تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الكراج



هشام النجار
17-09-2013, 10:13 PM
]راقني المشهد وتلذذتُ به.. فهذه المرة الأولى التي أرى فيها دمائي .. هذا أول جرح لي وأول وجع .

كم هو مُؤلم ولذيذ .. لم يشغلني عن معايشته فزعُ الجثة التي بجواري .

هي سيدة شقراء في العقد الرابع في كامل زينتها وكامل صدمتها بيدها تقبِضُ مثلى على مفاتيح سيارة فخمة يغلب عليها اللون الأسود .

أرادت القطعة الخرسانية الضخمة رأسَهَا كله فأخطأت وأصابت بعْضَه ليبقى الآخرُ شاهداً على فلسفة الحياة .

شطر جميل وشطر مشوه .. شعر أصفر فاقع مبتهج ومقبل على الحياة.. وشطر منه قاتم معتم حالك السواد .. امتزج بالأسمنت والحديد المسلح فصار جحيما ً .

ليجذبَ القدَرُ الجسدَ كله من هذا الشطر من شعر الرأس إلى مشوار طويل غامض خلف أسوارنا العالية .

حياة وموت.. جميل وقبيح.. نقى ومشوه.. أصفر وأسود.. وهل كانت روحها جميلة كجسدها.. أم جسد رائع مركب على روح قبيح .. تساءلتُ ؟
وهل زاملتنى منذ زمن بعيد تلك المرأة الجذابة فى الكراج دون أن تعرفنى أو أعرفها ، وهل فى ظلمة أخرى سنتزامل ؟
ظلمة وضيق أسْفلَ الأرض داخل الكراج.. ورحْبَة ونُور وانطلاق خارجه .

استغرقتنى التناقضات وأنا مصاب في ذراعي ممدد بجوار الجثة المجهولة .. في وقت كنت قد اتخذتُ قراري ألا أعود إلى الوراء وألا أمر كعادتي بلا مبالاة بجوار الحدث .

قررتُ أن أسير في درب الحكاية لآخره لأكتشف سر اللغز.. ولأسْتقصِى مزيدا ً من التناقضات بعد أن استهْوتْنى المغامرة .

لم أجد صعوبة في النهوض وتخليص ثيابي من حديد القطعة الخرسانية الصدئ الناتئ.. والتقطتُ صورة سريعة للرأس بشقيه وصورة مقربة للوجه بشطرية .

ووضعتُ محفظتي وبها أوراقي الثُبوتية وبعض الأموال ومفاتيح سيارتي بجوار الجثة .. وأسرعتُ متخفيا ً قبل وصول سيارات الشرطة والإسعاف التي وصل صوتها المتقطع لأذني من بعيد .

وأنا سعيد وفخور بمشهد دمائي التي صَبَغتْ الجزء الأيمن من قميصي الأبيض باللون الأحمر.. فصارَ له لونان .

الفرصة مواتية لاختبار مشاعر زوجتي - أستهدف المشاعر الحقيقية - .. ستصلُها الأخبار وسأكونُ هناك على مقربة من ردود أفعالها وانفعالاتها دون أن تراني .

هي تشجع الزمالك وأميلُ أنا للتعاطف مع الأهلي .. وأُبالغ أنا في إظهار مشاعري وأُلح على التودد والتصريح بحبي وغيرتي وهى كتومة .

كصنبوري مياه في مطبخنا أحدهما هَلَك من كثرة استخدامه .. والآخر ضنين يمنحنا المياه قطرة قطرة لذا أهملناه .

أُمطرها بالحب وعباراته وهداياه تُمرضني وتُصيبني بحمى الوجد وتحقنني بالمسكنات وتجبرني على النوم مبكرا ً على عتبة غرفة المشاعر والأحاسيس .. ولا تعطيني من مشاعرها إلا بالقطارة .

دمائي تنزف بغزارة ولا أريد أن تتوقف.. أريدها أن تجف تماما ً لتَتَقَلَصَ إمدادات العاطفة داخلي.. وأصبح أنا وهى في عُرْى المشاعر ونُضوب الإحساس سواءً بسواء .

أغلقتُ تليفوني .. ستصلها الأخبار .. وسأتوقف مُتلصِصَاً لمتابعتها في تلفزيونات الشوارع والميادين والمقاهي .

يعرفني الناس.. كان هذا هو المهم لدى.. لكن هل يحبونني ؟

يُردد خبر اختفائي أحد الجرسونات بلا مبالاة ويتلقاه بعض الزبائن بشماتة ظاهرة .

ضحكتُ من أحدهم الذي قال .. يُمْهل ولا يُهمِل.. لكن أين اختفتْ جثتُه العفنة !
تتحدث احداهن عن علاقة حميمة جمعتنى بصاحبة الجثة المجهولة .

يبحثون في احتمالات الموت أكثر من احتمالات الحياة .. لكن عن أي شيء أبحثُ هنا ؟

عن التعاطف .. عن الشفقة .. عن الحب .. عن المواساة ؟

أشياء لم أبحث عنها منذ وضعتُ القلم بين أصابعي وبدأتُ أكتب .

الأضواء والشهرة والمال .. وليس الحب والتعاطف هو ما بحثتُ عنه في الصحف ودنيا الشهرة والأضواء والفضائيات .

ما أروعني اليوم بلا هُوية ولا توجه سياسي ولا ملامح حزبية ولا طمع في منصب ولا فكرة لمقال أتمَلقُ فيه زعيماً أو حزبا ً .

ما أجملني بلا سيارة ولا نظارة ولا مفاتيح ضخمة ولا حواجز بيني وبين الناس .

تركتُ كل شيء في كراج شطره مُضيء وشطْرُه مُظلم.. بجوار جثة شطرها صحيح وشطرها مُشَوه .

أسير مستخِفا ً بما مضى كأنني أُلقيه قطعة قطعة في الشارع على أعين الناس.. ودمائي تشعرني أنني حي أستطيع اكتشاف نفسي ومَنْ حولي واستعادة توازني وتصحيح مساري والانطلاق بدماء جديدة وروح جديدة .

قررتُ المواصلة وعدم العودة.. لا أدْرى كيف كنتُ الإنسان الذي كُنْتُه .. فماذا عن عمودي في الصباح؟

وماذا عن صحيفتي بدوني؟
وزملائى وزميلاتى الأنيقات ؟
سأنتظر قلمي كقارئ وناقد للمرة الأولى .. وسأختبر تعاطف .. صحيفتي.. وزملائي وزميلاتى مع مأساة غيابي والقلق على حياتي .

تسللتُ عبر حديقة المنزل.. ومنها إلى غرفة ابني عبر باب الشُرْفة.. وقبل أن يدخلها حَذِراً وهو يشرع للحديث في هاتفه كنتُ أنا تحت السرير .

أستمع إلى حديثه إلى حبيبته التي لم أسمع بها قبل اليوم.. يخبرها أنه يحبني ويفتقدني ولا يقدر على الاستغناء عنى .. مشاعر لم تكتشفني ولم تعْثُر على إلا وأنا مختبئ تحتَ سريره .

من شرفة أخرى تسللتُ وكانت هي بهدوئها المعهود تتابع الأخبار.. صامتة رصينة كعادتها .

من خلال شعرها الأسود رأيتُ دماء الجنود على الحدود وقرأتُ للمرة الأولى الحقد المرسوم على وجوه القادة الإسرائيليين .

غطى حديثها عبر التليفون على صوت مذيع النشرة .

كان حديثها مختلفاً.. وللمرة الأولى أكتشف حسها السياسي وقدرتها على تحليل الأحداث .. بعمق أذهلنى .

تناولتْ القضية من وجهة نظر مخالفة لوجهة نظري وذَكَرتْ مبرراتها وشواهدها ومعطياتها من الواقع .

يبدو أنها تتحدث إلى أحد زملائي في الصحيفة .. ويبدو أنها تُملى عليه أفكار عمودي الأخير الذي سُينشر غدا ً .

أكَدَتْ لمن يحادثُها أنني راجعتُ موقفي وغيرتُ قناعاتي وصححتُ مساري السياسي قبل اختفائي مباشرة .

ركضتُ مسرعا ً إلى الكراج بعدَ مرورى على قسم البوليس واستعادة متعلقاتى بعد تدوين افادتى .. كانت هناك بقايا الحادث وظلال المرأة الشقراء ورائحة الدماء وقد رُفعتْ الجثة .. وسيارتانا السوْدَاوتان في وجهة واحدة وعلى خط واحد .

ظللْتُ ساعة أحاول حتى نجحْتُ في زحزحة القطعة الخرسانية.. بعدها صار الطريق مهيئاً لمرور السيارتين إلى خارج الكراج .

تمنيتُ لو كانت معي المرأة الشقراء لتسلك مسارا ً جديدا ً في حياتها.. ولتخرج سيارتها وروحُها إلى النور .

عدتُ من جديد.. تسللتُ عبر الحديقة إلى غرفتنا .

كانت يدُها ممدودة واحتضنتني ابتسامتُها[/SIZE]

ناديه محمد الجابي
18-09-2013, 12:37 PM
عندما رأيت أسم ( هشام النجار ) دلفت على الفور للقراءة
لتاكدي بأنني ساجد قصة قصيرة بالمعنى المفهوم يمتع ويبهر
ولم يخب ظني , فقد وجدت فعلا قالب بهي مع حلاوة في السرد
وعمق في الفلسفة التي جاءت على لسان البطل وتفكيره.
جذبتني تلك المتناقضات حياة وموت ـ جميل وقبيح ـ نقي ومشوه
أصفر وأسود , ثم استوقفتني الفكرة ..
هل تقصد أن الإنسان يحتاج أحيانا أن ينظر إلى حياته من خارجها
ليراجع تفكيره وأراؤه ـ وهل ممكن أن ينسلخ الإنسان من تلك
الأفكار التي كونت تركيبه على مر سنين عمره ليصلح ويغير من
مواقفه التي اكتشف اعوجاجها.
أعجبني موقف تلك الزوجة التي تعاملت مع زوجها في المشاعر
بالقطارة ( كذلك الصنبور الذي يمنح المياة قطرة قطرة ) وأثني
هنا على تشبيهاتك الفريدة ـ لم يكن عن كره له ولكن لإختلافها معه
فلما عاد من جديد ليسلك مسارا جديدا في حياته كانت يدها ممدودة
واحتضنته بابتسامتها .
رائعة قصتك وفلسفتك وفكرك فشكرا لك.

سامية الحربي
18-09-2013, 01:37 PM
إختبار الناس في الغالب يصيب المرء بالإحباط لِكم النفاق و التلون الذي يحملونه. هنا يبدو البطل كما لو أنه مثقل بأحمال الألقاب و المسؤوليات و العلاقات الإجتماعية فيجد في الحادث إختبار لمن حوله ولا يبقَ في النهاية غير الصفوة. سرد ماتع وفلسفة عميقة.دمت بخير و عافية .تحيتي وتقديري.

هشام النجار
18-09-2013, 02:29 PM
شكراً جزيلاً للمبدعة القديرة نادية محمد الجابى على القراءة الممتعة للنص وهذا الاطراء الذى أفخر به ، والبطل هنا قد اكتشف ذاته من جديد اثر الحادث العارض واصراره على تقمصه حتى النهاية وألا يكون مجرد حادث فى حياته المليئة بالمتناقضات ، وقد اكتشف أيضاً زوجته ولماذا كان صمتها الطويل وبخلها عليه فى المشاعر ، وهذا ليس لأنها لا تحبه انما لعدم رضاها عن فكره وخطه السياسى وطالما تمنت أن يتغير من نفسه وأن يعود الى الخط الوطنى الأصيل ، وحتى وهى فى شك من قضية اختفائه وامكانية وقوع مكروه له تصورت عودته وتوبته السياسية وهو فى ذمة الغيب وأملت مقاله الأخير على هذا الأساس ، فى نفس الوقت الذى كان يجرى هو مراجعاته على أرض الواقع . انها حالة للمكاشفة والمراجعة والنقد واعادة اكتشاف الذات على ضوء المتغيرات واقتناص الفرص لذلك .. ساعتها لن نغير فقط من كثير من قناعاتنا وأفكارنا الخاطئة بل سنكتشف الجديد المذهل بشأن علاقتنا حتى مع أقرب الناس الينا .
لكِ الشكر الجزيل سيدتى الكريمة .. تحيتى وتقديرى .

براءة الجودي
19-09-2013, 02:21 PM
قصة رائعة كعادتك أستاذ هشام
وسرتني فكرة القصة التي عبرت عنها بطريقة إبداعية جميلة , فحقا الإنسان يحتاج لأن يكتشف نفسه ويغامر ويتجرأ أكثر في سبيل تصحيح المسار وتوجيه الفكر نحو الأفضل والأصح
ليبقى القلب والعقل سليمان من توجهات زائغة
تقديري

هشام النجار
19-09-2013, 05:23 PM
نعم أستاذة غصن الحربى .. واختبار نفسه أيضاً وهذا هو الاهم .
تقبلى تقديرى وتحياتى ، مع تمنياتى بمزيد من التألق فى سماء الابداع .

آمال المصري
21-09-2013, 04:50 PM
يقال دائما أن الكذب على الميت وليس الحي والمشاعر الصادقة تظهر جلية عند الحاجة
وكان لسمعه نصيب مما غلف شخصه بعد الرحيل ربما ليعي حقيقة كان يغفلها يصحح على إثرها مساره
نص بديع الفكرة واللغة متين الحبكة سررت بقراءته
بوركت واليراع أديبنا الفاضل
تحاياي

هشام النجار
22-09-2013, 04:23 AM
شكراً جزيلاً للمبدعة القديرة براءة الجودى ، والمراجعة سيدتى الكريمة ليست تراجعاً انما تصويب وتصحيح للمسار على مستوى الشخص والعائلة والتنظيم والحزب والمجتمع والدولة ، وما من مفكر وأديب وكاتب كبير الا وله مراجعاته وتحولاته الفكرية الضخمة التى قد تكون اثر حادث مهم ومفصلى فى حياتهم كشأن بطل هذه القصة الذى تشبث بهذا الحادث ليكون منطلقاً لتحولاته وتصحيحاً لاخطائه وترميماً للعلاقة بينه وبين عائلته وزوجته .
تقبلى تحياتى وتقديرى

ربيحة الرفاعي
11-10-2013, 01:23 AM
حظي بطلك بفرصة استثنائية لتصويب مساره انطلاقا من رؤية للواقع مكشوفا حرا من كل تلوين أو مداراة، فهل يحظى كل بفرصة كتلك ليصحو من غفلته؟
نص قصي شائق السرد سلس وسريع الحركة والتأثير

دمت بخير ايها الكريم

تحاياي

هشام النجار
11-10-2013, 02:32 PM
الأستاذة الكبيرة آمال المصرى والأستاذة الكبيرة ربيحة الرفاعى شكراً لابداعكما الذى يرتقى بالفكر والمشاعر ويضع الانسانية فى المسار الصحيح ، وشكراً لهذا التوقيع السخى فى صفحة هذا النص المتواضع
تقبلا تحيتى وخالص دعواتى .

نداء غريب صبري
04-11-2013, 12:27 AM
قصة غريبة لتوبة ظالم لنفسه
كتبتها أخي بأسلوب مشوق ووصف جميل شدذني للمتابعة

شكرا لك

بوركت

هشام النجار
04-11-2013, 12:42 AM
قصة غريبة لتوبة ظالم لنفسه
كتبتها أخي بأسلوب مشوق ووصف جميل شدذني للمتابعة

شكرا لك

بوركت

شكراً جزيلاً أديبتنا المبدعة نداء غريب صبرى ، سرنى حضورك هنا وأسعدنى ثناؤك على النص . تقبلى تحياتى ودام ابداعك وألقك

خلود محمد جمعة
06-11-2013, 12:03 AM
صورة جميلة رسمتها حروفك للتناقضات
إمتحان الشخص لذاته
رؤية الحقيقة بعريها
وتغير القناعات
لحظة البدء والنهاية
سرد ممتع
دمت بخير
مودتي وتقديري

هشام النجار
19-05-2014, 04:06 PM
صورة جميلة رسمتها حروفك للتناقضات
إمتحان الشخص لذاته
رؤية الحقيقة بعريها
وتغير القناعات
لحظة البدء والنهاية
سرد ممتع
دمت بخير
مودتي وتقديري

شكراً جزيلاً للمبدعة الراقية أستاذة خلود
ربنا يكرمك ويبارك فيك
تقبلى خالص التحية وصادق دعواتى