المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القبطــــان



عبدالسلام العطاري
07-02-2005, 06:28 PM
"حين تكون اللحظة مسكونة بحلم "

القبـــطان

أراح القبطان أشرعته، ألقى مرساته في عمق الرصيف، تناول لفافة تبغ واستنشقها كأنه يلتهم طريدة بحرية بعد جوع قاس، تناوب عليه أثناء رحلته البحرية، اتجه نحو مقدمة المركب المتعب من أمواج غاضبة، ورياح صاخبة، وسحب ماطرة، وليل طويل.
امسك القبطان دفته، والسيجارة يتصاعد دخانها متقطعا كأنه يبحث عن تلك الغيمات ليتدثر بها من غضب الشفتين القابضتين على عقبها، القبطان غاضب، والمركب متعب، والسارية منتصبة مثل قامة ناشبة لا تنال الرياح من جسدها شيئا، وحدها المنتصرة في هذه الرحلة المضنية.
أي نهار يهرول نحو الغروب خائفا من تجهم جبهته العريضة؟ من قامته الممتدة تطاول رأس السارية حين تلوح للناظر من بعيد، اللحظة وسط اليوم دون شمس قال: عودي أيتها اللعنات نحو مصيري، عودي غاضبة مشرّعة بؤسك وحنقك وغضبك، الآن سأحطم وجه النهار لأكشف الشمس واعريها، وأحرق جزر تخطت أحلامي النائمة وذكرياتي الهائمة على وجهها، تبحث عن معبر درب يوصلها إلى حيث الساجدة في محراب وحدتها، اللعنة، قالها حين نفض ما تبقى من لفافة التبغ وداسها بنعله وكأن خبطة قدمه تدق ويرتد صداها صوب جنبات المركب الهرم من قسوتها، أحاول أن أعيد ترتيب اللغة الحالمة بالآمال، تجدني ابحث عن لحظاتها بين التجهم والمأساة، بين الألم والابتسامة، آه أيها البحر، آه من دواره، آه من موجه، من ليله، وغضبه... ماطرة أيامي دونما لحظة شمس تنير وجه نهاري البائس، الخوف، اي خوف هذا ؟ إذن الخوف، ترددت حروفها، تحركت شفتيه المتعبتين المنهكتين كشجرة صبّار تعلك أشواكها وتتذوق مرارة سائلها، بحث في جيوبه الأنيقة عن علبة سجائره...هي الأخيرة، تناولها بلمسات حانية دافئة، ورفع قبعته البيضاء لتكشف، أكثر، عن جبهته المتجعدة، وابتسامة ساخرة رافقتها ضحكة، أي اغتصاب هذا للشفتين بضحكة طعمها كالعلقم المتجذّر بطعم المرار؟ هل تقبلين ان أداعبك قليلا ؟
السيجارة حائرة وماذا بعد ؟ تناوبت عليها أنامله التي لم تعتد غير القبض على دفة المركب وحملتها بتؤدة متناهية نحو أطراف شفتيه وتناول عود ثقاب... أشعل الأول وأطفأته نسمة كانت تختبيء خلف السارية، أدار وجهه كأنه يبحث عن مصدر نسمة الهواء، كلمات تخطت عتبة التفكير لتكون تمتمة على شفتيه لتتمايل السيجارة وكأنها تسجد مودعة لحظاتها قبل ان تعانقها النار... همس النسيم يعود، حواري البحر حكايات قديمة، لا العنقاء و لا الخل الوفي، ولا حكايات اباطرة البحر عن حالة عاشقة تخرج حين تهمز الشباك، انها حاضرة الى العودة نحو صدر المركب... لحظة اخرى استراحت لها لفافة التبغ المرتعدة من مصير حتمي سيصلها بعد لحظات ...تكتفي حركات انامله بملاحقتها، هذا الزمن المهجور من الحقائق، المسكون بالاحلام، الأحلام وحدها الحقيقة، قالها حين امسك بقبضته الغاضبة عنق السارية، وعيناه تتجولان تبحثان عن رائحة حورية...حورية! ضحكته تفجرت من عمق حنجرته المثخنة بالكلمات، متوالية، غير منتهية، من الضحكات المسكونة بحالة هستيرية، اي جنون هذا؟ يا بحر هب لي من لدنك احلامي لأنفض وحدتي في وجه ذاك الجبل...أشار وكأنه أمام حالة تمثيلية دون (دوبلير) ودون مشهد يقف خلفه ثلة من الآخرين دون تلقين. الاشارة وحدها أخرجته من حالة الصمت المكتوم الى حالة الصمت المتفجر، تراقصت السيجارة طربا على أنشودة الضحكات، الفرح مهنة صعبة بعد تجهم مطبق.
أيها البحر هاأنذا انتشي كقوة، كصخب، كموج يقذف موته نحو رصيف هرم يمتلئ بالحكايات القديمة، كم دهر كان هنا ومضى؟ حورية لمرة واحدة وامضي، ارحل وانتعل اليابسة وامضي، أمتطي صهوة كبريائي وارحل نحوه، المرفأ، وحده، سيكون ... وأنا وحورية أحلامي ولفافة تبغ لا تعرف مصيرها المحتوم، لفافة تبغ وعود ثقاب لا يشتعل، وهبتك الحياة يوما آخر، فامنحيني نسمة أخرى ابحث عنها خلف السارية.


*****
عبدالسلام العطاري /رام الله
في يوم ماطر /عاصف /ينتظر بياض الثلج .
فبراير /2005

نعيمه الهاشمي
27-03-2005, 05:45 AM
السلام عليكم ورحمة الله


الأخ والكاتب المناضل عبد السلام

كنت أمر على اوراق الواحة ورأيت لك هذا النص الذي سوف سكون لي عوده له أن شاء الله

ولكن اشتقنا لغيث قلمك المناضل!!

تمنياتي لك بعودة حميدة أن شاء الله

دمت في أمان الله وحفظه


اختك المخلصة

نعيمه:tree:

د. سمير العمري
04-08-2005, 05:09 PM
مبدع الحرف أنت أخي عبد السلام.

قبطانك الحالم الآمل هذا يبحث عن الانطلاق والحرية والوصول إلى بعض ما يحلم به ... البعض فقط. أرجو أن يحصل عليه.


ولعلي أتحفظ على أن تشاركه البطولة لفافة تبغ كوني من معارضي التدخين :001:


تحياتي وتقديري
:os::tree::os:

ليال
01-11-2005, 03:33 AM
لو أني املك ثمة جائزة تقديرية أكرم بها هذا الجمال لما ترددت لحظه في أن اقدمها لهذا النص بالذات . ولو أنني أملك حق الترشيح لمركز أول بجدار وتفوق في مسابقة أدبية ما، لرشحت هذه القصة بدون أدنى تردد، غير انني لا أملك إلا التثبيت لها وازعم أني به اقدم للزوار الكرام فرصة قلما تتكرر للوقوف امام جدارية فنية مشغولة بعناية وإتقان كبيرين ...لقد مر زمن طويل منذ آخر مرة استفزني فيها عمل أدبي على هذا النحو...خالص أحترامي وتقديري

سحر الليالي
01-11-2005, 12:35 PM
أخي عبد السلام:

هل يكفي الصمت ردا هنا؟؟

لا أعلم لكن أظنه يكفي ليعبر عن اعجابي بما فاض به مداد قلمك الرائع

فلك طوق من زهز و الياسمن تحيط بمداد قلمك ونبضك

لك خالص الاحترام والتقدير

عبدالسلام العطاري
06-11-2006, 12:05 AM
اخي الحبيب د. سمير
الاخت الغالية والعزيزة نعيمة الهاشمي
المبدعة الشاعرة ليال
الاخت الفاضلة سحر الليالي
كم هي جميلة .. الدنيا
اشتقت لكم واشتاقت ايامي للواحة ... لعل الوقت يحملني مرة أخرى الى بهجة الفرح فيها .
دائما انتم الخير

نعيمه الهاشمي
19-02-2007, 02:49 AM
الغالي عبد السلام

كيفك هل ما زلت على دوحات غزة يبكي سيفك الجريح

سلام الله عليك من راسك لأخر مداك

عبدالسلام العطاري
19-02-2007, 09:17 PM
الغالي عبد السلام
كيفك هل ما زلت على دوحات غزة يبكي سيفك الجريح
سلام الله عليك من راسك لأخر مداك
ياااااااه يا نعيمة
ما زلت ... على دوحة الوجع الصارخ في لجة البحر او في دومة برنا الحزين
سلام لك وعليك
محبتي

د. مختار محرم
07-01-2012, 11:15 AM
لوحة رائعة ..
لهذا القبطان حق أن يصل إلى مرافئ يحقق فيها كل أحلامه
وحري بهذه الحروف أن تعود إلى النور..
وتحية لك أديبنا أينما كنت

أماني عواد
08-01-2012, 11:15 PM
الاستاذ عبد السلام العطاري


وهبتك الحياة يوما آخر، فامنحيني نسمة أخرى ابحث عنها خلف السارية.

ليت الامر بيدها لمنحتك النسيم دوما لتبقى على قيد الحياة

نص رائع
سلم مدادك

وليد عارف الرشيد
09-01-2012, 02:46 AM
سأشكر الدكتور مختار لإعادة هذه الرائعة فهي تستأهل فعلاً
وسأشكر المبدع الذي رسم هذا الجمال بان أصمت في حضرة لوحته وأهز الرأس إعجاباً
مودتي وتقديري كما يليق

ربيحة الرفاعي
26-06-2016, 01:22 AM
هذه إحدى أجمل اللوحات النثرية التي علّقت على جدران القسم
بلغة جميلة وغوص في تلافيف النفس عميق وتصوير إبداعي رائع

دمت بخير
تحيتي

ناديه محمد الجابي
26-06-2016, 05:17 PM
يالروعة الخيال المفعم بأريج المتعة
نص ثر عميق وصور رائعة في مشهد إبداعي
كم أسعدني المكوث على شواطئ حرفك أيها القبطان الحالم
شكرا لروعة قلمك وجميل أداؤك. :0014:

ناديه محمد الجابي
26-06-2016, 05:23 PM
يالروعة الخيال المفعم بأريج المتعة
نص ثر عميق وصور رائعة في مشهد إبداعي
كم أسعدني المكوث على شواطئ حرفك أيها القبطان الحالم
شكرا لروعة قلمك وجميل أداؤك. :0014: