تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة بحر



دينا نبيل
02-09-2013, 08:33 AM
رسالةُ بحر


" إليكَ .. .. تركتني .. .. تهشّم مركبي ... ... ، لمَ .. .. ؟
أنتَ يا .. .. .. أمواج .. .. تتقاذفُني .. ... !
عُد إليّ .. .. نخرَ البردُ عظمي .. أصابني الصممُ ، عـــــ .. .. !
إن لم تعُد .. .. فأنتَ .. .. !!!
... ...
... يا من تجدُ رسالتي فقد وجدتني .. ..
أرسل .. .... نجدةً ، اطلُبـــــــ .. .. ... ...
المُخلص
.. .. البحر "

أمسكتُها من حوافّها شبهِ الذائبة ووضعتُها أمامى على الرمال كي تجّف ، صحيح أنها كانت داخل زجاجةٍ مغلقةٍ استغرقت مني ساعتين لفتحِها، ولكنّ بحرَ الشتاءِ المتلاطم ، والماءَ القارس ربّما نفذَ إليها.
رسالةٌ غريبةٌ يلفظُها البحرُ بقوةٍ فتصطدِم بوجهي، كما لو كان يضيقُ بها ذرعاً ، وكلّت أمواجُه عن حملِها وحملِ عبءِ ما فيها.

ما العملُ الآن ؟!
من " البحر" هذا ؟
أعرفُ أنّ كثيراً من أهلِ الإسكندرية يُلقبون أولادَهم بـــ " البحر " تيمناً به وطمعاً في طولِ الأجل، فمنَ المؤكدِ أنّ هذا لقبٌ لعائلةٍ هنا ، ولكن أيّهم يكون والمدينةُ بهم ملأى؟
حملتُها بعد أن جفّت تقريباً فلم يعُد الهواءُ الباردُ محتملاً ، أدخلتُها في سترتي خشيةَ أن يُصيبَها الرذاذُ المتطايرُ .. هل من الممكنِ أن تكونَ حياةُ إنسانٍ مرهونةً بتلكَ الورقةِ ؟! .
لم أدرِ أينَ أذهبُ بها .. ؟! .

لوهلةٍ تذكرتُ قسمَ الشّرطةِ لكنني أحجمتُ خوفاً من عواقبَ لا تُحتمل ، أسرعتُ نحو عمّالِ الشاطئ أعرضُ عليهم الورقةَ لكنّ أحداً لم يُصدقني .. كيف يكتبُ إنسانٌ ورقةً وهو في عرضِ البحرِ؟ .. حتّى وإن حدث هذا ، فكيفَ تصمدُ زجاجةٌ ضعيفةٌ أمام الصخورِ والأمواجِ العاتية ؟ .. ولم تُحطمها إحدى ضواري البحرِ التي تستغلُ هياجَه لترتعَ بحُريّة .
خرجتُ إلى الشارعِ .. لابدّ أن أتصرفَ ، فالرجلُ يموتُ .
لم يأبه أحدٌ ليدي الممدودة ، أعطاني أحدُهم جنيهاً ومضى دونَ النظر إلى وجهي! .. وآخرُ يقولُ لي " الله يسهل لك! " ، جريتُ وراءه ، جذبتُه .. " ثمّة رجلٍ يموتُ في عرضِ البحرِ وأرسلَ رسالةً يستغيثُ " ، نظرَ إليها نظرةً خاطفةً ، وتأمّلني قليلاً في صمتٍ ثم رحل .

ذهبتُ إلى محطةِ الحافلاتِ .. مُكتظة كالعادة بكتلٍ متلاحمةٍ اتقاءَ المطرَ والصقيعَ ، صرختُ بأعلى صوتي .. " ساعدُوني ! .. هناكَ رجلٌ يغرقُ في عرض البحر! ".
انتبهوا إليّ من فورهم، فما إن أخرجتُ لهم الرسالةَ حتى بدأوا بالتهكمِ والضحكِ ، وعندما لاحت الحافلةُ من بعيدٍ .. تدافعتني أمواجُ اللحمِ ولفظتني خارجَ تيارها .
سقطتُ على الأرض .. لا شيء أشدّ إيلاماً من الارتطامِ برصيفٍ خرساني متجمدٍ يبعث ذبذباتِه الكهربائيةَ في خلاياي ليصيبني بالخدر . لملمتُ أطرافي وشددتُ سُترتي عليّ مقاوماً هواء يَخِزُ عظامي .
لم يكُن هناك من يكترثُ لندائي.

لم يعُد هناك أحدٌ من البشرِ .. وحدُها مظلاتٌ ملونةٌ براقةٌ ، نبتت لها أرجلٌ طويلةٌ تعدو هنا وهناك ، وسياراتٌ ترشرشُ نوافيرَ وتطلقُ نفيراً يتابعُ أصداءَ الرعدِ الذي بدأَ منذُ قليل.
توجهتُ مجدداً نحو الشّاطئ .. كان خالياً من كلّ شيءٍ عدا أعشاشٍ متناثرةٍ تستندُ إليها بعضُ قواربِ الصّيدِ القديمة .. أخذتُ أقلبها .. أغلبُها هزيلٌ متفسخٌ ، ولكنني تخيرتُ أفضلَها حالاً ، ورحتُ أسحبُه على الرمال .
الرمالُ بيضاءُ صلبةٌ ، والقاربُ فوقها يخطّ خطاً طويلاً عميقاً لم يلبث أن امتلأ بماءِ السّيول .. حتى انتهيتُ إلى البحر .. لابدّ من الإسراع ، فالرجلُ يموت!
لا تخفْ شيئاً يا " بحر" .. أو أياً كان اسمك .. أنا آتٍ إليك! .

البحرُ هائجٌ .. تتلاحقُ الأمواجُ بعنفٍ يلتهمُ بعضُها بعضاً .. تنتفخُ وتتعملقُ ثم تتكسرُ على حافةِ الشّاطئ .
الشّاطئُ يتضاءلُ .. يتآكلُ .. والبحرُ يزحفُ نحوي .. تزحفُ ألسنتُه الباردةُ تلعقُ قدميّ .. تطوّقُهما .. تتلقفُ قاربي، تشدّه وتحملُه على أكفّها إلى مائها الرمادي الحالك .
ثوانٍ وعادَ وميضُ السماءِ على حين غرةٍ يخطفُ بصري، أعقبه هزيمٌ أحسستُ له رجرجةً في البحرِ .. والبحرُ من تحتي يفورُ ويهدرُ مُزمجراً . اهتزّ الأفقُ البعيدُ .. رويداً يتلاشى الحدُّ الفاصلُ بين السماء والبحر.. ينبضُ .. يتنفسُ ، ويبتلعُ الاثنين معاً ..
راحت عيناي تدوران في الأرجاءِ علّني أعثر على صاحبِ الرسالة .. ناديتُ .. " يا بحر .. أين أنت ؟! " .. السماءُ والبحرُ يتبادلان الشهيقَ والزفيرَ، يشتتان ندائي .. والهواءُ يأبى إلا أن يمزّقَ صوتي .. يبدّده .. فلم أتمكن من سماعِ صوتي !.

الأمواجُ تدفعُ بقاربي ، القاربُ ينتفخ إثر تسرب الماء إليه .. غدا أثقلَ ، معبأً بالماء والطحالب .. ملابسي التصقت عليّ وتملكني وخزٌ ينشرُ جسدي .. أخذت ألفُّ حول نفسي كإبرة بوصلةٍ هائمةٍ ، حسبتُ نفسي أسبحُ فوق مصفاةِ الكونِ العظمى أدورُ وسط دوامةٍ لشفط ماءَ البحر بأكمله ..
عندها سلّمتُ أنّه لا وجودَ للمدعو " البحر " .. ويجب عليّ الخروجُ من تلك الدوامة .
ولكن تراءى لي طوافٌ خشبيٌ هزيلٌ ، ووصلَ إلى سمعي صوتٌ متكسرٌ يبدأُ عالياً ثم يذوبُ بعيداً ربّما هي كلمة " النجدة " أو كما خُيّل إليّ .
لم أنتبه لقممِ الموجِ المتصاعدةِ على المدى .. أمواج ذاتَ بطونٍ .. مغاراتٍ .. زرقاءَ حالكةٍ .. سوداءَ .. يصهلُ زبدُها كخيلٍ بيضٍ فائرةٍ تهبطُ مسرعةً نحوي تصلصلُ في معركةٍ لن تكتبَ قطّ .. القممُ تتعملقُ .. تصنعُ رأساً ينفخُني .. ثم ما يلبثُ يسحبُني حتى كاد يبتلعني بطنُه .. تلفّتُ حولي لم أجد الطواف .. ولم أجد بحر !
صرختُ بكل ما بقي في من قوّة .. " أين أنت يا " بحر".. ! "
....

بينما كان البحر يلفه من كل جانب !.
_________
دينا نبيل

مصطفى حمزة
02-09-2013, 09:15 AM
أختي الفاضلة ، الأديبة دينا
أسعد الله أوقاتك
أسعدتِنا بهذه الحكاية المسليّة ، نجحتِ في التشويق والجذب ، مع أن فكرة الزجاجة المقذوفة في البحر قديمة ومعروفة
من أيام علاء الدين والفانوس السحريّ . لكنّ وصفك الجميل الغريب فيه إمتاع يُشبع الطفولة الكامنة فينا من عهد الفرح
والخيال المحلّق . من الغرائبيّة في حكايتك أن تظني أن الزجاجة وردت ( للتو ) ممن ألقاها في اليمّ فتركبي إليه لتنقذيه !
مع أنها في الواقع تحتاج إلى زمن قد يطول أياماً وأسابيع وربما أكثر بكثير ! هذا ، واستنزف - ربما - الوصفُ منكِ النَفـَسَ
القصّيّ لديك ، فختمتِ الحكاية بلا خاتمة وامضة مثيرة .
تحياتي وتقديري

ناديه محمد الجابي
02-09-2013, 07:32 PM
بغض النظر عن فكرة القصة على لطافتها ـ
نفسك السردي أعجبني إلى حد الإندهاش
فسردك ممتع لفكرة غريبة لأديبة متمكنة من لغتها
ومن أدواتها ـ تسوق النص بحرفية ومهارة وبلغة
بديعة وصياغة محكمة, ووصف دقيق معبر.
دينا .. لقد سعدت واستمتعت بقراءتي لقصتك
وأراهن على إني سأبحث دوما عما تكتبي.
تحياتي وودي.

محمد كمال الدين
02-09-2013, 07:51 PM
فكرة رسالة البحر هذه قديمة
لكن هناك شيء مازال يجذبني إليها !
ربما نقاط الرسالة والتساؤل عن كيف جنون المجازفة يصل إلى هذا الحد

هناك سر أخفته الكاتبة ربما

شكرا للرحلة
تقديري

آمال المصري
03-09-2013, 08:31 AM
صرختُ بكل ما بقي في من قوّة .. " أين أنت يا " بحر".. ! "
....

بينما كان البحر يلفه من كل جانب !.

هي الحياة ومايواجهنا فيها من مخاطر مهما وقفنا في مواجهة أمواجها المتلاطمة لابد أن تأتي النهاية ..
والعاقل من لايرمي نفسه إلى التهلكة .. أو يتعملق في مواجهة النوائب وهو على يقين أنه الخاسر
نص رائع بغموضه وأسلوبه الثر وخياله الجامح
بوركت أديبتنا
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

براءة الجودي
03-09-2013, 07:35 PM
ربما لم أحدد الفكرة والهدف من القصة تماما إلا أنها ممتعة ومشوقة حقا
وربما قد يستنتج منها القارئ بعض الوقفات , كركوب الناس للقطار وضحكهم على صاحب الرسالة , حيث أن أغلب الناس يعيشون بأنانية فلا يضحون من أجل إنقاذ إنسان على حسب مصلحته إلا القليل
شكرا لك

كاملة بدارنه
06-09-2013, 04:44 PM
سبحنا معك في بحر الإبداع وفزنا بأحلى صدفات الإمتاع
سرد جاذب
بوركت
تقديري وتحيّتي

دينا نبيل
09-09-2013, 02:54 PM
أختي الفاضلة ، الأديبة دينا
أسعد الله أوقاتك
أسعدتِنا بهذه الحكاية المسليّة ، نجحتِ في التشويق والجذب ، مع أن فكرة الزجاجة المقذوفة في البحر قديمة ومعروفة
من أيام علاء الدين والفانوس السحريّ . لكنّ وصفك الجميل الغريب فيه إمتاع يُشبع الطفولة الكامنة فينا من عهد الفرح
والخيال المحلّق . من الغرائبيّة في حكايتك أن تظني أن الزجاجة وردت ( للتو ) ممن ألقاها في اليمّ فتركبي إليه لتنقذيه !
مع أنها في الواقع تحتاج إلى زمن قد يطول أياماً وأسابيع وربما أكثر بكثير ! هذا ، واستنزف - ربما - الوصفُ منكِ النَفـَسَ
القصّيّ لديك ، فختمتِ الحكاية بلا خاتمة وامضة مثيرة .
تحياتي وتقديري


أ. مصطفى حمزة

كل التقدير لمرورك العبق وقراءتك الطيبة .. بالطبع أتفق مع حضرتك أن فكرة الزجاجة ليست جديدة بل والعنوان كذلك ، ولكن ربما هناك شيئا مختلفا ، ربما هناك تساؤل يقف القارئ عنده ، هل هناك فعلا انسان اسمه بحر القى الرسالة ، أم أن الشخص هو ذاته البحر الذي يلف البطل ، هل هما منفصلين أم شخص واحد ، ولماذا يعمل البحر هذا مع البطل ويستدرجه إليه كي يلقى حتفه بين أحضانه ؟ ..

ربنا أرى هناك تساؤلات على الرغم من أنسنة البحر والوصف الذي أخذ حيزا دون تعطيل حركة السرد والإيقاع ، يبقى البحر لغزاً كبيراً يحتاج منا إلى تفكير عميق ..

تحياتي

دينا نبيل
09-09-2013, 02:57 PM
بغض النظر عن فكرة القصة على لطافتها ـ
نفسك السردي أعجبني إلى حد الإندهاش
فسردك ممتع لفكرة غريبة لأديبة متمكنة من لغتها
ومن أدواتها ـ تسوق النص بحرفية ومهارة وبلغة
بديعة وصياغة محكمة, ووصف دقيق معبر.
دينا .. لقد سعدت واستمتعت بقراءتي لقصتك
وأراهن على إني سأبحث دوما عما تكتبي.
تحياتي وودي.


أ. نادية الجابي

سعدت كثيرا بمرورك أستاذتي ، وسعدت أكثر أن القصة أعجبتك ..

أتمنى أن أكون على مستوى ذائقتكم دائماً

تحياتي

دينا نبيل
09-09-2013, 03:02 PM
فكرة رسالة البحر هذه قديمة
لكن هناك شيء مازال يجذبني إليها !
ربما نقاط الرسالة والتساؤل عن كيف جنون المجازفة يصل إلى هذا الحد

هناك سر أخفته الكاتبة ربما

شكرا للرحلة
تقديري


أ. محمد كمال الدين

أشكرك على المرور الكريم ..

أما عن السر ، فربما لم أخفِ سراً وإنما هو ذاك البحر الملئ بالأسرار والذي يبهر بحلته من يراه أو يقرأ عنه أو يسمع عنه
ربما هذا الشعور بالتوحد معه والإحساس بنبضه كونه لا يفارقني يوماً إما بتواجده الحسي أو الوجداني ..

وربما القصة تحتاج أكثر من قراءة للتعرف على السر
لكن يكفي أن حضرتك أنرت صفحتي بهذا المرور والتعليق الطيب

تحياتي

دينا نبيل
09-09-2013, 03:05 PM
هي الحياة ومايواجهنا فيها من مخاطر مهما وقفنا في مواجهة أمواجها المتلاطمة لابد أن تأتي النهاية ..
والعاقل من لايرمي نفسه إلى التهلكة .. أو يتعملق في مواجهة النوائب وهو على يقين أنه الخاسر
نص رائع بغموضه وأسلوبه الثر وخياله الجامح
بوركت أديبتنا
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي


أ. آمال المصري

أشكرك على تعليقك الجميل .. دوماً كريمة في مرورك واحتفائك بما تجود به قريحتنا

إنها الحياة ذات الأمواج المتلاطمة التي كثيراً تأخذنا بسحرها أو خداعها بكلمة أو رسالة ، تأخذنا إلى جوفها فلا نفيق إلا ونحن غرقى

لك مني كل تقدير

تحياتي

ربيحة الرفاعي
21-10-2013, 08:59 PM
نص قصّي بديع بدلالاته، حرفه ماتع وأسلوبه رائع ولغته شائقة، وقد أضفى ذكاء توظيف الرمز على النص ألقا وبهاء
قاصة مبدعة تروق للذائقة إبداعاتك

دمت بخير

تحاياي

نداء غريب صبري
23-01-2014, 10:27 AM
قصة جميلة بأسلوب مشوق جعلتننا نعيش معها حرفا حرفا مشدودين
أمتعتني قراءتها

شكرا لك أخي

بوركت

د. سمير العمري
11-05-2014, 01:38 PM
قصة تحمل دلالة رمزية في انجرار المرء وراء همه أو وهمه حتى ليصدق الخيال ويسعى وراءه ليغرق دون أن يدري في عواقبه.

نص سردي جميل عموما وفكرته مستهلكة ولكن رمزيته ذكية ومميزة!

تقديري