألمانية الخاصة للطائرة في زي موظفي الإغاثة .. المجرمين القتلة .. الآن يا أنجي العزيزة أدركت معني القتل وسفك الدماء .. الآن ..؟ بعد أن تأكد لك أن شرودر من بين المفقودين وربما القتلي .. هذا شيء فظيع .. أكاد أُجن يا أويس .. أكاد أُجن .. كانت مطالبهم بسيطة وهي الإفراج عن رفاقنا المسجونين في سجن ( شتوتقارد ) .. أنا حزينة وضائعه يا أخي ومرة أخري يفتح صندوق الأحزان علي آخره ..هونت الأمر عليها وطلبت منها أن تمر عليّ مساء الغد لاستلام متعلقات شرودر ..ماذا أفعل بها .. قل لي بربك ماذا أفعل بها ؟! .. قالت ذلك وهي تمسك بتلابيبي وتهزني هزاً .. لربما تكون بها بعض الأوراق الهامة يا أنجي .. أرجوك لا تسيئي فهمي .. لم أكن أعلم أن شرودر يهمك بهذه الدرجة .. إنه ابن عمتي ويكبرني بعامين فقط .. نشأنا وترعرنا في قرية واحدة .. وعندما بلغ سن السابعة عشرة غادر أسرته ليستقر في ( فيينا ) .. ولحقت أنا به بعد أن صرت في السابعة عشرة .. السن التي تخولني الانفصال عن أسرتي والعيش مع أصدقائي .. إني أتذكر تلك الأمسية التي ودعت فيها والدي المقعد بسبب المرض .. غادر غرفته علي كرسيٍ متحرك حتى باب حديقتنا .. ضمني إليه وهو يبكي .. وكانت والدتي إلي جانبه تشد من أزره دون جدوي .. قال لي بين الدموع والتنهدات ربما لا نلتقي مرة أخري يا طفلتي الغالية (أنجي ) حاولي أن تتذكري ( بابا ) وصلي من أجلي وسامحيني إن قسوت عليك أو قصرت في أمر يخصك .. كنا نعيش في قرية صغيرة جداً تعدادها لا يتجاوز ثلاث ألف نسمة .. وكانت حياتنا مملّة وفارغة تتمحور حول مصنع صغير للأدوية .. لم تستوعب فضاءاتها وعتمتها طموحاتي وأحلامي ..فقررت اللحاق بشرودر في النمسا وارتياد آفاق العالم الرحبة بحثاً عن الحب والمجد والسعادة .. لم يعش والدي طويلاً فقد مات بعد شهر من مغادرتي ولحقت به والدتي بعد عام .. كانت امرأة قوية ومتجبرة ولا أدري كيف لم تصمد أمام الموت .. هذا قدرها ولا يعيش المرء دقيقة واحدة بعد انقضاء أجله .. قلت لها ذلك لأصحح فهما لفلسفة الحياة والموت.
ناديه محمد الجابي
04-12-2013, 06:10 PM
انصهرت ثلوج روسيا من حرارة قلب الرجل الأفريقي
وقد فاق أويس كل الحدود فهو لا يترك أمرأة دون أن
يتوقف عندها لتكون لها عنده مكانة ما ..
أنّا وإيزابيلا وشاهندة ورزان التي تبقى بين حنايا الذاكرة
أتابع بشغف وبإستمرار الأحداث المشوقة والقص الرائع
والسرد الشائق .
سلمت سيدى وسلم إبداعك .
عبدالغني خلف الله
05-12-2013, 06:41 PM
الإبنة الغالية ناديه ..مساءات الصحة والعافية لك ولمن حولك ..هذا شرف لي وقلادة فخر واعتزاز ..أشكرك من صميم قلبي ومعاً ندلف للحلقة الثالثة والعشرون .
عبدالغني خلف الله
06-12-2013, 04:13 PM
الحلقة الثالثة والعشرون
عادت أنّأ لموسكو وقد علمت أن أسرتها تسأل عني وتود رؤيتي من جديد ..ضمتني والدتها بحنو وحب وشمّتني تحت الأذن تماماً كما تفعل العمات والخالات في السودان .. وكأنما للحب والحنان هوية واحدة وشكل واحد في شتي بقاع العالم .. لماذا كل الكبار موسومين بهذا القدر من الحنان في وقت يتباعد فيه الصغار .. يركضون يمنة ويسرة لتحقيق الثراء السريع وقد يمر عام لا يزور فيه الواحد فيهم أمه وأبيه بينما العمر يمضي وتنقضي الآجال ليفاجأ الواحد منهم ونفاجأ بالمذياع ينعي وفاة فلان أو فلانة .. والد أو والدة كل من الدكتور فلان بكندا والمهندس (علان) بأمريكا .. يرحلون في صمت ودون ضوضاء وأبناؤهم بعيدون هنالك في مدن الصقيع فلا يوسدونهم الثري بأيديهم هم وليس بأيدي الأقارب والجيران .. والآن جاء دور والد أنستاسيا فيأخذني بالأحضان وهو يردد ( دوبريا قيتشر ..ياجولستا ) ..وتقافزت الصغيرة ( باتريشيا ) لتقتحمني في حميمية هائلة .. كل هذا الإعزاز والود تكنه لي هذه العائلة الأنيقة .. يا الله كم أنا محظوظ .. قبلات وأحضان وشميم ( الحبوبات ) .. أشعر وكأنني بين أفراد أسرتى .. رزان لا تحب قبلات العمات والخالات .. قالت لي ذلك وكنا قد عدنا لتّونا من المدرسة وكانت إحدى عماتها قد وصلت من البلد .. أخذتها إليها وقبلّتها فوق فمها وهي تصدر فرقعة وهمهمة مثل ( موه !!) أو شيء من هذا القبيل .. انفلتت منها وهرعت نحو الحمام .. غسلت فمها وجففته ومن ثمّ عادت إلينا ولدي باب منزلهم قلت لها وأنا أغادر .. لم فعلت هذا يا رزان ؟! .. لأنني ببساطه لا أحب أن يقبّلني أحد في فمي ..ولا حتى أنا حين نكبر ونتزوج ..؟..سأفكر في الأمر بعد الزواج بشرط أن تنظف فمك بالمعجون والفرشاة .. لن أدع أحداً سواك يقبّلني ما حييت وسأختزن كل قبلاتي لأجلك .
انتهت مراسم الاستقبال التي أعقبتها وجبة عشاء دسمة .. انتقلنا بعدها أنا وأنستاسيا إلي غرفة الجلوس .. تمددت علي أريكة أمامي وقالت لي بصوت هامس ( أدنو مني يا أويس ..) .. كانت ساحرة ومتألقة و.. ستقص عليّ بقية أجدادك .. توقفنا في المرة السابقة عند جدك الخامس .. بل الرابع .. لا بل الخامس .. وكنت أود إغلاق هذا الملف الذي يحولني في كل مرة إلي شهرزاد .. جلست علي كرسي صغير وحدثتها عن جدي المقداد بن الراشد ..قلت لها ..أقسم الملك الأيهم بألاّ يزوج ابنته الوحيدة (قمر الزمان) إلا لمن يعيد له سيفه (قرص الشمس) المرصع بالذهب والأحجار الكريمة من قصر أمير جزيرة الهلاك في أعالي البحار .. وهي جزيرة تسكنها المردة والشياطين وشرذمة من القراصنة قطعت الطريق علي سفينة (الأيهم) التي سافرت إلي رأس الرجاء الصالح خصيصاً لإحضار ذاك السيف الذي أهداه له ملك قبائل (الزولو ) الجنوب أفريقية .. قبِل جدي المقداد بن الراشد الرهان حتى يفوز بقمر الزمان التي طبقت شهرتها الآفاق لجمالها ودلّها ودلالها .. وكان جدي حينها فارساً مغواراً تهابه جميع قبائل العرب .. جمع حوله عدداً من فرسان القبيلة وعكفوا علي صناعة قارب شراعي كبير .. أخذوا معم ما يكفيهم أكلٍ وشربٍ وسيوفٍ وخناجر .. وتمنطق جدي بخنجره الأزرق الذي يا طالما مزق أكباد الفرسان إرباً .. إرباً .. ومن ثم ّ أبحروا ذات صباحٍ سكنت فيه أمواج البحر إلي جزيرة الهلاك لاستعادة السيف المفقود .. وفي الليلة الرابعة علي رحيلهم هاج البحر وماج وأصبح المركب الشراعي مثل كرة تتقاذفها الأمواج .. كانوا قريبين جداً من وجهتم بيد أن المركب انقلب رأساً علي عقب وضاعف من حجم المأساة الظلام الكثيف والرياح العاتية .. وفجأة وجد جدي المقداد بن الراشد نفسه وهو يقاوم الموت بشراسته المعهودة رافضاً الاستسلام .. وفي تلك اللحظات الحرجة انشق الموج عن حوت عملاق ابتلع جدي في ثوانٍ .. فطن الجد المتعب إلي خطورة موقفه وأدرك أن الحوت سيهشمه ويهضمه فيما لو وصل إلي أمعائه ..تشبث بحلق الحوت قريباً من خياشيمه وصار يتنفس من خلالها والحوت الجائع يحاول عبثاً إنزاله إلي الأمعاء .. مضي يوم كامل وجدي قد تكور في موقعه يتنفس مع الحوت ويأكل الطحالب والأصداف التي يمررها الحوت عبر فمه الواسع .. وفي اليوم التالي لاحظ جدي عبر فوهة الخياشيم أنهما باتا قريباً جداً من اليابسة فانتزع خنجره الأزرق وشق بطن الحوت العملاق الذي أرسل دوياً هائلا وهو يضرب الماء بذيله ويتلوي من شدة الألم .. انفلت جدي من حلق الحوت ليغوص بين ثنايا الوحل والأعشاب الكثيفة القريبة من الشاطئ .. نظر حوله فلم يعثر للحوت علي أثر وبانت عند الأفق كثبان الرمل والأشجار الباسقة التي تؤكد نجاته ولو إلي حين ريثما يتبين أين هو من الجزر العديدة المنتثرة بين جنبات المحيط .. تنفس جدي المقداد بن الراشد الصعداء وحمد الله كثيراً علي سلامته ..أمضي سحابة ذاك اليوم وهو يعالج جراحه والآلام الرهيبة التي تعصف بجسمه .. وشيئاً فشيئاً شعر ببعض التحسن .. تحامل علي نفسه ونهض وهو يترنح كالسكارى .. وغادر الشاطئ ليجد نفسه وسط غابة من أشجار البلوط الكثيفة .. والحدائق الغناء التي تعج بالعصافير الملونة .. وكان ثمة نبع صاف داخل الجزيرة شرب منه حتى ارتوي وغسل جسده وملابسه مما علق بها من أدران واستلقي فوق الرمل ونام .. نام طويلاً لدرجة أنه لا يعرف كم مضي عليه من الوقت وهو نائم .. وعندما استيقظ حملت له النُسيمات الباردة أصوات دفوفٍ وغناءٍ ليست ببعيدة عن المكان الذي هو فيه .. تتبع أثر الغناء ليفاجأ بعدد من الصبايا وقد تحلقن حول فتاة رائعة الجمال نامت فوق أرجوحة من الدوالي والصبايا يمرجحنها ويغنين لها .. استجمع قواه وصفق بيديه طالباً الإذن بالدخول لهن .. قفزت الفتاة من أرجوحتها وهي فزعة وأرسلت الفتيات صرخات وأحدثن جلبة وضوضاء من شدة الخوف بيد أن الفتاة أمرتهن بالتوقف عن الصياح .. عمل جدي علي تهدئتهن وجثا علي ركبتيه وهو يقدم فروض الولاء والطاعة ..اطمأنت الفتاة بعض الشيء .. تقدم جدي نحوها وأعطاها منديلاً مطرزاً بخيوط الذهب والفضة كعربون صداقة وتعارف ..أمرت الفتاة رفيقاتها بالانصراف .. طلبت منه أن يجلس وكانت المشكلة في كيفية التعارف بينهما .. شرح لها بالإشارات كيف وصل إلي هنا ولماذا غادر موطنه في بلاد العرب .. كانت جميلة جمالاً يخلب الألباب ولم يحتمل جدي المقداد بن الراشد تلكم الأضواء التي سفحتها وجنتاها الساحرتان .. صفقت بيديها فعادت الفتيات الأخريات في ثوانٍ معدودة وأمرتهن بأخذه عبر طريق معزولة إلي القصر وعادت هي وبقية الخادمات عبر طريق آخر ليجد نفسه بإحدى غرف القصر .. أحضرت له الخادمة طعاماً وشراباً وملابس جديدة وكانت تلك الأميرة الصغيرة تزوره كل مساء بعد أن يخلد الجميع للنوم .. ليكتشف جدي أن تلك الفتاة ليست سوي ابنة أمير جزيرة الهلاك .. كانت مفاجأة عظيمة كادت أن تقضي عليه .. ووعدته بأن تحقق له مأربه ولكن بقليل من الصبر والتريث حتى لا ينكشف أمرهما فيقتله والدها ومن ثمّ يذيقها الويل والثبور وعظائم الأمور .. وفي ليلة صاخبة كان أمير جزيرة الهلاك يحتفل خلالها بزواجه من الزوجة الخامس والستون ..إنسلت الأميرة من الحفل ودخلت غرفة والدها وبحرص شديد أخذت السيف المطلوب وعادت به إليه وأمرته بالتوجه نحو الشاطئ ليجد مركباً صغيراً به عدد من الرجال بانتظاره ليأخذه ويعود به بأمر منها إلي بلده .. وكانت الريح مواتية والبحر ساكن فلم يحدث ما يعكر صفو تلك الرحلة .. كان الوداع مّر المذاق علي كليهما ولم يدر كيف يشكر جدي المقداد بن الراشد تلك الصغيرة التي لا يعرف حتى اسمها .. فوعدها بان يعود يوماً ما لرؤيتها وعقد حلف مع والدها .. وعاشت القبيلة أياماً وليالي في الرقص والغناء احتفاءً بزواج جدي من الأميرة قمر الزمان .. والآن يا ( أنّا ) ما رأيك في هذه الحكاية ..؟ !! .. أنستاسيا ما رأيك ..؟ دنوت منها أكثر لأكتشف بأنها قد راحت في سباتٍ عميق .
عبدالغني خلف الله
21-12-2013, 08:29 AM
الحلقة الرابعة والعشرون
مستر أوليس ..مستر أوليس ..كريموف وهو يخطئ للمرة الألف في نطق اسمي ..نعم يا كريموف ..ماذا وراءك ؟ ..البشارة سيدي .. البشارة .. لقد وصلك خطاب مسجل من الخرطوم ..خطاب لي أنا؟! ..نعم .. نعم بكل تأكيد ..أين هو ؟ قلت له في لهفة عارمة ..ولكن ..أين ..؟ ..فهمتك يا كريموف خذ هذه ..خمسة دولارات ..؟ أنت كريم جداً سيدي ..وأنت أبو الكرم يا كريموف واسمك يشير إلي ذلك فقط أعطني المظروف ..أدخل يده في تضاريس( البالطو) الضخم وناولني إياه ..أخذت منه المظروف وتوجهت نحو غرفتي ..أسدلت الستائر وأغلقت الباب من ورائي وكأنني أختلي بحبيبة قلبي لأول مره ..فضضته بعناية فائقة وكأنني أخشي تساقط الحروف علي أرضية الغرفة ..وشريط كاسيت أيضاً .. يااه .. إذن أنا موعود بالسفر عبر عيون أهلي إلي سماوات وطني الحبيب .. قرأت الرسالة ووجدت بها أسطراً من والدي وأخري من شقيقي وشقيقاتي حتى الصغيرة ( روان) التي لا تزال بالروضة أعطوها حيزاً .. كانت كلمات مفعمة بالأشواق والأمنيات والوصايا .. الصلاة والمذاكرة ولم أجد سطراً واحداً من أمي التي تجيد القراءة والكتابة فانتابني إحساس عارم بالخوف ولكنني ما أن أدرت شريط التسجيل حتى جاءني صوتها واهناً متعباً وحنوناً .. احتضنت آلة التسجيل أضمها إلي بقوة وكأنني أضم إليّ جسد أمي الحبيبة .. وبكيت .. لا أدري كم مر علي من الوقت وأنا أبكي .. وعندما تعبت من البكاء أخذت قرصاً من ( فاليوم تن ) فنمت ..وفي المنام زارتني أمي ..جلست بقربي تؤنسني وتأخذ يدي في يدها وتقص علي الأحاجي تماماً مثلما كنت صغيراً ..حدثتني عن ( ود النمير .. وفاطمة السمحة والغول .. وود النقادي) .. وآخرين ..كان حلماً جميلاً تمنيت لو لم ينته ولكن هاهو كريموف مرة أخري يقرع الباب بقوة فيوقظني .. مستر أوليس .. مستر أوليس .. السيدة ذات الفراء الفاخر تطلبك علي الهاتف .. نهضت في تثاقل واضح وأنا أشعر بصداع شديد من أثر ( الفاليوم ) .. وذهبت نحو غرفة الإستقبال .. مرحبا إزابيلا .. كيف حالك يا أويس .. أسبوع كامل ولا أسمع حتي صوتك ؟! ..هل هذه هي أصول الصداقة عند قبائل أفريقيا .. لا والله يا إزابيلا ..أنت دائماً في بالي ولكن الامتحانات علي الأبواب .. هل تستطيع المرور عليّ بمنزلي ؟! .. الآن ؟ .. بالطبع فأنا أشتاقك جداً ..حسناً فأنا أشتاقك أيضاً وأشتاق عصير التوت الكولمبي ..كنت بحاجة لكتف صديقة أرتاح عندها بعد الرسالة التي وصلتني من أهلي .. أخذت حماماً دافئاً وغيرت ملابسي بسرعة وحملت معي ربابتي .. لقد أعددت لك اليوم مفاجأة يا إزابيلا وأي مفاجأة ..مفاجأة ستزلزل كيانك ..فقد عكفت أنا وصديقي الإسباني ( نعوم ) القادم من جنوب لبنان علي حفظ أغنية لاتينية كتبها شاعر كولمبي وقمت بتوقيعها علي ربابتي مع بعض التعديلات .. استقبلتني بحماسة بالغة وكأننا لم نلتق منذ قرون .. جلسنا وحدنا في غرفة الجلوس .. سألتها عن أحوالها فغمغمت بعبارات غير مفهومة فهمت منها بأنها محبطة وأنها تتهدم وتموت ببطء .. اختفت وعادت بقنينة كبيرة من التوت الكولمبي الذي أحبه .. صبت لي كأساً عملاقة كمسبح صغير .. شربت منها حتي ارتويت وشعرت بالخدر يتسلل إلي عروقي .. وانزاحت في لحظات كل آثار التعب وآلام الصداع ودبت الحركة والحيوية في أوصالي .. حيوية جعلتني وقتها مستعداً لمصارعة ثور هائج .. إِنتبهت إلي آلة الربابة ورجتني أن أغني لها شيئاً خاصاً جداً قلت لها سأفعل .. أمسكت بالربابة وبدأت الغناء بلغة اسبانية سليمه .. انعقد حاجباها دهشة واتسعت عيناها الرائعتان تكاد لا تصدق ما تسمع .. ضحكت وفركت أصابعها من شدة النشوة .. غادرت موقعها بالمقعد المقابل وجلست بقربي تعيد الكلمات من بعدي وبدأ وكأننا نشّكل ثنائياً غنائياً رائعاً ..( إن عثرت عليك مجدداً في وقت ما .. سأعود إلي نظرات عينيك الحبيبة .. سأفعل معك نفس الأشياء المجنونة ذاتها .. لو عثرت عليك مجدداً .. سأعود إلي نفس المكان الذي فقدنا فيه حبنا .. لو عرفت مكانك لبحثت عنك ولقلت لك .. لا معني لحياتي بدونك .. ولكنك بعيد جداً .. ولكي أحقق هذا الحلم أفعل أي شيء .. كل مرة أتعثر بهذا الصوت .. لم يبق شيء بيني وبينك .. إن كنت أبكي لأن قلبي يفتقدك .. لكنني تعلمت حين أتألم بأنه يجب عليّ أن أنسي .. سأكون متغلغلاً في جلدك .. مبحراً في مسامك . .وسيبقي لي مكان في قلبك .. ولتكن هذه هي التنهيدة الأخيرة .. عندما عثرت عليك ذاك الصباح بينما النسيم يقبّل بشرتك الرائقة شعرت بهذا الحب الأزرق بداخلي وأراك في النجمة التي طالما حلمت بها .. بكل دمعة أثناء الغفران .. كالسماء الزرقاء ربيع أزرق غمرني .. علمني كيف تكون الرقة الساحرة فكتبت قصيده ) .. كانت منفعلة وقلقة وهي تتابع الغناء معي .. وعندما وصلت إلي المقطع الأخير .. أجهشت بالبكاء وهرعت نحو غرفتها .. دفنت نفسها داخل الملاءة وهي تنشج وتتأوه .. قلت لنفسي .. هذه الانفجارات الوجدانية مطلوبة في بعض الأحيان .. راجعت الصالون الأنيق ولفت انتباهي صورة كبيرة ل(إزابيلآ) وهي في ثوب الزفاف ومعها عريسها .. شاب أسمر طويل القامة وقد التف حولهما عدد كبير من الجنود يرتدون الزي العسكري وتظهر في الصورة أشجار كثيفة قرب نبع جارٍ .. شعرت بالخدر والنعاس وبين اليقظة والأحلام رأيت وجهها قريباً جداً من وجهي .. فنمت .. نمت طويلاً وحين استيقظت من نومي وجدتها وهي تجلس قربي تتأملني في تبتل صوفي غريب .. أنت متعب يا أويس .. هيا أعيدك للنزل بعربتي .. نعم من فضلك .. وقبل أن أغادر ناولتني كأساً من عصير التوت .. الشراب الذي بات ينعشني ويسبح بي في سماوات من الراحة والسكون وكأنني (هدندوي) من غابات نهر القاش بكسلا أدمن البن الحبشي .. كان والدي قد عمل بمنطقة أروما القريبة من كسلا ولا يحتاج البجاوي هنالك لكثير عناء ليصنع قهوته .. تجده يحمل شيئاً من البن والسكر والفحم في جرابه ويتوه ممتطياً ناقته في وهاد الشرق وسفوحها بحثاً عن لا شيء في حياة هي أقرب للتصوف .. وعندما يشعر بأنه بحاجة لفنجان من القهوة .. يترجل من علي ظهر ناقته وتحت ظلال أقرب شجرة يقدح زناده ويوقد ناراً صغيرة يحتويها بين ثلاثة قطع من الطوب ليحميها من ( الهبباي ) العاتي لا سيما في الصيف .. ثم يضع إبريقاً فوق النار ويصنع قهوته بنفسه .. وتكون الصورة في أقصي حدود الروعة لو أن (تاجوج )بقربه تناوله الفنجان فلا يملك سوي أن يغني للحب والناس والجبال والأجداد ..( فنجان جبنه بشمالو تسوا الدنيا بحالو ..).
نداء غريب صبري
10-03-2014, 03:04 PM
قرأت هذه الحلقات الجميلة والأسلوب السردي الممتع
وأعجبتني إنسانية أحداثها
رواية ستكون رائعة مسلسلا تلفزيونيا أوفيلما
شكرا لك أخي
بوركت
عبدالغني خلف الله
05-05-2014, 08:00 PM
أشكرك من كل قلبي الإبنة العزيزة نداء ..ومعاً ندلف للحلقة الخامسة والعشرون مع كل الود
عبدالغني خلف الله
05-05-2014, 08:02 PM
الحلقة الخامسة والعشرون
ها أنا أتكيء علي وسادة الشجن .. تتقاذفني الهواجس والكوابيس الرهيبة .. وشجيرة صحرائي ونجمتي الغائبة رزان تهدهد أوجاعي في المنام فأرتاح . .لماذا أنت بعيدة بهذه الدرجة .. أنظر في الخارطة وأقيس المسافة بين السودان وموسكو فأصاب بالرعب .. والله كم أنت بعيدة يا رزان .. إني أتذكر لحظة فراقنا وأنا أقف قريباً من نافذة المركبة في موقف العربات بالأبيض .. وكفك في كفي ..لكأنها معجونة من أجنح غيمة .. أنيقة وبضة ومشاغبة ..عبثت بأصابعي أكاد أجن من البهجة والسعادة .. وهتفت في سري .. اللهم لا تحرمني من هذا الوجه الطفولي الرائع بكل تفاصيله المدهشة وسمته المترف البهيج ..ذاك الحنون.
قرع بالباب والقادم ليس سوي أنجلينا جاءت لتأخذ متعلقات إبن عمتها الذي مات في مقديشو .. كم هي غريبة هذه الحياة ..ألماني يموت في مقديشو وطالب غاني يموت في موسكو .. دفعت لها بكل ما يملك شوماخر أو شرودر كما تعودنا علي مناداته .. ولكن أين هو .. ربما استكثروا عليه جنازة متواضعة فقذفوا بجسده للعقبان ووحوش الغابة .. وهل من أوراق أخري ؟! همست والدموع تبلل وجنتيها الناعمتين .. هذا كل ما لديه بخزانة الملابس وقد تكون ثمة أوراق أخري في الحقيبة الصغيرة .. ضمت ملابسه إلي صدرها تشمها وتبكي بكاءً مراً .. بكت الساعات الطوال وأنا أحاول تهدئتها دون جدوي .. لكأنها خزان للدموع يكفي كل المعذبين علي وجه هذه الأرض .. استأذنتني لحظة لتدخل الحمام .. سمعت صرير المزلاج من الداخل وبقيت هنالك أكثر من اللازم .. انتابني نوع من القلق .. طرقت باب الحمام طرقات خفيفة وأنا أنادي عليها .. أنجي ..أ نجي .. هل أنت بخير ؟! .. فجاءني صوتها واهناً ومتعباً وهي تردد بالألمانية ( Ich can nicht ..ich can nicht ) ومعناها لا أقدر .. لا أقدر .. دفعت الباب بكل ما أوتيت بقوة محطماً القفل من الداخل لأجدها وقد وضعت مسدساً قرب صدعها .. أخذت منها المسدس وأفرغته من الطلقات وسحبتها في رفق إلي الغرفة .. وحمدت الله كثيراً أنها لم تنتحر بكل ما يمكن أن يمثله حادث كهذا من ذيول وتداعيات بالنسبة لي .
وبت غير قادر علي فعل أي شيء .. دائماً متعب ومكدود واشعر بثقل في أجفاني حتي وأنا داخل قاعة المحاضرات .. حالك لا تعجبني يا أويس .. لماذا أنت شاحب هكذا ؟ هل تشعر بشيء ؟ هكذا كان حديث أنستاسيا معي في كل مرة تلتقيني فيها وهكذا كانت ملاحظات الرائعة شاهندة .. حتي روزماري الإيرلندية القادمة من بلفاست والتي تعودت أن ترشقني بنظرات حانية عندما يلتئم شمل الطلاب في غرفة الطعام وتحييني من علي البعد .. هي الأخري لاحظت ما يعتريني من أسقام .. وفي مرة مازحتني وركضنا معاً نتقاذف بكرات الثلج ونحن نلهو في ميدان كرة السلة .. فشعرت بميول رهيبة نحوها لدرجة أنستني نفسي والمحاضرات فاقترحت عليّ جولة في الضواحي علي ظهر الدراجات البخارية وكانت لدي فكرة ما في قيادتها .. تجولنا في الغابات والمزارع دونما زاد دونما اتجاه .. وتمنينا لو نتوه العمر كله .. ألم تكفك ( أنّا ) وإزابيلا لتضيف لقلبك المتعب أثقالاً جديدة من المواجد .؟ كأن للجمال ثأر قديم لديك .. ما أن تتاح لك معرفة هذه الجميلة أو تلك حتي تستسلم تماماً وترفع جميع راياتك البيضاء ولا تقاوم وزملاؤك في جامعة الصداقة يقاومون الأنظمة المستبدة في بلدانهم بالدم والبارود .. ولكنني لا أؤمن بالقتل وإراقة الدماء دفاعاً عن فكرة أو قضية ما .. لأن ذلك الطريق يوقع ضحايا أبرياء من المدنيين وعابري الطريق الذين لا ذنب لهم وأؤمن بمدرسة غاندي في مقاومة الظلم والاستبداد .. المسيرات السلمية والإعتصامات فإن لم تنجح فسلاح الإضراب العام يفعل الأعاجيب في السلطة أي سلطة مهما كانت قوتها وجبروتها .. خذ مثلاً شرودر الذي فقد حياته وهو يقاوم حكومة بلده المنتخبة ديمقراطياً .. ما لها ألمانيا ؟! تقدم تكنولووجي ورفاهية لا يوجد لها مثيل .. أتفهم دوافعه لو كان قد قدم من دول العالم الثالث حيث تشقي أجيال بحالها من أجل الحصول علي شربة ماء أو جرعة دواء وليس مقعداً لحضور حفل للأزياء .. واليوم كان من المفروض أن أذهب مع ( أنّا) لمراجعة طبيب إختصاصي صديق لعمتها السفيرة السابقة ولكن إزابيلا أخبرتني علي الهاتف بأن عمتها خواليتا وابنتها سيسيليا قد حضرتا من لينينقراد وتودان رؤيتي .. توجهت علي الفور نحو منزلها لتأتي أنستاسيا في الموعد المتفق علي فلا تجدني .. لقد غضبت غضباً شديداً ولعنتك بكل اللغات .. كريموف يصف لي الموقف لدي عودتي من منزل إزابيلا .. يا لروعة الصغيرة سيسيليا ..أمضيت معهم بعض الوقت وكان علي إزابلا تركنا لوحدنا والذهاب في مشوار هام بالنسبة لهما .. حملتا ذات الحقيبة السوداء التي كانت تجد كل الحفاوة والاهتمام لدي وصولنا لآخر مرة إلي لينينقراد وهاهي ترقد الآن مهملة قرب الباب المؤدي إلي غرفة نوم إزابيلا ولا أحد يعيرها أي اهتمام .. لماذا هذه الدورة العجيبة من الحب والاهتمام ومن ثمّ الصد والإهمال بعد حين حتى بين الجمادات ؟! .. أمضيت وقتاً رائعاً وغريباً مع الصبية سيسيليا .. كانت صاخبة وضاجة ومسلية ومتوثبة كنمرة صغيرة .. وماذا أيضاً ؟ كانت حلوة وأنيقة ورائعه .. وماذا أيضاً ؟ كانت ناضجة وشيقة وغضة وناعمه .. وماذا ايضاً ؟ كانت كقطعة حلوي كحزمة من المرمر .. مشرقة وبهية و..و.. كل هذه الصفات تجمعت في سيسيليا ؟!! ..أنت تبالغ يا صديقي .. لقد منحتني ساعات من الدفء والروعة تكفيني بقية عمري .. وامتعضت حين سمعت بوق سيارة إزابيلا يطلب من الحارس فتح البوابة الرئيسية .. لعلني أول شخص تعامل معها كسيدة محترمة وليس كطفلة .. لتسكب كل ما بدواخلها من رقة وحنان .. مرحبا أويس .. مرحبا إزابيلا مرحبا خواليتا .. هل كانت سيسيليا رائقة ومؤدبة معك ؟ خواليتا .. تسأل بشيء من المرح ..أسأليه ماما .. بل كنت صامتة ومتجمدة كبحيرة روسية في فصل الشتاء .. الحق يقال .. لديك بنت رائعة يا عمة خواليتا وينتظرها مستقبل باهر .. إنها ذكية ومهذبة ..عدنا للأوصاف يا ( كامل الأوصاف ) .. علي رسلك .. علي رسلك .. ضعها هنا .. ومرة أخري تستعيد الحقيبة السوداء أهميتها .. هل قالت لك سيسيليا بأننا سنغادر بعد نصف ساعة من الوقت ..؟ العمة خواليتا تفاجئني بهذا القرار الصعب ..ماممااء ..هل سنغادر فعلاً ؟ ..اتركيني لبعض الوقت في موسكو .. أرجوك ماما .. أتوسل إليك .. لماذا لا تقولين شيئاً يا إزابيلا ؟ .. لا مجال لتركك ورائي والدراسة ستبدأ بعد غد .. مرة قادمة حبيبتي .. أعدك بأن أعيدك إلي هنا لتمضين إجازة الفترة مع ( إييزا) .. إييزا ؟! .. هل هذا هو الاسم الذي ينادونك به وأسمع به لأول مرة ( إزابيلا ) أنا الذي كنت أعتقد بأنني من أقرب أصدقاؤك يا .. يا ..إييزا ؟! .. لا والله يا أويس ولكنني سأشعر بالخجل إن طلبت منك ذلك .. وحانت لحظة الفراق القاسية .. سيسيليا تغرق في البكاء وكأننا في موسم البكاء والندم .. لماذا الجميع يبكون في هذا البلد ؟! .. سأتذكرك كثيراً أويس .. يا إلهي ..لماذا أنت بهذه الروعة التي آلمتني ؟.. آه ما أصعب الفراق وما أتعسه .
عبدالغني خلف الله
07-05-2014, 09:18 AM
الحلقة السادسة والعشرون
نحتاج لفحص شامل للدم والأنسجة ولصورة مفصلية ب(الراديو آكتيفتي ) ..الطبيب الاختصاصي وهو يوجه حديثه نحو أنستاسيا بينما أنا راقد علي ظهري فوق أريكة الفحص أمامه وكانت قد اعترتني حمي شديدة وصداع نصفي وتعرق أفقدني كثيراً من السوائل مع شيء من التشنج وطلب مني أن أعوده بعد أسبوع لمعرفة النتيجة .. ولم أكد أغادر المشفي حتى أخذتني ( أنّا) بسيارتها إلي مطعم خلوي .. لماذا نتناول طعام الغداء في هذا المكان البعيد يا عزيزتي ..؟ هذا لأنني أعددت لك مفاجأة ما .. مفاجأة ؟! .. ما هي يا (أنّا) .. أرجوك قولي لي .. وكيف ستكون مفاجأة إذا ما أفصحت عنها .. لا تستعجل ستعرف بعد ساعة من الزمن .. دلفنا إلي داخل المطعم الفخم وكانت ثمةّ أريكة قد أعدت لشخصين تتوسطها باقة من الورد وبعض الشموع .. أخذ النادل معطفينا وأجلسنا بأدب جم .. وبعد دقائق ظهر شخص يحمل بيده آلة موسيقية أشبه بالكمنجة وبدأ العزف .. طعمنا وشربنا وفي خضم هذا الزخم الاحتفالي أخرجت (أنّا) علبة أنيقة وقالت لي بحزم وبصرامة .. أسمع يا أويس .. اسمعني جيداً .. أنا أخطبك زوجاً لي علي سنة الله ورسوله .. وتسطيع الرفض أو القبول .. علي سنة الله ورسوله ؟! .. وهل أنت مسلمة يا (أنّا) ..نعم والحمد لله ..بيد أني أخفي إسلامي عن الروس وكذلك انتمائي للشيشان .. وطني الأول .. أذهلتني المفاجأة وكادت أن تقضي عليّ لو لا تشبثي ب( حسبنا الله ونعم الوكيل ) .. هل تمنحينني بعض الوقت فأصلي وأستخير الله ؟! .. بالطبع تفضل .. هرعت نحو الحمام توضأت وصليت في ركن قصي من المطعم ركعتين وتلوت في سري دعاء الاستخارة وشريط من الذكريات ينداح أمامي .. صورة أمي وأبي وأهلي ورزان .. ياااه .. لكم تتوالي عليك المفاجآت يا أويس .. بالأمس القريب شهدت بمسجد موسكو الكبير إسلام ( نعوم ) من أجل شاهندة وسفرهما معاً إلي (مظفرأباد ) ليخطبها من والدها حسب شروطها وأن يتم الزواج وفق التراث الكشميري وقبل شهر سألت إزابيلا عن صورة الزفاف التي تزين مكتبتها فأخبرتك بأن الذي يظهر في الصورة هو زوجها الراحل ( سيزار ) .. ذلك الطالب الذي هرب معها بعد نهب الصرافة وقد تقدم في صفوف القوات المسلحة الثورية التي تقود المقاومة المسلحة في كولومبيا وبينما كان يعقد مؤتمراً صحفياً داخل الغابة بإحدى المناطق المحررة حدث انفجار قوي أودي بحياته وعدد من الصحفيين وتمكنت إحدى الفصائل من نقلها إلي كاراكاس ومنها إلي روسيا وسبق ذلك بالطبع تحويل جميع أرصدتها إلي هنا .. يا لهذا العالم الغريب .. عدت إلي أنستاسيا .. اسمعي يا ( أنّا ) .. أنا من أطلبك زوجة لي فهل تقبلين ..؟غادرت موقعها وعانقتني طويلاً وهي تبكي وتردد ( الحمد لله العظيم ..) .
تقبلت إزابيلا النبأ بما يشبه الصدمة .. وظلت تردد .. هذا مستحيل .. هذا حرام .. هذا غير عادل .. قلت لها محاولاً مؤاساتها هذه الأشياء مقدرة سلفاً والزواج مثل حادث المرور لا تعلم متي وكيف يقع ومن سيكون الطرف الثاني في الحادث والأفضل لنا يا إييزا أن نظل أصدقاء .. ألسنا أصدقاء يا إزابيلا ..؟ نعم .. نعم .. ولكنني أحبك ولم أكن بحاجة لأقولها لك صراحة .. أنا أحبك يا أويس .. يا إلهي ساعدني يا إلهي ساعدني .. لن أخذلك يا إييزا .. لن أخذلك وسأبقي ما حييت صديقاً مخلصاً لك وللعمة خواليتا وللصغيرة سيسيليا .. أعدك بذلك والآن هيا كفي عن هذا المزاج الغاضب .. تعلمين شيئاً يا إييزا .. لقد اكتشفت اليوم كم أنت جميلة حين تغضبين .. أرجوك امنحيني مزيداً من التململ والغضب .. كف عن هذا الهراء يا يا أويس .. لقد بعتني وخنتني وفضلت أنستاسيا عليّ .. هذه القروية الروسية الساذجة أخذتك مني وأنا بحاجة لك أكثر منها .. علي الأقل لديها أسرتها والجامعة والحزب .. أما أنا ..ماذا تبقي لي ؟ .. ماذا ؟ مات زوجي وانقطعت صلتي بوالدي ووطني .. كنت أعول عليك كثيراً وكنت واثقة بأننا سنتزوج .. لا تبكي يا إييزا ..فأنا هنا بجنبك وسأظل .. والآن هيا ابتسمي .. هيا .. هكذا أجمل .. أتمني لك السعادة معها ومن كل قلبي .. وآمل أن تقدر كم هي محظوظة حين حصلت علي جوهرة نادرة المثال اسمها أويس .. والآن أريد شيئاً من عصير التوت ..عصير التوت ؟! .. قالت في ارتباك .. لقد نفدت الكمية التي معي .. لا تشربه يا أويس .. أرجوك لا تشربه مرة أخري ولا تسألني لماذا وقبل أن أغادر دست في يدي علبة أنيقة وهي تهمس في وجهي هذه هديتي لأنستاسيا .. أهدته لي والدتي عندما نجحت في الدخول للجامعة وأنا بدوري أهديه لعروستك .. فتحت العلبة لأجد عقداً من الماس الحقيقي .. ( واو !!!) .. هذا عقد من الجواهر الحقيقية حبيبي .. من أين حصلت عليه ولماذا .. لا بد أنه غال جداً أويس . .( أناّ ) وهي تقلب العقد بين يديها .. هذا العقد هدية زفافك من إزابيلا .. عبس وجهها لبعض الوقت وأعادته لي بشيء من الغضب .. أرجوك خذيه .. لا تحرجيني مع إزابيلا .. لأجلك فقط سآخذه .. وكان واضحاً أنها مفتونة به .. وضعته حول عنقها الأنيق فبدا أكثر جمالاً وإشراقاً .. من المؤكد أنه يساوي ملايين الروبلات .
عبدالغني خلف الله
12-05-2014, 08:45 AM
الحلقة السابعة والعشرون
ومضت الأيام سراعاً ونحن نركض هنا وهناك لتجهيز لوازم العرس .. نريده زفافاً متواضعاً وفي نطاق أسرتي وبعض أصدقاؤك لا أكثر ..المهم أننا سنتزوج .. وذات صباح شديد البرودة تغطيه الثلوج الكثيفة .. جلست بغرفتي وأنا أرتجف من البرد أقلب في يدي مسدس أنجلينا الذي سحبته منها خوفاً من أن تؤذي نفسها به .. سمعت طرقاً شديداً بالباب .. افتح يا أويس .. أفتح بسرعة فالبرد قارص في الخارج .. بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم .. لكأنه صوت شرودر .. لقد مات وشبع موتاً .. شرودر ؟!!! .. شعرت بدوار خفيف وأن رجلاي لا تقدران علي حملي وتهاويت نحو أقرب مقعد .. أويس ما بك ؟! ما بك يا رجل ؟! .. ألم تمت يا شرودر ضمن من ماتوا في مقديشو ؟ أم أنك شبح عاد من وراء برزخ بعيد ؟! .. مقديشو .. لعلك تقصد عملية ( بادرماينهوف ) بطائرة اللوفتهانزا .. تلك قصة طويلة يا أويس وأنا متعب جداً .. لقد حالت الشرطة الكينية دون صعودي للطائرة في اللحظات الأخيرة .. سأخبرك فيما بعد .. سأخبرك .. كيف حال أنجلينا ؟ .. لم أرها قبل مدة وكانت علي وشك الانتحار بسببك .. إنها تحبك بقوة يا شرودر ويتحتم عليك عدم التفريط بها من أجل قضاياكم الواهية .. قضايانا واهية يا أويس ؟! .. بالله عليك كف عن إزعاجي بنظرياتك يا شرودر . .ماذا تعرفون عن الظلم الاجتماعي وكل احتياجاتكم متوفرة بالأسواق وحكومتكم تمنح رواتب شهرية حتى للعاطلين عن العمل .. ماذا تعرفون عن المعاناة وعن التفاوت الطبقي وأنتم تتمتعون بجميع الخدمات في بلدكم الماء والخضرة والعلاج والتعليم وحرية السفر لأي مكان والبنوك التي ما فتئت تقرض حتى غير الراغبين في الإقراض .. قروض لشراء شقق وقروض لشراء سيارة وإجازات في سواحل البحر البيض وجزر كناريا .. وتلفزة ودور سينما وانتخابات حرة ونزيهة .. في وقت نشقي فيه لمجرد الحصول علي لقمة العيش وفرصة للعمل وربما للهجرة .. كرة قدم متطورة وملابس زاهية الألوان وأجسام قوية وأناقة لا تصدق .. وبرغم كل هذا الثراء تأتي ياشرودر لتغيّر المجتمع بالقوة ..امنحونا عشر ما بأيديكم ونرضي بديكتاتور إلي الأبد .. هل انتهيت من دفاعك عن الرأسمالية يا أويس ؟! .. حسناً يؤسفني أن أقول لك بأنك إنسان بلا أفق ولا هوية وكل همك الكل والشرب كبقية الحيوانات .. طابت ليلتك .. أحلاماً سعيدة ومرحباً بك من جديدٍ في دنيا الأحياء يا شرودر.
راجعت الطبيب في الموعد الذي حدده لي ووجدت أمامه حزمة من الصور والتقارير المخبرية وقال لي أن ثمة تأثير مباشر علي الأعصاب جراء تناولك قدراً أكبر من اللازم من الكحول أو الحبوب المهدئة وربما نوع غير ضار من المخدرات .. هل تدخن الحشيش ؟ .. لا .. لا طبعاً .. أعوذ بالله .. حشيش ؟! .. تربيتي ومعتقداتي الدينية لا تسمحان لي بمثل هذا الانحراف .. لا باس إذن خذ هذه الروشتة وستجد بعض الأدوية التي ستساعدك كثيراً ولكن المهم أن تتذكر أي نوع من المشروبات أو الكحول يصيبك بالخدر .. عصير التوت الكولومبي .. إنه هو ولا ريب ..لا .. لا ..لن يكون في بال إزابيلا إدخالي إلي تلك الدائرة الجهنمية .. دائرة الإدمان علي المخدرات .
لا وقت لدينا يا أنجي .. ستذهبين معي الآن إلي غرفتي فثمة مفاجأة سارة بانتظارك .. أرجو أن تعفيني من زيارة النزل مرة أخري .. بت لا أطيقه منذ وفاة شرودر .. بل ستذهبين ولا داعي للتسليم بان شرودر قد مات .. هل رأيت جثمانه بنفسك ..؟ لا ولكن .. هنالك بصيص أمل ولو ضئيلاً باحتمال وجود شرودر عالي قيد الحياة .. قلت لها مقاطعاً .. وقريباً من باب الغرفة حاولت أن أقلل من حجم المفاجأة عليها .. كم تعطينني من المال إذا كان الشخص الذي بانتظارك في الداخل هو شرودر ؟ .. أعطيك كل ما أملك .. أعطيك نفسي لأصبح جارية لك ولأنستاسيا ..أعطيك .. كفي .. كفي والآن تفضلي بالدخول .. شرودااااار .. ومن ثمّ تهاوت نحو أرضية الغرفة .. بذلنا جهوداً مضنية لتستعيد وعيها .. جربنا الماء البارد والعطر .. وشيئاً فشيئاً بدأت تستعيد وعيها ..تساءلت في البداية بصوت واهن .. أين أنا ؟ ومن يكون هذا الشخص ؟!! ..إنه شديد الشبه بشرودر .. بل إنه شرودر .. حبيبي ..أخي .. لقد نجوت .. لقد نجوت .. وذاب كلاهما في أحضان الآخر .. أغلقت الباب خلفي فقد كان الموقف فوق طاقة احتمالي وحين عدت لهما وجدته ممسكاً بيدها وقد أراحت رأسها فوق كتفه وهي تردد كنت دائماً شديدة التشبث بفكرة وجودك علي قيد الحياة ولكنني أفقد الأمل في بعض الحيان فيجُن جنوني .
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir